حقيقة كان علماء مصر في ذلك العصر يشرحون أو ينقدون ما خلفه علماء المسلمين قبلهم في هذه العلوم العربية، ولا نكاد نجد في مؤلفات المصريين في هذا العصر آراء أصيلة يتميزون بها عن الذين سبقوهم، ولكن ليس ذلك بغريب؛ فالتاريخ يحدثنا أن العلوم إذا تم تكوينها ووضعت قواعدها تمر على العلماء فترة بعد ذلك طويلة أو قصيرة لشرح هذه القواعد أو نقدها، ويكثرون من التأليف حول هذه القواعد دون أن يحاولوا وضع قواعد جديدة، بل يفرعون على هذه الأصول القديمة دون مساس بالقديم. هذا ما كان عند اليونان بعد عصر الفلاسفة، وهذا ما حدث أيضا للمسلمين في جميع الأقطار الإسلامية بعد أن وضعت قواعد اللغة، ودون الأدب العربي بألوانه وفنونه، وبعد أن صيغت القواعد الفقهية على اختلاف المذاهب، فهذه الفترة فترة ركود ذهن العلماء عن وضع أصول جديدة وقواعد متباينة عن القديم، مرت بها مصر الفاطمية بل مرت بها جميع الأقطار الإسلامية، بل أستطيع أن أقول إننا لا نزال نعيش على هذه الأصول القديمة، ولم نستطع أن نتحرر منها إلى الآن؛ فقواعد اللغة التي دونها سيبويه، وأصول الصرف كما تركه ابن جني، وعروض الخليل بن أحمد، وأصول الفقه كما دونه الشافعي ومالك وأبو حنيفة وابن حنبل، هي التي تسيطر على حياتنا العلمية العربية إلى الآن، على الرغم من أن عددا كبيرا من دعاة حرية الفكر ينادون بضرورة التحرر من القديم، وتعديل هذه العلوم تعديلا يلائم حياتنا الحديثة، ولكن لا تزال السيطرة للقديم، ولم يستطع المصلحون إلى الآن أن يجدوا وسيلة للخلاص منه.
فعلى الرغم من تشجيع الفاطميين للعلماء حتى ألفوا هذه المؤلفات الكثيرة التي تحتاج إلى مجلد ضخم لسرد أسمائها، وأن هذه المؤلفات كانت التراث العلمي للعصور التي تلت عصر الفاطميين؛ فإن هذه الكتب الكثيرة ولا سيما ما كان منها في العلوم العربية، لا تظهر فيها شخصية مصر ولا أثر مصر، إلا إذا استثنينا كتب التاريخ التي تحدثت عن مصر. ففي هذه الكتب استطاع مؤرخو مصر أن يتأثروا بما حولهم، وأن يظهروا شيئا مصريا لا يستطيع غير المصريين أن يأتوا به.
وهناك سبب آخر لعدم ظهور شخصية مصر في كتب العلماء المصريين في العلوم العربية، ذلك هو رحلات العلماء في الأقطار الإسلامية طلبا للعلم، فمصر بموقعها الجغرافي الممتاز الذي جعل منها مركزا وسطا بين الشرق والغرب، وطريق الغرب إلى الأراضي المقدسة، هذا الموقع الجغرافي جعل مصر مركزا هاما لتبادل الآراء العلمية بين الأقطار الإسلامية، فعلماء الأندلس والمغرب وصقلية كانوا مضطرين إلى التعريج على مصر في رحيلهم لتأدية فريضة الحج، أو في رحيلهم لطلب العلم في العراق وفارس، وتطول مدة إقامتهم في مصر أو تقصر يأخذون عن علماء مصر، أو يلقون على المصريين ما عندهم من علم؛ فتتلاقح الآراء وتمتزج وتصبح متشابهة، لا فرق بين أندلسي ومصري ومغربي وصقلي، ولا تظهر الشخصية الإقليمية في هذا النحو من العلم، وكذلك نقول عن علماء مصر الذين رحلوا في طلب العلم من الأقطار الأخرى، وعلماء الأقطار الأخرى الذين رحلوا في طلب العلم أو للتعليم في مصر، فهذه الرحلات الكثيرة كانت سببا في ألا تتمايز العلوم العربية بتمايز الأقطار، حتى أصبحنا لا نفرق بين كتب المشارقة وكتب المغاربة إلا عن طريق تاريخ المؤلفين أنفسهم. أما من الناحية الموضوعية للكتب، فمن الصعب العسير أن نصل إلى نتيجة يطمئن إليها الباحث، والأقطار العربية التي كانت تتنازع فيما بينها في السياسة والمذهب الديني، وتنشب فيها الحروب المختلفة، كانت تربطها وتوحدها هذه الحياة العلمية، فجعلتها كتلة واحدة تدرس علوما واحدة لا فرق بين قطر وقطر، ولا تزال هذه الظاهرة إلى الآن في العلوم العربية الخالصة والعلوم الإسلامية، وأملنا عظيم اليوم - وقد توحدت البلاد العربية في آرائها السياسية - أن تتم وحدتها في مختلف ألوان الثقافة، حتى يعود للعرب مجدهم القديم بهذه الوحدة التي لن تنفصم بعون الله وبفضل يقظة البلاد العربية.
الفصل الأول
العلوم الفلسفية
إذا قلت العلوم الفلسفية فإنما أقصد بها جميع العلوم التي كانت تشتمل عليها الفلسفة في القرون الوسطى، والتي تضمها رسائل إخوان الصفاء من رياضيات وموسيقى وطب وتنجيم وطبيعيات وإلهيات ومنطق، إلى غير ذلك من هذه العلوم التي كان يحذقها فلاسفة هذه العصور، والتي لا يستحق طالب الفلسفة هذا اللقب إلا إذا ألم بها جميعا. وقد رأينا كيف كانت العقائد الفاطمية تعتمد قبل كل شيء على العلم وتمييز الإلهيات من الطبيعيات، فلا غرو أن نرى هذه العلوم الفلسفية على اختلاف ألوانها وفنونها تزدهر في العصر الفاطمي ويرعاها الفاطميون، بل كان من الخلفاء الفاطميين من أتقن هذه العلوم وبرز فيها، ولا سيما رصد الكواكب، فالمؤرخون يذكرون أن المعز لدين الله والعزيز والحاكم بأمر الله والحافظ كانوا يرصدون النجوم لاستقراء ما وراءها من أحداث. ويذكر المؤرخون أن اهتمام الأئمة بهذه العلوم كان وسيلة لادعائهم معرفة الغيب، ويروي المؤرخون بعض روايات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، كما يروون بعض الأشعار كان يتهكم بها المصريون على ادعاء الفاطميين معرفة الغيب، من ذلك ما روي أن العزيز بالله صعد المنبر ذات يوم، فرأى رقعة كتب فيها:
بالظلم والجور قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم غيب
فقل لنا كاتب البطاقة
صفحه نامشخص