ولنقف هنا لحظة هادئة، نتأمل فيها هذه السمة التي هي من علامات الحياة السليمة القوية، نتأملها على مهل؛ لأنها مفتاح مهم للطريق السوي، إذا ما أردنا لأنفسنا هداية على الطريق، فحياة الناس في أمة بعينها، وفي أي مرحلة زمنية من مراحل تاريخها، إنما هي مجموعة مركبة من مئات الألوف من الأمزجة والأفكار والأعمال والهوايات والقدرات والميول والرغبات، ويستحيل ألا تجيء الحياة على صورة شديدة التركيب والتعقيد، ما دام لكل فرد من أبناء تلك الأمة الواحدة اتجاهاته وملكاته واختياراته، ولكن هذه الكثرة الغزيرة من مناحي الحياة وطرقاتها، كثيرا جدا ما تلتقي كلها في جذور واحدة، إبان العصر التاريخي الواحد، بحيث يستطيع المؤرخ بعد ذلك، بشيء من نفاذ البصيرة، أن يصف ذلك العصر بالصفة التي تميزه دون سائر العصور، وذلك - بالطبع - إذا كانت تلك الحياة - كما قلنا - سليمة التكوين، واضحة الأهداف، سديدة الخطى، وأما إذا جاءت كثرة العناصر خليطا مهوشا، لا يتفق العازفون فيه على لحن واحد، كان الناتج شيئا كالذي أصيبت به بابل القديمة، حتى امتنع عليها أن يكون لها كيان موحد، يطرد سيره ويصبح له تاريخ.
إنه لأمر معروف مألوف، في تاريخ الحضارات، أو في تاريخ الفكر، أن يبحث الباحثون عن الخصائص البارزة المميزة للعصور المختلفة، ولولا أن الحياة الاجتماعية، على الرغم من تباين أفرادها فيما يعملون، يظل لها المحور الواحد الذي تدور عليه رحاها، أقول إنه لولا ذلك، لتعذر أو استحال أن نميز عصرا معينا في حياة أمة معينة، أعني أن نميزه بصفة تحدد معالمه، وفي هذه المناسبة أذكر أنه قد صدر منذ بضع سنين، سلسلة من الكتب الإنجليزية يصور كل كتاب منها، الحياة الفكرية في أوروبا إبان قرن من الزمان، بادئة من القرون الوسطى فصاعدة نحو عصرنا، ويكفي أن يقرأ القارئ عنوان الكتاب في تلك السلسلة، ليعرف الروح التي سادت خلال القرن المعين الذي يتحدث عنه الكتاب، فكتاب العصور الوسطى عنوانه «عصر الإيمان»، وكتاب القرن السادس عشر عنوانه «عصر النهضة»، ثم تتوالى العنوانات مع القرون: «عصر العقل»، «عصر التنوير»، «عصر التطور»، وأخيرا «عصر التحليل»، وهذا هو القرن العشرون، فإذا قرأت كتابا من تلك السلسلة، عرفت كيف تلتقي مناشط الفكر كلها - في القرن الواحد - عند محور أساسي واحد. وبديهي أن واحدية المحور قد نتجت عن واحدية الهدف عند الجميع.
وعلى هذا الأساس، أطرح السؤال الآتي أمام القارئ: بأي الخصائص نصف الحياة في مصر إبان هذه الفترة من تاريخها؟ إنه إذا وجد الجواب الصحيح، كنا بخير ونسير على هدى، وأما إذا وجد مناشطنا واتجاهاتنا أقرب إلى الخليط البابلي الذي لا يجد ما يوحده على صوت واحد، ولغة واحدة، كان من حقنا أن نطالب بوقفة هادئة نراجع فيها أنفسنا، لعلنا نرسم طريقا للسير، يترك المجال فسيحا لكل فرد أن ينشط بما يحقق ذاته، لكنه في الوقت نفسه يربط الجمع برباط اللحن الواحد.
ولكن على فرض أنني كنت على صواب، حين قلت إن ثلاثة أصوات في حياتنا يزحم بعضها بعضا، ولا يبالي صوت منها ما يصيح به صوت آخر، وبالتالي فإن حياتنا تلك قد جاءت بلا لون غالب يميزها؛ لأنها حياة بغير هدف واضح، فماذا نحن صانعون؟ إنه لا يكفي أن نشخص المرض - وإن يكن هذا التشخيص ذا أهمية بالغة إذا كان صادقا - بل لا بد كذلك من التفكير في العلاج، فلو جاز لي أن أختم حديثي بإشارة سريعة إلى العلاج الذي أراه، توحيدا للهدف، وتوحيدا للصوت، أو قل توحيدا للنغمات المتباينة في معزوفة واحدة، لقلت: إنه لا بد أولا من الإيمان بوجوب المشاركة الفعالة في أسس حضارة عصرنا وثقافته، ثم صب هذه الأسس في قالب الشخصية المصرية العربية، فإذا أدركنا تلك الأسس على حقيقتها، وأدركنا معها مقومات الشخصية المصرية العربية، عرفنا كيف نقيم إطارا للتربية والتعليم على هذا الأساس، وإطارا للحياة السياسية على هذا الأساس، وإطارا للفن وللأدب على هذا الأساس، وإطارا للنظم الاجتماعية من الأسرة فصاعدا على هذا الأساس، وفي كل مجال من تلك المجالات، لا بد بطبيعة الحال أن تتعدد شواغل الناس واهتماماتهم وأعمالهم، بمقدار ما يتعدد الأفراد، لكن هذا التعدد سينطوي كله تحت مظلة واحدة، هي تلك الصيغة التي تصورناها وصورناها وأقمنا مناشطنا على أساسها.
