صلى الله عليه وسلم
أنه صلى في تلك المساجد، وبالمدينة كما بمكة آثار غير المساجد، بها آبار وعيون ودور وأمكنة وجبال وأودية مأثورة، لكن هذه الآثار تختلف دلالتها جميعا عن دلائل آثار مكة اختلافا ظاهرا، آثار مكة تتصل كلها بأيام الدعوة الأولى، وما أصاب الرسول وأصحابه من الأذى والمساءة في سبيلها، وليس يشذ عن ذلك من آثار مكة إلا ما اتصل بحياته
صلى الله عليه وسلم
في المدينة، كمسجد الرضوان الذي أقيم ذكرى لعام الحديبية، حين ذهب المسلمون من المدينة إلى مكة حاجين البيت معظمين حرمته، ومسجد الراية الذي أقيم حيث ركز الرسول رايته حين فتح مكة، فأما آثار المدينة فتكاد تتصل كلها بجهاد المسلمين في سبيل الله، ولا غرابة في ذلك، والآثار إنما تصور الجلائل من أحداث العصر الذي وقعت فيه، واتصالها بالعظيم الذي وجه العالم في ذلك العصر وجهته، ثم كان له بعد ذلك الأثر الباقي على الدهر، وقد كان محمد بمكة داعيا إلى الحق الذي بعثه الله به باذلا حياته في سبيل دعوته، وكان بالمدينة مدافعا عن هذا الحق وحرية الدعوة إليه، مجاهدا في سبيل انتشار هذه الدعوة ليظل الخافقين علمها.
ولست أجد في العالم بلدا يحوي من جلائل الآثار ما تحوي المدينة، فبيت المقدس مثوى الأنبياء وبلد المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومبكى اليهود، وطيبة عاصمة مصر الفراعنة الأقدمين، والقاهرة عاصمة مصر الإسلامية، ورمية التي شهدت قيام الإمبراطورية الرومانية العظيمة وسقوطها، وباريس ولندن وسائر عواصم العالم تقصر آثارها دون التعبير عما تعبر عنه آثار المدينة من المعاني.
هذا، على أن آثار المدينة لا شيء فيها من عظم العمارة إلا في المسجد النبوي، أما سائرها فهو البساطة كل البساطة، ولست أدري لعل أبسط الآثار عمارة أعمقها في النفس أثرا، فجبل الزيتون وطريق الآلام في بيت المقدس يهزان القلب بما يحدثان عنه من تاريخ المسيح أكثر مما يهزه كنيسة المهد وكنيسة القيامة، وما يحدث عنه هذان الأثران الفخمان في العمارة من معجزات، والآثار القائمة في المدينة والتي انمحى بعضها فما يكاد يبقى إلا اسمه ، تبعث أمام الذهن من صور الجهاد في سبيل العقيدة والحق ما يهتز له وجود الإنسان كله إشفاقا تارة، وإعجابا طورا، وإيمانا بالله وثقة بنصره الحق في كل حال.
من هذه الآثار طائفة تحيط بالمسجد النبوي لم تدخل في عمارته حين زيادات عمر وعثمان والوليد والمهدي، وأكثر هذه الآثار كانت دورا لأصحاب النبي أو لجماعة من حكام المدينة تولوا أمورها في عصر بني أمية، وما بقي من هذه الآثار اليوم لا يشهد بما كانت عليه أيام أصحابها الذين تنسب إليهم، بل أصابها من التحول على الزمن ما أصاب كل شيء في المدينة، فبعضها اليوم أربطة محبوسة وقفا على طوائف من الفقراء، وبعضها أحيلت مدارس في عصر ما، ثم أصبحت مخازن أو ما إليها، وبعضها تهدم فما يجد الإنسان من أثره شيئا يقف عنده.
وأول ما يلفت الذهن من أسماء هذه الآثار دار أبي أيوب الأنصاري، لقد كانت منزل رسول الله أول ما بلغ المدينة في أثر هجرته من مكة، على مقربة منها بركت ناقته إزاء مربد سهل وسهيل ابني عمرو حيث كان المسلمون يصلون في المسجد الذي أقامه ابن عفراء، وفيها نزل إذ كان صاحبها أبا أيوب أحد بني النجار من الخزرج، وبنو النجار هم أخوال جده عبد المطلب، وقد أقام الرسول من هذه الدار بالسفل ثم انتقل منه إلى العلو، وظل زمنا يتراوح بين سبعة أشهر واثني عشر أوى بعده إلى مساكنه؛ فلا جرم وذلك تاريخها أن تكون أول ما يلفت الذهن من كل باحث في آثار المدينة ومبلغ صلتها بالرسول الكريم.
وتقع دار أبي أيوب شرقي المسجد من ناحيته الجنوبية؛ فهي بذلك قبالة الحجرة النبوية لا يفصل بينها إلا الطريق، وهي تلاصق دار جعفر الصادق الواقعة في جنوبها، ويفصل بينها وبين دار عثمان بن عفان الواقعة في شمالها زقاق يعرف بزقاق الحبشة، ويقوم اليوم في موضعها مسجد ذو قباب ومحراب، وقد كتب على جداره الخارجي بحروف بارزة مذهبة: «هذا بيت أبي أيوب الأنصاري موفد النبي - عليه الصلاة والسلام - سنة 1291.» مما يدل على أنها بنيت مسجدا في هذا التاريخ، أما قبل ذلك فليس يعرف عنها إلا أن مدرسة أقيمت في موضعها سميت المدرسة الشهابية، نسبة إلى بانيها الملك شهاب الدين غازي، وذلك بعد أن بقيت خربة زمنا طويلا.
أما تاريخها القديم فكل ما جاء عنه في «الروض الأنف» للسهيلي أنها آلت بعد أبي أيوب إلى مولاه أفلح، وهذا تركها حتى تخربت ثم باعها للمغيرة بن عبد الرحمن الذي قام بترميمها ثم تصدق بها على أهل بيت من فقراء المدينة أقاموا بها هم ومن بعدهم إلى أن تهدمت، ثم تركوها عرصة ليس فيها أثر لبناء.
صفحه نامشخص