در اوقات فراغت
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرها
أستغفر الله فقد ابتدعت في الأندلس صيغ وأوزان في الشعر جديدة أخذها مشارقة المسلمين عنهم. كما أن الشعر العربي والنثر العربي تأثرا بكل حياة جديدة مرا بها في تصويرهما المعاني. لكن أكبر عوامل هذا التجديد ليسوا العرب الأعراب، وإنما هم الذين دخلوا في الإسلام واتخذوا اللغة العربية لغة لهم. وقد يكون من الأعراب من تابعهم. لكن العرب الذين نزحوا من شبه الجزيرة ظلوا أغلب أمرهم محتفظين بكيانهم القديم، كما ظلوا أدوات اتصال بين الأمم التي شاركتهم دين الهدى والحق.
على أن أكبر ما يسر للعرب الإشراف على قيام حضارة مشتركة بين هذه الأمم المتجاورة ما تربط الطبيعة به هذه الأمم من أواصر، فهي جميعا ترجع إلى أجناس متقاربة، كما أن وسائل الاتصال بينها عريقة في التاريخ تقرب بينها اليوم كما كانت تقرب بينها من قبل. ميسورة بسبب وقوعها جميعا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط أو على مقربة منه. ولقد كانت الحضارة التي قامت على شواطئ هذا البحر متقاربة أبدا. وكان التفاهم لذلك بين أممه ميسورا.
وكان فضل العرب الأكبر أنهم جاءوا إلى هذه البلاد في عصر انحلت فيه عناصر قوتها المعنوية وتخاذلت النفوس، فدفعوا إليها من قوتهم ومن إيمانهم الجديد نشاطا وقوة وتماسكا حفزتها للعود بحضاراتها إلى الإنتاج والتقدم كما قربت بين هذه الحضارات وأدمجتها في الحضارة الإسلامية. واتصال العرب بهذه الأمم جميعا اتصال جوار وجنس وتجارة مكن لهذه الحضارة الجديدة أن تؤتي كل ثمراتها، وأن تبدع في مظاهر الفكر والفن والعلم مبتكرات ما يزال أثرها إلى اليوم باقيا.
هذه الأواصر التاريخية القديمة التي تربط أمم الشرق العربي بروابطها المتينة إلى يومنا الحاضر هي التي جعلت اللغة العربية والحضارة الإسلامية تبقى في أكثر البلاد التي أقام فيها العرب واتصلوا فيها بروابط النسب والقربى. أما الدول التي لم تكن متينة الارتباط التاريخي بالحضارة الجديدة كالأندلس وفارس، فقد عادت إلى عناصرها لأول ما دخل على السلطان العربي الضعف والانحلال. وها نحن أولاء تشهد أعيننا اليوم كيف تنبض هذه الأمم بدقات قلب واحد حين بدأ يدب فيها من جديد دبيب الحياة والقوة برغم ما تعانيه من ذل وأسر. فهذا المظهر وحده يدل على أنها جميعا اليوم على أبواب جدة (Rénaissanee)
كجدة أمم الغرب في القرن الخامس عشر، ولا يمكن أن تنفرد إحداها بهذه الجدة ما دامت الحضارة الإسلامية التي نشر العرب لواءها هي مرجع هذه الجدة، وهي التي تطعم عليها حضارة الشرق العربي الجديدة، كما طعمت حضارة العرب أيام جدته على مدنية اليونان والرومان.
أليس عجبا أن نذكر في هذا الظرف الذي يحدونا فيه الرجاء، ويملأنا الأمل في أن نرى جدة مدنية الشرق العربي كيف كان هؤلاء العرب الأعراب - ولا حضارة لهم - سببا في تكوين الحضارة الإسلامية وفيما خلفت من آثار جمة في العالم، أوليس عجبا كذلك أن يظل هؤلاء العرب الأعراب إلى يومنا هذا ولا حضارة لهم لأن واديهم غير ذي زرع لا يصلح مستقرا للحضارة وأدواتها من فن وعلم وفلسفة. وأعجب من كل هذا أن أولئك الذين لا حضارة لهم قد أقروا في منابت أكبر حضارات شهدها التاريخ لغتهم، فربطوا بذلك بين أمم هذا الشرق بأوثق رباط، وصار حتما مقضيا على هذه الأمم أن تتفق حضارة ومصائر ما اتفقت لغة وعادات. ولكن لا عجب؛ فإنما الإيمان الذي رفع النفس العربية إلى المستوى السامي الذي يبعث النفس الإنسانية إلى التقدم نحو الكمال هو الذي بعث الحياة الإنسانية في نفس الأمم التي أضعفها الاستعباد والترف، فانتقلت بإيمانها طفرة إلى النشاط الصالح، وأقامت الحضارة التي بعثت إلى الكون حياته مئات من السنين.
ولقد كان الإيمان منذ بدأت الإنسانية هو القوة الدافعة إلى الرقي والتقدم، وكان قوام الحضارات في مصر وآشور واليونان ورومة كما أن الإيمان بالعلم وسلطانه هو قوام المدنية الغربية الحاضرة. وإيمان شعوب الشرق العربي في هذا العصر الحاضر هو الذي يبعث في كل نفس أكبر الأمل بأن أمم هذا الشرق ستقوم عما قريب بدور عظيم في أدوار حياة الإنسانية.
صفحه نامشخص