وفي صباح يوم الإثنين زرت «فلبي» بمنزله على موعد بيننا، وأفضيت إليه بأنني ذاهب إلى الطائف بعد الظهر، ويقع منزل «فلبي» بحي جرول في أطراف مكة فوق ربوة يسيرة الارتفاع، وقفت السيارة أمام بابه فصعدنا درجة - كان من الخير أن تكون درجتين أو ثلاثا - وتخطينا الباب إلى حديقة تبدو أشجارها الباسقة من فوق السور ولا تحجب الدار القائمة بعدها، وليست الحديقة بالفسيحة ولا بالضيقة، تتراوح مساحتها بين المائة والخمسين والمائتين من الأمتار المربعة، وهي أدنى إلى أن تكون مهملة قل أن تمتد إليها يد التنظيم، لكنها مع ذلك متعة للنظر في مكة حيث لا تقع العين على حديقة إلا في الدور التي تشبه القصور، ويسير الإنسان من باب المنزل خلال الحديقة في طريق صاعد يكاد يكون مستقيما، فإذا دخل المنزل وجده أقرب إلى البداوة من كثير من منازل أهل مكة، وقابلنا «فلبي» على باب غرفة إلى يسار الداخل من باب الدار مرتديا جلبابا أبيض ونعلين، مكشوف الرأس، ينم شعره الأحمر وذقنه الحمراء المحيطة بكل وجهه الأبيض المشرب حمرة كما تنم عيناه الزرقاوان عن أصله الإنجليزي الذي يختفي تماما حين يرتدي المشلح والعقال، فيبدو نجديا وسيما أنيق الملبس، وتقدمنا إلى داخل الغرفة، فخلع نعليه حين بلغ البساط الذي يفرش أرضها، وتبعته وجلست إلى جانبه أسمعه وأجيبه وهو يحييني بكلمات قليلة كلها الرقة والظرف، ولقد اعتذر عن موعدين سبقا بيننا ولم نلتق فيهما بأنه يقضي من النهار في حضرة ابن السعود ما لا يدع له من وقته إلا الصباح الباكر يعمل فيه أو يلقى من يريد لقاءه أثناءه ، فإذا أضحى النهار ذهب إلى القصر فقضى فيه إلى الظهر، ثم عاد إليه بعد العصر فلم يغادره حتى تتم القراءة للملك بعد العشاء فيفض المجلس.
وفيما نتحدث سمعت تصفيقا ورأيت الرجل خف بنفسه إلى خارج الغرفة ولم يلبس نعليه ثم عاد يحمل صينية الشاي وعليها أدواته، وتناولنا الشاي وسألته أثناء تناولنا إياه: «ألا تكتب حياة محمد وقد عرفت بلاده وسرت في خطاه، ودرست دراسة المدقق كل مكان له اتصال بسيرته؟!» وكان جوابه: «أنا لا أريد الاختلاف مع العلماء المسلمين في أمر لا يفيد الخلاف فيه، وكثيرا ما يضر، وليست كتابة التاريخ من عملي العلمي، فإنما عملي وضع الخرائط للأماكن التي أمر بها والتي لم يسبقني معاصر إلى وضع خرائطها.» فلما تحدثت وإياه عن الإسلام، ذكر أنه مقتنع تمام الاقتناع بأن الديمقراطية الإسلامية والحكومة الإسلامية خير أنواع الديمقراطيات والحكومات.
