لكن بني أمية كانوا قد اتصلوا في الشام بأهل البلاد التي دخلت في الإسلام بحكم الفتح، ورأوا من عناية النصارى بكنائسهم وعمارتها وزينتها ما جعلهم يفكرون في القيام للمسجد الحرام بشيء من هذا الذي رأوا، وكان عبد الملك بن مروان أول من سن هذه السنة حين حج في السنة الخامسة والسبعين من الهجرة، فهو لم يجد المسجد في حاجة إلى زيادة فيه، فأمر فرفعت جدره، وسقف بخشب الساج الداكن اللون المتين، وجعل في رأس كل أسطوانة خمسين مثقالا من الذهب، وفي ذلك عود لتقاليد الجاهلية، لم يعترضه يومئذ من المسلمين أحد؛ لأن أمير المؤمنين هو الذي أمر به، وزاد الوليد بن عبد الملك في عمل أبيه بعد أن نقضه، فوسع المسجد، وزخرف الساج الذي سقفه به وأزر أسفل جدرانه بالرخام، وجعل له شرفا، ونقل إليه أساطين الرخام وجعل على الذهب في رأسها صفائح من النحاس، وزخرف أعلى أبواب المسجد بالفسيفساء، وإنما صنع الوليد ذلك؛ لأنه كان إذا شيد المساجد زخرفها كما يزخرف النصارى كنائسهم.
ودالت دولة بني أمية، وقام بنو العباس على إمارة المؤمنين، وبنو العباس يمتون إلى بيت النبوة بآصرة قريبة، وقد جعلوا من صلتهم به أساس دعوتهم، فلا عجب أن يتجه نظرهم إلى البيت الحرام وإلى الزيادة فيه وإعظامه، وإن لم يفكر أحد في الرجوع به إلى البساطة الأولى، فلما اطمأن لهم الأمر أصدر ثاني خلفائهم أبو جعفر المنصور أمره إلى زياد بن عبد الله الحارثي واليه على مكة، فزاد في المسجد الحرام وجعله ضعف ما كان عليه، وزينه بالذهب وأنواع النقوش، وبنى مئذنة بني سهم، وأتم ذلك فيما بين سنة سبع وثلاثين ومائة وسنة أربعين ومائة، وفي هذه السنة حج المنصور ورأى حجارة حجر إسماعيل بادية، فأمر زيادا أن يغطيها بالرخام، ونفذ زياد الأمر ليلا، وأصبح المنصور فرآها كما أراد، وزاد المهدي بعد أبيه المنصور ما جعل المسجد قرابة ما هو اليوم.
وكانت الكعبة في جانب من المسجد؛ لأن ما أضافه إليه عمر كان يتجه إلى الناحية التي لا يخشى انحدار السيل إليها؛ وكره المهدي أن تكون الكعبة في ناحية من المسجد وأراد أن تكون في وسطه، وقال المهندسون حين استشارهم: إن وادي مكة له سيول قوية العزم، ونخشى إن حولنا الوادي عن مكانه ألا يتم لنا ما نريد، قال المهدي: لا بد لي من سعة المسجد حتى تكون الكعبة في وسطه ولو أنفقت فيه جميع ما في بيوت المال، وأحكم المهندسون أمرهم، وترك لهم المهدي المال وعاد إلى العراق، واشتط أصحاب الدور التي تدخل في هذه الزيادة في أثمان دورهم، حتى بلغ ثمن الذراع مما دخل المسجد خمسة وعشرين دينارا، أي: اثني عشر جنيها ونصف الجنيه، وأتم المهندسون العمل في عهد الهادي بن المهدي بعد أن جلبت أساطين الرخام لهذه الزيادة من مصر ومن غيرها، وحملت على العجل من جدة إلى مكة.
