لقد قال العارفون بحق عن هذا الكتاب، إنه - على صغر حجمه - كان خاتمة لعهد، وفاتحة لعهد؛ فلقد أراد به مؤلفاه لا أن يكون كسائر الكتب، بل أرادا به أن يجيء بيانا «عن المذهب الجديد في الشعر والنقد والكتابة»، ولقد كانا يطمحان أن يكملاه عشرة أجزاء، لكنهما وقفا عند هذين الجزأين، وهما يقولان عنه في مقدمته: «إنه إقامة حد بين عهدين، لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي. إنساني لأنه - من ناحية - يترجم عن طبع الإنسان خالصا من تقليد الصناعة المشوهة، ولأنه - من ناحية أخرى - ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة - ومظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة. ومصري لأن دعاته مصريون، تؤثر فيهم الحياة المصرية. وعربي لأن لغته العربية.»
والكتاب مؤلف من فصول في نقد شوقي والمنفلوطي والرافعي ممن تربعوا على عروش الشعر والنثر والبلاغة بمفهوم ذلك الزمن، وأعجب ما فيه أنه كذلك نقد لزميل لهما في المذهب الأدبي، هو عبد الرحمن شكري.
قرأته هذه المرة، فلم يكن كل الأثر عندي إعجابا خالصا، كالذي كان عند القراءة الأولى منذ نصف قرن كامل، فبقدر إعجابي الذي لم ينقص منه شيء، فيما يتصل بسعة الأفق وعمق الأغوار عند الناقدين العظيمين، كان نفوري - هذه المرة - من الشتائم اللاذعة الشنيعة التي تخللت السطور بغير داع، فما الذي يضاف إلى الفكر الإنساني، أو إلى الذوق الأدبي، أن توصف المجلات التي كانت تنشر إعجاب المعجبين بشعر شوقي بأنها - ولهذا السبب - «خرق منتنة»، وأن يوصف الكاتبون فيها بأنهم «حشرات آدمية»، وأن توصف المادة التي يكتبونها بأنها «خبز مسموم تستمرئه تلك الجيف التي تحركها الحياة لحكمة كما تحرك الهوام وخشاش الأرض.»
وماذا يفيد القارئين - وكلهم كان قارئا عندئذ للمنفلوطي - أن يقال لهم عنه إنه لا هو بالكاتب ولا بالأديب إلا إذا كان الأدب كله عبثا في عبث لا طائل تحته. ويستطرد الناقد (وهو هنا المازني) ليقول: سمعت بعض السخفاء من شيوخنا المائقين يقول: «إن في أسلوبه حلاوة.» ولو أنه قال «نعومة» لكان أقرب إلى الصواب، ولو قال «أنوثة» لأصاب المحز. ولكن المازني أيضا هو الذي تصدى للهجوم على زميلهما في المذهب عبد الرحمن شكري، وكان هجومه من العنف وحرارة الغيظ ما يؤيد الذي كنا سمعناه في ذلك العهد، بأنه أخذ بالثأر لما قاله شكري في نقد المازني.
أقول إني قرأت كتاب «الديوان» بعد هذا العمر الطويل، لأجد إعجابي بسعة الأفق وغزارة المضمون قائما كما كان أول عهده، لكنه إعجاب مصحوب بالضيق لما جاء في السياق من أنواع السباب التي لا تقدم في عملية النقد نفسها ولا تؤخر. أستغفر الحق، بل إنها تؤخرها بغير شك.
وهل كان بوسعي إلا أن أقارن بين المناخ النقدي الذي ساد العشرينيات وما يسود اليوم؟ لقد كان انطباعي السريع من هذه المقارنة أن مناخ اليوم قد اختلف في الوجهين معا؛ فلقد خسرنا في السعة والعمق، وكسبنا بأن قلت طريقة الشتائم التي تنسج السباب مع خيوط النقد كأنهما اللحمة والسدى، فلم يعد نقادنا اليوم - والحمد لله - يمزجون النقد بالشتم إلا قليلا.
على أن هنالك نقطتين يلتقي عندهما العصران، فما نزال حتى اليوم - كما كانوا بالأمس - نحاول أن نقيم الأدباء ورجال الفكر بالدعاية، وأن نحطمهم بالدعاية أيضا أو بالصمت عنهم، دون أن تكون تلك الدعاية أو هذا الصمت مما توجبه حالة الأمر الواقع دائما؛ ففي كتاب «الديوان» يوجه المؤلفان هذه التهمة إلى شوقي وإلى المنفلوطي، فيقولان مثلا: «إن هذا الرجل يحسب أن لا فرق بين الإعلان عن سلعة في السوق، والارتقاء إلى أعلى مقاوم السمعة الأدبية والحياة الفكرية؛ فإذا استطاع أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والزمور، في مناسبة وغير مناسبة، وبحق أو بغير حق، فقد تبوأ مقعد المجد وتسنم ذروة الخلود، وعفاء بعد ذلك على الأفهام والضمائر ...»
تلك نقطة التقاء بين اليوم والأمس، ونقطة التقاء أخرى هي أننا ما زلنا إلى اليوم على ما كانوا عليه بالأمس، نمزج بين الموهبة الأدبية الصحيحة، وبين منزلة الرجل في مناصب الدولة أو فيما يشبهها من مواقع النفوذ والجاه، وفي ذلك يقول كتاب «الديوان» عن معاصريه: «إنهم اعتادوا أن يرتبوا المواهب على حسب الوظائف والألقاب، فمن هؤلاء من كنت تسأله ترتيب الشعراء فيقول لك: أولهم محمود سامي باشا البارودي (لأنه باشا عتيق)، وثانيهم إسماعيل صبري باشا (لأنه أحدث عهدا بالباشوية والوزارة)، وثالثهم أحمد شوقي بك (لأنه بك متمايز)، ورا بعهم حافظ بك إبراهيم (لأنه أحرز الرتبة أخيرا)، ويلي ذلك خليل أفندي مطران (لأنه حامل نيشان)، فطائفة الأفندية والمشايخ وهلم جرا. كأنما يرتبونهم في ديوان التشريف لا في ديوان الآداب!» (والناقد هنا هو العقاد).
لقد أقعدني المرض لفترة لم تطل، وعادني واحد من الأبناء الزملاء، فكان مما قاله لي في سياق حديثه، إن ناقدا - نسيت اسمه - كتب في إحدى مجلاتنا الأدبية - نسيت اسمها - (وكان نسياني في كلتا الحالتين راجعا إلى مرضي الذي لم يجعل لي ساعتها وعي الأصحاء، ولا شأن له بمكانة المجلة أو الناقد)، قال لي زائري إن ناقدا هاجمني هجوم الشتم، وموضع السخرية هو أن ذلك قد حدث في الفترة نفسها التي قيل فيها إن أصحاب الأقلام مدعوون لتكريم زميل لهم بلغ السبعين من عمره، فعفوت بيني وبين نفسي عن الشتائم وما شتم، لكنني دعوت الله مخلصا أن تكون هذه حالة طارئة عابرة، وألا تكون بداية لعودة النقد بالشتائم الذي ساد العشرينيات، وإلا فقد خسرنا ما كسبناه، وخسرنا معه ما كان عند رجال العشرينيات من سعة الأفق وعمق الأغوار.
دور الكتاب في حضارة الإنسان
صفحه نامشخص