واتصل بيني وبينه بالإنكليزية حديث طويل، ومع ذلك لم تطاوعني نفسي على سؤاله عن سبب إسلامه، وعلى رغم ذلك أخبرني أنه في إقامته بسرواك بين المسلمين منذ أكثر من خمس عشرة سنة لم تطب نفسه بما دون التعمق في درس حالهم الاجتماعية والأخلاقية، والبحث، بوصف كونه أيرلنديا، عن الأسباب التي أدت بهم إلى الخضوع لغيرهم، وكانت عقيدتهم الدينية بعض ما عني بدراسته، ولم يلبث حين بدأ هذه الدراسة أن شعر بحافز قوي يحفزه للإمعان فيها ولقراءة ما كتب في اللغات المختلفة عنها وللتزيد من ذلك ولطول التفكير فيه، ولقد أخذت بساطة العقيدة الإسلامية بمجامع قلبه، ووصلت من تفكيره إلى أعماقه وجعلته يؤمن بحقيقة هذا الدين الذي نزل على النبي العربي وبحضارة الأخوة والإباء التي يدعو إليها، ويؤمن بأن الحضارة التي تنشر أوروبا اليوم لواءها في العالم باسم العلم ليست من العلم في شيء، وإنما هي اللعنة التي صبها الله على العالم.
فهذه الحضارة تتلخص عنده في إخراج الناس من بساطتهم الفطرية التي تكفل لهم سلامة التفكير وسمو الغاية، ليخضعوا لأهوائهم وشهواتهم المادية فتضعف نفوسهم ويذلوا، وأية صلة بين سعادة الرجل أو المرأة وبين منسوجات «لانكشير» أو حرائر «ليون» أو عطور «باريس»، أو ما إلى ذلك من مواد الزينة والترف، وهذه مع ذلك هي مظاهرة الحضارة الأوروبية وهي السبب الحقيقي الذي تغزو أوروبا العالم من أجله، إنما الصلة الحقيقية بين هذه المنسوجات والحرائر والعطور، وبين الأموال التي تريد أوروبا استنزافها من الشعوب هي إقناعها كذبا بأن الحضارة في الرداء والترف والزينة، أما الإسلام فيدعو إلى معنى هو أسمى المعاني، إلى نبذ كل عبودية لغير الله، وإلى الاستهانة بالموت في سبيل الله وإلى البر والتقوى وإلى الرحمة والمغفرة، وهو يدعو إلى ذلك كله في بساطة وقوة لا حاجة بهما إلى منسوجات أو حرائر أو عطور، ولو أن أهل سرواك وغيرهم من المسلمين أدركوا سر الإسلام إدراكا عميقا لهان عندهم ما يعرضه الغرب عليهم، ولما خضعوا لحكم الغرب ولا ذلوا لسلطانه؛ فدينهم يربأ بمن يؤمن به عن الخضوع لغير الله، ويجعل الموت في سبيل التخلص من هذا الخضوع موتا في سبيل الله يجزى صاحبه الجزاء الأوفى.
وأعجبت بحديث صاحبي «المسلماني» أيما إعجاب؛ لأنه صادف موضع العقيدة مني، فسألته عما جاء به إلى الحجاز وعن رأيه في حكمة الحج، وكان جوابه على سؤالي كحديثه الأول حصافة ودقة، قال: إنما فرض الإسلام الحج ليشهد المسلم الله على نفسه أمام ملأ إخوانه المؤمنين جميعا أنه نبذ ما اختلط بحياته قبل الحج من ذنوب وأوزار، والله يغفر له ما صدق التوبة؛ ليولد ميلادا روحيا جديدا يكون بعده خيرا مما كان قبله من علم وبصيرة.
وخشينا أثر الشمس فصرنا نقصد مضاربنا، ولم نبتعد إلا خطوات وإذا صاحبي يدعوني أن أدخل معه إلى خيمته؛ لنشرب فنجانا من الشاي معا فدخلت الخيمة معه، فألفيت بها سريرين من أسرة الميدان جعلهما مضجع الليل ومتكأ النهار له ولزوجه، وزوجه امرأة مسلمة من أهل سرواك، عرفها وأحبها، فلما أسلم تزوجها وجاء بها لتؤدي فريضة الحج معه، وكانت ساعة دخولنا جالسة إلى جانب من الخيمة وحولها رجال من أهل وطنها، وهي وسيمة غير بارعة، تبدو في جلستها أدنى إلى القصر منها إلى الطول، قمحية اللون، عريضة الأكتاف، ممتلئة في غير سمنة، اشتركت في الحديث بلغة أهل وطنها فبدا صوتها عريضا عرضا لعله يؤذن بجماله في الغناء، ولم تناولنا أقداح الشاي على عادة الأوروبيين، بل ناولنا إياها أحد الجالسين حولها، وأعجبني هذا الحفاظ على العادات الشرقية، كما أعجبني الدقة الغربية في إحضار أسرة الميدان، واعتبرتها بعض العدة الواجبة للمسافر إلى الحج، والتي تغنيه عن كثير مما يضيق به ذرعا حين لا يجد بمكة السرير الذي يستريح إليه، ولا يجد بعرفات ولا بمنى بديلا منها يغني عنها، ويريح الحاج كما تريحه.
