فما أمجد هذه الحياة التي يعيشها الإنسان في الدفاع عن الحق ومكافحة التعصب ثم الدفاع عن الوطن، وخلال هذه الأعمال لا يكف عن اكتساب المعارف التي يسكن إليها راضيا بنتائجها، له من كبريائه الإنشائي ما يجعله يستقر إلى ما يبديه إليه عقله دون ما يسأم من الأساطير القديمة، ويعيش طول حياته نشيطا مجاهدا يلعب الألعاب الرياضية في شيخوخته كأنه شاب، ويقاطع الخمر والنبيذ لأنه يراهما دون رجولته وسيطرته على نفسه.
إن مثل هذا الشيخ يجب أن يكون قدوة للشباب والشيوخ. يجب أن نعيش طول حياتنا في جهاد ضد الرذائل، وفي اكتساب للمعارف والعادات الحسنة، وفي خدمة لا تنقطع للوطن والعالم، وكل ذلك في كبرياء يجعلنا نعرف كرامتنا، ونؤثر الموت الشريف على الحياة الدنيئة والإيمان الذي يمليه علينا ذهننا وقلبنا على التالد الموروث من عقائد تهتك أعراض الضمائر.
الفصل السادس عشر
الاستقلال الروحي
يروي التاريخ عن أحد أئمة الدين أنه عاش طول عمره مؤمنا تقيا يخلص في عبادة ربه، ثم دب في قلبه الشك فلم تطق نفسه وقفة المتردد المرتاب، فكان يدعو الله قائلا: اللهم ألهمني إيمان العجائز.
وإيمان العجائز هو كما يعرف القارئ إيمان التسليم والتصديق، بل قل هو إيمان الخوف والضعف؛ لأنه إذا لم تكن العجوز خرفة تصدق كل ما يقال لها فلا أقل من أن تكون وجلة تقترب من ساعة الموت وفي قلبها وجيب الخوف، فهي لا تجادل ولا تعارض.
ومما يدعو إلى الاغتباط أننا قد عدونا هذا الطور، فليس منا من يجب أن يلهمه الله إيمان العجائز؛ لأنه يرى هذا دون كرامته الإنسانية وهو يجد في مواجهة الحقائق مع ما فيها من ألم الشك سرورا لا يجده ولا يحب أن يجده في التسليم بإيمان العجائز.
وليس معنى هذا أننا أقل إيمانا من السلف الصالح وإن كنا أكثر شكا منهم فيما اعتقدوه صوابا، وإنما نحن نختلف عنهم من حيث إننا أكثر رجولة منهم في مواجهة الدنيا كما هي والسكون إلى حقائقها والاعتماد في كل ذلك على عقولنا لا على ما نؤمر به ويشار به علينا.
كان أسلافنا يؤمرون بالإيمان بأحد الأديان أو العقائد فيطيعون، ولكننا نحن نحاول أن نؤمن بما توحيه إلينا ضمائرنا. نؤمن عفو القلب والعقل ونحن أحرار لا نخشى عقابا ولا نبالي بحساب سوى حساب الضمير.
ونحن فيما نتعناه ونكابده من هذا الإيمان الداخلي وآلام التردد والحيرة أشرف وأشجع من سلفنا الصالح الذي كان ينشد «إيمان العجائز»، ففي العالم الآن طائفة من الناس قد أخلصت النية لهذا العالم الذي هو وطننا الأكبر، وعرفت موقفها فيه وما عليها من تبعات نحوه، ولكنها مع إخلاصها للعالم تخلص أيضا لنفسها، وهي ترى من الإخلاص لنفسها أن تنشد الله بما فيها من قلب وعقل، وتتحسس وجوده في هذا الكون بما تهديها إليه بصائر نفوسها.
صفحه نامشخص