4
وليس التداعي اللفظي وحده هو الذي ينقلني هنا إلى الحديث عن أرسطو وأفلاطون ونحن في مجال الحديث عن النقد الأدبي وطبيعته، بل إن مادة الحديث نفسها ومنطقها يحتمان علينا أن نقف عند هذين الفيلسوفين اللذين منهما يبدأ تياران في النقد الأدبي، قد يندمجان عند أصحاب النظر في تيار نقدي واحد؛ ففي ظاهر الأمر قد يبدو هذا الاختلاف بين الفيلسوفين في النظر: أفلاطون يستخدم المنهج الديالكتيكي الذي مؤداه أن يبدأ من الأمور الواقعة فراجعا بالتحليل إلى الكشف عن المبدأ أو عن الفكرة التي تكون دفينة في أرض الواقع، لكنها تكون صافية خالصة في سماء الفكر المجرد، فإذا رأيت بالعيان المباشر مثل هذه الفكرة كانت هي الحق الذي تمسكه وتتمسك به لتفهم على ضوئه كل ما قد يعرض لك من وقائع العالم من حولك، وقد طبق هذا المنهج الديالكتيكي على صورة الدولة كيف تكون في نقائها، فإذا هي دولة تحتكم إلى العقل لا إلى العاطفة في كل شئونها، وإذن فهي دولة لا تعرف الشعر، ولا الأدب، ولا الفن؛ لأن هذه كلها أمور تحاكي الحق، وليست هي الحق، فضلا عن كونها تستثير العواطف، والعواطف غير مرغوب فيها في الدولة المثلى. وهذا قول هو في حد ذاته ضرب من النقد الأدبي، استخدم فيه صاحبه كل ما حوله من علم ومعرفة. وأما أرسطو فقد وضع أسسا نقدية في كتابه «الشعر» ما يزال نقاد كثيرون إلى يومنا هذا يعدونه المنبع الثر الأصيل الذي تنبثق منه الدراسات النقدية على اختلاف ألوانها، حتى لتطلق مدرسة من أهم مدارس النقد الحديث على نفسها اسم «المدرسة الأرسطية الجديدة في النقد»، ومبدؤها هو ألا يبدأ الناقد بمذهب مسبق أو بفكرة معينة - كما قد يؤدي إليه الموقف الأفلاطوني - بل يبدأ الناقد بدراسة الأعمال الأدبية الجزئية ذاتها، قصيدة قصيدة، وقصة قصة، ومسرحية مسرحية، قبل أن يكون لنفسه الرأي الذي يكونه.
والذي يعنينا في هذين الموقفين، هو أن أحدهما استنباطي يبدأ بالمذهب ثم يهوي به على رءوس الأعمال، فإما خضعت لمذهبه أو فليقذف بها إلى الجحيم، وأما الآخر فهو استقرائي يبدأ بالأعمال الجزئية ذاتها ليعالجها بما تقتضيه خصائصها الخاصة المتفردة المتميزة، وله بعد ذلك أن يكون منها اتجاها عاما في النقد إذا سمح له الموقف بذلك. ولو كان لي أن أختار للنقاد أحد الموقفين، فلست أتردد في اختيار الموقف الأرسطي الذي يبدأ بدراسة الأعمال قبل أن يتمذهب بهذا الاتجاه أو ذاك، وأغلب الظن أن لو بدأ النقاد دائما بالأعمال - غير مقيدين بمذهب سابق - فلن يجدوا بينهم معتركا يعتركون فيه؛ إذ العراك - كما هو مشاهد بين المشتغلين بالنقد عندنا - سره أن النقاد يختارون المذاهب قبل الأعمال، أقول إن أغلب الظن أنهم لو بدءوا بالأعمال دائما، لامتنع العراك؛ لأن الأمر لا يعدو عندئذ - كما بينت - أن يتناول كل منهم تلك الأعمال من زاوية، فتجيء الزوايا كلها - بالنسبة إلى عامة القراء - متكاملة متعاونة، لا متضاربة متصارعة.
