وزاد في عجبي وفي غضبي أنهم يطلقون على هذه الغزوة بين الأشراف والنجديين اسم غزوة بدر، وكأنها وقعت كما وقعت بدر الكبرى بين المؤمنين والمشركين! قال صاحبي: «هون عليك! فالوهابيون الغلاة الذين غزوا الحجاز غزوه باسم العقيدة، مدعين أن من خالف مذهبهم مشرك كافر، أما وذاك رأيهم فلا تثريب عليهم أن يغزوا في بدر، وأن يذهبوا إلى أن الله نصرهم فيها كما نصر الرسول على أعدائه.» وصمت هنيهة ثم أردف: «ولم يكن بد أن يدافع أبناء الحجاز عن أنفسهم وقد هاجمهم خصومهم في هذا المكان وشنوا عليهم الغارة فيه.»
وتخطينا مصعدين هضابا تقع عندها قبور الشهداء الأولين، شهداء بدر الكبرى، وما لبثت حين اقتربت من هذا المكان أن نسيت الوهابيين والأشراف وغزوتهم، وأن هان عندي أمرها، فقد تعلق كل حسي بهذا المكان الذي طالما رسمته من قبل أمام ذهني، واستيقظت في ذاكرتي أدق التفاصيل من هذه الغزوة الأولى بين محمد وخصومه، وكدت أرى أبا بكر وعمر وحمزة وعليا حافين من حول الرسول، وتابعنا تقدمنا وتصعيدنا حتى كنا عند هضبة حفرت أمامها في الأرض فجوة أحيطت بسياج من بناء، هنالك وقف القوم جميعا حول السياج، وقال سادن زاوية السنوسي: «هنا قبور شهداء بدر رضي الله عنهم.» وسادنا لسماع هذه الكلمات صمت رهيب شعرت من هيبته بأن قلبي يزداد خفقا، وأن جوارحي كلها تزداد تنبها، ثم رأيتني أحدق في قاع الفجوة، كأنما أرى هؤلاء الشهداء رأي العين وأقول: «السلام عليكم شهداء بدر، رضي الله عنكم، وغفر لنا ولكم!» وانطلقت أتلو الفاتحة ويتلوها أصحابي جميعا، ثم انطلقت ألسنتنا بالدعاء والاستغفار صادرين من قلوب صادقة في دعائها، مخلصة في استغفارها، أشربت للراقدين في هذا المكان حبا وإعظاما، وللذين جاهدوا في سبيل الله إكبارا وتكريما.
وبعد فترة لا أدري أطالت أم قصرت تحدث أحد أصحابي مشيرا إلى لوحة ثبتت في الصخر حيث كان يقف وقد كتبت عليها هذه الآية الكريمة:
يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما .
يا للعجب! لقد سمعنا هذه الكلمات قبل اليوم عشرات المرات، وكنا في كل مرة نسمعها في إكبار وتقديس كإكبارنا وتقديسنا كلما سمعنا آي الذكر الحكيم، أما اليوم فكان لها في نفوسنا من عظيم الأثر ما اهتز له كل وجودي من شعر رأسي إلى أخمص قدمي، وتمنيت صادقا لو كنت قد أبليت مع الذين أبلوا في بدر فاستشهدت مثلهم وثويت في قبر من هذه القبور معهم، ما أعظمه في الحق فوزا وفخرا! وما أجلها غاية يهنأ الإنسان بها أن يستشهد في سبيل إيمانه بالله! فما الحياة إذا غاض منها الإيمان وتضعضعت فيها العقيدة؟! إنها تفقد إنسانيتها ويصبح الشخص فيها حيوانا شأنه شأن سائر الحيوان، همه أن يأكل ويشرب ويتناسل إجابة لدواعي الغريزة ودوافع الاحتفاظ بالنوع، وإذا استوى الإنسان والحيوان فلا خير في الحياة، فإنما يتميز الإنسان على الحيوان بحياته المعنوية، والعقيدة والإيمان هما سر هذه الحياة المعنوية وقوامها، فإذا غاض هذا السر وضمر ضمرت إنسانيتنا حتى تغيض، ورددنا بذلك حيوانا كل الفرق بينها وبين غيرها من الحيوان أنها تنطق، ولكن كنطق الببغاء، نطق تقليدي لا اجتهاد فيه، وأنها تسير على قدمين بدلا من أن تزحف أو تسير على أربع.
