وانقضت ساعة وتنصفت الأخرى ولم يلقنا في الطريق إنس ولا جان، وأغرانا صمت البادية بالحديث، فسألت أصحابي: أتنهمر السيول في فصول منتظمة حيث نسير؟ وكان جوابهم أن السيول تنهمر أحيانا حتى لا ضابط لها، لكنها غير منتظمة الفصول، وقد تنقضي السنة ولا يبلغ ما ينهمر منها ربع الشبر، وقد يبلغ هتنها في بعض السنين ما تضيق به البادية ذرعا، قلت: فما بالكم إذن لا تحاولون حكم الطبيعة بالعلم فتقيمون من السدود ما تدخرون به الماء إلى حين حاجتكم إليه؟! وتبسم القوم ابتسامة مريرة، وقالوا: «يجب قبل أن نحكم الطبيعة أن نبلغ من العلم حظا يطوع لنا حكمها، وأن يكون لنا مع العلم حظ من المال لإنفاقه فيما يقضي العلم أن ننفقه فيه، وأن يكون في البلاد مع العلم والمال استقرار ويد عاملة، وليس لدينا اليوم إلى شيء من ذلك كله سبيل، وقد ألف أهل هذه البلاد من حياة البادية ما لا يهون عليهم أن يستبدلوا به ما هو خير منه، ونجد التي حكمت الحجاز ليست أحسن منه حالا في العلم ولا في المال ولا في الرجال ولا في الاستقرار، أما وهذا قضاء الله وقدره في بلاد بها بيته الحرام وقبر نبيه - عليه الصلاة والسلام؛ فليس لنا إلا أن نذعن لأمر قضاه ولا مرد له من دونه، وحسبنا أن تهوي أفئدة من الناس إلى البلد الأمين حتى يقضي الله بأمره وهو أحكم الحاكمين.»
وبدت عن بعد صخور سوداء في لون الجرانيت البركاني الفاحم، تلك حرار عشيرة فيما قال صاحبي، وإذن فقد بلغنا غايتنا أو كدنا، ولوى السائق عنان السيارة إلى اليمين ثم انطلق بها ميمما نصبا قائما، وبدا فيما وراء النصب فوهتان لبئرين هما بئرا عشيرة ، أما الفوهتان فبنتهما حكومة ابن السعود بناء صالحا، وأما النصب فتذكار لهذا البناء نقش عليه ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمارة هذه الآبار صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن فيصل آل سعود ملك المملكة السعودية العربية سنة 1353.
وعلى مقربة من هذا النصب ومن البئرين وقفت السيارة وهبطنا منها نجوس خلال هذا المكان.
وقلت لصاحبي: «أما أن المكان صالح لقيام عكاظ به فأمر لا ريب فيه؛ فهذه البادية الفسيحة تتسع لسوق عالمية تقام بها في عصرنا الحاضر، ووجود هذه الآبار يدل على أن الماء هنا يكفي حاجة الذين يقيمون السوق عشرين يوما أو يزيد، وها هنا طريق لنجد وآخر للمدينة، لكن بعد المكان عن الطائف وعن طريقها إلى مكة يجعلني في ريب من أن عكاظا كانت تقام به، ونحن ها هنا على مسيرة يومين من الطائف؛ فقد كانت السيارة أثناء مسيرنا تقطع ستين ميلا في الساعة وتزيد على ذلك أحيانا، وقد قضينا نحو الساعتين، فإذا قدرنا أن المسافة من الطائف إلى العشيرة مائة ميل، بل ثمانين، بل ستين، لم تستطع الإبل أن تقطعها في يوم واحد، ثم إن ما بين هذا المكان وميقات الإحرام لا يجعل الفرار منه إلى الحرم في سويعات ميسورا، وقد فرت قريش أول عام للفجار واحتمت بالحرم من هوازن، ولو أن عكاظا كانت في هذا المكان للحقت بها هوازن قبل أن تلوذ بالحرم، أما والروايات متفقة على أن الفجار وقعت بعكاظ وأن بين الطائف وعكاظ مسيرة يوم بالإبل، فالقول: بأن عكاظا كانت تقام به مرجوح عندي، وهو مرجوح أكثر من القول بأن عكاظا كانت تقام بوادي عقرب على مقربة من أم الحمض.»
ولم يبد صاحبي اعتراضا على هذا الرأي، وإن لم يمل إلى ترجيح أم الحمض على عشيرة، فإذا كانت أم الحمض في طريق الطائف إلى مكة، وكان ما بينها وبين الطائف أدنى بمسيرة الإبل يوما مما بين الطائف وعشيرة، فإن وقوع عشيرة على طريق القوافل من المدينة ونجد إلى مكة والطائف يجعلها أدنى إلى الترجيح، هذا إلى أن تقدير الأبعاد بمسيرة الإبل ليس مما يعتمد عليه أو يصلح حجة قاطعة في رأيه.
