واتجهت إلى زميلي طالب العلم، معترفا له بفضله ورجاحة عقله، وقلت: إننا الآن يا زميلي قد أصبح في مقدورنا إعادة النظر إلى حياتنا الفكرية والثقافية على ضوء المخطط الذي وضعته بين أيدينا، فنرى تلك الحياة وكأننا ننظر إلى تفصيلاتها تحت المجهر، فهنالك جماعة تتجه هي، وتشد الكثرة الكاثرة من الجمهور، نحو أن يكون المثل الأعلى هو أن نستجير بالسماء وخلودها من الأرض وعوابرها النواقص الفانيات (ونحن هنا نتحدث من ناحية الفكر والثقافة) ولو جاز لي أن أقدر بالأرقام نسبة تلك الجماعة ومن يسيرون في ركبها لقلت إنها لا تقل عن تسعين من كل مائة في أفراد الشعب الراشدين، وهنالك جماعة أخرى تقع في النقيض، لكنها قليلة، قليلة حتى ليستطيع عدها بالعشرات لا بالألوف ولا بالمئات، وديدنها الاكتفاء بحياة الدنيا، مع تعميقها بالعلوم والفنون والإنتاج والثراء والعيش الرخي المستريح، ولا يسير في ركاب هؤلاء أحد من جمهور الناس، وأما الجماعة الثالثة، فهي وإن تكن أقلية ضئيلة من حيث عددها، فهي ذات صوت مسموع إلى حد كبير، وهي جماعة تحرص أشد الحرص على أن يعيش الناس حياتهم كما أراد لهم الله أن يعيشوها، وأعني أن تجيء الحياة بكل امتلائها على الأرض، وبكل ما يرضي الله، ابتغاء حياة الآخرة بما وعد فيها المؤمنون، وليس الجمع بين الطرفين ممكنا فحسب، بل هو علامة من أبرز ما يميز عقيدة الإسلام.
ولو كان المجتمع سويا في فكره وثقافته، لاتحدت «الرؤية» في الإطار العام، ثم انحصر اختلاف الرأي تحت مظلة المبدأ المشترك، لكن مجتمعنا اليوم قد أصابه التواء، فتعددت الرؤى، فتفسخت أوصاله، وتصدعت جدرانه، وكمنت جذور ذلك التصدع في أننا لم نتفق على الألف باء، التي هي في هذه الحالة، ماذا يكون وضع الإنسان بالنسبة للإطار العام ذي الدرجات الثلاث.
قلت للطالب النابه: لقد جئتني أول الأمر، تسألني هل يمكنك أن تتلقى مني بيانا لحقيقة «الفلسفة» ما هي؟ وتساءلت إن كان في مستطاعك أن تكون على فهم جيد واضح للمراد بهذا الاسم العجيب، الذي يتبادله الناس ليرفعوا قدره إلى أعلى عليين مرة، ثم ليهبطوا به إلى أسفل سافلين مرة أخرى، فأرجأت جوابي عن سؤالك حتى نفرغ معا من محاورة نجريها لنستوضح - معا - صورة حياتنا الفكرية والثقافية كما نحياها، ولم أرد أن يكون حوارنا في غير موضوع، فاخترت لك مشكلة عينية من مشكلاتنا الحادة، وهي مسألة تحديد النسل وضرورته، وها نحن قد انتهينا معا بعد صعودنا في المحاورة درجة بعد درجة، إلى نتيجة عامة وشاملة.
ونعود الآن إلى سؤالك الذي جئت من أجله، وهو: ما الفلسفة؟ وجوابي هو أن الفلسفة منهج فكري، يبدأ دائما من السطح الفكري الذي يعيشه الناس، ثم يأخذ في الغوص تحت هذا السطح، ليصل آخر الأمر، إلى حقيقة عامة وشاملة تفسر ذلك الذي يجري على السطح - من جهة - وتشير بالتالي إلى ما كان ينبغي أن يكون، والحوار الذي أجريناه اليوم معا، هو مثل متواضع للفكر الفلسفي كيف يعمل.
