ولا يحسبن أبناء الشرق الذين هم أحوج الناس اليوم إلى التواصل والتعاون، أننا بهذا التوزيع العلمي الذي تلزمهم فيه بيئتهم، نقطع عليهم طريق هذا التواصل والتعاون في درس البيئات، كلا؛ فقد بينا لهم في الخطوتين السابقتين من معالم هذا المنهج، أن منهما ما لا يقوم إلا على التعاون، كدراسة الجزيرة العربية، ومنهما ما يتحقق به التعاون المثمر بين وحدات قوية الشخصية، واضحة الشعور بنفسها . وقد تكرر هذا المعنى وبين في الخطوة الثانية، بما أصبح القول بعده ملتحقا باللغو العابث.
ولكنا رغم ذلك نعود لنبين أن هذه الدراسة الخاصة للبيئة على النظام السابق للمنهج، تحوج أهل كل بيئة إلى التعاون مع من حولهم، وتكشف لهم هذه الحاجة عن روابط وصلات، قد توثقت فيما مضى بين بيئاتهم وأسلافهم فيها.
فبدراسة ما حول الأدب في ماضي البيئة، سنعرف بما كان من هذه الروابط الجنسية والعملية بين هاتيك الأقطار، كما أن دراسة ظواهر الحياة المعنوية ستكشف أيضا عما كان في هذه المعنويات من تأثير وتأثر وتبادل وتفاعل. فإذا ما كان العصر الإسلامي وقصدوا إلى درسه، فقد قلنا إن هذا العصر يصل بينهم بروابط متشابهة، تتكامل معرفتها بالدراسة الخاصة في كل بيئة؛ فالعقائد وما إليها من الدينيات، والشرائع وما إليها من المذاهب، وكتاب الدين وما يتصل به من علوم، والسنة وما حولها من معارف، كل أولئك وما إليهم روابط تشابه تصل بينهم، وتحملهم على تبادل النتائج في درسها، ومثل هذا مما ينبغي أن يتم التعاون عليه، بعقد المؤتمرات، والانتفاع بما يصل إليه أصحاب كل بيئة من الحقائق والمعلومات، حتى إن هذه الدراسة لا تكتمل على وجهها الصحيح إلا إذا وزعت هذا التوزيع واتصلت هذا الاتصال. ألم تر أن المذهب المالكي مثلا قد كان في الحجاز، ومصر، والعراق، والأندلس؟ فلو درسه شخص، هذه كلها لما استوفى ولا أوفى، ولو درس كل قبيل بيئتهم حق الدرس؛ لعرفوها في المذهب وعرفوا المذهب فيها، واستعان كل قوم بمعرفة إخوانهم على استكمال معرفتهم؛ فعرفت بعد ذلك حياة هذا المذهب معرفة صحيحة مفصلة كاملة. وقس على هذا المثال الفقهي غيره من المثالات الاعتقادية والنحل، والعلوم القرآنية في تاريخ القرآن وموضوعاته، والسنة في روايتها ودرايتها. وهكذا يكون هذا التقسيم كما أسلفنا توزيعا مصلحا للدرس، معينا على النفاذ العميق فيه، كما يكون في الوقت نفسه منظما للتعاون، مسددا طريقه، مبينا النواحي المحتاج إليها منه، لا دعوة مبهمة، وعملا مشتركا غير منسق، ومكررا غير متخصص.
والأمر فيما حول الأدب وفي الأدب وتاريخه على هذا المثال تماما، وقد سبقت الإشارة إليه، وبات القول بعد ذلك بأن الإقليمية تقطع أواصر الارتباط بين هذه الأمم، أو توهن صلاتها اللغوية، والدينية، والأدبية المشتركة كما باطل الأساس، وقولا بالهوى لا حجة عليه ولا شبه حجة له. بل اتضح من الإقليمية أنها تؤدي إلى عكس ذلك تماما، على حين تصحح الفكرة الأدبية كما تصحح المنهج الأدبي.
ولو شئت بعد التفصيل أن أضع بين يدي القارئ خلاصة ذلك كله، حتى لا يضطرب عليه الرأي، ولا يشق عليه الحكم أو النقد.
قلت آنفا
(1)
إن البحث «فكرة ومنهج»، وقلت عن الفكرة إنها نصفان؛ قومي مصري خاص، وفني أدبي عام. فالمصري الخاص هو توجيه العناية الكاملة إلى دراسة مصر أدبيا فيما يخصنا ويخص كلية الآداب المختلفة، وفنيا في سائر المعاهد الفنية المصرية، والدراسة الفنية الأخرى تكمل درسنا الأدبي، ويكملها درسنا الأدبي، كما توجه العناية الأولى إلى دراسة مصر علميا، واجتماعيا وعمليا ... إلخ. والأدبي العام بعد الفكرة هو درس الأدب وتاريخه، في أقاليمه وبيئاته، لا في أزمانه وعصوره. ثم في بيان الجزء الأول من الفكرة، وهو المصرية الخاصة قلت: (2)
إن حيا لن يكفر في نفسه وهو حي؛ لأن إيمان الحي بنفسه سر وجوده الفطري، ومصر لم تكفر بنفسها لحظة ما، فكيف لا تؤمن بشخصيتها في الفنون بعامة، ثم في الأدب بخاصة، وفي هذا العصر الإسلامي الذي ظلت فيه كدأبها شاعرة بنفسها، يقظة لذاتها، فهي لهذا تصر على أن تدرس وجودها الأدبي في العصر الإسلامي.
كما أن هناك اعتبارات عملية، وعلمية، وفنية، توجب على مصر وأبنائها أن يدرسوا أنفسهم أول ما يدرسون وأكثر ما يدرسون. وأشرت في إجمال إلى تلك الاعتبارات العملية ونحوها، ثم فصلت الاعتبارات الفنية أوفى التفصيل؛ لأنها تقوم على الشق الثاني من الفكرة، وهو مكانية الأدب، وبيئته، لا زمانيته وسياسته فقط. وهنا وصل القول إلى القسم العام من الفكرة فقلت: (3)
صفحه نامشخص