وأجاب أحد الحاضرين بقوله: من المأثور عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «الحج عرفة»، ولقد ورد في القرآن ذكر عرفات والإفاضة منه بعد الوقوف به، والمشعر الحرام وذكر الله عنده؛ فالقول: بأن فرائض الحج لم ترد في القرآن فيه تجاوز غير جائز.
وأدى هذا القول إلى التساؤل عن الجبل الذي نحن عليه ما اسمه الصحيح: أهو عرفة أم عرفات؟ فالحديث أن الحج عرفة، والقرآن يقول:
فإذا أفضتم من عرفات ، ولجأ القوم في تفسير ذلك إلى قواعد البلاغة العربية في إطلاق الجمع وإرادة المفرد وإطلاق المفرد وإرادة الجمع، واطرد حديث القوم والليل ينساب إلى ناحية منتصفه، وجعلت أنوار المضارب في البطحاء تخبو شيئا فشيئا، ثم طويت الخيام وتحمل القوم مفيضين، فلما كان من منتصف الليل على ساعتين أو نحو ذلك كانت بطحاء عرفات قد خلت من الناس إلا قليلا، وكان ضوء القمر وحده هو الذي يمد على رمالها بساطه الوضاء، وما أجمل ضوء القمر منبسطا على الرمال الممتدة إلى حيث لا يعرف النظر غير الأفق حدا! وما كان أجمله في تلك الساعة! بلغ صفو السماء وصفو الجو فيها من أثر المطر ما زاد ساهر السموات بهاء ونورا.
وقمنا يسعدنا النسيم الرقيق إلى سيارتنا لنفيض كما أفاض الناس، وانطلقت بنا السيارة نحو المشعر الحرام، وإن في نفسي إلى عرفات لهوى يدعوني إلى العودة إليه والمبيت في مضاربه والوقوف به ملبيا شاكرا، داعيا مستغفرا، ذلك موقف لم أعرف مثله في حياتي كلها روعة وسموا بالنفس في صدق وإخلاص إلى الله - جل شأنه، ولم أعرف مثله في حياتي كلها دعوة إلى إخاء المؤمنين ليتحابوا بنور الله بينهم.
أيام التشريق
يقف الناس إذ يفيضون من عرفات عند المشعر الحرام يذكرون الله عنده، ثم ينحدرون إلى منى ليقيموا بها أيام النحر ثلاثة أو أربعة يرمون أثناءها الجمرات، وكان العرب قبل الإسلام يسمون أيام النحر هذه أيام التشريق، ولم يمح الإسلام هذا الاسم وإن غلب عليه أيام النحر، وفي المعجمات أسباب مختلفة لتسمية التشريق هذه، فبعضهم يذهب إلى أنها تطلق؛ لأن الضحايا تنحر بعد شروق الشمس؛ ويذهب آخرون إلى أنها سميت كذلك من تشريق لحم النحور، أي: تجفيفه، ومهما يكن السبب في إطلاق اسم التشريق على هذه الأيام فقد بقي هذا الاسم لم يمحه الإسلام؛ فما تزال كتب السيرة على اختلافها تذكر أن بيعة العقبة الثانية وقعت في أوسط أيام التشريق، وقد وقعت هذه البيعة بعد ثلاثة عشر عاما من بعث الرسول، أي: قبيل هجرة المسلمين إلى يثرب.
وبيعة العقبة الثانية، بل بيعتا العقبة الأولى والثانية، علم مضيء في تاريخ الإسلام كغزوة بدر الكبرى، أما وكتب السيرة تجمع على أنهما - أو كبراهما - وقعتا في أيام التشريق فإني أوثر أن أحتفظ بهذا الاسم، وأن أطلقه على أيام النحر في منى، وأن أجعله لذلك عنوان هذا الفصل من الكتاب.
أفضنا إذن قبيل منتصف الليل من عرفات يسعدنا النسيم الرقيق، ويضيء لنا ساهر السموات ما حولنا ويبهر نور السيارة الطريق، وبلغنا المشعر الحرام، فنزلنا وذكرنا الله عنده، ثم جمعنا جمارنا؛ كي نرجم بها الصخرات بمنى، ورأيت على مقربة منا أنوارا عرفت أنها بعض المقاهي القريبة منا، وأن الحجيج الذين أفاضوا أول الليل يقضون ليلهم بالعراء عندها؛ ليكونوا على أبواب منى قبيل الفجر، أما نحن فقد انتظرتنا سيارتنا حتى أتممنا ذكر الله وجمع الجمار، فلما كنا في النصف الأخير من الليل أقلتنا إلى منى فكنا على أبوابها قبيل الفجر.
ولمنى أبواب كالتي نعرفها في الحضر، فهي ليست بطحاء جرداء كعرفات، وليست مسجدا قائما في عزلة كالمشعر الحرام، إنما منى قرية بها مبان ومنازل، ألا يكن أكثرها عامرا في غير أيام الحج، فبعضها مملوك لفخذ من قريش يقيمون به طوال عامهم، ويؤجرونه أيام الحج لمن يأوي إليه، وبعضها مملوك لجماعة من أهل مكة يقيمون به أيام النحر، أو يؤجرونه لمن شاء من الحجاج أن يستأجره.
وقابلنا عند أبواب منى مخفرا للشرطة وقفنا عنده، وقدم إليه سائقنا جواز مرورنا، فلما جاوزناه في طريق فسيح تقوم المنازل على جانبيه قابلتنا صيحات عالية فيها ترتيل يسترعي السمع، تلك صيحات الباعة الذين قضوا ليلهم في انتظار الحجيج بعد إفاضتهم؛ كي يعرضوا عليهم سلعهم من طعام وفاكهة، ومن سبح وما إليها مما يتبرك به قصاد الأماكن المقدسة، ومرت السيارة بنا خلالهم حتى وقفت عند جمرة العقبة الكبرى، هنالك نزلنا فرجمناها، ثم عدنا إلى منزلنا بمنى، وقد آن لنا أن نتحلل التحلل الأصغر، على أنني آثرت بعد أن فكرت مليا أن أبقى محرما حتى أطوف وأسعى وأتحلل التحلل الأكبر، وسحبت من متاعي سجادة صلاة فرشتها، وألقيت بنفسي إليها ألتمس إغفاءة تعدني لإتمام مناسكي.
صفحه نامشخص