هذا اللون من حياة المسلمين في المدينة وما كان لهم في رسول الله من أسوة حسنة هو الذي طوع للمسلمين فتح الأمصار وحكم الأمم ونشر لواء إيمانهم في الخافقين، وفي ذلك الدليل على أن الحياة فكرة أولا وآخرا، وأن قوة المرء وضعفه - كقوة الأمة وضعفها - رهن بقوة فكرته في الحياة أو ضعفها، فمن آثر الحياة خوفا من الموت، راضيا من الحياة بما تريد الحياة منه لا بما يريده هو منها يبلغه أو يموت دونه، فهو ضعيف وإن بلغ من الجاه والسلطان أعظم مبلغ، ومن غرته الحياة بزينتها فخدعته عن المثل الأعلى من الجهاد في سبيل الله، فقد ذل للحياة ابتغاء عرض زائل وأوهام خاطئة كاذبة، فأما من أراد الحياة لمثل أعلى يبتغي تحقيقه لخير إخوانه فهو سيد الحياة العزيز الجناب، وإن كان بين الناس الفقير الضعيف الذي يحاربه الناس.
هذه كانت حياة المسلمين الأولين في المدينة، وبهذا تحدث آثارها ويشهد ظاهرها، فلما نسي المسلمون ما لله من المثل الأعلى وعكفوا على أنعم الحياة وتوهموها الغاية من الحياة، بدأت نذر الانحلال يدب دبيبها فيهم، وتسري جراثيمها إليهم، وغرهم ما فعل أسلافهم وما أورثوهم من قوة، كما يغتر القوي العضل بقوة عضله فيقبل على اللهو مستهينا بالنذر، ناسيا أن لليوم غده، وأن للشباب كهولة وشيبا، ولو أن المسلمين فطنوا إلى النذر من أول عهد الانحلال لأغنتهم ولما أصابهم من الهوان ما أورثوه أبناءهم، فما يزالون حتى اليوم يصلون من أثره ذلة ترهقهم وتجعلهم أسوأ عنوان لدين هو دين الكمال والمثل الأعلى.
إن يرد المسلمون خروجا من هذا الهوان فليعيدوا سيرة السلف الأولين في القوة على الحياة والإيثار على النفس وفي البر والتقوى، وليذكروا قوله - تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ، وقوله - جل شأنه:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
إنهم إن فعلوا فآثروا على أنفسهم، وذكروا الجهاد في سبيل الله، وتحابوا بنور الله بينهم، واتخذوا من مثل السلف الأول أسوتهم، غفر الله لهم وغير ما بهم، وأنزلهم مكان العزة، ورفع عنهم مقته، تلك سنته في الكون، فمن تدبرها فاز في الآخرة والأولى، ورفعه الله مكانا عليا.
زيارة الوداع
في غد نبرح المدينة لأزور بدرا وشهداءها ولأدرك الباخرة التي تبحر من ينبع إلى السويس، فغد الجمعة، والباخرة تبحر ظهر الأحد، ولست آمن إن بقيت إلى صبح السبت بالمدينة أن يبغتني الوقت فتفوتني زيارة بدر وأنا عليها جد حريص، كفى أن فاتتني زيارة خيبر بعد إذ يسر لي الملك ابن السعود الوسيلة إليها، فقد دفع إلي كتابا برسم أمير المدينة ليعاونني في سلوك طريقها إلى الوقوف بها، وأظهر لي الأمير عبد العزيز بن إبراهيم رغبته في المعاونة، لكنه ذكر أن الطريق إلى خيبر ليس ممهدا كله للسيارة، وأن الإنسان يبلغ بها منتصفه في يوم، ولا بد له بعد ذلك من امتطاء ركاب يومين كاملين، والعود يقتضيني مثل هذه المشقة وهذا الوقت، أما ولم يكن بين بلوغي المدينة وإبحار «زمزم» من ينبع غير اثني عشر يوما يقضي الإنسان منها في الذهاب من المدينة إلى مرفأ السفر، أما وآثار المدينة وما بظاهرها يقتضي الإنسان أسبوعا كاملا للطواف به والوقوف عنده، فلا مفر من إرجاء زيارة خيبر إلى فرصة أخرى أرجو ألا تضن الأقدار علي بها.
غد الجمعة، فلأجعل زيارة الوداع للحجرة النبوية عقب صلاة الجمعة، ولأبرح المدينة بعد صلاة العصر، ولأؤد سائر اليوم بالمدينة واجب الشكر لأميرها عبد العزيز بن إبراهيم، ولمضيفي الشيخ عبد العزيز الخريجي وأخيه الشيخ محمد، وللكثيرين من أهل المدينة وشبابها الذين كانوا اللطف بي طول مقامي بينهم، والذين بذلوا من معاونتي فيما سألتهم المعاونة فيه غاية ما يستطاع بذله، وشكرهم حسبي، فهو كل ما أستطيع أن أجزيهم به عن جميل طوقوا به عنقي ولن أنساه.
وأصبحت فأعددت للرحيل متاعي، ولما دنا موعد الجمعة قصدت إلى المسجد فألفيته امتلأ بالمصلين، ولقد كنت على ثقة من أنني لن أجد بالروضة منه مكانا، فالكثيرون يقصدون إليها قبل موعد الصلاة بساعات ولا يبرحونها، ومنهم من يقصد إليها من بكرة الصباح ليؤدي فيها فرض الفجر ويظل بها إلى صلاة الجمعة، وتخيرت مكانا قريبا من باب الرحمة، فإذا جار يميني رجل ممن عرفت بالمدينة، وجار يساري حاج مغربي من أبناء مراكش، عرفت من جار اليمين أنه يتردد على المدينة إذ يجيء إليها مرة كل عام أو كل عامين في أشهر الحج، وقد حياني الرجل بتحية الإسلام بعد أن أتممت ركعتي السنة أول مقدمي، ثم جلسنا جميعا ننتظر الأذان لصلاة الجماعة كي نؤدي فرضها مع الإمام.
صفحه نامشخص