وكما يسعى الناس رجالا وفي المحفات يسعى بعضهم ممتطين جيادا أو مستقلين السيارات، وهؤلاء يرون أن لا جناح عليهم وقد سعى رسول الله في عمرة القضاء راكبا بين الصفا والمروة، وإن رأى بعض الفقهاء في السعي على الأقدام مزيدا في المثوبة، وكان الشيخ عبد الله بن بليهد عالم نجد يسعى ممتطيا جوادا، ولقد كان يحدثنا ساعة نزلنا معا من منى أنه يريد السعي في سيارة؛ لأنه لا يطيق السعي ماشيا، ولا يحب السعي في محفة؛ ولهذا العالم النجدي عذره، فهو عالم تقدمت به السن فتضعضعت صحته بعد أن لوح وجهه هواء الصحراء في أسفاره بين نجد والحجاز، فهو أشعث أغبر، وهو رجل ناحل الجسم، يعلو عنقه الدقيق رأس عريض الجبين، ذكي النظرة، تلمع عيناه ببريق لم تطفئه السنون ويدل على حيلة واسعة وبصيرة نافذة، وهذا الرجل خليفة محمد بن عبد الوهاب الحنبلي مجدد المذهب في نجد، والذي خلع اسمه على الوهابيين الذي اقتدوا به في اتباع ابن حنبل، وابن بليهد هو لذلك روح الحركة الوهابية في هذا الدور الحديث من أدوار حياتها، وهو موضع التبجيل والاحترام من النجديين جميعا، من مليكهم عبد العزيز بن سعود إلى أصغر صغير فيهم، وهو مع ذلك وعلى ما رأيته، من أشد الناس زهدا في الدنيا وزخرفها وغرور متاعها.
وأتممنا السعي سبعا، وآن لنا أن ننصرف وأن نتحلل التحلل الأكبر، على أني وقفت هنيهة قبل منصرفنا أمام مقهى من المقاهي القائمة وسط المسعى وقلت لصاحبي: أفيليق أن تقوم أمثال هذه المقاهي والحوانيت على حافة هذا المكان المقدس؟! قال: إنها ليست على حافته، بل هي قائمة داخل حرمه، والذين أقاموها لم يتقوا الله ولم يرعوا حقه، بل اعتدوا عليه عدوانا مبينا، والعجب أن منهم من اجترح هذا العدوان تبركا بأرض هذا المنسك، ناسيا أنه يؤثر بها نفسه ويحرم منها ملايين المسلمين على تعاقب الأجيال.
ولقد ثارت نفسي حقا لمنظر هذه المقاهي وهذه الحوانيت التي تتجر في السبح والمنسوجات وما إليها مما يتبرك الحجيج به، وزاد نفسي ثورة منظر صيارفة النقود الذي يصكون الآذان بصرير ريالاتهم السعودية إعلانا بها عن أنفسهم، ما لهذا المكان الذي يتوجه فيه الناس إلى الله بالتوبة والاستغفار وصرف النقود والجلوس إلى المقاهي وتبادل التجار؟ وما لهذا المكان الذي ينسى الناس فيه تجارة الحياة؛ ليتصلوا فيه ببارئهم وهذه الحماقات من تجارة الحياة؟! أليس من الخير أن تظل لهذا المكان حرمته كاملة وأن تكون الحوانيت في طريق غيره قريب منه، إن لم يكن بد من أن ينصرف الناس بعد استغفار ربهم إلى شرب القهوة وشراء السبحة والمكحلة وإلى صرف النقود للتبادل؟
وليس ذلك كل ما يثير النفس لحال المسعى، فقد بلغ من إهمال شأنه وهو منسك من مناسك المسلمين حدا بعيدا، واجتياز بعض الطرق إياه، ومرور الدواب والعربات والسيارات في هذا الطريق بين الساعين بعض مظاهر هذا الإهمال، فإذا أنت تحدثت في ذلك قيل لك: وما عساك كنت تقول من عهد قريب، وقبل أن ترعى الحكومة الحاضرة هذا المنسك بعنايتها؟ فقد كان حرما للكلاب تقيم في ظلاله نهارها وليلها لا يزعجها من مرقدها أحد وكأنها حمام الحمى.
لقد كان المسعى إلى صدر الإسلام طريقا مستقيما يصل بين ربوتي الصفا والمروة، متصلا بما حوله من فسيح الصحراء وهضابها، وتطل عليه الجبال المحيطة بمكة، أما منذ مئات السنين فقد بلغ من طغيان الدور التي أقيمت في حرمه أن اعوج اعوجاجا يحول دون رؤية الصفا من المروة أو رؤية المروة من الصفا، كما حال سقفه بين الساعين وفسحة الجو وبهاء السماء، وأحيلت كل من الربوتين درجا أحيطت جوانبه الثلاثة بالجدران؛ أما أرضه فقد رصفت بالحجر رصفا غير منتظم.
