وأقبل محمد علي فلم أشك إذ رأيته في أني أرى قرشيا صميما، تبدو العروبة الخالصة على محياه، أسمر السحنة، ذو عينين سوداوين شديدتي البريق، وشعر كث فاحم، وأنف أقنى، وشفاه رقيقة، معتدل القامة، عريض الأكتاف، ينبئ مظهره عن رجولية بدوية لا تعرف الإذعان ولم تعرف الحضارة، ترى أهو مثل لأهل قبيلته، فصورتهم صورته، ورجوليتهم رجوليته؟ أما النساء، فلم أر منهن ما أحكم به على جمال كان فتنة لشعراء العرب الغزليين.
وتقدمنا محمد علي مصعدا في الجبل القائم عن يسار الذاهب إلى عرفات، ووقف عند صخرة مفلوقة من وسطها قال: إنها مجر الكبش، وإن سكين أبينا الخليل إبراهيم - عليه السلام - أخطأت ابنه إسماعيل لما تله للجبين ليذبحه فمست الصخرة ففلقتها. وتقوم على مقربة من هذه الصخرة صخرة أخرى أضخم منها يدور حولها طريق هو الذي تسلقنا منه، هذا الطريق هو مجر الكبش حيث سار إلى إبراهيم ليذبحه فداء لإسماعيل، وكان في هذا المكان مسجد عليه قبة يقال له: مسجد الكبش يؤمه الحجاج، فهدمه الإخوان الوهابيون.
ورافقنا محمد علي إلى مسجد الكوثر ثم إلى مسجد الخيف، وذكر أن القبة التي تتخذ مكبرية «مبلغة» بالخيف تقوم موضع الخيمة التي صلى بها النبي في حجة الوداع، والتاريخ لا ينفي هذه الرواية، والثابت فيه أن المسجد لم يكن يومئذ كما هو اليوم، بل كان خلاء تحيط به جدران بسيطة، وإنما استحدثت عمارته في القرن الثالث للهجرة بأمر المعتمد الخليفة العباسي، ثم جدد بعد ذلك في القرن السادس، وأنفق أهل التقوى من المسلمين مبالغ طائلة لصيانته، وفي القرن التاسع أمر سلطان مصر قايتباي فبني المسجد كله من أساسه بناء محكما، وأقيمت القبة موضع مصلى النبي، وبنيت إلى جانبها مئذنة من طراز مآذن مصر، كما بنيت مئذنة أخرى على باب المسجد، وقد عمر بعد ذلك مع بقاء بناء قايتباي على أصله.
ويقع غار المرسلات بجبل ثبير إلى الجنوب من مسجد الخيف، وهذا الغار يسمى اليوم غار الكوفية أو الطاقية، ويقص المطوفون أن النبي اختفى به فلان الحجر موضع رأسه فدخلت طاقيته أو كوفيته فيه، وإنما سمي من قبل غار المرسلات لما يذكرونه من أن الله أوحى إلى النبي سورة المرسلات فيه، وكان الحجاج يؤمونه للتبرك به، ويزدحمون عنده حتى يبلغ ازدحامهم أشده، أما اليوم فقد قلوا نزولا على مذهب حكام الحجاز في التبرك.
والمشعر الحرام يقع بالمزدلفة بين منى وعرفات، ويمر الإنسان في مسيره من منى إلى المشعر بواد اشتهر الآن باسم وادي النار، وكان يدعى من قبل وادي محسر، ويقع هذا الوادي الأجرد بين جبلين يدعى أحدهما جبل قزح، ويزعمون أن واقعة الفيل المشار إليها في القرآن وقعت فيه، والتاريخ المعروف لا يروي أن واقعة حدثت في عام الفيل، إنما يروي أن أبرهة حاكم اليمن جاء على فيله ومن ورائه جيشه لهدم البيت بمكة بعد أن رأى انصراف الناس عن البيت الذي أقامه وزخرفه بصنعاء، وأنه نزل بظاهر مكة ودعا إليه قوما من أهلها وعلى رأسهم عبد المطلب جد النبي، ورأى أهل مكة أنهم لا يطيقون قتاله، فأخلوا مكة عشية اعتزم دخولها لهدم البيت، فلما أصبح أبرهة وجد الجدري تفشى بجيشه تفشيا أفزع الناس وأفزعه، فارتد عن مكة، وما إن بلغ اليمن حتى مات، ولعل هذا الذي أصاب أبرهة وجيشه هو الذي دعا إلى تسمية هذا الوادي باسم وادي النار، ووادي الحسرة أو محسر؛ لأن نار المرض أصابت القوم فانقلبوا إلى قومهم في حسرة خاسئين.
