هذا وهو في مسرحية أخرى له، مسرحية «شهرزاد» يجعل بطلها شهريار يبلغ من المتعة الحسية الجسدية أقصى مداها، لكنه بعد ذلك لم يسترح ولم يطمئن، يريد معرفة سر الكون، لكن هذا السر يستغلق على فهمه العقلي، ولم يكن له بد - إذا أراد الوصول - من أن يلجأ إلى بصيرته التي تنفذ به خلال العالم المنظور، وإلا فهذا العالم المنظور ضارب حوله بنطاقه، لا يجد له منه مهربا، لو جعل أدواته هي الحواس التي تشتهي، والعقل الذي يفسر ... ومن هذه الزاوية نفسها - زاوية الإيمان بقصور العقل والعلم، يكتب الحكيم قصة «عصفور من الشرق» ليرد بها على غرور الغرب بعلمه وآلاته: «فماذا صنع لنا العلم؟ وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة؟ وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعمالنا، وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع» ... ولا نترك توفيق الحكيم في ثلاثينيات هذا القرن، دون أن نذكر كتابه «يوميات نائب في الأرياف» الذي يقدم صورة نضرة للحياة في الريف المصري، ومدى ما كان يفصم أهل الريف عن التشريعات والقوانين، فهم لا يفهمونها ولا يدركونها، وهي لا تراعي حقائق معاشهم ومدى إدراكهم.
وظهرت في الثلاثينيات قصتان للصديقين المازني والعقاد، فقصة المازني عنوانها «إبراهيم الكاتب» (1932م) وهي بمثابة ترجمة ذاتية للكاتب، تحلل ظاهرة الحب التي تربط بين الرجل والمرأة، كما تشير إلى صفة رئيسية في الكاتب، وهي انحصاره في ذاته، وأما قصة العقاد فعنوانها «سارة» (1938م) وهي - كزميلتها - تحليل لظاهرة الحب بين الرجل والمرأة، لكن التحليل هنا مأخوذ من زاوية جديدة، هي الزاوية التي يكون فيها المحب عقلا كله، والحبيبة حيوية جسدية كلها ... ترى هل شغل الكاتبان في قصتيهما هاتين بتحليل الحب، نتيجة لظفر المرأة بحريتها عندئذ على نطاق ملحوظ؟ وبهذا تكون هاتان القصتان مكملتين - من حيث الوظيفة الاجتماعية التي تؤديانها - لقصة «زينب» التي أخرجها هيكل سنة 1914م، فكلها تجسيد للنتائج التي تترتب على دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة: في «زينب» لم تكن المرأة قد ظفرت من حريتها إلا بقبس ضئيل يتيح لها أن تحب، دون أن تجهر بحبها، وفي «إبراهيم الكاتب» تتعدد المحبوبات للحبيب، وفي «سارة» تلعب المحبوبة بعقل حبيبها، كأنما في هذا إشارة إلى أن الحرية للمرأة قد زادت على حدها المأمول.
وتنشب الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، لتدوم حتى سنة 1945م، فتكون نتيجتها على تيارنا الفكري شبيهة من بعض الوجوه بنتيجة قيام الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، ففي أعوام الحرب الثانية - كما هي الحال في أعوام الحرب العالمية الأولى - ينطوي الكتاب على أنفسهم، لكن انطواءهم هذه المرة كان معناه العودة إلى ماضي الأمة العربية يجترونه، ويحيون أبطاله إحياء قد يقيم أمام الجيل الصاعد صورة مجدهم الذي لم يكن ينبغي لفيضان الثقافة الغربية أن يطغى عليه، لقد رأينا خلال الصفحات السابقة كيف تلازم خطان ثقافيان في حياتنا، فسارا جنبا إلى جنب، تكون الغلبة آنا لهذا الخط، وآنا آخر لذاك، وأعني بهما الثقافة العربية القديمة في ناحية، والثقافة الغربية في كل عصورها، من اليونان فنازلا، في ناحية أخرى، وكثيرا ما وفق رجال الفكر والأدب إلى ضفر هذين الخطين ليجعلا منهما كيانا واحدا كما هي الحال في بعض أعمال العقاد، وفي طه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم، لكن قيام الحرب جاء مذكرا لنا بوجوب الجد عن أنفسنا، لنخلق لأنفسنا شخصية جديدة نستعد بها للحياة الجديدة التي لا بد أن تتمخض عنها الحرب العالمية.
وفي سبيل هذا البحث، طفق كتابنا ينكتون الماضي وينقبون في حناياه وخفاياه ويرسمون لنا صورا قوية مشرقة لأعلام ذلك الماضي ومواقفه: هذا هو العقاد يخرج سلسلة متعاقبة الحلقات من «العبقريات» الإسلامية، فيخرج «عبقرية عمر» و«عبقرية الإمام» (على) سنة 1942م، و«عبقرية محمد» و«عبقرية الصديق» (أبي بكر) سنة 1943م، ثم يتابع الحلقات حتى تشمل السلسلة عددا غير قليل من شخصيات الإسلام في عصره الأول الزاهر، ويكتب محمد حسين هيكل عن أبي بكر وعن عمر من خلفاء المسلمين، وكان قبل ذاك قد كتب عن محمد عليه السلام، ويكتب توفيق الحكيم عن محمد، ويكتب كثيرون آخرون عن بطولات الإسلام، إما مقالات في المجلات الأدبية، أو كتبا كاملة ... وسيظل هذا الاتجاه قائما في حياتنا الأدبية عبر الخمسينيات والستينيات، ليضيف طه حسين روائع من روائعه عن صدر الإسلام متمثلا في تضحياته وبطولاته، ومما نذكره له في ذلك كتابه «الشيخان».