لم يضف إلى المسجد بعد ذلك غير إضافتين جزئيتين تمتا في عهد الناصر والمقتدر من العباسيين، على أن عمارته جددت مرات من بعد، وكان لملوك مصر وأمرائها حظ من ذلك عظيم، وكانوا لا يقفون من العمارة عند الترميم أو البناء، بل كانوا يضاهون العباسيين في تزيين المسجد وزخرفته، وإن لم يبلغوا من ذلك ما بلغوا في تزيين حرم المدينة وزخرفته مما سنقصه عليك، ومع ما كان من انتقال الخلافة من مصر إلى آل عثمان بالآستانة، ومن عناية آل عثمان بالحرمين، لقد ظلت مصر أشد البلاد الإسلامية حرصا على عمارة الأماكن الإسلامية المقدسة، وأكثرها سخاء في الإنفاق على هذه العمارة.
كان المعلم محمد المصري هو الذي استصحبه شيخ المهندسين أحمد بك المصري لعمارة المسجد الحرام حين أصدر السلطان سليم أمره إلى حاكم مصر سنان باشا للقيام بهذا العمل، وكان لمصر نصيب وافر من النفقة على هذه العمارة التي بلغت خمسة وخمسين ألفا من الجنيهات عدا مائة ألف من الذهب الإبريز، وعدا ما دخل من مصر من مواد العمارة كالخشب والحديد وأهلة القباب المطلية بالذهب، على نحو ما يرى الإنسان بالمسجد إلى يومنا هذا، وفي هذه العمارة عني المهندس بخفض أرض الطريق المنحدر إلى وادي مكة لتنحدر منه السيول إذا دخلت المسجد، وكثيرا ما كانت هذه السيول سببا في توهين بنيان المسجد من قبل.
ليس غرضي مما قدمت تفصيل عمارة المسجد ومن قام بها؛ لذلك لا أقف عند عمارة داخل المسجد من مقام إبراهيم، وحجر إسماعيل، وبئر زمزم، ومقامات الأئمة الأربعة، إنما سقت ما ذكرت لأبين ما أدت إليه صلاة الجمعة في الحرم من توسيع المسجد على مر السنين ليسع المصلين، وعناية خلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين بذلك عناية بدأت من عهد عمر واستمرت على القرون بعده، وما أدى إليه تطور التفكير الإسلامي من البساطة القوية الأولى، بساطة الإيمان والنظام للفرد والجماعة، إلى الترف والزخرف في العصور التي سبقت الانحلال في الحضارة الإسلامية، فقد رأيت أن الخلفاء الأولين لم يعنهم من أمر الحرم وتوسيعه إلا أن ينفسح المكان للمسلمين في أيام الحج ليصلوا حول بيت الله، ثم آل الأمر إلى تزيين المسجد وإلى زخرفته شيئا فشيئا حين أصبح الإيمان فنا والنظام حوارا وجدلا، فقد بدأ الإيمان يتزيا في أزياء ويتصور في صور تجعل الإنسان درجات تتفاوت بتفاوت ما يتقرب به صاحبه إلى الله من مادة الحياة بعد أن كان أمره روحيا خالصا، يتصل تفاوته في الدرجات بمبلغ سمو الروح به إلى الله، كان هذا السمو الروحي دأب المسلمين الأولين، وكانوا يقرون لفقراء لا يملكون قوت يومهم أنهم أقرب إلى الله؛ لأنهم أكثر به إيمانا وله إسلاما، وأن من الأغنياء الذين ينفقون في التقرب إلى الله بإقامة المساجد وما إليها من لا يبلغ في الإيمان درجة هؤلاء الفقراء.
فلما شابت السمو الروحي الشوائب خيل إلى الأغنياء وذوي الأمر والسلطان أن من درجات الإيمان ما يبذلون من مال في توسيع الحرم أو زخرفته، ثم تطور أمر الإيمان إلى التقرب إلى الله عن طريق الأولياء والصالحين، ثم ضعف هذا الإيمان وصار إلى ما صار إليه في زماننا تقليديا يكفي صاحبه أن يقول ألفاظ الإيمان وإن لم يؤمن منها بشيء، ثم يحسب بعد ذلك أنه أرضى الله، ولعله لا يعنيه من هذا الرضا أكثر مما يعنيه من حقيقة إيمانه.
