غدنا اليوم الثامن من ذي الحجة، يوم التروية، ويوم يصعد الحجيج إلى منى وعرفات لقضاء فريضة الحج، وفي غد أغادر مكة بعد يومين اثنين من مقامي بها قضيت أثناءهما شعائر العمرة، ولم أر خلالهما من نظامها وحياتها وآثارها شيئا مذكورا، فمتى أرى ذلك كله؟ ... بعد الفراغ من شعائر الحج، فلأنتظر إذن، إن الله مع الصابرين.
وقفة عرفات
أصبحت يوم الإثنين الثامن من ذي الحجة، يوم التروية، أفكر في عرفات والذهاب إليها محرما والمبيت بها، وقضاء ما يجب من شعائر الحج فيها والنزول عنها إلى المشعر الحرام بالمزدلفة، وإلى الصخرات بمنى لأتمم بعد ذلك طواف الحج حول الكعبة وسعيه بين الصفا والمروة، فأكون قد قضيت الفرض الخامس من فرائض الدين الحنيف، ولا يفكر الناس اليوم في التروية، وهي جلب الماء معهم إلى عرفة ليستقوا منه يوم وقوفهم بها، وهم لا يفكرون في التروية منذ يسرت عين زبيدة لهم من الماء ما يريدون.
وشتان بين ما اشتملني أثناء التفكير في الإحرام لعرفات من نعيم وغبطة، وما كنت أخافه قبل مغادرة مصر من أثر الإحرام وقضاء المناسك على صحتي، لقد اشتملني من فجر ذلك اليوم رضا عن الحياة وعن نفسي، وشعرت بروحي فرحة وبقلبي مطمئنا، أقبلت منذ بكرة الصباح أعد لباس الإحرام وما يقتضيه المبيت تحت الخيام، منشرح الصدر لكل ما أصنع من ذلك، عميق الإحساس بجلال هذه الفريضة التي يسر الله لي أداءها، موقنا أني سأشهد أثناءها من آيات حكمته فيها ما يزيد كل مؤمن إيمانا وتثبيتا، وصورت أمام ذهني هذا الجبل المقدس وقمته الفسيحة واجتماع عشرات الألوف من المسلمين فوقه مهللين ملبين، متوجهين إلى الله بقلوب طهرها صدق الإخلاص من ماضي حوباتها، وهداها الاجتماع المقدس بإخوانها المؤمنين سبيل الخير، وفتح أمامها أبواب حياة جديدة تسمو خلالها بفضل إيمانها، وصدق توجهها إلى الدرجات العلا من مراتب الإنسانية السامية، مراتب البررة والمقربين والأتقياء الصالحين الذين يخشون الله ولا يخشون غيره، ولا يخافون في الحق والخير والبر لومة لائم.
بقيت في إعداد متاعي إلى ما قبيل الظهر، ثم انحدرت من الدار إلى قصر الملك لموعد ألقى فيه جلالته، وقصر الملك يقع خارج مكة من الناحية الشمالية الشرقية عند مبدأ الطريق الذاهب إلى منى، وهو قصر بني حديثا ليقيم ابن السعود به ما أقام بمكة قبل الحج وبعده، وهو فسيح الجنبات، بسيط المظاهر، يجمع بين أبهة الملك وطراز العروبة القريب من البداوة، تلقاك أول ما تتخطى بابه حديقة فيها نباتات صغيرة، ثم تتخطى دهاليز فرشت بالحصباء إلى أبهاء بسيطة في أثاثها وعمارتها على رغم سعتها وكثرة نوافذها، ويقابل القصر جبل زرود الواقع على مقربة من حراء، أو جبل النور كما يسمونه اليوم، ذكرا لنور الوحي الأول الذي هبط على النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو بالغار عند قمته، وتقوم فوق زرود قلعة تحمي مقر الملك أثناء مقامه بأم القرى.
ولقد لقيت في ذهابي إلى قصر الملك وعودتي منه مشقة لم ألقها في طريق مكة حين تجولي بها في اليوم الذي سبق؛ فالطريق إلى قصر الملك هو كما قدمت طريق منى، وهذا اليوم هو يوم التروية، فيه يصعد الحجيج جميعا إلى منى وإلى عرفات من هذا الطريق، وأكثرهم يصعدون على الإبل؛ لأنها أيسر نفقة على الأكثرين، ولأن الصعود عليها أكثر مشقة من الصعود بالسيارات؛ وهو لذلك أعظم عند الله أجرا في رأي طائفة من المسلمين؛ لذلك امتلأت طرق مكة يومئذ بقوافل الإبل، حملت من ركبوها في ألوان مختلفة الطراز والوشي من الهوادج والشقادف، وبعضها يسير إلى جانب بعض إذا انفسح الطريق، ويتلو بعضها بعضا في الطرق الضيقة.
وطرق مكة ضيقة كلها إلا قليلا؛ لذلك كانت السيارة تقف في الطرق ذات السعة أمام هذه الإبل المتراصة حتى تفسح لها طريقا؛ أما في الطرق الضيقة فكانت تضطر أحيانا إلى التراجع لتقف في مكان يتسع لوقوفها ومرور القافلة بها بعيرا بعد بعير، وتضطر أحيانا أخرى إلى الانزواء في طريق غير طريقها حتى تمر القافلة بها، والقافلة تمر بخطى الإبل المتئدة، لا سبيل لها إلى أن تسرع في هذه الأزقة الملتوية في ارتفاع وانخفاض، وتمر القافلة وتسير السيارة بضعة أمتار ثم إذا قافلة أو بضعة جمال أخرى تضطرها لتلتمس مكانا تقف فيه أو زقاقا تحتمي به، ولقد اقتضانا خوض هذا البحر اللجي من الإبل وسائقيها أضعافا مضاعفة من الوقت الذي كنا نقطع فيه الطريق لو أننا كنا نسير في غير يوم التروية أو أيام الحج.
وتناولت طعام الظهيرة، واتفقت ومضيفي على أن نستقل السيارة إلى عرفات بعد صلاة العصر، وتطهرت لإحرام الحج ولبست لباسه بعد أن نويته، وصليت ركعتين سنته، فلما صليت العصر أقمت أنتظر السيارة، لكن المغرب اقتربت ولم تكن قد جاءت؛ وخشي مضيفي أن أضيق بتأخرها ذرعا، فهبطنا إلى حديقة صغيرة خلف الدار وفي حرمها نستمتع بما فيها من خضرة النبات وبهاء الأزهار، وإنا لكذلك إذ بدأ الرذاذ يتساقط، واحتملناه زمنا فرحين آملين أن ينقطع بعد قليل، لكنه استمر ثم هتن وابلا لا سبيل معه إلى البقاء في الحديقة؛ واحتمينا بإيوان متصل بها، وجلست بمقعد عند بابه أشهد منه عبث المطر بالزهر والشجر، وفكر بعض الحاضرين في الترويح عني بذكر سيول الحجاز التي تنهمر سويعة انهمارا يحسب الإنسان معه أنه لن يكف، ثم إذا السماء أمسكت وعاد إليها صفوها، وإذا رمال الأرض ابتلعت مياهها، وإذا الجو أكثر صفاء ورقة، والمطر يهتن والبرق يخطف والرعد يقصف والرجاء في مجيء السيارة يذوي في نفسي، فأسائل مضيفي: أللصعود إلى عرفات في هذا الوقت سبيل ...؟ ويجيبني مضيفي مطمئنا: إن الأمر لله، والحج فرض الله، ولا بد أن ييسر الله للناس فرضه.
صفحه نامشخص