قلت: لا حاجة إلى البحث عن اسم آخر للفن القديم، فهو هو التصوير الذي يصنعه المصورون، أما هذا فهو ألغاز وأحاجي كتلك الألغاز والأحاجي التي تنشر في صحف التسلية عن الحروف المتقطعة، والأرقام المثلثة أو المربعة، أو عن العيون التي ليست لها آناف، والآناف التي ليست لها عيون، وكلها من عمل الملغزين والمفسرين فلا اختصاص بها للمصورين والنحاتين دون غيرهم من العالمين.
قال صاحبي: ونستغفر الألغاز والأحاجي قبل هذا التشبيه بين الفنين، فإن الألغاز والأحاجي ترجع إلى تفسير يتفق عليه كل من يفهمها بلا استثناء، أما هذه البقع والخطوط والأصباغ، فهي شيء لا يفهمه غير صاحبه، ولا يستطيع أن يعمم فهمها بين طائفة من الناس، فكل صورة هنا كلمة من لغة لا يعلمها إلا إنسان واحد، إن صح أنها شيء معلوم. وقد كانت الفنون لغة إنسانية عامة يفهمها على البداهة من لا يتفاهمون باللغات، فأصبحت على أيدي هؤلاء المجان خرافة سرية في ذهن رجل واحد لا يمثلها مرتين على نمط معروف.
ثم أومأ صاحبي إلى صحائف الإحساسيين، فقال: هؤلاء هم الذين فتحوا الباب - جزاهم الله!
قلت: أصبت، إنهم هم الذين فتحوا باب التصرف في الأصول الموروثة، ولكنهم أصابوا في فتحه، وهؤلاء دخلوا فيه ولكنهم دخلوا واغلين.
لقد كان الأساتذة الأقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون، فجاء من بعدهم أساتذة المدرسة «الإحساسية»؛ ليصوروا ما يحسون وما يشهدون.
كان الأستاذ القديم يعلم وهو يصور الشجرة أن لها غصونا وأوراقا، فيصورها ذات غصون وأوراق مفروزة كما يعلمها، وإن كان يراها من حيث يجلس لتصويرها لونا أخضر، لا تنفصل ورقة فيه عن سائر الأوراق.
وكان الأستاذ القديم يحسب الظل سوادا؛ لأنه نقيض البياض، وإن كان ليضرب أحيانا إلى لون البنفسج أو الرماد.
فجاء الإحساسيون فأصلحوا هذا وذاك وكان لهم الفضل والتوفيق في هذا الابتداء.
وكأنما حسب الذين خلفوهم أن التصرف مقصود لغير غرض مقصود، فوصلوا إلى ما هم فيه من هذيان المجانين.
كان الأقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون، وكان الإحساسيون الصادقون يصورون ما يحسون ويشهدون، فجاء من بعدهم من يصورون ما يتوهمون، وجاء من بعد هؤلاء من يصورون ما يزعمون أنهم توهموه، وهم كاذبون.
صفحه نامشخص