در اوقات فراغت
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
ژانرها
وكانت أكثر إعجابا بصوتها منها بجمالها، حتى كان من أولى أمانيها أن تصبح مغنية عظيمة.
وقد أرادت أن تبدو كما هي بنقائصها وفضائلها، وبعدم ثباتها وبدوام تناقضها، لكن أنفتها أبت عليها أن تعترف بشيء لشخص مهما يبلغ من قدره، فكشفت في يومياتها عن نفسها للعالم كله.
أينا لا ينال بإشفاقه وعفوه تلك الطفلة المسكينة التي كانت بائسة أن لم تحظ بالطفولة! وليس على أحد في ذلك من ذنب؛ فإن ماري باشكير ستف لم تكن أبدا من أولئك الذين عناهم الإله الذي كانت تعبده كل يوم بأنهم وحدهم حقيقون أن يدخلوا في ملكوت السموات، فهي لم تعرف قط تلك اللذة الرقيقة؛ لذة التواضع والصغر، بل طارت بجناحيها في الخامسة عشرة من عمرها ولم يبق للعش الذي طارت عنه ذكر عندها؛ لذلك كان ينقصها دائما البساطة والمرح الساذج.
وأول الأسرار التي تبوح لنا بها في يومياتها ألعوبة بدأتها في أيام الكرنفال في روما، وكان كل ما انتهت إليه منها قبلة بين عينيها، وقد أبدت الفتاة في ذلك غير قليل من الخلاعة والحيلة؛ فقد قال لها ابن عم الكردينال، وكانت اتخذته في ذلك العيد رفيقا: وا أسفا، فأنت لا تحبينني! - كلا. - أليس لي أن آمل؟ - بلى، يجب أن تأمل دائما، فالأمل في طبع الإنسان، لكني لا أترك لك من جهتي حظا فيه.
وأظهر ابن عم الكردينال غاية الظرف والرقة، لكن ماري باشكير ستف لم تخدع له، ثم إنها ترددت بعد ذلك ... «لو أنني اعتقدت ما قاله لبلغت بذلك غاية السرور، لكني داخلني الشك رغم مظهره الصادق الرقيق البسيط. وذلك حظ الشقي من شقاوته.» ثم أضافت: «على أن الخير فيما وقع.»
وهي لم تكن ترغب مطلقا في التزويج من المسكين بترو، بل فكرت: «لو كنت زوجة إذن لقضيت على ثروته وقصوره ومتاحفه؛ فإن بي من الطمع والكبرياء ما لا حد له. والعجب أن يحب شخص مخلوقا ذاك شأنه لا لشيء إلا لأنه يعرفه، أو لو عرف هذا المخلوق ... أواه ... أنه مع ذلك لا يحبه.»
وكان الظهور والاستلفات والإشراق أملها الدائم، وكان الكبر يقتلها؛ فقد كانت تردد من غير انقطاع: «أواه لو كنت ملكة.» وكانت تصيح أثناء رياضتها في روما: «أريد أن أكون قيصر أو أغسطوس أو ماركس أورليس أو نيرون أو كاراكالا أو الشيطان أو البابا.» وكانت لا تجد جمالا في غير الأمراء، أما سائر الناس فلا يستحقون نظرة ولا التفاتا.
