كلام واضح وبسيط إلى حد السذاجة، لكنه يزيل أكثر الخلاف بين الرأيين في «الفردية» و«الجماعية» فالقائلون بالأولى يقصدون ما في مجموعة العلاقات المكونة للفرد الواحد، من تفرد لا يتكرر في سواها، والقائلون بالثانية يقصدون ما في قوام الفرد الواحد من علاقات تربطه بسواه، والجانبان - كما ترى - مرتبط أحدهما بالآخر أشد ارتباط وأوثقه، ولقد كان هذا الارتباط لتنفصم عراه، لو أمكن للفرد أن ينعزل انعزالا تتقطع معه كل صلاته بالآخرين، لكن تصور هذه العزلة - مجرد التصور - أمر محال، وإذن تصبح المسألة تفاوتا في درجة التوشج والتشابك، فمن الناس من تزداد وشائجه وصلاته، ومنهم من تقل في حياته هذه الوشائج والصلات، على أن هذا التفاوت لا يعني إلا تفاوتا في غزارة الحياة وخصوبتها بين الأفراد.
فإذا اتفقنا على أن العالم قوامه أفراد - مع اتفاقنا على أن الفرد ينحل إلى شبكة من علاقات تربطه بالأشياء والأحياء من حوله - فقد اتفقنا في الوقت نفسه على أن لكل فرد محلا من مكان ولحظة من زمان، بهما تتعين حدوده ويتحدد وجوده، فليس منا من يعيش خارج مكانه وزمانه، مهما شطح به الوهم وطار الخيال؛ لأن وهمه هذا أو خياله هو «حالة» نفسية أو ذهنية قائمة راهنة، فهو دائما «هنا» و«الآن»، إذا أعاد الماضي بذاكرته، فقد أصبح الماضي عنده «حاضرا»، وإذا تشوف المستقبل بخياله، فقد ارتد المستقبل «حاضرا» كذلك.
ومعنى ذلك أننا «محليون» ليس لنا من «المحلية» فكاك، فإذا تحدث منا متحدث، أو كتب كاتب، جاء ما يتحدث به أو ما يكتبه مرتبطا بمحله الذي يعيش فيه، وبلحظته التي يحياها، والرابطة هي اللغة التي يستخدمها في حديثه أو كتابته - على أقل تقدير - إن لم تكن كذلك هي المضمون الذي تحمله تلك اللغة في طيها، لا، بل إن هذا المضمون نفسه ليتأثر باللغة التي تحمله تأثرا شديدا؛ لأن اللغة ليست مجرد ترقيمات خاوية، بل هي أوعية مليئة بخبرة أصحابها على مر تاريخهم، ومن هنا كانت ترجمة المضمون من لغة إلى لغة أخرى ضربا من المحال، اللهم إلا على سبيل التقريب (وتخرج من هذا الحكم العام حقائق العلم التي تصاغ في رموز غير لغوية) وقل أية جملة شئت، مهما بلغت بساطة مضمونها، ثم انقل هذا المضمون إلى لغة أخرى، تجدك قد اضطررت إلى نقص هنا وزيادة هناك، مما تقتضيه «ثقافة» تلك اللغة الأخرى، قل مثلا: ثم انقل هذا المعنى إلى الإنجليزية «الكتاب على المنضدة»
The book is on table ، تجد هنا كلمة دالة على «الكينونة» - هي كلمة