تثور النفس لهذه الحال التي عليها المسعى، ولولا أن الناس يحسبونه كذلك منذ وجد، ولولا أنهم إذ يرونه يشغلهم السعي عما سواه، لقام بينهم من يدعوهم إلى الثورة لإصلاحه، ولإزالة هذا المساس بحرمة مكان يجب أن يحاط بكل تقديس وإجلال، ذلك كان شعوري ساعة منصرفي من المسعى، وما زال هذا الشعور يحز في نفسي، فلعلني أجد من يشاركني في دعوة المسلمين إلى إصلاح منسك من شعائر الله، ولعلني أجد من الحكومات الإسلامية استباقا للخيرات وإجابة لهذه الدعوة.
انصرفت من المسعى إلى الدار بمكة، فحللت إحرامي ولبست العقال والعباءة العربية - أو المشلح، كما يسمونها - وأقلتني السيارة عائدة إلى منى، ولا يكاد من يراني يشك في أني عربي من أهل البلاد، فلما حاذت السيارة حراء استوقفت سائقها لأمتع النظر بهذا الجبل كرة أخرى، فلقد شعرت له في نفسي بهوى أي هوى، ووددت لو استطعت أن أحيط خبرا بكل ما جل أو دق من أمره.
وبلغنا منى قرابة الظهر، وأويت إلى الدار فيها، ودور منى غاية في البساطة، وليس بها من الأثاث إلا ما يحمله الحاج من مكة إليها؛ لذلك كان سرير الميدان من نوع ما رأيت عند صاحبي «المسلماني» بعرفات ذا فائدة بها أكبر الفائدة، وهذه الدور بعد معدودة لا تسع من الحجيج إلا عددا محدودا، وهي تقع بين سلسلتي الجبال المتحاذيتين المارتين بمنى، ويمر من بينهما الطريق الرئيسي إلى مكة، فإذا كنت مقيما بإحداها رأيت من نافذة الدار المطلة على الطريق كل ما في منى من حياة أيام التشريق، ورأيت الدور المقابلة لدارك مطمئنة في أحضان الجبل الشامخ عليها، ثم رأيت من النافذة الخلفية سلسلة الجبال الأخرى تحد نظرك عن تبين ما وراءها كما تحده سلسلة الجبال الأولى.
وقد خلع أهل الحجاز على جبال منى من بهاء الأساطير ما لا يكاد يترك حجرا منها إلا جعل له قصة من الأقاصيص المتصلة بحياة الأنبياء، فهذا الطريق الصاعد في الجبل هناك والذي نراه قبالتنا من نافذة الدار، هو مجر الكبش الذي ذبحه إبراهيم الخليل فداء لابنه إسماعيل، وهذا الحجر الناتئ في الجبل المقابل له هو طاقية النبي حين اختفى يوما من قريش أو غير قريش فلاذ بهذا المكان، والطاقية هي هذه الفجوة التي دخل فيها رأس النبي إذ لان حجر الجبل لاختفائه فيها، وهناك هناك في موضع لا يحدده العرافون من الجبل مكان أرادت الشياطين فيه أن تعبث بنبي من الأنبياء فانتهرها، وأكثر هذه الأساطير لا سند له في كتب السيرة أو كتب التاريخ المحترمة، وأهل مكة يقرون بذلك لمن سألهم عنه، والأذكياء منهم لا يسلمون بصحة ما يقصونه، مع ذلك يتبرك أكثر الحجاج من الأقطار الإسلامية المختلفة بهذه المواضع ويروون ظمأهم الروحي بمشاهدتها، وما لهم لا يفعلون وكثير من هذه الأساطير مدون في كتب متأخرة أراد أصاحبها بها سحر الجماهير السريعة إلى تصديق الخوارق، والتي لا تعنى من الروايات إلا بما يتفق مع هواها.
تقع دور منى على جانبي الطريق الفسيح المؤدي إلى مكة، وتقوم في هذا الطريق الصخرات الثلاث التي يحصبها الحجيج بجمارهم؛ ولذلك صارت تسمى الجمار الثلاث، كبراها جمرة العقبة، وعلى مقربة منها الجمرتان الوسطى والصغرى، وهذه الصخرات أو الجمرات هي اليوم قوائم من الحجر ناتئة من الأرض إلى ما فوق قامة الرجل الفارع الطول، أحيط كل قائم منها بسور من الحجر يقف الناس عنده ويحصبون هذه الأحجار قضاء لمنسك منى، والجمار لا تلقى يوم النحر، إنما يحصب الحاج جمرة العقبة أول بلوغه من بعد الإفاضة من عرفات ليتحلل التحلل الأصغر، أما الجمرتان الوسطى والصغرى فترجمان في اليومين التاليين ليوم النحر، فإذا تم هذا المنسك تم الحج، وهبط الناس إلى مكة ليعودوا منها بعد طواف الوداع إلى أوطانهم؛ أو ليذهبوا لزيارة مدينة الرسول، وأكثر الناس يهبطون إلى مكة ثالث أيام النحر، ويهبط بعضهم رابعها.
صفحه نامشخص