ثلاثة أصوات
هي ثمانية أسابيع لم تزد على ذلك يوما ولم تقل، قضيتها وراء البحر، أطلب الراحة والعلاج: الراحة لمن لا يعرف كيف يستريح، والعلاج لما ليس منه شفاء، وماذا تكون ثمانية أسابيع بالقياس إلى عمر طال بصاحبه نحو أربعة آلاف من الأسابيع؟ إنها كنصف الدقيقة منسوبة إلى يوم ذي أربع وعشرين ساعة، إذن، فما كان ينبغي لها أن تغير من عادات حياتي شيئا، ولكنها فعلت، وذلك عندي هو موطن العجب.
فقد كنت خلالها، إذا ما أردت أثناء ظلمة الليل، أن أضغط على مصباح النور المجاور لمخدعي، مددت إلى المفتاح ذراعي اليمنى، فلما عدت إلى داري بالقاهرة، والتمست خلال الليلة الأولى نور المصباح، مددت ذراعي اليمنى كما كنت أفعل هناك، ولبثت لحظة أتحسس الحائط بأصابعي دون جدوى، فأسأل نفسي في عجب: أين ذهب مفتاح النور؟ ثم استيقظت الذاكرة لتنبئني بأنني الآن قد بت في القاهرة، حيث تمد الذراع اليسرى إلى مفتاح الضوء. ونهضت من فراشي إلى حيث أريد، فأنساني الشيطان مرة أخرى، واتجهت بخطواتي إلى اليمين، مع أن الطريق إلى باب الغرفة يتجه نحو اليسار، وكان مصدر الخطأ هو تلك البقية الضئيلة الباقية من حياة لم تدم أكثر من ثمانية أسابيع.
ولما أصبح بي الصباح، «تصفحت» الصحيفة اليومية، ولقد وضعت كلمة «تصفحت» بين الحواصر، لألفت النظر إلى أنني إنما أردت الكلمة بمعناها الدقيق، فلعل هذه الكلمة لم تخلق في اللغة إلا من أجلي ومن أجل أمثالي، الذين لا يستطيعون من القراءة - بحكم الضرورة - أكثر من نظرة تلقى على الصفحة كلها، لعلها تلتقط منها عنوانا ضخما هنا، أو عنوانا ضخما هناك، فقراءتي باتت تصفحا، ورحم الله أياما، لا بل أعواما تعد بالعشرات، لم يكن يرضيني من قراءة ما أقرؤه، إلا أن أستوعب المكتوب لفظا لفظا، أم أقول قراءة تستوعبها حرفا حرفا؟ وكنت إذا ما تبينت في المادة المقروءة أهمية خاصة، فعلت ما هو أكثر من ذلك؛ إذ كنت أثبت في قطعة من الورق - وأحيانا على هامش الصفحة التي أقرؤها - كلمة تدل على كل فكرة وردت خلال السطور، ثم أعيدها، وأترك الصفحة التي أمامي، وأشخص ببصري إلى سقف الغرفة، لأعيد رءوس الأفكار التي وردت في السياق، فلم أكن أقرأ لأتسلى، بل كنت أقرأ لأعرف.
ذهب هذا كله، وأصبحت قراءتي «تصفحا»، ولماذا أقول هذا؟ أقوله لأعلن به أنني أعترف مقدما بأن ما سوف أذكره الآن، قد لا يكون صوابا، وأن تكون علة الخطأ هي أن قراءتي للصحيفة اليومية التي أشرت إليها، لم تكن في الحقيقة قراءة يعول عليها، وإنما كانت «تصفحا»، الأغلب فيه أنه يؤدي بصاحبه إلى الباطل أكثر مما يؤدي به إلى الحق.
نعم فقد أصبح بي الصباح الأول بعد غياب لم يطل أكثر من ثمانية أسابيع، فلما «تصفحت» الجريدة اليومية، خيل إلي كأن فكرة لمعت أمامي، لم أدركها بمثل ذلك الوضوح الناصع من قبل، وهي أن ثلاثة أصوات تنبعث من الصفحات، ولا أقول إنها أصوات «متنافرة» بل أقول إنها كانت على الأقل - كما بدت لي - تستقل بعضها عن بعض، كأن كل صوت منها يتعمد ألا يكون له شأن بالصوتين الآخرين، وتلك الأصوات الثلاثة هي: صوت «الدولة» فيما تنشره من حقائق، وصوت «الجمهور» فيما يبثه من الأنين والشكوى، وصوت «الكتاب» الذي يخيل إليك أنه آت من المريخ أو من زحل.
صفحه نامشخص