is - لا يناظرها شيء في التركيب العربي، ولكي تعلم خطورة هذه الإضافة التي قد تبدو لك تافهة يسيرة، فلتعلم أن وراء هذه الكلمة من الدلالات الثقافية ما صدرت فيه - ولا تزال تصدر - مؤلفات بعد مؤلفات، فما بالك إذا لم تكن الجملة المراد نقلها بهذه البساطة كلها، وكانت مما يحمل في ألفاظه وفي طريقة تركيبه انفعالات وعواطف، أعني مما يحمل شعرا أو عقيدة؟
نعم إننا محليون، ليس لنا من المحلية فكاك، بحكم اللغة التي نتحدث بها، وما يتعلق بألفاظها من مضمونات ثقافية تتصل بتاريخنا وبواقعنا، ولا غرابة أن تكون اللغة أقوى العوامل جميعا، التي تتحدد بها «القومية»؛ لأنه إذا اختلف قوم عن قوم في اللغة، فقد اختلفا كذلك في الحصيلة الثقافية التي ينظران بها إلى الحياة بأسرها، وسؤالنا الآن هو هذا: مع اعترافنا بأن الترجمة من لغة إلى لغة أخرى هي دائما نقل على وجه التقريب فحسب، فهل يمكن لجماعة من الناس أن تنقل ثقافتها إلى جماعة أخرى، عن طريق الترجمة، بحيث تصبح الثقافة المنقولة في لغتها الجديدة مثيرة لاهتمام الجماعة المنقول إليها، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الشروط التي لا بد من توافرها ليكون للثقافة المنقولة هذه القوة؟ ونعيد هذا بعبارة أبسط فنقول: هل يمكن للفكر والأدب المحليين أن يصبحا فكرا وأدبا عالميين؟ ومتى يكون ذلك؟
إنه ليبدو لي أن المسألة المطروحة هنا تكون أوضح ظهورا، إذا وضعناها في أصغر نطاق ممكن لها، فنقول: متى يتحدث الإنسان عن نفسه، فإذا بحديثه هذا يثير اهتمام الآخرين، حتى وإن كان هؤلاء الآخرون من بني قومه الذين يتكلمون لغته ويتثقفون بثقافته؟ أحسب أن اهتمام هؤلاء الآخرين يتحرك لحديث المتحدث، إذا كان لهذا الحديث علاقة بحياتهم على أية صورة من الصور؛ لأنه بغير هذه العلاقة، يصبح المتكلم وكأنه يتكلم بلغة يفهمها هو وحده، وإنما يكون لحديث المتحدث علاقة بحياة السامع من أحد وجهين، أو من كلا الوجهين معا: أولهما أن يجيء الحديث كاشفا عن حقيقة صاحبه، فيعلم السامع أي نوع من الناس يكون هذا المتحدث، ليعلم - بالتالي - كيف يعامله في الحياة المشتركة بينهما، وثانيهما أن يجيء الحديث كاشفا للسامع عن حقيقة نفس السامع ذاته، بحيث يخيل إليه أن المتحدث إذا تحدث عن إنسان ما، فهو إنما كان يتحدث في الوقت نفسه عن السامع؛ لما بينهما من تشابه في الطبع والتكوين، ومن هنا نستطيع أن نصوغ التعميم الآتي: إذا تكلم متكلم عن حالة محلية خاصة، ثم وجد الناس - من قومه ومن سائر الأقوام - أن هذه الحالة برغم محليتها وخصوصها، هي حالتهم كذلك، فإن كلام المتكلم حينئذ يجاوز محليته وخصوصه، ليصبح عاما مشتركا في كشفه عن جانب من طبيعة الإنسان، أنى كان وأينما كان.