وإنا لنجيل الطرف في هذه الحرار المحيطة بعشيرة حينا ونعود إلى حوارنا آخر، إذ مرت بنا قافلة من الأعراب يركبون الحمر يقصدون نجدا فيما ذكروا، ولقد ترجلت امرأة منهم حتى رأتنا وأقبلت تسألني عن آلة التصوير، واستوقفت قافلتها كيما أصورهم، ولما رأتني أدخن طلبت إلي سيجارة، فأنكرت عليها أن تكون امرأة وتدخن، وأن يدخن من يكون في حكم النجديين، فابتسمت في خبث وقالت: إنها تريد أن تمضغ التبغ لتخفف بمضغه ألما بأسنانها، وسألتها: كم بينها وبين نجد؟ فأجابت إن الأمر في ذلك للمسير والمرعى، وعادت شعثاء غبراء فركبت حمارها وتقدمت القافلة، وسايرها كلب ظل ينبحنا حتى بعد القوم عنا.
وبينا نأخذ أهبتنا لتعود بنا السيارة إلى مفرق عشيرة فالسيل الكبير لنسأل أهلها: أحقا أن لعكاظ مكانا معروفا عنده، إذا سائق السيارة يذكر أنه سمع في إحدى جولاته قوما من أهل اليمن يقولون: إن عكاظا تقع في جنوب الطائف، وسألنا: أليس في برنامجنا أن ننحدر اليوم فنسأل عن موضعها هناك؟ وهل يعرفها أحد؟ وسخرت وسخر أصحابي من قوله وحسبناه يهذي، وأمره الشيخ صالح في لهجة حازمة أن يجعل السيل الكبير وجهته، وكيف يكون قد سمع شيئا من هذا الذي يقول والروايات مجمعة أن عكاظا تقع بنخلة بين مكة والطائف، والطائف تقع إلى الجنوب الشرقي من مكة، فحتم أن يكون ما بين مكة والطائف كله إلى ناحية الشمال من الطائف، على أن السائق أصر على أنه سمع ما روى لنا، وإن اتجه في طريق السيل.
وما كان أشد عجبي حين رجعت بعد ذلك إلى الكتب القديمة فألفيت روايته واردة في بعضها، وأيقنت لذلك أن أهل اليمن لم يكذبوه حين قصوا عليه هذه الرواية، فقد ذكر ابن رستة صاحب كتاب «الأعلاق النفيسة»، وهو من كتاب القرن الرابع، وصفا للطرق التي تصل بين مكة والطائف فقال في تصوير أحدها: «تأخذ على بئر ابن المرتفع ثم إلى قرن المنازل، وهو ميقات أهل اليمن للإحرام - وقرن المنازل في عصرنا الحاضر ميقات أهل نجد - ومنها تعدل إلى الطائف، والطائف مخلاف من مخاليف مكة وعمل مكة مما يلي نجد نجران، وقرن والفتيق وعكاظ والطائف ... إلخ.» وروى الأزرقي قال: «قال أبو الوليد: وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس بن عيلان وثقيف وأرضها لنصر.» وللإدريسي خريطة وضعها لبلاد العرب قد يتعذر اليوم علينا أن نحل رموزها وأن نعرف على التحقيق مواضع الأماكن المبينة فيها؛ على أن العالم المستشرق الألماني مولر قد عني بدراستها ورسمها على النحو الذي ترسم به اليوم خرائطنا، وحرر عليها أسماء البلاد التي حررها الإدريسي على خريطته، وعكاظ تقع على هذه الخريطة إلى الجنوب من الطائف مع ميل قليل إلى ناحية الشرق، ووضعها هذا يصور ما أورده ابن رستة في أعلاقه النفيسة، وهذا تصوير لا يتفق مع ما قيل من وقوع عكاظ بين مكة والطائف، ويبعد كل البعد عن الروايات التي صورت مكانها بينهما سواء كانت بوادي عقرب أو بعشيرة أو بالسيل الصغير أو بالسيل الكبير.
أما المستر فلبي فيرجح السيل الصغير موضعا لعكاظ، وهو قد وضعها على خريطته في مكان هذا السيل إلى جانب موضع أسماه أثيرية، ولقد سألت أصحابي عن هذا الاسم فلم يذكروه، وإنما ذكروا المتواتر على ألسن الناس من أن عكاظا كانت تقوم بالسيل الصغير في مكان يعرف الآن باسم القهاوي، وهو في هذا الموضع الذي حدده المستر فلبي، والمستر فلبي إنما حدد هذا المكان لتواتر الرواية عنه؛ لا لأنه حقق مواضع عكاظ وحاول الترجيح بينها، وهو يعنى في وضع الخرائط بالواقع اليوم ولا يعنى بروايات التاريخ ولا بما فيها من خلاف، وهذا السيل الصغير صالح لقيام عكاظ به لكثرة مياهه ولانفساح البادية عنده، وهو يقع على مسيرة يوم من الطائف وثلاثة أيام من مكة بسير الإبل، فلا جرم أن رجحت الرواية المتواترة عنه غيرها من الروايات عن وادي عقرب وعشيرة وطريق اليمن، لكن رواية أخيرة تكاد ترجح عندي هذا التواتر ، أو هي على الأقل تدعو المتخصصين إلى مزيد من العناية والبحث لعلهم يهتدون إلى الحق في أمر هذه السوق التي كانت تعقد في الجاهلية، والتي ظلت تعقد أجيالا بعد الإسلام، والتي لا تزال علما على حياة ونشاط في التجارة والأدب يجعلان أهل العربية يتناقلون جميعا أنباءها.
صفحه نامشخص