أما المشعر الحرام بالمزدلفة فمسجد صغير، إن صح أن يسمى الفضاء من الأرض مسجدا إذا أحيط بجدر قصيرة تحده، وكل ما يدل على المشعر الحرام مئذنة وسط هذا الفضاء تضاء أثناء الحج، وفي جوار المسجد بازان مياه حسن البناء، ذو فوهة يستقي الناس منها، ويتصل بمجرى الماء المنحدر من نعمان إلى مكة والمعروف بعين زبيدة، وللبازان درج ينزل الإنسان فيه إلى حيث يصل إلى فوهة الماء، فأما ما حول ذلك ففضاء المزدلفة تحيط به جبال، أحدها قزح الممتد من قبالة جبل المحسر.
ولم يكن بهذا المكان مسجد على عهد الرسول، بل كان المشعر جبلا في هذه الأودية اعتادت العرب في حجها أن تشعر جمالها عنده «أي: تضربها في صفحة سنامها حتى يسيل منها الدم»، وكان العرب قبل الإسلام يوقدون النار فوق قزح عند المزدلفة؛ كي يهتدي بها الصاعد من منى إلى عرفات، والمفيض من عرفات إلى منى، وأوقدت هذه النار في عهد النبي وفي الصدر الأول من الإسلام إلى عهد عثمان، أما المنارة القائمة اليوم فلم تشيد إلا بعد ذلك بقرون، ويذكر النهرواني أن أحدث بناء لها كان سنة تسع وخمسين وسبعمائة أو السنة التي بعدها فيما علم، وبناء المشعر الحرام من البساطة بما رأيت مما يتفق مع هذه البيئة البدوية المحيطة به، ولو أن هذا البناء في غير الحجاز وورد ذكر مكانه في كتاب مقدس كما ورد ذكر المشعر الحرام في القرآن، لشاده أهله في أضخم عمارة وأجملها.
كان الطريق ما بين المزدلفة وعرفة ضيقا في قرون الإسلام الأولى، فكان من السنة المستحبة أن يفسح الإنسان لغيره ما استطاع، أما الآن فقد انفسح بما لا تخشى معه الزحمة إلا فيما ندر في بعض سويعات الإفاضة، وهو يمر بجبلين متقاربين هما مأزما عرفة، ويمر بنمرة حيث يقوم المسجد بالمكان الذي وقف فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ممتطيا ناقته القصواء فخطب الناس في حجة الوداع، ويطلق على هذا المسجد أسماء: مسجد نمرة، ومسجد عرنة، وجامع إبراهيم، ومصلى عرفة، ونمرة جزء من بطن عرنة، فالتسمية بهما نسبة إلى المكان، أما اسم مسجد إبراهيم فيرجع إلى ما يقال من أن جبريل علم إبراهيم أبا الأنبياء شعائر الحج وهما في هذا المكان، فأما مصلى عرفة فاسم يطلق؛ لأن الحجاج بعرفة يجمعون فيه بين صلاة الظهر وصلاة العصر جمع تقديم تأسيا بالرسول في حجة الوداع، ويقع المسجد على مقربة من علمي عرفة، وهو فسيح مترامي الأطراف، كما تقدم القول، له محراب يرتفع ثلاثة أمتار وقد أحاطت الأروقة به من جميع جوانبه، وصحنه مكشوف تقوم فيه مكبرية لصلاة يوم عرفة، ويرجع إنشاء هذا المسجد إلى القرن الثاني بعد الهجرة، وقد عمره ملوك المسلمين في مصر وفي غير مصر بعد ذلك غير مرة.
صفحه نامشخص