تجلى لي وأنا عند هذا الموضع من تفكيري ما كان من جهاد الرسول بمكة ومن جهاده بالمدينة، إذ ذلك ادكرت ما يعقده قوم من الموازنة بين هذا الجهاد وذاك، ومن تفضيل أحدهما على الآخر، وادكرت ما ترويه كتب السيرة عن عهد مكة ومبلغه من الإيجاز بالقياس إلى ما ترويه عن عهد المدينة، وإن جماعة من المستشرقين ليعقدون الموازنة بين الجهادين، فيشيدون بجهاد مكة ويرونه دعوة خالصة إلى عقيدة أيقن محمد أنها الحق، وآمن فيما بينه وبين نفسه أن الله أمره أن يبلغها الناس؛ وهي لذلك دعوة جديرة بالاحترام، والجهاد في سبيلها جهاد مبرأ من كل غاية ذاتية؛ وفيه لذلك من مظهر السمو الروحي ما هو جدير بالإكبار؛ ولذلك سما بمحمد في نظرهم إلى مرتبة العظماء الذين خلد التاريخ ذكرهم، أما جهاد المدينة فيراه هؤلاء المستشرقون جهادا في سبيل السلطان، دفع إليه الحرص على الانتقام من قريش؛ لأنها أخرجته ومن تبعه من ديارهم، وأغرى الظفر فيه على الاستئثار بالقيادة والملك، وقد كان محمد يعف عنه ويتسامى عليه أيام مقامه بمكة، وهذه غاية ينزل الجهاد في سبيلها منزلة مثله من جهاد ذوي الأطماع من القادة والغزاة، وفوز محمد في هذا الجهاد بالانتقام من قريش وببلوغ الملك والسلطان في جزيرة العرب كلها هو الذي أضفى على تاريخه البريق وجعل الإنسانية تشخص إليه إجلالا وإعجابا، لكن فوزه في هذا الجهاد المدني قد ألقى على غايته من دعوته المكية ألوانا من الشبهة ذهبت بالكثير من جلالها وجمالها وهون من مبلغ الإكبار لجهاده الشاق الطويل في سبيلها.
ربما خدعت هذه الموازنة من تسحرهم الحجة المنمقة عن تنطس الحقيقة وتصرفهم عن الإحاطة بها من كل نواحيها، وهي في الحق موازنة خادعة ساحرة، ألم يكن محمد بمكة فقيرا ضعيفا عاجزا عن دفع الأذى عن نفسه، معرضا أن يغتاله خصوم دعوته لولا حماية أهله من بني هاشم إياه، وهو لم يهاجر إلى المدينة إلا بعد أن عقد حلفا بينه وبين الأوس والخزرج أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فهم بهذا الحلف قد عاهدوه على أن يقاتلوا دونه وأن يكونوا في قيادته، وبعد أن هاجر وجه السرايا والغزوات الأولى ليقطع الطريق على قريش إلى الشام؛ وليغنم أصحابه ما تحمل قريش في رحلة الصيف من أموال وتجارة، وغزوة بدر التي أشاد القرآن بها وببلاء المؤمنين فيها، والتي يعتبرها المسلمون علما على الجهاد في سبيل الله؛ فهم لذلك يذكرونها ويملئون مواضغهم فخرا بآثارها، إنما تحرك محمد وأصحابه إليها ليأخذوا على أبي سفيان طريقه من الشام إلى مكة ولينهبوا تجارته، ولم يخف محمد ذلك، إذ ندب المسلمين حين بلغه عود أبي سفيان من الشام وقال لهم: «هذه عير قريش فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها.» وما حدث بعد ذلك في أحد وفي الخندق، وما كان من إجلاء اليهود عن المدينة تمهيدا لإجلائهم عن بلاد العرب، ذلك كله إنما حدث دفاعا عن العاصمة التي اتخذها محمد مقرا لملكه، وفتح مكة وغزاة حنين وحصار الطائف، إنما حدثت بعد أن استقر لمحمد الأمر واستتب له السلطان، أما ما حدث بعد ذلك وأثناءه من تحطيم الأصنام ومن مداومة الدعوة للدين الجديد فشأن محمد فيه شأن نابليون حين زعم وهو يدوخ البلاد ويفتح الأمصار أنه ينشر مبادئ الثورة الفرنسية، وشأن الدول المستعمرة اليوم حين تقر النظم القائمة عندها في البلاد التي تغزوها وتفتحها مستعمرة حاكمة، زاعمة أنها تقيم الحضارة بين أهل هذه البلاد، فجهاد محمد بعد هجرته إلى المدينة إنما كان جهاد انتقام وغلب، دفعت إليه العواطف الإنسانية القوية في هذا الرجل الموهوب، ولم يكن في شيء من جهاده بمكة للدعوة إلى حقيقة آمن بها.
