صلى الله عليه وسلم ، وفي يوم الوحي الأول، جلست أفكر والخيط الأبيض يتبين من الخيط الأسود من الفجر، وذكرت رسول الله بعد يوم الغار، وتمثلت لي رسالته تتبين من خلال الظلمات المحيطة لها، ظلمات الكفر والوثنية والشرك، كما يتبين هذا الخيط الأبيض من ظلمات الليل البهيم، وجعل الضياء ينتشر حولي شيئا فشيئا كما انتشر الإسلام فأضاء الأرجاء بنوره، إذ ذاك توجهت إلى الله بكل قلبي ودعوته: اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير.
ربنا منك السلام وإليك السلام فحينا ربنا بالسلام.
وقمت عن مصلاي ممتلئ النفس من مشهد الجبل والغار فوقه، ومن مشهد يوم الوحي الأول حين أراد الله للناس الهدى فبعث به عبده ورسوله محمدا بشيرا ونذيرا، وإنني اليوم لأذكر هذا المشهد ممتلئ النفس من جماله وجلاله وهيبته، عامر القلب إيمانا بهذا النور الذي أضاء العالم بالحق، علمه الله الناس بالقلم ولم يكونوا يعلمون.
ربنا جل ثناؤك، وتعالت أسماؤك، لا إله إلا أنت، بيدك الخير، ومنك الهدى، وإليك المرجع والمآب.
في غار ثور
أما وقد آن لنا أن نغادر مكة إلى المدينة فهلم بنا إلى غار ثور، وأومأ الإخوان الذين صحبوني في صعود حراء وفي جولاتي بالبلد الأمين وما حوله أنهم سيكونون في صحبتي، وقال اثنان منهم: وسنصحبك إلى المدينة، فشكرتهما، ثم حددنا موعد الذهاب إلى ثور والصعود إلى غاره في الغداة، أو ليس الرسول - عليه السلام - قد احتمى به من كيد عدوه حين أزمع الهجرة إلى المدينة؟ فلنذهب إليه ولنشهد أثر الرسول فيه ولنحتم بأفياء الصخور وظل الغار وإن لم يطارنا عدو ولم يأتمر بنا ليقتلنا أحد، قال رجل من أفاضل المكيين لم يكن صحبنا من قبل: وأنا زميلكم في رحلتكم هذه إلى ملجأ رسول الله في هجرته، وإن لم يكن بي إلى زيارة المدينة هذا العام عزم، وسألته فذكر أنه لم يصعد ثورا ولم ير الغار من قبل، ثم ابتسم وقال: إن مئات من الهنود والجاويين والصينيين وغيرهم ليتسلقون ثورا ويصلون الغار في كل عام، أما نحن أهل مكة فتصرفنا الحياة وشغلها عن الصعود إليه.
ولم أجد في ذلك عجبا، فالسائحون الغربيون الذين يجيئون إلى مصر أشد حرصا من أهل مصر على مشاهدة آثار الفراعنة والرومان ومساجد العرب والمسلمين، والشرقيون الذين يزورون أوروبا يرون من آثارها ومتاحفها أضعاف ما يراه أهلها؛ ذلك بأن المقيمين على مقربة من هذه الآثار والمتاحف لا يستعجلون زيارتها طمأنينة منهم إلى أنهم سيقومون بهذه الزيارة يوما ما، فأما الذين جاءوا من بلاد قاصية فلا يعرفون هل قدر لهم أن يعودوا؛ ولذلك يحرصون على أن يروا كل ما يستطعيون رؤيته، وهؤلاء المسافرون قد جاءوا وفي برنامج رحلتهم أن يروا هذه الأماكن، فأما المقيمون حولها فلديهم من مشاغل الحياة اليومية ما يحملهم على إرجاء زيارتها، وكثيرا ما يطول هذا الإرجاء فلا تتم الزيارة أبدا.
ورحبت بصحبة صديقنا المكي لنا وقلت مبتسما: لطالما يتحدث أهل مكة عن آثار الرسول فيها، فلعلك تفيدنا في هذه الرحلة بمعلوماتك عنها - ولم ير الرجل في حديثي هذا محلا لدعابة، بل قال: نعم! فإن ما لدي من العلم بآثار مكة كثير، وقفت عليه في بطون الكتب ومتون التاريخ، ووفقت غاية التوفيق في بحثه وتمحيصه، وهل قصة يشوق الإنسان بحثها ما تشوقه قصة الهجرة؟! هذه القصة التي لم يرو التاريخ قط مثلها من أنباء المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة! وجبل ثور وغاره يتصلان بهذه القصة أبلغ اتصال، وجدير بكل ما اتصل بها أن يخلد على التاريخ، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد أصبحت الهجرة مبدأ تاريخ لذاتها، فإنها فصلت على الزمان بين عهد الوثنية والشرك بالله وعهد التوحيد القائم على أسمى الأسس الروحية والعقلية والخلقية.
كان الرجل يلقي هذا الحديث وبيانه يتدفق حماسة وإيمانا مع أنه لم ير ثورا ولا صعد إلى الغار فيه؛ إنما دفع إلى قلبه هذه الحماسة وأفاض على لسانه هذا البيان إيمانه بالله ورسوله، ثم إن أهل مكة قد ألفوا الحديث عن آثار بلدهم المقدس بلهجة تزيد المسلم حبا لهذه الآثار وحرصا على رؤيتها، وإن لم يكن المتحدث من أهل مكة قد رأى أثرا منها، وإن أفضى إليك إذا خلوت إليه بأن التاريخ لا يثبت من هذه الآثار إلا الكعبة والحرم والصفا والمروة وحراء وثورا، فأما ما سوى ذلك فلا تنهض حجة موثوق بها على صحة أنه المكان الذي ينسب إليه.
وقال أحد الحاضرين وكان قد صعد ثورا إلى الغار من قبل: لولا قصة الهجرة لما ذكر ثورا ولا ذكر الغار الذي بأعلاه ذاكر، فهو واحد من الجبال الكثيرة التي تحيط بمكة، ليس أرفعها وليس أبهاها، وليس يمتاز عليها بشيء مطلقا من حيث طبيعته، والغار الواقع في قمته لا يمتاز على أي غار آخر مما يرى الإنسان في جبال الحجاز وفي جبل ثور نفسه، أما وقد لجأ الرسول ولجأ الصديق معه إلى هذا الغار وأقاما به ثلاثة أيام، كانا موقنين أثناءها بعثور الباحثين عنهما من فتيان قريش بهما وقتلهم إياهما، فقد صار هذا الغار علما من أعلام التاريخ، ومنسكا يحج إليه كثير من الناس ذكرا لهذه الهجرة التي كانت مبدأ فتح الله لرسوله، ونصر الله دينه، وإعلائه كلمة الهدى والحق.
صفحه نامشخص