وقد كانت التكملة الطبيعية لهذه العودة إلى الماضي في صور أبطاله ومواقفه، أن تنصرف بعض الجهود إلى تحليل العقيدة الإسلامية نفسها، وفلسفتها، وإلى بحوث علمية في تأصيل الفكر الإسلامي على اختلاف عصوره وأطواره، ففي تحليل العقيدة الإسلامية يصدر العقاد عددا من الكتب ويكتب مقالات كثيرة، ومن أهم كتبه في ذلك: «الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية» (1947م) و«الفلسفة القرآنية» (1947م)، حتى إذا ما جاءت خمسينيات القرن، أكثر من تأليفه في هذا الاتجاه، ومن أهم ما أخرجه «التفكير فريضة إسلامية» (1957م) و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» (1957م).
كثرت الدراسات الإسلامية والعربية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفسير ذلك - فيما أظن - أنه كان تمهيدا قويا لولادة جديدة، تولد فيها أمة تتعرف على سماتها العربية الإسلامية، بعد أن كادت تضيع هذه المعالم في غمرة النقل عن ثقافة الغرب، فإذا كان الكتاب خلال العشرينيات والثلاثينيات، قد وجدوا أحيانا ما يبرر تساؤلهم: من نحن؟ أنحن فرعونيون أم عرب؟ وما إلى هذه الأسئلة من أسئلة، فهم اليوم قد باتوا على يقين لا يفسح المجال حتى للسؤال، هم اليوم على يقين من أنهم أمة عربية، أو هم بتعبير أدق جزء من الأمة العربية، التي تربط أجزاءها روابط قوية من لغة ودين وتاريخ ومصير ، إذن فلنحلل كل هذه الروابط في دراسات علمية أحيانا، وفي مقالات شعبية أحيانا أخرى، نعم لنحلل عناصر الدين وعناصر اللغة وحوادث التاريخ وأهداف المصير ... تلك كلها دراسات شغلتنا بعد الحرب الثانية.
وقد شغل الناس بموضوعين عن اللغة دارت حولهما معارك فكرية هادئة حينا عنيفة أحيانا، أولهما هو: أنكتب بالعامية أم نكتب بالفصحى؟ وثانيهما: أنكتب بأحرف عربية أم نكتب بأحرف لاتينية؟ فأما أول الموضوعين فما زال إلى هذه الساعة قائما تدور فيه المساجلات، يدافع عن الكتابة العامية فريق يضع جماهير الشعب نصب عينيه، ويدافع عن الكتابة بالفصحى فريق آخر يجعل الأولوية للوحدة العربية التي تقتضي أن يكون اللسان واحدا مفهوما في مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر وسائر أقطار الأمة العربية، ذلك فضلا عن الحفاظ على التراث المشترك، ومنه القرآن الكريم.
وأما ثاني الموضوعين فقد ثار في الأربعينيات حينا، ثم مات ولم تقم له بعد ذلك قيامة، وكان بطل الكتابة بأحرف لاتينية عبد العزيز فهمي في تقرير قدمه سنة 1944م إلى المجمع اللغوي، مبينا فيه صعوبة التعلم باللغة العربية كتابة وقراءة، ومستشهدا بما حدث في تركيا من تسهيل في عملية التعلم نتيجة لاستخدامهم أحرفا لاتينية بدل الأحرف العربية التي كانوا من قبل يستخدمونها في كتابة اللغة التركية، ثم اقترح طرائق مفصلة لتنفيذ اقتراحه.
لكن اقتراحا كهذا لم يكن ليمضي بغير معارضة شديدة من جهات كثيرة، في مصر وفي غيرها من أقطار الأمة العربية، ومن المعارضين محمود محمد شاكر وكان مما احتج به قوله: «إن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية أن يضيع على القارئ تبين اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه، فإذا عسر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له ... نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها؛ لأنها لم تبن إلا عليهما، وهي في هذه الوجهة مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني؛ لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها حتى تختلف الحركات على كل حرف ... إلخ» وتعرض للرد غير هذا الكاتب كتاب آخرون، كل منهم يقيم الحجة من زاوية معينة.
وربما كان من أبرز الملامح في حياتنا الثقافية في الأعوام التالية للحرب الثانية، ما أداه أساتذة الفلسفة الجامعيون، وكان ذلك ذا شقين: أولهما تأصيل الفلسفة الإسلامية على أصول إسلامية خالصة، بعد أن كان الظن أنها نقول وشروح من الفلسفة اليونانية وعليها، وثانيهما إدخال تيارين معاصرين كنا بحاجة إليهما، هما الفلسفة الوجودية توكيدا للحرية، والوضعية المنطقية توكيدا للطريقة العلمية في صياغة القول وفي فهمه على السواء.
صفحه نامشخص