فليتركوا هذه المصرية تعرف نفسها حق المعرفة؛ لتعرف كيف تتصل بغيرها، ولتتبين أساس هذا الاتصال، ولتقدر نواحي قوته. وسيكون هذا - فيما أرى - أجدى على تلك الصلة، وآكد لهذا الارتباط، وأقوى على إبقائه.
ملاحظة
وفي مناقشتنا لهذه المقالة الأخيرة ضد الإقليمية، قد عرضنا لأثر الإسلام في حياة الأمم التي اتصل بها، وأقررنا من هذا الأثر ما أقررنا، واعترفنا من هذا التغيير بما اعترفنا، ومن الوفاء بحق المنهج الصحيح للبحث ألا نترك هذا الإقرار وذلك الاعتراف في إطلاق وعموم، قد يفتن بهما من يسمعهما، وقد يخدعان الباحث، أو يخدعاننا نحن حينما نعرض قريبا لما خلف الإسلام في حياة هذه المصرية، التي لقيها فيمن لقي من أمم وشخصيات .
لا نترك هذا الإقرار وذلك الاعتراف بأثر الإسلام في الجماعات، دون أن نشير إلى ضرورة القصد في تقدير هذا الأثر، والاعتدال في بيان عمقه ومداه، وبخاصة حينما نلاحظ أن بعض المتزيدين المتكثرين من أصحاب الدعوة الدينية الواعظة، أو من أولئك الذين لا يعرفون مجد الشرق إلا دعوى عن ماض باهر، وآباء أمجاد، وآثار غراء لا يسمح الدهر بمثلها، فيعيشون عظاميين في قفرة من الماضي ودنيا من الذكريات، يطلقون لخيالهم العنان في وصفها والإشادة بها، مفاخرين الدنيا جميعا بمجدها، راجعين كل جديد إلى موروثها، وهي نزعة قد سيطرت على حياة الشرقيين حينا من الدهر، وخلف فيها كتاب وقوالون آثارا، لعلها إن وقعت إلى الشباب تخدعه.
وما تعنينا هنا خدعتها الاجتماعية - وإن كانت خطرة - بقدر ما تعنينا خدعتها العلمية وتضليلها لطريقة البحث، والنظر إلى الحقائق في أناة واعتدال.
نريد لهذا كله أن نقول: إن الإسلام وقد جاء العرب وهم على حال بعينها، ثم جاء من عداهم من العالم وهم في حالة اجتماعية بذاتها، لم يمسهم مسا سحريا، يحول العرب عن حالهم إلى ضدها، أو ينقلهم نقلة معجزة ترد ظلامهم نورا، وجهلهم علما، وفظاظتهم سمو خلق، تحيل بإكسير سري، معدنهم من النحاس إلى الذهب الإبريز. ولا كذلك فعل في حياة الأمم الأخرى التي جاءها، فعكس سيرها وغير وجهتها وبدلها خلقا غير خلقها، أو ابتدأ في حضارتها وحياتها، عهدا جديدا لا صلة له بسابقه، فجديدها لا يرتبط أبدا بقديمها ... إلخ. ما يمكن أن يشم من عبارات الاعتراض الأولى التي أوردناه بها، والتي قد ينخدع بها متساهلون، أو متنفجون، أو ساهون عن سنن الله ونواميس الكون.
لقد ظل العرب بعد إسلامهم هم القوم الأولون، قد دخل عليهم من الإصلاح بالإسلام ما تحتمله طبيعتهم، وما تستطيعه فطرتهم، وما تقبله شخصيتهم. وكذلك كانت حياة الأمم التي لقيها الإسلام، استمرارا لحياتها الأولى، وإن تأثر هذا الاستمرار بما يمكن أن تتلقاه الطبيعة من تأثر بجديد يطرأ، أو علاج يتم، أو إصلاح يحاول. وفي هذا المقام يجدر بي أن أشير إلى ما يقرره الباحثون في هذا، ومنه ما عرض له المستشرق السياسي الألماني كارل هينريش بيكر، في مقال له عنوانه «تراث الأوائل في الشرق والغرب»، ترجمة الأستاذ عبد الرحمن بدوي، ضمن دراسات للمستشرقين عنوانها «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية». وفي هذا المقال، يتحدث بيكر عن اتصال النظام الاقتصادي الإسلامي بما قبله، ويعقب قائلا ص14: «وهذه العملية عملية طبيعية، إلا أنه لما كان قد نظر إلى الإسلام باعتباره شيئا جديدا كل الجدة، واعتبر من جهة أخرى أن الدين والحضارة شيء واحد، فقد نشأت أسطورة حضارة العرب، تلك الأسطورة التي ألقت غشاء على عيون المؤرخين فحالت بينهم وبين رؤية هذه الحقيقة الناصعة، وهي أن الحضارة القديمة قد استمر حاملوها هم حاملوها الأصليون، واستمر مسرحها هو مسرحها؛ ذلك أن الإسلام كان هو الأجنبي الغريب الذي أراد أن يغزو العالم القديم المتأخر، ولكنه خضع من بعد لما كان عليه هذا العالم القديم من تفوق وسمو، ولم يستطع أن يجعله عربيا إسلاميا إلا في الظاهر فحسب.» كما عاد إلى هذا المعنى ثانية فقال ص15: «وإذا ما بحثنا حضارات البلدان التي فتحها العرب؛ استطعنا أن نحكم بسهولة أن كل شيء بقي في الإسلام كما كان على عهده القديم، لم يضف إليه جديد، سواء في ميدان السياسة، وفن الحرب، والاقتصاد، أو العلم والفنون والصناعات. وإن المرء لتداخله الدهشة من المترجمات الضخمة العديدة، فيحسب أن أفكارا جديدة قد أدخلت إلى مهد الحضارة الإسلامية، ولكن هذا الرأي باطل من أساسه؛ فكل شيء بقي عمليا كما كان من قبل.»
تلك هي عبارات للمستشرق حول الفكرة التي آثرنا استيقاف الدارس عندها، لفتا إليها. وعبارة الكاتب إن يكن فيها شيء من خشونة التعبير أو عدم التحفظ فيه، مما لا يلقاه المتدين المعتقد في سهولة، فإن الفكرة في أساسها وأصلها صحيحة مقبولة، على نحو ما قدمنا لها من بيان.
ولا يسع المؤرخ حين يؤمن بأن للحياة نواميس وقوانين تجري على وفقها، وحين يكفر بالطفرة في هذه الدنيا، ولا يدين بأن الأرض مسرح للخوارق، وميدان للمفاجآت ، لا يسعه إلا أن يسلم بذلك كاملا في حق العرب. وما يمكن أن يكون قد نالهم من تغيير وتغير بالدعوة الإسلامية، ودفعها الجديد، وأن يسلم كذلك بأن الإسلام حينما جاء من جاء من الأمم فدفع حياتهم دفعا جديدا، إنما دفعها لتسير من حيث كانت قد وصلت، أو لتتابع السير من حيث انتهت في أمسها القريب، وعلى ما ارتبطت به من ماضيها البعيد.
ولو كان العرب أمة متحضرة قد حملت إلى الأمم الأخرى نظما بعينها، وأوضاعا خاصة جربتها من قبل وأقرتها - وهو ما لم يكن من أمر العرب عند الفتح - لو كان الأمر كذلك لآمن كل باحث أن هذه النظم وتلك الدعاوى الجديدة التي حملها العرب إلى الدنيا، قد تفاعلت مع ما لتلك الأمم من أشباهها، ومضت الحياة تسير في ذلك، على المعروف الثابت من سننها.
صفحه نامشخص