كذلك يقول جماعة من المستشرقين حين يوازنون بين الجهادين، وموازنتهم كما ترى خادعة ساحرة، لكنها خاطئة كاذبة، والحقيقة التي يلمسها من أخلص للتاريخ ولله وجهه أن غاية النبي العربي من جهاديه كانت واحدة، كان بمكة يجاهد للدعوة، وكان بالمدينة يجاهد لحمايتها والدفاع عنها، ولم يكن له وراء هذا الجهاد بكلتا المدينتين غاية إلا أن يبلغ رسالة ربه للناس كاملة، ولم يرد الله أن تشوب هذا الجهاد شائبة، فهو إذ هاجر إلى يثرب بعد بيعتي العقبة إنما هاجر بعد سائر المسلمين - إلا من آثر البقاء بمكة - وهو قد نصح للمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب كما نصح إلى إخوانهم من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة، فرارا إلى الله بدينهم حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه، وهو قد اختار الحبشة للهجرة الأولى؛ لأن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وقد اختار يثرب للهجرة الثانية؛ لأن الإسلام انتشر بين أهلها فآمن به منهم كثيرون كفلوا أن يمنعوا من كان على دينهم أن يناله الأذى أو أن يفتن عن دينه، وقد انتشر الإسلام بيثرب بعد العقبة الأولى حين بايع اليثربيون النبي على: «ألا يشرك أحدهم بالله شيئا، ولا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل أولاده، ولا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصيه في معروف، فإن وفى ذلك فله الجنة وإن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.»
ولما تمت بيعة العقبة الكبرى، واختار الذين بايعوا النبي من الأوس والخزرج نقباءهم، قال النبي لهم: «أنتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي.» وكانت بيعتهم الثانية هذه أن قالوا: «بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.» لم تكن أي البيعتين إذن بيعة حلف على حرب، بل عهد صدق على نشر الحق والدعوة إليه، وإن لامهم اللائمون، أو آذاهم المشركون، شأنهم في ذلك شأن من سبقوهم إلى الإسلام من أهل مكة الذين أصلتهم قريش من ألوان العذاب ما تنهد له العزائم، فلم يلن لهم عود، ولم تهن منهم عزيمة.
وأراد الله ألا تشوب جهاد المسلمين بيثرب شائبة، فهم لم يخرجوا إلى بدر مقاتلين، وإنما خرجوا ليأخذوا عير قريش من أبي سفيان جزاء ما فعلت قريش بهم حين أخرجتهم من ديارهم واستصفت أموالهم، وأراد الله أن يفوتهم أبو سفيان وعيره، وأن تخرج قريش لدفعهم بكل ما لديها من قوة، ولقد كان لهم مندوحة عن قتالها حين لم يبق لهم من وراء هذا القتال مطمع، وفي هذا فكر بعضهم حين رأى المسلمين أقل من قريش عددا وعدة، ولو أنهم عادوا إلى المدينة لما كان عليهم جناح وهم لم يخرجوا إلى قتال كما خرجت قريش ولم يأخذوا للحرب عدتها، أما وقد فاتت الغنيمة فقد وقف الجيشان في بدر أحدهما إزاء الآخر في مثل موقف محمد وأصحابه من قريش حينما كانوا بمكة قبل الهجرة، وقفت الدعوة إلى الدين الجديد تواجه الوثنية وأصنامها وحماة هذه الأصنام، وقف الإيمان بالله وحده لا شريك له في وجه الشرك والأصنام يتخذها عبادها إلى الله زلفى وعباد الأصنام يومئذ أكثر عددا وأعز نفرا، أفيغلب الإيمان الشرك، أم يغلب الشرك الإيمان؟ هذه كانت المسألة يوم بدر، لم تبق عير ولم يبق مطمع في غنيمة، وإنما يلتقي الإيمان والكفر يقتتلان، يريد الكفر العتيق أن يسحق الإيمان الناشئ بقوة عدده، ويرجو الإيمان الناشئ أن يدفع بغي الكفر بقوة بأسه وسموه بالنفس فوق دنيا الحياة، والعشرون الصابرون من المؤمنين يغلبون مائتين من خصومهم، والمائة المؤمنون يغلبون ألفا، وكذلك تم الغلب للمؤمنين.