5
النقد كتابة عن كتابة، ولكي تغوص الكتابة الناقدة في أحشاء الكتابة المنقودة، لا بد لصاحبها أن يتذرع بكل ذريعة ممكنة، فلا يترك أداة صالحة إلا استخدمها؛ فإن كان العمل بجميع الأدوات دفعة واحدة أمرا عسيرا - وإنه لعسير - لم يكن بد من أن تتقسم العمل مجموعة النقاد؛ لينظر كل من زاوية، وليستخدم كل منهم أداة، فتكون الحصيلة الحاصلة بأسرها هي النقد الذي يتطلبه مؤلف الكتاب المنقود، كما يتطلبه قارئ ذلك الكتاب. وإن عسر العملية النقدية هذا ليذكرنا بما أجاب به أبو حيان التوحيدي وزيره عندما طلب منه الوزير أن يوازن له بين الشعر والنثر - وهي عملية نقدية - فقال أبو حيان (راجع الليلة الخامسة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة): «إن الكلام على الكلام صعب. قال: ولم؟ قلت: لأن الكلام على الأمور، المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها، التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس، ممكن. فأما الكلام على الكلام، فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه ...» ويريد أبو حيان بعبارته هذه أن يقول إن التحدث عن الأشياء المحسة، أو عن الأفكار الواردة على الذهن، أمر ممكن ميسور. بعبارة أخرى، إن قول الأدب وصياغة العلم أمر سهل؛ لأن له ما يرتكز عليه من محسوس أو من معقول، أما التحدث عن هذين، التحدث عن الأدب أو عن العلم، فأكثر صعوبة. وإذا كان هذا هكذا، أفلا ندهش حين نرى نفرا من كتابنا الشبان يستخفون الحمل الثقيل، ويضربون بأقلامهم على صفحات النقد من الصحف، غير مزودين إلا بأقل القليل من الأدوات التي تعين الناقد على أداء مهمته؟
وكائنة ما كانت الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى العمل المنقود، فلا يجوز أن يجيء كلامه خبطا وخطفا، كأنه المسافر العجلان يسرع الخطى ليلحق بالقطار، والقطار هنا هو الصحيفة اليومية أو الدورية أو هو الراديو أو التليفزيون، يتعجله أن يكتب شيئا أي شيء عن كتاب أي كتاب! بل لا بد للناقد من دراسة متأنية جادة، مستندة إلى علوم وإلى مطالعات في القديم وفي الحديث؛ لأن الناقد لا يكتب لتسلية قارئه، إنما يكتب ليساعد القارئ على فهم عمل فني معين فهما صحيحا، وتذوقه تذوقا بصيرا، كما فعل الدكتور طه حسين في كتابه «مع المتنبي»، وفي «حديث الأربعاء»، أو هو يكتب ليساعد الفنان نفسه على فهم فنه وحسن تقويمه ليعين ذلك على تقدم الفن وتطوره، كما فعل العقاد والمازني في «الديوان»، أو هو يكتب ليخلق جيلا جديدا من الأدباء في فرع من فروع الأدب، كالقصة أو المسرحية، بعد أن لم يكن الانتباه موجها إلى ذلك الفرع، كما يفعل لويس عوض بالنسبة إلى الفن المسرحي، أو هو يكتب ليغير اتجاه الأدب من طريق إلى طريق، كما يفعل نقاد الشعر العمودي أو نقاد الشعر الحر، كما فعلت نازك الملائكة في كتابها عن الشعر الحديث.
على أنني بعد أن أقررت لشتى المذاهب النقدية بضرورة قيامها معا، متعاونة على الإحاطة بالعمل الأدبي من جميع نواحيه، ملتمسة طريقها إلى صميم ذلك العمل في جوهره ولبابه، واصلة بينه وبين كل ما يتصل به خارج حدوده، من سيرة الكاتب، ومجرى شعوره ولا شعوره، ومن ظروف اجتماعية أحاطت بالكاتب فأوحت له بما أوحت، ومن تاريخ سابق أوصل إليه موروثا طويلا عريضا، أقول إنني بعد أن أقررت لشتى المذاهب النقدية بضرورة قيامها معا لتبصير القارئ العادي بما ينبغي له أن يلم به لكي يزداد علما وتذوقا بالكتاب الذي يقرؤه، فإنني أود أن أخصص القول في الزاوية التي أتمنى لنفسي النظر منها كلما أردت دراسة نقدية لكتاب أدبي، أو لقصيدة من قصائد الشعر، ولن أجبن هنا عن الاعتراف بأنني حاولت هذه النظرة بالنسبة لطائفة من الأعمال الأدبية، على سبيل التطبيق، ولكني لم أوفق إلى شيء يرضيني لأنشره في الناس.