هي ثمانية أسابيع قضيتها وراء البحر، لم تكن أول مرة ولا عاشر مرة أقضي مثلها هناك، لكنني هذه المرة دون سابقاتها، عدت فأحسست بعدها بأن في حياتنا تتزاحم الأصوات، مما يكاد يبطل بعضها بعضا.
نفوسنا صدئت فأصقلوها
كنت أنقل عيني في كراسات قديمة، ملأت صفحاتها على امتداد سنوات خمس، في مرحلة معينة من مراحل حياتي، وهي مذكرات عن مقروءات مررت بها، إذ كنت إذا أعجبتني عبارة، أو استوقفتني فكرة، أسرعت إلى إثباتها في تلك الكراسات، ومعظم ما أثبته منها قصير، لا تزيد الواحدة منها عن سطر واحد أو سطرين، لكنني أهملت تلك الكراسات إهمالا أخرجها من حياتي، حتى لقد نسيت أين وضعتها، وذلك لأني أدركت قلة جدواها، فلا هي مفهرسة ولا هي مبوبة، فكيف لي أن أستخرج منها شيئا، إلا أن أظل أتصفح ما يقرب من خمسمائة صفحة، عسى أن تقع العين على المدونة التي أبحث عنها؟
لكنها موجة الملل التي غمرتني بالأمس، هي التي دفعتني إلى التقليب والتنقيب هنا وهنا وهناك، وإذا بتلك الكراسات تظهر من خفائها، فكانت هي ما اخترته لأزيح به موجة الملل! ورحت أقلب الصفحات، وأنقل العين، معجبا بهذه العبارات هنا، مبتسما لتلك الفكرة هناك، ولقد كان جميع ما امتلأت به خمسمائة صفحة من قبسات مدونة، مغرقا عندي في بحر النسيان، ولكنني - يا للعجب - برغم طول المدة على تلك القبسات، وعمق النسيان الذي غرقت في بحره عندي، كنت كلما وقعت عيني على واحدة منها، تذكرت من فوري أين كنت قرأتها، فكأنني كنت أوقظ النيام من رقادهم بلمسة أصبع.
ووقفت عند إحداها، وهي عبارة تقول: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور.» كأنما أراد: أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها. انتهت العبارة كما وردت في تلك المذكرات، وبلمعة كلمعة البرق، تذكرت أنني نقلتها عن أبي حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»! وقبل أن ألجأ إلى الكتاب لأبحث عن تلك العبارة في سياقها الذي وردت خلاله، وقفت بضع دقائق أتساءل فيها عن كلمة «حادثوا» في قوله: «حادثوا هذه النفوس». ما معناها؟ لقد بدت لي العبارة على شيء من الإبهام، وهنا أخرجنا الكتاب من مكمنه، وما هي إلا لحظة خاطفة حتى تذكرت كل شيء عن ذلك المعنى، فكتاب «الإمتاع والمؤانسة» هو تسجيل لأحاديث دارت في قصر الأمير، وأظنها كانت أربعين حديثا (أو نحو ذلك) دارت على أربعين ليلة، وكان الحديث الأول الذي وقع في الليلة الأولى، يدور حول سؤال ألقاه الأمير على أبي حيان التوحيدي عن خصائص الحديث الجيد، ما هي؟ فأخذت خواطر المتحدث تنساب متقاطرة خاطرا بعد خاطر، وكان بينها تلك العبارة التي أسلفت ذكرها: حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها.
ويزداد المعنى لك وضوحا، حين تعلم أن جزءا كبيرا مما قاله أبو حيان التوحيدي في تلك الليلة، كان منصبا على العلاقة في المعنى بين كلمة «حديث» بمعنى ما يدور بين المتكلمين من حوار ونقاش وتبادل رأي، وهذه اللفظة نفسها (حديث) بمعنى: جديد، ليخلص الحاضرون - بعد استطراد في الخواطر - إلى نتيجة هامة جدا في هذا الموضوع، وهي: وجوب أن يأتي كلام المتحدث بما هو جديد، وإلا فالصمت خير له من الكلام، فحديث المتحدثين ليس بذي نفع إلا إذا كان «حديثا» أي إلا إذا كان يحمل معنى جديدا لم يكن يعلمه السامعون.
صفحه نامشخص