العقيدة والإيمان سر الحياة الإنسانية وروحها ومظهرها، بل هما الحياة الإنسانية وسبب وجودها، ولولاهما لما كان لهذا الكون بالإنسان حاجة، ولما كان لوجود الإنسان فيه سبب، وقيمة الحياة الإنسانية أن يتحققا فيها، أو تصبح هذه الحياة عبثا يجب أن يتنزه مبدع الكون عنه، والعقيدة والإيمان أعظم قوة في الحياة، أمامهما تندك الجبال وتضطرب الرواسي وتخر تيجان الملوك ساجدة وتتحطم تحطما، وهما اللذان سارا بالكون والحياة إلى ما بلغنا من تقدم؛ وهما لذلك الجديران دون سواهما بأن يضحى بالحياة في سبيلهما، أما ما سواهما في الحياة فأهواء ومطامع لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا قيمة لها في التقدير الإنساني السليم، فالمال والجاه والحكم والسلطان أوهام باطلة وضلال يمليه الغرور؛ لذلك لا بقاء لها على الحياة.
وماذا خلف الإسكندر للإنسانية بملكه الطويل العريض؟ وماذا خلف قارون بماله إلا المثل المأثور يطلقه الناس على المال المتكاثر فيقولون: إنه مال قارون؟ وماذا خلف أولو الحكم والسلطان؟ فأما أرباب العقيدة والذين ملأ الإيمان قلوبهم فخلفوا تراثا تتناقله أجيال الإنسانية، ضخما كان هذا التراث أو ضئيلا، ولا يزال الناس يتذاكرون حتى اليوم آراء سقراط وأفلاطون وأمثالهما من حكماء اليونان وفلاسفتها كما يذكرون أولي الرأي المؤمنين برأيهم في غير اليونان من الأمم القديمة، وأصحاب المذاهب الأربعة الإسلامية أبقى في الحياة أثرا من ملوك المسلمين وأمرائهم جميعا، وأولو الرأي هؤلاء لم يجاهدوا في سبيل آرائهم ولم يبذلوا لها روحهم وحياتهم، أما الذين آمنوا وافتدوا إيمانهم بحياتهم من شهداء بدر ومن إليهم، وأما الذين جاهدوا في سبيل الله بأرواحهم لنصر كلمة الحق، فأولئك جميعا أحياء عند ربهم يرزقون، وأولئك تذكرهم الإنسانية في إجلال وإكبار، ويقول كل واحد من أبنائها البررة كلما ذكرهم: «يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.»
وشهداء بدر القدوة والمثل في افتداء الإيمان بالحياة، وفي قوة المؤمن بإيمانه وفي سمو الإيمان بالحياة إلى المثل الأعلى، فهؤلاء ثلاثمائة من الرجال جاءوا بدرا لا يريدون حربا، بل يريدون أن يأخذوا عير أبي سفيان لقاء ما أخرجت قريش صفوتهم من مكة بعد أن آذتهم وأبعدتهم عن أموالهم وأهليهم، فإذا أبو سفيان فاتهم ونجا بنفسه وبعيره، وإذا قريش خرجت إلى بدر بقضها وقضيضها وألقت إلى قتال المسلمين بأفلاذ أكبادها، حتى لم يبق بمكة بعد خروجها متخلف قادر على القتال، أفيقاتل المسلمون هذا الجيش ورجاله ثلاثة أمثالهم عددا وعدة، وليس لهم من وراء هذا القتال بعد نجاة أبي سفيان مأرب؟ لكن قريشا جاءت تناجزهم، فلم يبق الأمر أمر أبي سفيان وعيره، بل صار أعظم من ذلك وأجل خطرا، صار الإيمان والشرك يلتقيان، ولقد أدرك المسلمون هذا الموقف مذ عرفوا خروج قريش تحمي تجارتها، وأدركوا أنهم إن تقاعسوا أو تضعضع ركنهم علت كلمة الشرك وعادوا من أذى قريش إلى شر مما كانوا فيه بمكة، فهان على يهود يثرب أمرهم، ولم يبق للدين الذي بعث الله به رسوله أيد ولا قوة.
لذلك تمثلت كلمة المهاجرين حين شاورهم النبي في قول المقداد بن عمرو: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.» وتمثلت كلمة الأنصار في قول سعد بن معاذ محدثا النبي: «لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.»
لم يكن موقف المسلمين من قريش أمر مال وغنيمة إذن، بل كان الإيمان والشرك يلتقيان؛ لذلك لم يلبث القوم حين نظموا صفوفهم وأخذوا للقتال عدتهم أن بدت بينهم قوة الإيمان وضعف الشرك؛ بدت قوة الإيمان المتصل بالله وحده سامية على كل قوة، فلا يغلبها في الأرض غالب، ولقد استعرضت أمام ذهني وأنا بموقفي من قبور الشهداء هذا المنظر الفذ من مناظر التاريخ، فبهرني ما للإيمان من قوة لا تغلب.
صفحه نامشخص