وأما هذه الزاوية التي أوثرها على سواها في العمل النقدي، فهي تلك التي تعمد إلى تحليل النص نفسه تحليلا كاملا شاملا؛ لنعرف كل ما يتصل به، ثم يتهيأ لنا بعد هذه المعرفة أن نستدل ما نستطيع استدلاله. وليس مثل هذا النقد المعتمد على تحليل النص بالشيء الجديد في تاريخ النقد عامة، والنقد العربي بصفة خاصة؛ فذلك هو طريق الناقدين القدامى بغير استثناء، وهو طريق ربما شقه أمامهم عمل الفقهاء في تحليل النص القرآني تحليلا يمكن صاحبه من استخراج الأحكام، إما من ظاهر الآيات أو من تأويلها، فاصطنع النقاد شيئا كهذا في تحليل الشعر بيتا بيتا، وكلمة كلمة؛ إعرابا، وتركيبا، وبلاغة، وغير ذلك مما يتصل بالنص المنقود من نواحيه جميعا، لولا أن نقادنا الأقدمين كانوا يعقبون على مثل هذا التحليل بتقويم يقومون به المادة المنقودة، فيقولون إن هذا البيت «أفضل» من ذلك، وهذا الشاعر «أشعر» من أخيه، وأما التحليل على أيدي النقاد المحدثين - والعجب أنهم يسمون في أوروبا وأمريكا بأصحاب المدرسة «الجديدة» في النقد - فلا ينتهي بتقويم؛ لأن التقويم لم يعد من مهمة الناقد اليوم، باستثناء نفر جد قليل، منهم: إيفور ونترز.
فالنقد القائم على تحليل النص نفسه هو الطريقة الوحيدة بين سائر الطرق النقدية، التي تخلص لعملها وهدفها إخلاصا يدعوها إلى البقاء على أرضها وفي ميدانها دون التطفل على ميادين أخرى؛ ذلك أن الناقد الذي ينظر إلى الكتاب المنقود نظرة التحليل النفسي - مثلا - يمكن اعتباره من علماء النفس بقدر ما يمكن اعتباره من نقاد الأدب، والناقد الذي ينظر إلى الكتاب المنقود نظرة اجتماعية، يحاول أن يتخذ منه وثيقة تدل على أوضاع معينة في حياة المجتمع، يمكن إدخاله في زمرة علماء الاجتماع بقدر ما يمكن إدخاله في زمرة نقاد الأدب، وهكذا. وأما الناقد الذي ينصرف بكل جهده نحو تحليل النص الأدبي نفسه، فهو لا شيء إلا ناقد أدبي خالص.
ولو كان لي مثل أعلى في النقاد المحدثين أود لو استطعت احتذاءه بالنسبة لأعمال أدبية عربية، كان ذلك المثل عندي هو كنيث بيرك، وليتني أستطيع أن أنقل إلى القراء نموذجا لصناعته، إذن لرأوا بأعينهم كيف يكون النقد عملا جادا شاقا عسيرا، يحلل القطعة الأدبية وكأنه كيماوي يحلل في مخابيره قطعة من الخشب أو الحجر، إنه لا عاطفة هناك، ولا سخاء في المدح والقدح؛ لأنه لا مدح ولا قدح، فالأمر أمر تحليل صرف ينصب على عبارة العمل الأدبي من أول لفظة ترد فيه إلى آخر لفظة؛ ليرى - مثلا - كيف ترد لفظة بعينها في سياقات مختلفة من الكتاب، وهل بمقارنة هذه السياقات يمكن الوصول إلى استدلال معين بالنسبة إلى ما يرمز إليه العمل الأدبي، حتى وإن لم يكن المؤلف نفسه على وعي به؟ هل قلت إنه تحليل يبدأ من أول لفظة ترد في الكتاب؟ إنني إذن قد أنسيت أنه يبدأ من العنوان وصياغته؛ فبعد أن يستوثق من أن هذه الصياغة لم تراع الإعلان التجاري وجذب الأنظار والأسماع نحو الكتاب ليروج في السوق، ينظر ليرى إن كان في لفظ العنوان دلالة أي دلالة. إن النظرة السطحية وحدها هي التي تأخذ لفظ العمل الأدبي بمعناه القاموسي، وكان الله يحب المؤمنين، أما النظرة الفاحصة، فقد تجد لفظا بعينه في عمل أدبي معين، قد ورد ورودا يربطه بمعان آخر، فلفظ «المستقبل» تتقصاها عند شيكسبير فتجدها في سياقاتها مقرونة بالشر والدمار، وتتقصاها عند براوننج فتجدها موحية بالثقة والتفاؤل. إن «قطع شجرة سامقة» قد يرد في كتاب أدبي عدة مرات في سياقات مختلفة، فيتقصاها صاحبنا الناقد، ويقارن بين تلك السياقات؛ ليجد أن قطع الشجرة السامقة إنما جرى ذكره على قلم الأديب عن وعي منه أو غير وعي؛ ليرد عنده إلى قتل صاحب السلطان، أو قتل الأب كما يقول علماء النفس الفرويدي، وهكذا وهكذا.
صفحه نامشخص