لقد يسهل على الإنسان أن يتحدث عن نفسه، أو عن سواه، حديثا يروي به ما شاء من أحداث، لكن العسير هو أن يجيء حديثه هذا حاملا من دقائق الحياة الفردية ما يجاوز نطاق الفرد المروي عنه، ليصبح ذا دلالة إنسانية عامة، فما أهون على الإنسان أن يروي عن أحد الأفراد أنه تزوج من امرأة أحبها وأحبته، لكن ما أصعب أن يقع الراوي على حادثة يتزوج فيها الابن من أمه وهو لا يعلم أنها أمه، وكل ما يعلمه أنها امرأة أحبها (قصة أوديب)، فعندئذ تمتلئ الحادثة بالدلالة الإنسانية؛ لأنها تكشف عن طبع أصيل في جبلة الإنسان، وهو هذه العلاقة الغريزية بين الابن وأمه، أقول: ما أصعب أن يقع الراوي على حادثة كهذه ، إما من الواقع المحيط به، أو من خلق خياله المنبني على علمه بسر الحياة الإنسانية، ذلك السر الذي قد يخفيه الواقع الظاهر وراء أقنعة من التحريمات الاجتماعية، فها هنا لا تكون الحادثة المروية منحصرة في حدود مكانها وزمانها، بل تجاوز تلك الحدود لتصبح كاشفة عن الطبع المستقر الراسخ بغض النظر عن المكان والزمان.
وما أهون على الإنسان الراوية أن يروي عن أب يحب بناته حبا يحفزه إلى قسمة أملاكه بينهن قبل أن يستوفي الأجل، ولكن ما أصعب أن يقع هذا الراوية على حادثة يرد فيها البنات على مكرمة الوالد بمثل ما ردت بنات الملك لير على صنيعه (في مسرحية الملك لير لشكسبير) من نكران للجميل نكرانا أبرز الطبيعة الإنسانية على حقيقتها، إن الراوية الذي لم يرزق موهبة الأديب في قدرته على النفاذ إلى أعماق الطبيعة الإنسانية، قد يخدعه ما يدور على الألسنة من عبارات مصكوكة جاهزة، يتناقل فيها الناس ما بين الوالد والولد من حب متبادل، لكن الأديب الموهوب النافذ البصر، هو الذي ينفخ هذه القشور الظاهرة على السطح، لينظر إلى الراسخ وراءها، أهو حب صاف أم هو حب مشوب بكراهية، وعطف مختلط بالمنافسة والحسد والنفور؟ أيا ما كانت الحال، فإن من يكشف للناس عن هذا السر الإنساني الراسخ وراء السطح الظاهر، فإنما يكشف لهم عن حقيقة لا تتقيد بمكانها وزمانها، بل تتعدى ذلك إلى التعميم الشامل الذي يكشف عن فطرة الإنسان من حيث هو إنسان.
وما أهون على الإنسان الراوية أن يروي عن عالم فذ من علماء الطبيعة، كيف يعيش حياته العلمية في وقار العلماء، حتى ليحسبه تلاميذه وخلصاؤه أنه إلى خصائص الملائكة أقرب منه إلى خصائص البشر، لكن ما أصعب أن يقع هذا الراوية في حياة هذا العالم على حقيقة عجيبة، وهي احتفاظه في مكتبته ببعض الكتب التي تخاطب الغريزة في أحط دركاتها، لينفس عن نفسه بها أثناء خلوته (اقرأ قصة «العبقري والإلهة» لأولدس هكسلي)، ففي الكشف عن مثل هذا الضعف وأمثاله في طبيعة البشر، ما يبصر الإنسان بحقيقة نفسه، كائنا من كان ذلك الإنسان، وإني لأذكر قصة رواها لي صديق عن أستاذين من أجل أساتذته - ومن أجل من نعرف من أساتذة - خيل إليه عنهما، حين لم يكن يراهما إلا في قاعات الدرس، وبين الكتب وفي غمار البحث العلمي، خيل إليه أنهما صنف من الكائنات يستغني عما يضطر إليه سائر الناس من طعام وشارب، حتى كان ذات يوم، رآهما معا - وكانا صديقين متلازمين - يمصان القصب في جانب من الطريق العام، فهاله ما رأى لأنه لم يكن يتوقعه، لكنها الطبيعة الإنسانية بما تنطوي عليه من رفعة وانخفاض ومن قوة ومن ضعف، إذا كشف لنا عنها كاشف، جاء كشفه هذا متخطيا لحدود المكان والزمان.
صفحه نامشخص