ويخرج سلامة موسى (1888-1958م) سنة 1927م كتابا عن «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ»، يقول عنه في صفحة الغلاف إنه «قصة الحرية الفكرية وانطلاق العقل البشري من قيود التقاليد وفوز التسامح على التعصب، مع ذكرها ما لقيه الأحرار من ضروب الاضطهاد من أقدم العصور للآن.» ثم يتلو على قارئه صفحات من استشهاد الأبطال في سبيل الحرية على اختلاف أنواعها: سياسية ودينية وعلمية وغير ذلك، وهو يسوق أمثلته من اليونان القديمة ومن المسيحية ومن الإسلام ومن العصور الحديثة في الغرب وفي الشرق على السواء.
وكان محمد حسين هيكل (1888-1956م) من الداعين إلى الحرية في كثير من معانيها، فألف كتابا عن جان جاك روسو ليستمد من دعوة هذا الفيلسوف إلى الحرية دعوة يوجهها إلى العرب في ثورتهم في سبيل الحرية، ويخرج صحيفة السياسة الأسبوعية (1926م) لتكون ملحقا أدبيا أسبوعيا لصحيفة السياسة التي كان يشرف على تحريرها، وليتخذ منها أقوى أداة لنشر الثقافة الجديدة التي أراد هو ومعاصروه أن يبذروا بذورها إرهاصا لعصر جديد، وكانت تلك البذور - في رأي هيكل أول الأمر - بذورا غربية صرفا، ثم سرعان ما أفاق إلى خطئه، وصمم على أن يكون للنهضة العربية أصولها الخاصة التي تستعير من الغرب ما تستعيره، لكنها لا بد إلى جانب ذلك أن تستمد من ماضيها التربة الخصبة التي تستنبتها، يقول هيكل في ذلك: «حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية، وحياته الروحية لنتخذها جميعا هدى ونبراسا، ولكني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلا لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب يصلح بذرا لنهضة جديدة، ثم رأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة النفوس، يجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين» (من مقدمة «منزل الوحي»).
الحق أننا لا نجد صفة نصف بها الحياة الفكرية في عشرينيات هذا القرن، أصدق من أنها كانت حياة تمهد الأرض لبناء جديد يقام عليها حين تحين الفرصة المناسبة؛ ولذلك شغل الكتاب جميعا في تلك الحقبة بالتنوير عامة وبالتنوير فيما يمس الحرية العقلية والفنية والسياسية بصفة خاصة، وفي هذا النشاط التمهيدي لذلك العصر يقول إبراهيم عبد القادر المازني: «قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون بعدهم، ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض، ومهدوها ورصفوها، ومن الذي يعنى بالبحث عن هؤلاء المجاهدين الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد، وبعد أن تمهد الأرض وينتظم الطريق يأتي نفر من بعدنا ويسيرون فيه إلى آخره، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة، ويذكرون بقصورهم وننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها شاهقة رائعة، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد، فلندع الخلود إذن ولنسأل كم شبرا مهدنا من الطريق» (من مقدمة «حصاد الهشيم»).
لقد كان لسان الحال في مجال الفكر والأدب إبان فترة التنوير والتمهيد التي أشرنا إليها - منذ ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بقليل وإلى نهاية الحرب العالمية الثانية - ناطقا بأنه إذا كان الغرب قد استبد بأرضنا فطريق الخلاص له شعاب كثيرة، منها أن نتزود بعلمه وثقافته لنفل الحديد بالحديد؛ ولذلك كان أبرز طابع يميز تلك الفترة هو نقل الفكر الغربي من اليونان القديمة ومن بريطانيا وفرنسا الحديثتين، وكانت أداة النقل الأساسية - هي المجلات أكثر مما كانت هي الكتب ، المجلات التي تصدر كل أسبوع مثقلة بحصيلتها المنقولة ترجمة وتلخيصا وتعليقا ونقدا، فإذا كانت الصحف اليومية في المرحلة الأولى - كالمؤيد واللواء والجريدة - قد حملت هذا العبء نفسه، ففي المرحلة الثانية تخصصت لها مجلات أسبوعية وشهرية، أول ما نذكره منها مجلة السفور التي صدر عددها الأول سنة 1915م، وفيه أعلن صاحبها عبد الحميد حمدي منهاجها، شارحا المواد بعنوانها، فقال في ذلك:
ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا، وكل شيء يبدو على غير حقيقته، فنحن أمة محجبة بحقيقتها، بادية منها ظواهر كاذبة، وقد تبين للباحث أن هذه العلل ليست طبيعية في نفس الأمة، وإنما هي عوارض تزول بزوال أسبابها.
