أسلوب العلم
يتساءل الناس كثيرا كيف تختلف روح البحث في المسائل العلمية عنها في بقية فروع المعرفة الإنسانية؟ والجواب على ذلك من أبسط الأشياء؛ فإن العلم بعيد عن الروح المذهبية، فهو لا يجزم بأن ما يصل إليه من النتائج، مهما كانت صحة الأدلة التي تقوم عليها، يمكن أن تظل كما هي على تتالي الدهور؛ فإن أول ما في أسلوب العلم، من المرونة، الاعتقاد بأن حقائقه رهن التغير والتبديل آنا بعد آن، تبعا لما يجد من فروع المعرفة الإنسانية من الأبحاث والحقائق. أما بقية فروع المعرفة، وإن كان في استطاعتها أن تتبع في أبحاثها الأسلوب العلمي، إلا أنها إلى ناحية المذهبية أقرب منها إلى ناحية التحرر، وهذا هو السر في الفرق بين الناحيتين؛ ناحية اليقين وناحية التأمل.
ابن الإنسان
لما فرغت من درس كتاب «إميل لودفيج» الذي أسماه «ابن الإنسان» وخصه بالترجمة عن حياة عيسى ابن مريم العظيم، تابعت درس الموضوع من الوجهة التاريخية، لشغف أحسسته وميل شديد إلى الوقوف على تاريخ ذلك العصر، عصر الأنبياء، وعصر المعجزات. ولا أنكر على القارئ أني كنت أشعر بميل شديد إلى قراءة الحوادث المتتابعة، في حياة عيسى وحياة الذين عاصروه، وعلى الأخص عندما أقع على تحليل معجزة من المعجزات التي تنسب إلى عيسى أو عمل من الأعمال العظيمة التي تروى عنه، أو قول مأثور من أقواله التي قامت عليها النصرانية.
قرأت عن معجزات عيسى أنه أسكن الريح، وأنه شفى المرضى، وأنه أحيا الموتى، وقرأت له أنه أعاد الحياة إلى جثة رجل كانت قد بدأت في التعفن بالفعل.
ولكني لا أكذب القارئ في شيء، فإني إذا كنت أقرأ هذه الروايات كنت أشعر شعورا خفيا يزيدني إكبابا على درسها وطول التأمل منها. ولعل الإنسان فيه بالفطرة نزعة ترغبه في الوقوف على المستحيلات، وكيف أنشأتها العقول البشرية. غير أني ما فطنت إلى شيء من أسرار النصرانية بعد أن مررت على كل تلك الخوارق التي لا تصدقها عقول بشرية، لم ينتكث فتلها ولم تغزها التقاليد، بل فطنت إلى سر أسرارها عندما قرأت رواية عيسى في إبراء نفس «مومس» انحطت إلى الدرك الأسفل من الرذائل، بأن تابت توبة صادقة فحباها الغفران. ولا جرم أن إبراء الأنفس معجزة أين منها إبراء الأجسام ورد الأرواح إلى الأبدان.
حاجتنا إلى لغة علمية صحيحة
نريد أن يكون لنا لغة علمية بالمعنى الصحيح، ونبحث في كيفية الوصول إلى هذه الغاية السامية، ولا شبهة مطلقا في أن اللغة العربية قد سدت حاجات الأدب والعلم والفن في العصور الوسطى، ولا ريبة أيضا في أنها كافية لسد حاجات هذه النزعات العقلية، لو أن العقل البشري قد وقف من التقدم عند الحد الذي بلغه العرب حتى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد آخر من ظهر من كبار مؤلفي العرب في أول انحلال المدنية الإسلامية. غير أن هذا العصر كما شهد بدء انحلال المدنية الإسلامية، شهد كذلك تكوين أول جرثومة فرخت في جو أوروبا لتكون نواة للمدنية الغربية، فقد انتقلت حينذاك إلى جامعات أوروبا مبادئ أرسطو طاليس منقولة عن كتاب العرب، وأخصهم ابن رشد بطريق طلاب الغرب، الذين كانوا يفدون من أوروبا ليتلقوا العلم في المعاهد العربية الإسلامية، كما نفد نحن اليوم إلى أوروبا نتلقى العلم في جامعاتها الكبرى.
على أننا إذا ذكرنا أن القرن الثالث عشر الميلادي هو بدء انحلال المدنية الإسلامية، فإنما نذكر هذا تجاوزا لأننا نعتقد أن المدنية الإسلامية حملت في تضاعيفها بذور الانحلال، منذ أول تكوينها، غير أن الصبغة التي اصطبغت بها، والصورة التي لابست المنشآت المادية والأدبية والعلمية في مدنية الإسلام، قد أخفت كثيرا من عوامل الانحلال، التي ظلت تعمل على هدم كيانها منذ أول تكوينها.
على أني أعتقد أن نزعة العرب إلى «تعريب» كل ما وصلت إليه يدهم من المستحدثات المادية والفنية، ومجاراة الذين استعربوا من الفرس والروم وغيرهما من الأمم لهم في هذا المضمار كان أعظم ستر تسترت وراءه عوامل الانحلال التي بثت من تضاعيف تلك المدنية. وهذه الحقيقة تجعلني أميل كل الميل إلى القول بأننا إذا أردنا أن نكون لغة علمية صحيحة، فالواجب علينا أن نجاري الأساليب التي اتبعها العرب في عصور نهضتهم الأولى، وهي ولا شك أساليب أرضت العقول في ذلك الزمان، فلها عندي من هذه الوجهة أعظم المبررات.
صفحه نامشخص