وقد تستعمل لفظة الإسلام في النهاية لتدل على ذلك النظام العمراني الذي يجمع في تضاعيفه بين الحكومة والدين؛ لأن قيام مدنية ما، على الرغم من كل الخلافات الموضعية، وعلى الرغم من قيام تلك الخلافات في كثير من عصورها المتفرقة، إنما يدل ظاهرا على أن فيها كثيرا من صفات التماسك والبقاء. إننا إنما نبحث في حقيقة التبعية للدين، فنجد أن حكومة الإسلام ومدنيته عبارة عن وحدة تامة شاملة كاملة الأوصاف، حتى إن أكثر الناس قد يضمون أمما بلغت الفروق بين بعضها وبعض مبلغ الفروق الكائنة بين الآريين والساميين والزنوج تحت ذلك الاسم الجامع؛ «الإسلام».
هذه هي الحقيقة، الحقيقة أن الإسلام كان دينا وحكومة وأمة عظمى، والحقيقة أيضا أن الحكومة كانت من أسباب الضعف الأولى في الإسلام وفي مدنية الإسلام. ولماذا لا نقول بأنك تفضل الحكومة الديمقراطية على هذه الحكومة، ولا تلف اللف البعيد، وتقيم من النظريات ما يقذف بنا في ذلك التيه الجدلي الذي لا نصل فيه إلى النهاية؟
وحدة الوجود
الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الأديان قولها بأن الله منفصل عن المادة، وأنه ذات متحيزة منفصلة عن الماديات، تدير الأكوان والعناصر المادية بقوة ترسلها على الموجودات كما ترسل الكهرباء تياراتها على الألواح القابلة من التلغراف اللاسلكي. وكان هذا الخطأ سببا في أن يعجز أهل الدين عن مجاراة أهل العلم عن إدراك الله في تفسير النصوص المنزلة.
وكانت أكبر المشكلات التي وقع فيها أهل الأديان البحث في قدم المادة، قالوا بأن الله قديم مخالف للحوادث، آمنا بذلك وصدقنا، ولكن كيف ننكر على المادة قدمها، والعقل لا يسلم بخلق شيء من لا شيء، أو فناء شيء إلى لا شيء؟ وكيف نوفق بين حدوث المادة وقدم الله، إذا اعتقدنا بأن الله علة كاملة، وأن العلة الكاملة لا يتخلف عنها معلولها بحال من الأحوال؟ وعندي أن المتصوفين والباطنيين أصحاب القول بوحدة الوجود قد حلوا أكبر إشكال صادفه العقل البشري خلال كل العصور. قالوا بأن الله هو المادة، والمادة هي الله؛ أي أن في المادة مبدأ مدبرا هو الله، وأن عنصر النظام الذي تعثر عليه في نواحي المادة هو الله، وأن القدم للمادة لا يترتب عليه الاعتقاد بحدوث الله، ولا قدم الله يترتب عليه حدوث المادة.
المادة في الله والله في المادة، هذا هو المبدأ الذي يخيل لي أنه صحيح، والذي يحل مشكلات أهل الدين وأهل العلم في هذه المسألة الكبرى، بل يكون معه الدليل على وجود الله ملموسا محسوسا، لا يحتاج إلى تلك الجدليات العقيمة التي لا تنتهي إلى غاية ولا تقف عند نهاية، جدليات أقل ما كان فيها من الضرر أنها أبعدت الإنسانية عن الله، وأبعدت الله عن الإنسانية، بقدر ما كان فيها من التعصب لفكرة القدم ومخالفة الحوادث.
حول البهائية
دارت حول البهائية معركة حامية على صفحات «العصور»، وعلى الرغم من أن المعركة قد دارت حول تاريخ البهائية ونشأتها وبعض منازع يظهر بها أنصار هذا المذهب الجديد، أو الدين الجديد أو الخرافة الجديدة أو ما شئت من الأسماء، فإن المناقشة قد أخذت تتطور في بحث تاريخي إلى بحث في أصل العقيدة البهائية، وفي نشأتها، وفي أنها دين منزل، وفي أن الله حل في عبد البهاء وفي عباس أفندي من بعده، وأنه يحل الآن في شوقي أفندي خليفتهما الأخير، كأن الله لا شغل له عند البهائيين إلا أن يتقمص تلك الأجسام البشرية التي لا تخرج عن أنها ماء وطين، وأن هذا المزيج سوى ذوات ندعوها البشر. ولا جرم أن هذا الدين أجرأ الأديان على الافتراء، ففي الأزمان القديمة اختار الله بعض الشعوب دون بعض، وميز بعضها على بعض برسالاته، وخصها بعطفه. أما اليوم وعن طريق البهائية، فإنه يختار النوع البشري برمته، فكأن اختياره لليهود في الأزمان السالفة كان عبثا تريد البهائية اليوم تقويمه.
ولا يضرنا اليوم، أن يضاف إلى الأديان التي تنشر بين سلالات البشر دينا جديدا، ولا يضير الإنسانية أن تزيد الخرافات الذائعة بينها خرافة جديدة، ولكن الذي يضيرنا ويضير كل الآخذين بمبادئ الطريقة العقلية الحديثة أن يقف نفر من الناس ينادون بالشعوب هلموا إلى الخلاص الأخروي من طريق البهائية؛ فإنها آخر ما أوحي به للناس، كأن الناس لم يكفهم أن ينال منهم الوحي ذلك المنال القاسي، خلال كل العصور الغابرة، فأخذوا اليوم يحيكون من الخيال خرافة جديدة يسمونها البهائية.
ولعمرك لئن كان الدين عبارة عن قوة مما فوق العقل ولا علاقة له بشيء مما في طبيعة الإنسان سوى مشاعره وعواطفه وانفعالاته، فكيف بالبهائية تكون دينا وهي تتناول بأبحاثها الاقتصاديات والعمرانيات ومشاكل الاجتماع الإنساني، بل ولا تتأخر عن أن توحي إليك بما تفعل في بناء القناطر والسدود؟
صفحه نامشخص