ويحاول الشرك من بعد ذلك أن يحطم الإيمان في أحد، وأن يقضي على المسلمين بالحصار في غزوة الخندق؛ والإيمان أثناء ذلك ينتشر وكلمة الله تعلو، ويحاول الشرك أن يصد الإيمان في الحديبية، وأن يحول دون دخول المسلمين مكة، فلا يرضى الرسول أن يقتحم الحرم ويؤثر أن ينتظر عاما فيدخلها المسلمون آمنين، وتبقى مكة حرما للسلام، ويزداد الإيمان قوة ويسير جيشه لفتح مكة، فلا يرضى الرسول أن تهدر حرمتها، ويفتحها الله عليه ولا يراق دم ولا تزهق في حرب نفس، ويعفو الرسول عن خصومه جميعا، فلما استتب للدين الجديد الأمر وآمن الناس جميعا برسالة محمد، لم يغير محمد من حياته ولم يعرف الملك وسلطانه، بل ترك الأمر كما كان في شبه الجزيرة: نرك كل أمير على إمارته، وكل رئيس على رياسته ما آمن بالله وبرسالته على لسان نبيه ورسوله.
أين هذا كله مما يقولون أولئك المستشرقون؟! وهم قوم أوتوا نصيبا من العلم وفي مقدورهم أن يميزوا الخبيث من الطيب والحق من الباطل، فما لهم يدعون إلى موازنة كاذبة خاطئة، كذبها بين وخطؤها صراح؟! إنا لا نحسبهم نقموا من محمد أن يؤمن بالله العزيز الحميد، لكنهم إذ يلتمسون أسرار الكون والحياة يلتمسونها في الأحياء الدنيا وفيما ألف الناس من طبقات الإنسانية، وهم يريدون أن تخضع القوى العليا لسنن هذه الكائنات؛ فهم لذلك يخطئون إن حسنت نيتهم، ويكذبون إن ساءت هذه النية.
أما وهذا مبلغ الخطأ في تلك الموازنة فمن عجب أن تكون بعض كتب السيرة مثارها، فقد ألف قوم أن يجعلوا من مغازي الرسول بعد الهجرة موضع عنايتهم كلها، وأن يظهروه
صلى الله عليه وسلم
مظهر القائد الذي يستنفره الظفر في القتال إلى ابتغاء ظفر مثله، يريد بذلك أن يخضع الناس لجبروته رهبة له، ولا شيء من ذلك البتة في مغازي الرسول وسراياه، فمن قبل بدر كانت المناوشات مقصودا بها إلى إقناع قريش ليرعووا عن غيهم ويكفوا عن الأذى، وكانت بدر ما رأيت ، ومن بعد بدر وقف المسلمون موقف المدافع عن بيضتهم، وعن عقيدتهم وعن حرية الدعوة إليها، وكلما كانت لهم القوة وتم لهم الغلب جنح الرسول إلى السلم والعفو، وترك للناس أمور الحكم والسلطان في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، جاعلا كل همه إلى بث تعاليمه السامية، وإلى أن يكون للناس الأسوة والمثل.
صفحه نامشخص