ولما فرغنا من تناول الشاي قال «فلبي»: «سأطلعك على بعض الخرائط التي أضعها.» وقام فأعاد أدوات الشاي إلى داخل الدار وعاد بمجموعة كبيرة من الخرائط، وبدأ فأراني الطريقة التي يسير عليها في وضع الخرائط وكيف يتخذ مكة مركز الدائرة فيها، وكيف يحقق موضع كل محلة أو مكان على الخريطة تحقيقا علميا دقيقا، بأن يسلك إليه عدة طرق من مكة ويجري في التحديد على قياس الزوايا، ولقد سألته أثناء ذلك: أوضع لمكة خريطة تفصيلية؟ فذكر أنه شرع فيها ولما يتمها، وأطلعني على خريطته عن الربع الخالي - وهي الموجودة في كتابه الذي يحمل هذا الاسم
The Empty Quarter - كما أطلعني على خرائط الطريق بين مكة وجدة والمدينة، وبين مكة والطائف والخرمة، ولما كانت هذه الخرائط مطبوعة فقد أهداها إلي لأستعين بها في رحلتي إلى الطائف وإلى المدينة، وقد استعنت بها فكانت نعم العون، واستعنت بها في رسم غير واحدة من خرائط هذا الكتاب، ولقد شكرته يومئذ وأشكر له اليوم فضله في هذه المعونة القيمة، كما أشكر له جميل استقباله إياي وما أمدني به من معلومات أفادت مباحثي في أماكن عدة .
وانصرفت من عنده فمررت بالتكية المصرية، ثم عدت إلى دار مضيفي فتناولنا طعام الغداء، وأقمت أنتظر رفاق السفر إلى الطائف، وأقبل السيد محمد صالح القزاز أمين أموال الدولة بالطائف، وهو شاب وسيم حلو الحديث، أحدث مضيفي التعارف بيني وبينه، وذكر أنه سيصحبني في رحلتي إلى الطائف وسيدلني على كل ما فيها مما تصبو إليه نفسي، فهو بكل ما فيها خبير.
وأضاف الشيخ صالح أنه سعيد أن وقع اختيار الحكومة عليه ليصحبني، وفيما نتحدث أقبل الشيخ محمد سرور الصبان القائم بأمر المواصلات في المملكة، ولم يطل مكثه معنا؛ لأنه لم يكن مسافرا، وإنما جاء يودعني من مكة ويرحب بي ضيفا بمنزله بالطائف، وأقبل الشيخ عبد الحميد حديدي الذي أزمع معاونتي في هذه الرحلة، كما كان لي نعم العون بمكة في بحثي وفي إقامتي وفي حلي وترحالي، وجعل الشيخ عباس قطان كل همه أن يبعث الطمأنينة إلى نفسي ويزيد أواصر المودة بيني وبين رفاقي، وسمعنا نفير سيارة كانت «البكسفورد» الذي بعثت به الحكومة لتصحبني، وبعد سويعة أقبلت سيارتي وأعلن السائق حسن عن مقدمها بصوت النفير، إذ ذاك نزلنا إليها وصحبنا مضيفنا حتى ودعني في جماعة من أصحابه عندها.
وانطلقت السيارة في طرق مكة، حتى إذا كانت عند قصر الملك تياسرت في طريق الجعرانة دائرة حول حراء، وقبيل منتصف الطريق إلى الجعرانة تيامنت منطلقة في واد فسيح بين الجبال حتى وقفت في محلة الشرائع أمام كوخ هو وحده مظهر الحياة الإنسانية في هذا الوادي، وأهل هذا الكوخ يستقون من عين جارية تروي أشجارا قليلة، وقد جعلوا من كوخهم مقهى يتناول فيه السائر الشاي، ويجد به شربة من ماء وفنجانا من القهوة النجدية، وسألني الشيخ صالح أأريد النزول؟ فلما علمت أن ليس بالمكان غير المقهى آثرت أن ننطلق إلى المحلة التي تلي الشرائع، على أن الشيخ عبد الحميد حديدي استوقف حسنا السائق هنيهة ليقص علي من نبأ التاريخ ما له اتصال بالسيرة النبوية، ومن موقفنا أشار إلى الجبل القائم عن يميننا وإلى مكان منخفض بعض الشيء عند قممه، وقال: هذا شعب الثنية الذي تخطى منه النبي إلى مكة حين عودته من الطائف منفردا بعد أن أساء أهلها لقاءه وردوه بشر جواب، قلت: من أين إذن ذهب إلى الطائف؟ قال: من طريق كر وكراء بعد اجتياز عرفات وشداد، وحدقت في شعب الثنية بهذا الجبل المرتفع عن اليمين، وصورت لنفسي ما كان يلقاه محمد من المشقة في سبيل الدعوة إلى الحق الذي بعثه الله به، فهذه جبال جرداء قاحلة لا أنيس بها، تغشاها السباع كما تغشى جبل كراء، مع ذلك لم يكن محمد يخشى وحشتها، بل كان يسير خلالها مطمئنا إلى رسالات ربه يبلغها للناس، وقد بلغها إلى العرب أثناء الحج حين مقامهم بمكة ومنى وعرفات فلم يسمعوا له، وقد ذهب إلى غير واحدة من القبائل في منازلها فردوه منكرين، وهو يعلم أن ثقيفا بالطائف من أمنع قبائل العرب وأعزها جوارا؛ لذلك ذهب إليها سالكا طريق الجبل الوعر، فردته بشر ما ردته به قبيلة، وأغرت به صبيانها فقذفوه بالحجارة، فانصرف عنهم من طريق آخر في الجبل الوعر متخطيا هذه الثنية القائمة قبالة الشرائع، لم يغير الأذى من عزمه ولم يضعضع من قدس إيمانه وجلال يقينه، وأية قوة أو مشقة تضعضع من هذا الإيمان المتصل بالله الواحد الأحد، المستمد من روح الله ووحيه؟ أمره ربه أن يبلغ رسالته، فانطلق يبلغها مطمئنا إلى ربه واثقا من نصره.
وتخطت السيارة محلة الشرائع في مضيق بين جبلين، وتابعت سيرها حتى بلغت الزيمة، ووقفت السيارة هناك عند منظر يستوقف النظر في تهامة كلها، ذلك منظر الماء والشجر الأخضر.
لقد رأينا بالشرائع أغراسا دعوها بستانا فلم نحفل به، أما ها هنا فقد رأينا الماء ينهمر منحدرا من الجبال يسقي بساتين عدة، ورأينا أشجار الموز تكظ بعض هذه البساتين، والنفس مبتهجة ما رأت الماء والخضرة؛ لذلك قضينا في هذه المحلة زمنا ما كان أحوجنا إليه والوقت يسرع نحو المغيب، وبيننا وبين الطائف طريق ما يزال طويلا!
قال صاحبي: «يذهب بعضهم إلى أن وادي حنين، حيث وقعت غزوة حنين بين المسلمين وبين هوازن وثقيف في أعقاب فتح مكة، إنما يقع بين الشرائع والزيمة، وأن جيوش المسلمين قضت الليل على أبواب الوادي الذي تخطيناه الآن بين هاتين المحلتين، والذي كان يسمى يومئذ وادي حنين، فلما كانت بكرة الفجر تحركوا والنبي على بغلته البيضاء في مؤخرتهم يريدون أن يأخذوا عدوهم على غرة، وإنهم لمنحطون إلى الوادي إذ شدت عليهم القبائل بإمرة مالك بن عوف النصري شدة رجل واحد، وأصلوهم وابلا من النبال، هنالك اضطرب أمر المسلمين فولوا الأدبار منهزمين وقد زلزلوا زلزالا شديدا، ورأى محمد فرار أصحابه فلم يتزحزح من مكانه، بل ثبت وجعل ينادي في الناس وهم يمرون به منهزمين: «أين أيها الناس أين؟!» ووقف عمه العباس بن عبد المطلب إلى جانبه يصيح في الناس بصوت جهوري أسمعهم جميعا: «يا معشر الأنصار الذي آووا ونصروا! يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمدا حي فهلموا!» وكشفت تباشير النهار عن عماية الفجر، ورأى الناس موقف رسول الله وعظيم ثباته، فتنادى القريبون منه يجيبون نداء العباس: لبيك لبيك! وارتدوا إلى المعركة، وتبعهم من لاذ قبلهم بالفرار، وذكروا جميعا ماضيهم في النصر، فخاضوا غمار الموت لا يبالونه، فتم لهم النصر وولى عدوهم مدبرا ولم يعقب، تاركا وراءه النساء والأبناء والأموال غنيمة للمسلمين.»
صفحه نامشخص