وعدنا إلى حديث طويل تكلم أثناءه صاحبي عن المسلمين، وعدم إدراكهم قوتهم العظيمة بسبب ما تخدعهم به مزاعم الغرب، فهؤلاء المسلمون يزيدون في آسيا وحدها على مائتي مليون، ولو أنهم أدركوا مبلغ قوتهم وأدركوا قيمة حياتهم الروحية وعظمتها لاستطاعوا تجديد نشاط الإنسانية، لكنهم متروكون إلى جهالاتهم ليسهل خداعهم واستغلالهم، قانعين لذلك بضعفهم وراضين عن هوانهم.
وعدت إلى قبتي، واستقبلت كثيرين من الأصحاب جاءوا يزورونني ويشاركونني الحديث في الحج وما يجب لنظامه، وأذن الظهر وجمع الناس بين صلاة الظهر والعصر، وقاموا يلبون حين قيل لهم: إن الخطيب قائم عند مسجد الصخيرات على بعيره يخطب الناس، لكن زحمة عرفات لم تدع لأحد أن يذهب لسماع الخطيب عند مسجد الصخيرات وفي مسجد نمرة، ثم إن مثل هذه الخطب قد صارت خطبا تقليدية كخطب الجمعة في مساجد مصر، ألفت الآذان سماع ألفاظها ومعانيها التي أصبحت لا تتفق وروح العصر ، ولا تتفق كذلك وطبيعة الإسلام الداعية دائما إلى التجدد في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه.
وكان الناس يفدون طيلة النهار إلى عرفات ليؤدوا حجهم؛ فالحج عرفة، وساعة الاجتماع والخطبة هي الساعة التي يتم فيها فرض عرفة؛ لذلك اكتمل جمعهم قبيلها، فلما انتهت بدءوا يفكرون في الإفاضة إلى المزدلفة ليذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم يؤمون منى ليقيموا بها ثلاثة أيام النحر، يرمون فيها الجمرات، أو يرجمون فيها الشياطين الثلاثة على حد تعبير أهل الحجاز.
وإن الناس لفي تفكيرهم وتأهبهم، مغتبطين بصحو الجو، وجمال الهواء، إذ اكفهر الوجود فجأة وهبت الريح عاصفة، وثار النقع وتعالى الغبار في الجو، وخطف البرق وهزم الرعد، وبلغ من شدة ذلك كله أن نسي الناس أهبتهم وتفكيرهم واتجهوا بأبصارهم إلى مضارب الخيام يرون ما الريح صانعة بها، واقتلعت الريح بعض الخيام، فأسرع أهلها إليها يطوونها خشية أن يمزقها الإعصار العاصف، فأما النساء والضعفاء والأطفال فلجئوا إلى ما آنسوا فيه قوة المقاومة من الخيام واحتموا بها، وبلغ من هزيم الريح أن كان يسمع لها شهيق وزفير يدويان في آذان اللاجئ إلى الخيام أكثر مما يدويان في آذان الفار منها، ولقد لجأت إلى خيمتي لحظة ثم تركتها حين رأيتها تميل في مهب الريح وتهدد من فيها بالسقوط عليهم، ووقفت ومعارفي من أهل مكة وتوجهنا إلى الله أن يصرف عنا وعن الناس السوء والبأساء، مع ذلك.
ومع ما كنا وكان الناس فيه من هذه الشدة، لم تزايل القلوب غبطتها، ولا برح الأفئدة ابتهاجها، بل بقيت ابتسامة الرضا تطوق ثغور أصحابي وبقيت ضاحك السن أرى فيما حولي بعض ما رآه الرسول - عليه السلام - في خسوف الشمس يوم موت ابنه إبراهيم، آية من آيات الله - جل شأنه، لا يغير سنته، ويجب علينا أن نرى في هذه الآيات مظهر قوته، وأن نتوجه إليه تعالت أسماؤه بالابتهال والدعاء إكبارا وإعظاما وخضوعا وإسلاما، كذلك فعلت وفعل أصحابي، فانطلقنا نلبي ونكبر.
وإنا لكذلك إذ تفتحت أبواب السماء بماء منهمر، همى غير منذر برشاش أو مؤذن برذاذ، أين أين المفر؟! طار أحد أصحابنا إلى حيث النساء والأطفال، فألفاهم أحكموا أمرهم إذ لجئوا إلى سيارة كبيرة من سيارات «اللوري»، ونشروا فوقهم قماشا من الخيمة التي سقطت أثناء احتمائهم بها، فوقاهم المطر والريح، أما أنا فكنت أسعد حظا؛ إذ آويت إلى السيارة التي جاءت بي إلى عرفات، وكانت (ليموزين) محكمة الأقفال، وأوى إليها معي من وسعته، والوابل هتون، والرياح عاصفة تضرب زجاج السيارة كأنها سياط تهوي على جسم فيشتد منها أنينه، وكان زجاج السيارة ساعة اجتمعنا بها يحجب ما وراءها لكثافة ما علق به من الغبار، أما بعد هذه السياط فقد شف عما في لون الجو المكفهر القاتم من بقية الضياء.
صفحه نامشخص