فإذا لم يكن في استقرار هذه الشركة وفي قيام شركات مثلها ما يثير المخاوف أن يصيب بلاد العرب ما أصاب الهند، فأيسر ما فيه تمهيد لتغلغل الحضارة الغربية من ناحيتها الصناعية، ومن ناحية ظواهر العيش والحياة في هذه البلاد التي ظلت محتفظة حتى اليوم بطابعها العربي، ولا عجب يومئذ أن نرى هذا اللباس العربي يتوارى ليحل الزي الغربي محله، وأن نرى لون الحياة العربية الذي يوحي الطمأنينة إلى زائري البلاد المقدسة جميعا من المسلمين يحول إلى لون غربي، شأنه فيها شأنه في مصر وغير مصر من بلاد الشرق، وهنالك يسرع التجدد إلى مكة، وتصبح جديرة باسم مكة الحديثة حقا، ويومئذ يعود شباب مكة يفكرون: أسعدوا وسعدت مدينتهم بهذا التغيير الذي تصبو اليوم إليه نفوسهم؟ أم أن بلادهم فقدت به طابعها السحري، كما فقدت بوسائل النقل الحديثة شيئا كثيرا من روعتها الشعرية؟
وعلى رغم بقاء الأجانب إلى اليوم مبعدين عن بلاد العرب - خلا مدن الشاطئ - لقد تحولت أسباب المواصلات فيها بقدر عظيم من الجمل؛ سفينة الصحراء، إلى السيارات بأنواعها المختلفة، ومن البريد إلى البرق وإلى التليفون وإلى آخر محدثات الصناعة، والسيارة سريعة مريحة عظيمة الفائدة في إنجاز الأعمال، وقد أفادت أمانة العاصمة منها أن اتخذتها وسيلة الكنس والرش وإطفاء الحريق، وأن اقتنت سيارات لهذه الأغراض التي لم تكن تعتبر ذات بال من قبل، لكن السيارة هدامة لوحي الصحراء مضيعة لشعر البادية، وأنى لراكبها أن يتأمل البادية وما فيها وهي تقطعها في لمح البصر؟! فما يكاد البصر يستقر منها على شيء يتأمله.
والبرق والتليفون شأنهما في ذلك شأن السيارة، لا يدعان للذهن أن يستقر ، ولا للخيال أن يفتن في التعبير لمن نكتب إليهم عن عواطفنا وآمالنا وآلامنا، ولقد كان من العرب من يرغب عن هذه الوسائل أول دخولها بلاد العرب، وكان منهم من يراها حراما، أما اليوم فقد ألفوها، وصار بعضهم يستغني بها عما ألف من الوسائل من قبل، ولهذا - لا ريب - أثره في التفكير، وله عند شباب مكة من الدلالة على عدم صلاح أسباب الحياة القديمة لهذا العصر الحاضر ما يجعلهم أشد صبوة إلى الحديث في كل شيء، لكن هذا كله لم يصل بعد من موضع التفكير إلى تصوير الحياة صورة غير التي عرفوها عن السلف؛ بل هو يجاور هذه الصورة في الذهن العربي جوارا يتعذر على الإنسان أن يتنبأ بآثاره.
وتجارة الغرب ذات رواج اليوم في أسواق مكة، فلا يكاد الإنسان يجد من صناعة مكة أو صناعة بلاد العرب فيها شيئا، وإذا قلت: الغرب قلت: اليابان أيضا، فالمصنوعات اليابانية منتشرة بأثمان زهيدة تدعو إلى أشد الرغبة فيها، ولقد بلغ من حذق الصناعة أن صارت اليابان وصار الغرب يبعث إلى مكة بالأشياء التي يبتاعها المسلمون للتبرك بها على أنها من البلد الأمين، فالسبح والعطور تصدر من مصر مصنوعة في خان الخليلي والتربيعة، خلا ما يصنع من مرجان إيطاليا، والمباخر ورشاشات العطر والمكاتل تصنع في الخارج، وقل منها ما يصنع في بلاد العرب، وهذا كله تجده في سوق المسعى بين الصفا والمروة، وتجده في السويقة - أو السوق الصغيرة كما يسمونها - معروضا مع الأقمشة المختلفة، يقبل عليه المسلمون من شتى أقطار الأرض ويصيبون منه ما يعودون به إلى أهلهم في هذه الأقطار؛ ليكون عندهم بركة يحافظون عليها ويحتفظون بها.
ولا تختلف مكة الحديثة في استيراد تجارتها من الخارج عن مكة القديمة العربية الصميمة، وقد كانت مكانة مكة التجارية قبيل الإسلام وفي عهده الأول عدل مكانتها الدينية، وكانت ملتقى تجارة الغرب والشرق، وإنما الفرق بين يوم مكة وأمسها أنها كانت أمس طريق التجارة، فكان أهلها يذهبون في رحلة الشتاء إلى اليمن يجيئون منها ببضاعة الجنوب ليتجروا بها في الشمال، وبتجارة الشرق ينقلونها في رحلة الصيف إلى الغرب وإلى الشام يصرفون فيها ما جاءوا به من اليمن ويجيئون بألوان أخرى من التجارة مكانه.
