الكتب على رفوفها كائنات خرساء لمن جهل فك رموزها، ناطقة للقارئين؛ فالصفحة منها أمام أبصار القارئين ليست مدادا مخطوطا على ورق، بل هي ألسنة تتحرك في الأشداق بلفظ مسموع، مؤلفوها يتحدثون في مسامعنا عبر القرون. لقد أراد الله للصوت البشري ألا ينداح إلى أبعد من أمتار قليلة ثم يتبعثر ويموت، إلا أن تؤاتيه صفحة من كتاب، فعندئذ يطول مرماه حتى يبلغ - مع العباقرة الخالدين - أبد الآبدين.
الكتب على رفوفها جمهور ناطق، فيه من نماذج البشر ما طاب لك أن تجد؛ فيه العابد الناسك، وفيه الفقيه العالم، وفيه العربيد، فيه الشاعر ينشد اللفظ الجميل، والفيلسوف يتعقب في سكينة تأملاته ظواهر الأمور إلى أعماق جذورها. من ذا لا يريد أن يلمح قبسات من «طيبة» الفراعنة في مجدها أيام الكرنك، ومن «أثينا» اليونان في عزها أيام الأكاديمية، واللوقيون، ومن «بغداد» العرب في عنفوانها أيام الرشيد والمأمون؟ إذن هلم إلى هذا العالم المسحور، عالم الكتب! أدر الغلاف هنا فأنت في طيبة أو أثينا، أو أدره هناك وأنت عندئذ في بغداد المجد والأبهة والجلال.
4
الكتاب لسان اليد، وسفير العقل، وعدة المعرفة، وهو صلة الناس عند الفرقة، وأنس المحدثين على بعد المسافة، هو مستودع السر وديوان الحضارة.
ولو اقتصر أمر الكتاب على لغة صاحبه لاقتصر مداه على داره وأهله، لكن جاءت الترجمة من لسان إلى لسان، فجعلت كل كتاب - كائنا ما كان مصدره - ملكا للبشر أجمعين. تعالوا معي سويعة نقضيها في «بيت الحكمة» الذي أنشأه المأمون في بغداد ليكون دارا للترجمة عن كل ثقافات الأولين. انظروا! هذه فلسفة اليونان وعلومهم قد جرت على الصفحات عربية، وتلك ثقافات مصر والهند وفارس قد جاءت لتكون منذ اليوم ملكا للعقل العربي يستخدمها كيف شاء؛ أخذا وتحويرا وتعديلا، فما هو إلا أن ولدت للدنيا ثقافة جديدة، وبالترجمة مرة أخرى نقلت هذه الثقافة العربية إلى أوروبا القرون الوسطى، فإذا بنهضة عندهم تشرق شمسها مؤذنة بحضارة جديدة، هي التي يعيش العالم اليوم في امتداد رحابها.
ولننظر نظرة خاطفة إلى القليل من حضارة عصرنا هذا الذي تحيا فيه الأمة العربية اليوم حياتها؛ لنرى كم هي مدينة فيه إلى الترجمة من اللغات الأخرى، كأنما تلك اللغات أرادت أن تقتص من العربية ما ترد به دينا على تلك اللغات لها منذ قديم، فماذا كنا نعلم في مدارسنا وجامعاتنا، وماذا كانت تنشر صحفنا وكتبنا ومجلاتنا، وكيف كانت تدار مصانعنا ومتاجرنا، بل كيف كانت لتقام لنا دول وحكومات ومؤسسات وضروب من الرياضة اللهو، إذا لم نكن قد ترجمنا إلى لغتنا حضارة عصرنا ممن شاء لهم القدر أن يملكوا اليوم زمامها؟
ولعل البذرة الأولى في ذلك كله، كانت هي التي وضعها في مصر رفاعة الطهطاوي فيما أسموه مدرسة الألسن، في الثلث الأول من القرن الماضي؛ فقد أغلق هذا الرائد باب معهده على طلابه، لا يشهدون نور الطريق قبل أن يترجموا عن الفرنسية والإيطالية كذا وكيت من عيون الحضارة الغربية، ولم تكن الترجمة عن الإنجليزية قد بدأت عندنا بعد. ومن ذا يتصور الطهطاوي في جلسته تلك يعب لنا من أفكار العصر، ولا يتذكر نظيره حنين بن إسحاق في جلسته المماثلة في «بيت الحكمة» أيام المأمون؟ وهكذا كان الكتاب نافذة أطل منها العرب القدماء على دنياهم الفكرية.
ثم كان نافذة أطلت منها أوروبا القرون الوسطى على دنيا العرب الفكرية، ثم بات لنا نافذة نطل منها بدورنا على دنيا الفكر في أيامنا هذه، وفوق أن يكون الكتاب نافذة للحضارات تنتقل الحضارات خلالها من مكان إلى مكان حتى تعم العالم كله، فالكتاب هو الذي تتجسد فيه الحضارات والثقافات جميعا. بماذا تجيب لو سئلت: أين حضارة الهند القديمة وثقافتها؟ إنك لا بد قائل عندئذ: هي في الماها بهاراتا واليوبانشاد. أو سئلت: وأين حضارة اليونان الأقدمين وثقافتهم؟ فسوف تجيب: هي في محاورات أفلاطون ومنطق أرسطو وأمثالهما. أو سئلت: أين أجد ثقافة العرب الأقدمين؟ فيكون الجواب شيئا كهذا: إنك واجد تلك الثقافة عند الخليل في القرن الثامن، وعند الجاحظ في القرن التاسع، وعند التوحيدي في القرن العاشر، وعند أبي العلاء أو الغزالي في القرن الحادي عشر. وهكذا لا سبيل إلى لقاء الثقافات إلا أن نراها مكثفة مبلورة في كتاب أو كتب.
وبعد هذا، فكيف يحاور رجال الفكر بعضهم بعضا على مبعدة بينهم من مكان أو زمان؟ إنهم يفعلون ذلك عن طريق الكتب، فها هو ذا أرسطو يكتب رسائله المنطقية في القرن الرابع قبل الميلاد، ويطلق عليها «الأورجانون» - أي آلة التفكير - فيرد عليه فرانسيس بيكون في القرن السادس عشر بعد الميلاد بكتابه «الأورجانون الجديد» ليدحض دعواه، وليقيم للناس مكان البناء الأرسطي بناء جديدا. وهذا هو الغزالي يكتب في مشرق الوطن العربي كتابه «تهافت الفلاسفة»، فيرد عليه ابن رشد في مغرب الوطن العربي بكتابه «تهافت التهافت» بعد ما يقرب من قرن كامل. والحق أنها لمن أمتع اللذائذ العقلية أن تعبر نهر الزمان مع هؤلاء المفكرين جيئة وذهوبا؛ لترى كيف يجادل بعضهم بعضا فوق رءوس الزمان، وبرغم حواجز المكان. نعم، هي من أمتع لذائذ الكتاب أن يفك عنك قيود الزمان والمكان، فتحس كأنك قد أصبحت مع اللامتناهي في عالم الخلود.
5
صفحه نامشخص