وبهذا لا يكون هناك تداخل ولا تراكب بين صنفي الدراسة، ولا دور في فهم الأدب وتاريخ الأدب حتى يتوقف كل منهما على صاحبه - كما يقول المتكلمون - إذ تكون الحقائق التاريخية أو الاجتماعية التي لا بد منها لفهم الأدب، من مواد دراسة الأدب وأدواتها. ثم إذا ما تم هذا الدرس على النحو المبتغى؛ فكرنا في كتابة تاريخ الأدب، تلك الكتابة الصحيحة الدقيقة التي تجرؤ على تقسيم العصور وتبيين معالم الأدوار، على هدى من الاعتبارات الفنية المحتكمة في حياة الأدب نفسه، وعلى بينة من حال هذا الأدب، حتى يبدو فرق ما بين العصر والعصر، وحد ما بين الدور والدور، جليا متميزا. ثم تقدم لك من وصف العصر وخصائص العهد، ومسير الحياة الأدبية فيه، ما هو بيان حقيقي لحياة الفن القولي، لا التماس لظواهر موهومة، وفروض مفروضة، تنتزع من بوادر لائحة، أو ملامح متخيلة، أو شواهد خاطفة. وإذن فلن يعنى هذا الوصف التاريخي للحياة الأدبية - أي تاريخ الأدب - بأعلام الأدباء وتحقيقها، ولا بسني الميلاد والوفيات ورصدها، ولا بأحداث حياة هؤلاء الأدباء مع فلان الوالي وفلان الحاكم، ونحو هذا؛ لأن تلك كلها قد ذهب بها درس ما حول الأدب، ولأن تاريخ الأدب إنما يعنى بما وراء ذلك جميعه من قوى محركة، وتيارات موجهة، ونواميس ضابطة. بعدما قد فرغ الدارس من فهم كل ما هو ضروري لذلك من أخبار وأحداث، وفرغ من الفهم النفسي لآثارها الفردية والاجتماعية ... من الفهم الاجتماعي لنتائجها المترتبة عليها، كما قد فرغ من تقدير ما خلف ذلك من أثر في متون الأدب ونصوصه؛ ومن فرغ من كل أولئك فقد استطاع أن يستشف الخفي من هاتيك القوى، وتلك التيارات، وأولئك النواميس المتصلة بالحياة الأدبية، والتي يحاول المؤرخ التحدث عنها والتصدي لوصفها، فتكشفت له الحياة الأدبية ومسارب تطورها وخطوات تدرجها، كما يتمثلها التاريخ بمعناه الصحيح ومفهومه الحديث، حينما يتحدث عن صنوف الحيوات الإنسانية المختلفة من دينية ودنيوية، ومعنوية وعملية. •••
ومن هنا يكون التنسيق الصحيح للدراسة الأدبية هكذا؛ أنها تحقيق النص الأدبي تحقيقا علميا ناقدا.
2
ثم الإلمام التام بما حول هذا المتن الأدبي من اعتبارات عملية ومعنوية، مادية ونفسية، فردية واجتماعية، كالحوادث الملابسة، والبيئة المؤثرة في صورتيها المادية والمعنوية، بأوسع ما تدل عليه البيئة.
ثم فهم هذا النص بهداية تلك الأضواء الحافة به، ومع الاعتماد على وسائط هذا الفهم من علوم العربية وفنونها الأدبية التي لا بد منها؛ لإدراك النص الأدبي في لغة من اللغات؛ وبذلك يتم درس الأدب في معناه الصحيح.
ثم ما إذا ما اكتمل ذلك فيما خلف من آثار، وفيمن عرف من أشخاص؛ أمكن التصدي بعد هذا كله، وعلى هيئة من الأمر، وفي هدوء فاحص لجوانب الحياة
3
الأخرى، وما دون من تاريخها، وما سجل من وصفها؛ لتتبع الوشائج التي تصلها بالجانب الأدبي للحياة، وتكشف عن تبادل التفاعل معها. أعني أنا كما فهمنا أثر ظواهر الحياة المختلفة على الأديب والأدب، نطلع ما استطعنا على تاريخ الكل بهذه الظواهر.
وإذا ما تيسر ذلك كله استطاع مؤرخ الآداب أن يلمح على مصور الحياة مناطق متميزة، وفوارق واضحة، أعتقد أنه باستبانتها قادر على تأريخ الحياة الأدبية ووصف أدوارها، ثم هو قادر في وصف هذه الأدوار، على بيان مسالك الحياة الأدبية فيها، وكيف سارت، فأسرعت أو أبطأت، أو توقفت، واعتدلت أو انحرفت، أو تذبذبت، وارتفعت أو انحطت أو جمدت، وأشباه هذه النتائج التي تستطيع الأمة بالنظر إليها أن تعرف هدفها من طريق التدرج وسبيل التطور في الفن، وأن تدرك أين يقع حاضرها من ماضيها، وأي مستقبل فني وراء هذا كله ينتظرها. كما تستطيع الأمة أن تظفر بمثل ذلك في حياتها الاقتصادية إذا ما أرختها، أو حياتها السياسية إذا تتبعتها، أو غير هاتين من جوانب الحياة حين تدرسه. •••
هذا هو الأدب، وذاك هو تاريخ الأدب - فيما أفهم - أما أن ذلك يسير سهل، أو عسير شاق، وماذا يحتاج من زمن، أو جهد، أو تعاون، فما يعنيني أن أقف عنده لأبتهج بيسره إن كان يسيرا، أو أهون من عسره إن كان عسيرا؛ لأنه واجب، ولأنه لا بد أن يتم، ولأنه سيقوم به من يتمه إذا قعدت بنا وبمن قبلنا الهمة عنه، وستكون لنا لذة المعاناة، ثم غبطة الظفر، إذا ما تهيأ لنا إتمام شيء منه، ولكل عامل من الظفر ما أراد وطلب.
صفحه نامشخص