أما اليوم فالتجارة تجيء إلى مكة وتوزع على الحجاج في أسواقها من غير أن يكون لمكة في ذلك أي نشاط إيجابي؛ بل تنقل البواخر التجارة من أقصى الأرض من اليابان أو أوروبا إلى جدة، وتنقلها السيارات من جدة إلى مكة ليتولى أهل مكة بيعها للذين فرضوا حج بيت الله الحرام بربح هو مصدر حياة أهلها، إلى جانب ما يتبرع به المحسنون للبلد الحرام من أرزاق، وقد أصبح الكثير من مواد التغذية نفسها، كالفاكهة والأطعمة المصنوعة - من «بسكويت» وجبن وما إليها - يرد إلى مكة من الخارج كما يرد غيره من البضائع، أما المواد الطازجة فترد من وادي فاطمة ومن الطائف.
وهؤلاء الألوف وعشرات الألوف من المسلمين الذين يفرضون الحج إلى البيت كل عام هم اليوم - كما كانوا في كل عصر - عامل التطور في مكة نحو حياة العصر، فهم يجيئون إليها ويقيمون بها زمنا ليس بالقليل، ولهم عقائد وعادات يراها أهل مكة ويدرسونها بعناية فطرية ليجيبوا مطالب هؤلاء الغرباء؛ وليكفلوا لهم خير قسط من الراحة يحبب إليهم الإنفاق، ويجعل منهم بعد عودهم إلى بلادهم دعاية صالحة لمكة وحج بيت الله فيها، ومما لوحظ في السنين الأخيرة أن عددا من أثرياء المسلمين وأولي الرأي فيهم يقصدون إلى الحج أكثر مما كان يفعل أمثالهم من قبل، وأنهم يلتقون بأهل مكة وبأولي الأمر في الحجاز ويبدون لهم من العناية الواجبة على العالم الإسلامي كله بالأماكن المقدسة ما يزيد أهل مكة وذويها تفكيرا في التماس أسباب الراحة لهؤلاء الأثرياء وأولي الرأي.
ولقد كان من ذلك أن فكرت الحكومة الحاضرة في إنشاء حي بضاحية الشهداء من ضواحي مكة تراعى فيه حاجات الحياة الحديثة في النظام الصحي والماء والإنارة تشجيعا لأمثالهم على الحج؛ ذلك بأن الأماكن الصالحة لنزولهم بمكة قليلة جدا، والكثيرون منهم يلقون أشد العنت في توفير المسكن الصالح لهم، فإذا نظمت لهم ضاحية مهيأة بأسباب العيش الذي ألفوا كان ذلك خير دعاية لأم القرى، وكان خطوة فسيحة نحو التطور إلى حياة العصر، وفي سبيل التقريب بين المسلمين ذوي الرأي من أهل البلاد المختلفة.
يدل على ما لهذه المنشآت من فضل التطور ما كان للتكية المصرية بمكة، وما يزال لها من أثر في حياتها، والتكية من الآثار الجليلة التي أنشأها محمد علي الكبير جد الأسرة المالكة بمصر بعد أن استقر له الأمر بالحجاز، وقد بقيت التكية على عمارته في سنة 1238 هجرية حتى جددها الخديو عباس حلمي الثاني سنة 1319 هجرية، وهي تقع بشارع أجياد من شوارع مكة، ويقابل بابها باب المسجد الحرام الذي سمي باسم باب التكية لشهرتها، وكانت تجرى فيها الأرزاق على الفقراء فيما مضى، فكانت تطعم في أشهر الحج نحو أربعة آلاف منهم كل يوم، وكانت تطعم أربعمائة فقير كل يوم في غير أشهر الحج، لكن الخلاف الذي حدث بين مصر والحكومة العربية بعد دخول الوهابيين مكة في سنة 1926، وما أدى هذا الخلاف إليه من انقطاع سفر المحمل ومن حبس أوقاف الحرمين، حال دون استمرار التكية في إجراء هذه الأرزاق، وأكبر الظن أن يعود الأمر إلى نظام جديد بعد أن استتبت العلاقات المصرية الحجازية من جديد.
لكن الذي لا ريب فيه أن وجود التكية المصرية في مكة منذ أكثر من قرن من الزمان كان له أثره في تطور الحياة في مكة، فالتكية لا يقف أمرها عند هذه الأرزاق وصرفها، بل إن بها طبيبا يعالج المرضى الذين يقصدون إليه أيا كانت جنسيتهم ويصرف لهم الدواء من عنده، ولعل ما قامت وتقوم به التكية من ذلك كان أول ما عرفه أهل مكة وأهل بلاد العرب بوجه عام عن العلاج بالطريقة الحديثة، بعد أن كان العرب لا يعرفون من وسائل العلاج إلا ما يعرفه أهل البادية، وبعد أن كانوا يؤمنون بأن آخر الداء العياء الكي ... هذا إلى أن التكية صورة من الحياة المصرية بمكة، إليها يقصد المصريون جميعا أثناء أشهر الحج، فهي بهذه المثابة مثل يشهد العرب ما يجري في بلاد أقرب منهم إلى الحضارة وأعظم اتصالا بها.
صفحه نامشخص