تقع دار خالد إلى جانب زاوية السمان التي كانت دار ريطة ابنة أبي العباس السفاح، وزاوية السمان واسعة فخمة، وكانت دار ريطة واسعة فخمة كذلك، فليست دار خالد شيئا بالقياس إليها، وإذ كانت دار ريطة تقع قبالة باب النساء، وكان لريطة ما يجب لابنة أبي العباس السفاح من مكانة، فقد أطلق اسمها على هذا الباب من أبواب المسجد النبوي، فسمي باب ريطة زمنا غير قليل، فلما ماتت ريطة وتوالت القرون رد إلى باب النساء اسمه، وبنى «يازكوح» أحد أمراء الشام دارها من جديد وجعلها مدرسة للحنفية وجعل فيها قبره.
إلى جوار المسجد مواضع يقال: إن دور عمرو بن العاص وسكينة بنت الحسين كانت بها، وموضع دار سكينة ينسب إلى تميم الداري الصحابي المعروف، كذلك يروى أن الدار التي كان يجري عمر بن الخطاب فيها قضاءه كانت في الموضع الذي تقوم به المحمودية الآن، وهذه مجموعة من الدور كانت قائمة في عهد النبي وفي العصر الذي تلاه تفاخر بها المدينة كل مدينة سواها، ولعل أهلها إذ يذكرون من الدور ما كان بعد عهد النبي إنما يذكرون بها أيام كانت مدينتهم عاصمة عزيزة الجانب، تمثل القوة الإنسانية ذات الأثر الخالد في العالم، فالمدائن كالأشخاص تتغنى بأيام مجدها وعزها، وإن بعد في التاريخ عهد هذا المجد، وإن أصبح هذا العز الذي تربع الأجداد على عرشه أقصوصة يتحلب لها ريق من فاته العز بعد أن طال التماسه إياه في غير جدوى.
تقع هذه الدور كلها حول المسجد النبوي كما رأيت، وقلما يحدثك أحد عن دور أثرية غيرها بالمدينة، إنما يحدثونك عن أمكنة تاريخية وعن مساجد وحصون وآبار، ويقع بعض هذه بالمدينة وبعضها بظاهرها، وإن تعذر عليك أن ترسم خطا واضحا يفصل بينهما، ويرجع تعذر ذلك إلى أن المدينة انبسطت وانقبضت على التاريخ مما اقتضى أن يبنى لها سوران، أحدهما باق إلى اليوم ولم يبق من الآخر إلا آثار تراها ها هنا وهناك، ولقد تخطت المدينة السورين في بعض العصور الزاهرة من أيام رخائها، ومن هذه الأيام ما قبل الحرب العالمية الأولى (1907م-1914م)، حين سيرت السكة الحديدية الحجازية، من ثم لا يقف أكثر المؤرخين لآثارها عند تخطيط دقيق، ولم تتح لي الفرصة الضيقة التي قضيتها بها أن أرسم لآثارها حدودا دقيقة، وخاصة أن ليست لها خريطة يمكن الاعتماد على دقتها.
ولقد فكرت أن أجعل الخندق الذي حفره المسلمون في غزوة الأحزاب أيام النبي حدا فاصلا ما بين المدينة وظاهرها، لكني لم ألبث حين البحث أن رأيت تحديده الصحيح عسيرا، فقد سألت الأستاذ عبد القدوس الأنصاري يوما أن يريني إياه، فلم يخف علي أنه يتوهمه ولا يعلمه علم اليقين، وله من العذر عن ذلك ما نقله في كتابه «آثار المدينة المنورة» عن المطري الذي أرخها في القرن الثامن الهجري، إذ قال: «وقد عفا أثر الخندق اليوم ولم يبق منه شيء يعرف إلا ناصيته؛ لأن الوادي - وادي بطحان - استولى على موضع الخندق وصار مسيله في الخندق.» على أنه حاول أن يقف بي عند ما يعتقده أثره كما بينه على خريطة تقريبية ضمنها كتابه، أما والتحديد الصحيح للخندق غير ميسور فلأجعل هذا التحديد التقريبي بديلا منه للغرض الذي أتوخاه ، غرض الفصل ما بين المدينة وظاهرها.
