در اوقات فراغت
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرها
لذلك كان كل شيء مما ترى تظهر عليه هدأة السكون؛ سكون يخيل لك معه أن هذه الأشياء تائهة في أحلام مبهمة وخيالات بعيدة. ليس ثمت ما يكدر على شيء منها صفو أحلامه، ليس ثمت ما يمنع الصرصار من أن يستمر في صفيره، ولا ما يقطع على الضفدع نقيقه ثمانية أشهر في السنة؛ ليس ثمت ما يزعج الحمر عن مرابطها من قيظ محرق أو قر مخيف؛ ليس ثمت ثلج يترك الأشجار مدة الشتاء عابسة قائمة؛ ليس ثمت تلك الاختلافات التي تجيء بها الطبيعة في بعض البلاد فتغير وجهها ما بين فصل وفصل، وتغير لذلك معالم كل الموجودات التي عليها؛ وليس ثمت تلك الحواجز الطبيعية التي تستثير في كل مخلوق حب الاستطلاع، أو تستدعي منه صرف المجهود للتغلب عليها.
وليس هذا السكون الذي ترى سكون الصحراء البلقع المقفرة، بل إن ذلك الوادي المفرد في عزلته هو مستقر النضرة والنعيم ؛ فنهره الفياض يجود عليه كل عام بماء الحياة، ويجعل من أرضه روضة يانعة كلها الخصب والثروة.
ولقد بلغ من ذلك حتى ذهب الأقدمون إلى أن النهر يستمد ماءه الغني من ينابيع الجنان، وأن الوادي قطعة من رياض الجنة. وتفننوا في تصوير ذلك ما شاء لهم الخيال المتدفق الذي يتغنى بكل موجود على ضفاف النهر.
وعلى الرغم من هذه الثروة التي يجود بها النهر على واديه ترى حكم الطبيعة المتشابهة الساكنة على كل ما في الوادي حكما قاسيا يخضع كل شيء لشدته؛ فإنك تمر وسط الحدائق والمزارع والمروج بقرى كلها من اللبن متضائلة تائهة في سكون الوادي كأنها بأكواخها الترابية اللون آثار بالية مما خلف الماضي، أو هي أوجرة وأوكار لتلك الحيوانات الضئيلة المستسلمة، فإذا ما دخلت أحدها صدق الواقع ظنك فوجدت نفسك في غرف مظلمة لا يجد النور إليها سبيلا إلا كرها، ثم إذا أضاءها أصحابها ليطلعوك على ما فيها جاءوك بمصباح قذر قليل النور، فرأيت على شعاعه جدرانها السوداء العارية، وأرضا ربما غطاها فرش من الحصير أو القش. وهناك عند أحد الأركان معلقة جريدة من سعف النخل تحمل كل ما في الدار من فرش ودثر وما لأصحابها من ملابس وأردية. وإن أنت عثرت في بعض القرى بمنزل ذي نوافذ، وفي نوافذه زجاج، كان ذلك دليل ما عند أهله من سعة ويسار غير عاديين. على أن هذا اليسار لا يحمل أحدهم ليدخل من مواد الترف إلى داره ما يثور على الطبيعة القانعة المستسلمة.
وفي هذا الوسط الخالد إلى السكينة يجد الضيف النازل رحبا وسعة، ولا يمر بخاطر موجود ممن في الوادي أن يحسب فيه منافسا أو مضايقا.
رزق الوادي يسعه ويسع غيره معه. وكل ما يطلب إليه أن لا يبالغ في الأذى، وأن لا يزعج موجودا عما هو فيه من أحلامه وسكينته. للتمساح إذا دخل في النهر أن يعيش مما يصل إليه من رزق؛ له أن يأكل ما ضعف عنه من الأسماك، ولكن عليه إلى جانب ذلك أن لا يثير في البر أو في الجو الفساد .
عليه أن يترك القوارب تخطر فوق مياه النيل كما تشاء.
عليه أن لا يخرج إلى حيث الناس والدواب فيقلقها عن مرافقها. فإن هو لم يفعل ذلك استعدى كل من في الوادي الآلهة، واستعانوا عليه بما قد يبعث أذاه إلى نفوسهم من الحركة والهياج ضده. والآلهة - وأكبرها الطبيعة - ضمينة أن تخرج هذا الضيف الذي لا يلائمها من ملكوتها ملكوت الحياة المطمئنة الساكنة.
فقد جاء في التاريخ أن النيل قذف أكثر من مرة بالتماسيح إلى شاطئه، ونزل عنها وتركها وسط الرمال في جو لا يلائمها، فذهبت ضحية مقامها في وسط غير وسطها.
وجاء أن بعض السباع عدا على البلاد، فخانه الوسط الطبيعي ولم يجد لنجاته سبيلا إلا الرحيل، وكل ما بقي من الضيفان من خضع للجو المحيط به، ونزل عن كثير من أخلاقه، ورضي بالعيش الذي يكرهه عليه ما حوله من المجاورات ... أو على الأقل من تصنع هذا الرضا والخضوع.
صفحه نامشخص