هذا التطور وما انتهى إليه هو علة ما قدمنا عن النظام في صلاة الجمعة بالحرم وأن الروح ينقصه، على أن هذا الحرم، حرم الكعبة، كان له في نفوس المسلمين جميعا من التقديس ما حال دون غلبة التطور في بنائه على روح الإسلام القوي ببساطته، فلم يبلغ ما رأيت من جهود الملوك والأمراء أن جعل من هذا الحرم هيكل عبادة على صورة هياكل العبادة في غير الإسلام من الأديان، ولم يبلغ أن جعله على صورة مساجد المسلمين مما تراه في غير مكة من بلاد العالم الإسلامي، بل ظل الحرم تطبعه بساطة تجمع بين الصراحة والمهابة، وتجعلك ترى الفقير المعدم يقف إلى جانب الغني المترف ويصلي وإياه كتفا إلى كتف، وهما يتجاوران في هذا الحرم المقدس تجاور إخاء واتساق، كما تتسق فيه الحصباء إلى جانب الحجر المرصوف به ما يجاورها من صحنه، ويظلهما إيمانهما بالمحبة والسلام وهما يريان في حمام الحمى رمزا يدل على المحبة؛ إذ يجاوره المصلون فلا يطير ولا يخاف؛ لأنه في حمى الله وفي حرم بيت الله.
لم يغلب التطور في بناء الحرم على روح الإسلام القوي ببساطته، لكن هذا التطور كان له أثره في النفسية الإسلامية منذ بدأ الانحلال بعد ازدهار الحضارة إبان العصر العباسي، وقد رأيت مبلغ ما هوت إليه هذه النفسية، حتى نسي المسلم أن إيمانه لا يكمل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى صار المسلم أثرا لا يعرف إلا نفسه، ولا يفكر إلا في نفسه، يصلي رجاء التوبة لنفسه والمغفرة لذنبه، لا انتهاء عن فحشاء ولا عن منكر، ويقف في صفوف الجماعة وهو لا يفكر إلا أن يعود عليه من ثواب صلاة الجماعة ما يعادل الثواب الذي يعود عليه من صلاته وحيدا أضعافا مضاعفة، وهو يؤدي فريضة الحج ليغفر الله له ذنبه وليعود نقي الصحيفة، وسيان عنده بعد ذلك ما يحل بسواه، حتى البر - وهو عماد التقوى - قد تضاءل في نفسه ما لم تتحقق لديه المثوبة عنه، لم يعد يفكر في أن يخرج من ماله عن حظ معلوم للسائل والمحروم ابتغاء وجه ربه، لا رغبة ولا رهبة، ونسي أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، لا يفكر في دار علم يقيمها، ولا في مكتبة ينشئها، ولا في مستشفى أو مصلى ينفق عليه، غاية همه أن يستغفر عن الخطايا، كأن حياته كلها خطيئة يريد أن يكفر عنها، وكأنما يعجز عن أن يجعل من الحياة عملا صالحا يكون به عند الله راضيا مرضيا.
وإنما هوت النفسية الإسلامية في عصور الانحلال إلى هذه المكانة؛ لأن من المسلمين من اتخذ إلهه هواه، ورفعه تدهور الجماعة إلى مكان الزعامة منهم والحكم فيهم، وقد ألف كثيرون أن يقولوا: «الناس على دين ملوكهم»، فجرت الجماعة مجرى هؤلاء الملوك والحكام، وجعلت إلهها هواها، واقتصرت من عبادة الحق على ما ترى فيه مغفرة وزرها والتخفيف من إثمها، ولم تقصد وجه الحق - جل شأنه - لذاته، إياه تعبد وإياه تستعين، ووقفت عبادتها عند ألفاظ تتلوها، وفاتها أن العمل عبادة، والعلم عبادة، والسعي عبادة، ومعرفة سنة الله في خلقه بالاجتهاد والجد أسمى معاني العبادة.
صفحه نامشخص