والخندق كما صوره الأستاذ عبد القدوس يقع في شمال المدينة بينها وبين أحد، وينحدر إلى الشرق بينها وبين حرة واقم، ويتصل من الجنوب بوادي بطحان، ومن الغرب بحرة الوبر، وفيما وراء الخندق من الشرق تقع منازل اليهود في عهد الرسول؛ بني قريظة وبني النضير، وفيما وراءه من الغرب يقع وادي العقيق، وتقع قباء في جنوبه، وسنتناول ما هنالك في هذه الجهات جميعا حين حديثنا عن ظاهر المدينة.
أخالني غاليا حين أذكر ما ساورني من أسف لإهمال أثر كالخندق حفره المسلمون الأولون برأي سلمان الفارسي، ولم تكن الخنادق معروفة في حربهم، فكان له من الأثر أن حمى المسلمين وحمى الإسلام وكانا عرضة لفتك المشركين بعد أن ألبهم اليهود بإمرة حيي بن أخطب عليهم، وهل حافظ المسلمون على غير الخندق من الآثار فيلامون على إهمالهم إياه؟! وإذا كانت غزوة حنين المجيدة لا يعرف موضعها على وجه التحقيق في جوار مكة، فلا عجب أن يصيب الخندق ما أصابه، لقد نزل في حنين قرآن كما نزل في الخندق قرآن، ففي غزوة الخندق وموقف الأحزاب من المسلمين فيها يقول الله - تعالى:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا . أولم يكن حقا على المسلمين أن يقيموا لهذا الخندق أثرا باقيا يذكر به؟! أوليس حقا اليوم أن نقوم بما لم يقوموا به ليكون لنا في صبر المسلمين حين الخندق على البأساء وعلى مواجهة الموت عبرة؟! أم أنا لا يعنينا من تاريخ السلف إلا بركته، وإن غابت عنا عبرته؟!
والآن ، فماذا وراء الخندق في داخل المدينة من آثار تذكر اليوم؟ لا أحسب أثرا لما بعد عهد النبي أبقى ذكرا عند المسلمين من سقيفة بني ساعدة، وهم لا يذكرونها لجلوس النبي فيها ما يذكرونها لوقوع بيعة أبي بكر بها، بعد ما وقع من خلاف بين الأنصار والمهاجرين أيهم تكون له الإمارة؟ وقد ألف الناس أن يذكروا تاريخ الخلاف بينهم أكثر مما يذكرون أسباب اتفاقهم وإخائهم، أترى مكان هذه السقيفة ثابتا مع ذلك لا يقع عليه خلاف؟ كلا! فمن المؤرخين من يقول: إنها خارج الأسوار على مقربة من بئر بضاعة، وهذا الرأي الأخير رأي المطري، وقد انتهى السمهودي إلى ترجيحه، وبذلك تكون السقيفة واقعة عند الباب الشامي من أبواب المدينة قبيل ملتقى الطريق إلى الشام والطريق إلى أحد.
ولا يزال أهل المدينة يحتفظون للسقيفة بأثر لم يثر عنايتي، فهو فضلا عن عدم قدمه لا يصور في الذهن معنى من حياة الأنصار الأقدمين، وما قيمة الأثر أو النصب إذا خلا من المعنى المقصود منه وفقد مزية القدم؟!
هذا، ولقد كنت حريصا على الوقوف بالآثار التي تذكر عهد النبي بالمدينة أكثر من حرصي على سواها، وما تذكره سقيفة بني ساعدة من ذلك قليل؛ إذ كانت لا تذكره بأكثر من أن النبي جلس فيها، وما ذلك إلى جانب ما تذكره المناخة الفسيحة التي ما تزال باقية فضاء كما كانت في العهد الأول، والتي تأوي قوافل الحجاج إليها إذ تتخذ منها مناخة إبلها ومضارب خيامها، كما فعل العرب على عهد الرسول إذ جاءوا زرافات ووحدانا ملبين الداعي لحجة الوداع! وليس يذكر الحجاج اليوم شيئا من حجة الوداع ومقدم المسلمين إلى المدينة لأداء فرضها مع رسول الله، هذا وحجة الوداع من أعلام الإسلام التي لا تنسى؛ إذ نزل في أثرها قوله - تعالى:
صفحه نامشخص