در جهان رؤیا: مقالات منتخب جبران خلیل جبران
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
ژانرها
وصل هؤلاء إلى المقبرة وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية، ثم رجعوا بسكينة مؤثرة والكلب يلتفت نحو محط رحال رفيقه، حتى اختفوا عن بصري وراء الأشجار.
فالتفت إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء.
ثم نحو مدينة الأموات وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء. فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟
قلت هذا ونظرت نحو الغيوم المتلبدة المتلونة أطرافها بذهب من أشعة الشمس الجميلة، وسمعت صوتا من داخلي يقول: هناك.
وعظتني نفسي
وعظتني نفسي فعلمتني حب ما يمقته الناس ومصافاة من يضاغنونه، وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب، بل في المحبوب، وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين، أما الآن فقد تحول إلى هالة، أولها آخرها وآخرها أولها، تحيط بكل كائن، وتتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة حتى يبدو لي حسنا، وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان، أما الآن فقد تبدد الدخان واضمحل فلم أعد أرى سوى ما يشتعل.
وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة، ولا تضج بها الحناجر. وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضا، لا أعي سوى الجلبة والصياح، أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة، فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب. •••
وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر، ولا يسكب بكئوس لا ترفع بالأيدي ولا تلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد، أخمدها بغبة من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي، وأنا لا ولن أرتوي. ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ مسرة لا تزول. •••
وعظتني نفسي فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول ، وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه. وقبل أن تعظني نفسي كنت أكتفي بالحار إن كنت باردا، والبارد إن كنت حارا، وبأحدهما إن كنت فاترا. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المتكمشة وانقلبت ضبابا دقيقا، يخترق كل ما ظهر من الوجود ليمتزج بما خفي منه. •••
صفحه نامشخص