واشتركت في تحرير «السفور» مجموعة من الكتاب، هي نفسها المجموعة التي سيشتد بأسها في عشرينيات القرن وثلاثينياته، والتي ستكون هي الداعية إلى الأخذ بأسباب الفكر الغربي والثقافة الغربية ليكون ذلك هو نفسه أفعل سلاح في استرداد حرياتنا المغتصبة من الغرب المغتصب، ففيها كتب هيكل، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهم وكأنما جاءت مجلة السفور حلقة وسطى في سلسلة ثقافية واحدة، أولها «الجريدة» برئاسة لطفي السيد، وآخرها «السياسة الأسبوعية» برئاسة هيكل، وهي مدرسة فكرية يغلب عليها الطابع الفرنسي.
ولذلك قام خط آخر يوازي ذلك الخط ويوازنه، تمثل في مجلة البلاغ الأسبوعي واجتمع حوله من الكتاب من كان يؤثر النهل من معين الثقافة الإنجليزية، وأشهرهم العقاد والمازني، كما تمثل في مجلة العصور لإسماعيل مظهر والمجلة الجديدة لسلامة موسى، ثم نشأت في الثلاثينيات مجلتان أخريان هما «الرسالة» أولا، و«الثقافة» ثانيا لتحدثا شيئا من الجمع بين الثقافتين الغربية والعربية، تمهيدا لقيام شخصيتنا الثقافية الجديدة، التي سنتحدث عنها بعد قليل، وفيهما ظهر أحمد حسن الزيات وأحمد أمين، الأول بأسلوبه العربي الرصين، الذي يعد في ذاته علامة اعتزاز بالقومية العربية في أصولها وفروعها، والثاني بأسلوبه العلمي الواضح الذي يعد علامة من علامات التبشير بعصر جديد، يرتكز على القديم ويفتح صدره للحديث.
وإنه لمما يميز هذه المرحلة الثانية كذلك، تلك النزعة الرومانسية التي غمرت الشعر، بل وشطرا كبيرا من الكتابة النثرية، وتجلت بصفة خاصة في جماعة أبولو التي نشأت سنة 1932م (وأخرجت مجلة باسمها سنة 1935م) وكان من أهم شعرائها؛ أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، فإذا تذكرنا أن كل حركة ثورية كبرى تصاحبها على الأغلب حركة رومانسية في الأدب، تفك القيود بكل أنواعها: قيود الصياغة الشعرية، وقيود العاطفة الباطنية، عرفنا كم كانت الحركة الرومانسية في الأدب العربي إبان عشرينيات القرن وثلاثيناته دالة على تيار المقاومة العنيف، ومدى سريانه في نفوس الناس على طول البلاد العربية وعرضها كأنما هي صيحة واحدة متعددة الأوتار والأنغام، صدح بها شعراء العروبة جميعا.
فهذا أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م) في قصيدته «الضحايا» يعلن أن نداء الوطن يستوجب ألا نفرط في حق مواطنيه، وألا نجامل الأولى نهبوا المواطنين نهبا، عن جشع لا يشبع وظلم لا يرتدع:
وكل يوم ضحايا لا عداد لها
صفحه نامشخص