وبلغت السيارة وادي السداد وقد أحاطت به هضاب الردف، ووقفت على مقربة من صخور ضخمة مركومة بعضها فوق بعض فهي وحدها هضبة مستقلة ناتئة أثناء الوادي، وهبطت منها في لباس البدوي وجعلت أجيل النظر فيما حولي فلا أرى إلا جبالا قليلة الارتفاع تحجب ما وراءها، وأحجارا متفاوتة الأحجام قذف بها السيل في أنحاء الوادي، أين ترى تكون الآثار التي حدثني أصحابي عنها؟ وسألتهم فأشاروا إلى هذه الهضبة المستقلة، وقالوا: إنها رموز وعبارات كتبت على الصخور العليا منها.
وتسلقنا الهضبة، ودار أحدهم فوقها ثم دعاني إليه، فعلوت صخرا وهبطت آخر وتسلقت ثالثا، ثم وقفت إلى جانبه أحاول وإياه أن نحل رموز خطوط أدنى إلى الكوفي نقشت على صفحة الحجر، وأحدق وإياه في صخور أخرى فنرى رموزا لم ندر ما هي، ولعلها خط للغة من لغات البلاد الإسلامية في آسيا أو أمريكا لم يبلغنا علمه ولم تبلغنا رسالته، وأراد بعض الحاضرين أن يرد هذه الكتابات إلى عصور قديمة، فاعترضه آخر بأنها قد لا ترجع إلى أكثر من عشرات السنين، وقد ترجع إلى بضعة قرون، وأنها على الأرجح لجماعة ممن زاروا هذه المنطقة من أزمان غير بعيدة جذبهم وادي وج إليها، فجعلوا على أحجارها عبارات متداولة مثل: الحمد لله وحده، وآمن بالله فلان، أو خطوا عليها صورا استعاضوا بها عن الكتابة؛ لأنهم لا يعرفون الكتابة.
وما رأيت من كتابات ونقوش يجعلني أميل إلى هذا الرأي الأخير، ووجود الكتابة الكوفية لا ينهض بذاته دليلا على قدم العصر الذي كتبت فيه، فالكتابة الكوفية تعتبر في يومنا الحاضر زخرفا يجيد تصويره كثيرون، وهي قد كانت أكثر ذيوعا منذ بضع عشرات من السنين خلت، وإنما يدعوني لترجيح هذا الرأي تشابه العبارة في هذه الجمل المنقوشة على الصخر وعدم دلالتها على شيء يتصل بالطائف أو بالعرب، أو بشيء من حوادث الماضي ذات الجسامة والخطر، ولو أنها كانت قديمة بمعنى أنها ترجع إلى العصور الإسلامية الأولى لبدا فيها طابع تلك العصور، ولأشارت إلى ما حدث فيها من حروب وما تم فيها من أعمال عظيمة، أما وهي كما رأيت فإنما هي عبارات تقليدية ينسخ فيها زوار هذا المكان كل على طراز من سبقه، ولو أنني فكرت في أن أصنع صنيعهم وأن أنقش على هذه الصخور المرموقة ما أسجل به وقوفي عندها لنقشت عليها أغلب الأمر عبارة كعبارة «آمن بالله فلان.» مقلدا بذلك من سبقني، فالتقليد أيسر مشقة، والعبارة التي اختارها أولئك السابقون أيسر نقشا على الحجر من سواها.
وليس يعدل بي عن ترجيح هذا الرأي ما يروى عن قدم بعض النقوش حتى ليقال: إنه كان من زمن الجاهلية، وإنه من الخط الكوفي القديم الذي لم نألفه، اللهم إلا أن تكون نقوش على جبال أو صخور أخرى كالنقوش التي يذكرون وجودها بجبل السكارى مما لم أقف عنده ولم أفكر في أمره، على أن القائلين: بقدم هذه النقوش يذكرون أنها خالية من التاريخ، وأن الباحث لا يستطيع لذلك أن يستنبط منها ما يقوم عليه حكم من الأحكام، أو تتحقق به حادثة من الحوادث.
فأما وادي وج الذي أشار صاحبي إلى أنه من الأودية المأثورة لقوله - عليه السلام: «صيد وج وعضاهه حرام محرم.» فقد اختلف في أمره؛ يقول ابن منظور في لسان العرب: «وج موضع بالبادية، وقيل: هو بلد بالطائف، وقيل: هي الطائف.» وبعد أن روى حديث تحريمه قال: «ويحتمل أن يكون حرمه في وقت معلوم ثم نسخ، وفي حديث كعب أن وجا مقدس، منه عرج الرب إلى السماء، وفي الحديث أن آخر وطأة وطئها الله بوج. قال: وج هو الطائف، أراد بالوطأة الغزاة ها هنا، وكانت غزوة الطائف آخر غزواته
صلى الله عليه وسلم .»
ويذهب غير واحد من الذين كتبوا في تقويم البلدان إلى أن وجا اسم للطائف قبل أن تسمى الطائف، وروى الفاسي في كتاب «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» رواية مستندة إلى الزبير بن العوام أنه قال: أقبلنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من ليلة حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صفحه نامشخص