وكانت الأفكار المتناقضة تختلط في رأسها فتضطرب فيه اضطرابا غريبا، فقد كانت تقية ورعة تصلي لله صباح ومساء، وتطلب إليه أن يهبها أميرا تتزوجه وصوتا حسنا وصحة كصحة أمها، وكانت تصيح: «ليس شيء أدعى للفزع من عدم القدرة على العبادة.» وكانت تخلص التوجه للعذراء وتقوم بطقوس الديانة الأرثوذكسية، وكانت تتعرف المستقبل في مرآة مكسورة، حيث كانت ترى جما من الصور الصغيرة وأرض كنيسة من الرخام الأبيض والأسود، كما كان يبدو لها في تلك المرآة نعش في بعض الأحايين. وكانت تستشير المخرف ألكسس الذي كان يرى الكردينال أنتونللي في نومه، كما كانت لا تحجم عن أن تدفع دينارا للعرافة جاكوب كي تفتح لها الغيب. وكانت تعتقد بكل الخرافات، فكانت مقتنعة بأن عين البابا بيوس التاسع حاسدة، وكانت توجس شرا إذا هي رأت الهلال الجديد بالعين اليسرى، إلا أن آراءها كانت سريعة التغير في كل لحظة، فقد سألت نفسها فجأة وهي في نابولي: «أي شيء ذلك الروح الخالد الذي يطير شعاعا لكل تخمة تصيبنا؟» ولم تفهم كيف يترتب على ارتباك في المعدة أن يطير الروح السماوي إلى بارئه، واستنتجت من ذلك أن ليس ثمت روح، وأن هذا الاسم «محض اختراع» ... ثم لم يمض على ذلك إلا أيام حتى وضعت مسبحة في عنقها؛ لتشابه بياتركس، «ولأن الله في عظمته المجردة لا يكفينا، فيجب أن تكون في حيازتنا صور ننظر إليها وصلبان نقبلها.»
وهي رشيقة وهي مجنونة، لكن هذا الرأس المضطرب ممتلئ امتلاء رأس قارئ كتب قديم؛ فقد قرأت ماري باشكير ستف - ولم تعد السابعة عشرة من عمرها - أرسطو وأفلاطون ودانتي وشكسبير، وكانت حكاية أميدي تييري للتاريخ الروماني تأخذها عن نفسها، وكانت تذكر مغتبطة «كتابا مفيدا عن كونفوشيوس»، وكانت تحفظ عن ظهر قلبها هوراس وتيبيل وأمثال سيرس، وكانت تتذوق شعر هوميروس إلى أعمق نفسها ... ومن قولها: «لن يستطيع أحد أن يتخلص من عبادة القدماء ... فلم تترك مأساة حديثة ولا قصة ولا مهزلة مما يكتب دوماس أو جورج ساند في نفسي ذكرا باقيا ولا أثرا عميقا صريحا كالأثر الذي تركه فيها وصف الاستيلاء على ترواده؛ فإني يخيل إلي أني شهدت هذه الفظائع، وسمعت تلك الصيحات، ورأيت النار تشتعل، وكنت وأسرة بريام مع أولئك التعساء الذين كانوا يختبئون وراء محراب القرابين التي كانوا يتقربون بها لآلهتهم لتكشف عنهم النيران الملتهبة في مدينتهم، ولا تسلمهم إلى أعدائهم ... وأينا لا تعروه هزة حين يصل من قراءته إلى طيف كروز.»
وكان رأسها مخزنا تختزن فيه مختلف الكتب والروايات من غير ترتيب، وكانت دائبة على السياحة تذهب من نيس إلى رومة، ومن رومة إلى باريس، ومن باريس إلى بطرسبورج وفينا وبرلين. وإذ كانت لا تستقر أبدا فقد كانت السآمة تتولاها أبدا، فكانت ترى حياتها مرة خلاء حتى كانت تقول: «في هذا العالم كل ما ليس أليما سخيف، وكل ما ليس سخيفا أليم.» وكان ينقصها كل شيء لأنها كانت تريد كل شيء، وكانت لذلك في هم مفزع، ترسل حولها صيحات الألم، لكنها مع ذلك كانت تحب الحياة. قالت: «إنني أجدها طيبة، فهل يظن ذلك أحد؟ وأجد كل شيء فيها طيبا لذيذا حتى الدموع وحتى الألم. إنني أحب أن أبكي وأحب أن أيأس، أحب أن أكون حزينة آسية، أحب الحياة بالرغم من كل شيء. إنني أحب أن أحيا، ومن القسوة أن أموت وأنا كذلك مؤاتية لينة.»
صفحه نامشخص