في أدب مصر الفاطمية

محمد کامل حسین d. 1380 AH
85

في أدب مصر الفاطمية

في أدب مصر الفاطمية

ژانرها

ففي ظل هؤلاء الأئمة، وعلى ضوء ما ذكره الإمام المعز، وجد العلماء ملاذا يئويهم من العوز، ويحميهم من الفاقة، بل وجدوا ما يشجعهم على مواصلة البحث والدرس والتأليف.

ويذكر المؤرخون عددا من العلماء الذين وفدوا على مصر الفاطمية، ووجدوا من التشجيع ما جعلهم يذكرون مصر والأئمة بالخير، فيحدثنا ابن أبي أصيبعة أنه لما وصل المهذب بن النقاش - وكان فاضلا في صناعة الطب - إلى الشام من بغداد، أقام بدمشق مدة، ولم يحصل له بها ما يقوم بكفايته، وسمع بالديار المصرية وإنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم ولا سيما من أرباب العلم والفضل، فتوجه إلى مصر واتصل بالقاضي الأجل السديد أبي المنصور عبد الله ابن الشيخ السديد أبي الحسن علي، فوهب له الأموال وأقام في مصر مكرما.

2

ونردد ما ذكره المؤرخون عن القاضي عبد الوهاب بن علي أحد فقهاء المالكية المجتهدين في المذهب، حتى قال عنه صاحب تاريخ بغداد: «لم أر في المالكية أفقه منه.» إذ وفد على مصر لضيق حاله ببغداد، وأكرمه المصريون على الرغم من تمذهبه بمذهب يخالف ما هم عليه، حتى تمول وحسنت حاله جدا، ولكن أدركه المرض، وكان يقول وهو في مرضه: «لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا!» وتوفي بمصر سنة 422ه، وسنذكر غير هذين العالمين في الفصول التالية.

فالقاهرة المعزية أصبحت مطمع أنظار العلماء، ومحط رحال الطلاب، وفي العصر الفاطمي استطاعت مصر أن تنتزع زعامة العالم الإسلامي في الحياة العلمية، وأن تبسط آراءها وتعاليمها على البلدان الأخرى، حتى نرى بعض العلماء الذين كانوا ينقمون على الشيعة عامة والفاطميين خاصة يفدون على مصر، ويتأثرون ببعض الآراء التي كانت سائدة فيها، وأقرب مثل نقدمه لذلك هو الإمام الغزالي، فقد هاجم الفاطميين في كتبه: القسطاس، والمنقذ من الضلال، والمستظهري أو الرد على الباطنية وغيرها من كتبه، ولكنه وفد على مصر في أواخر حياته، ووضع كتابه مشكاة الأنوار متأثرا ببعض العقائد الفاطمية، ولا سيما نظريتهم في ترتيب العقول.

ويخيل إلي أن السبب الذي من أجله شجع أئمة الفاطميين العلم والعلماء أن المذهب الفاطمي نفسه يقوم على العلم والعقل قبل كل شيء، ومن طريق العلم وبالجدل والمناظرات استطاعت الدعوة الفاطمية أن تنتشر في العالم الإسلامي، واستطاع الفاطميون أن يكونوا دولتهم العتيدة، فعقيدة الفاطميين كانت تقوم على العمل والعلم؛ فالعمل هو الظاهر والعلم هو الباطن، وعلم الباطن يقوم على استخدام العقل ومطابقة المحسوس للمعقول؛ فلا غرو أن رأينا الفاطميين يشجعون العلم الذي هو دعامة من دعائم العقيدة الفاطمية.

وقد أثرت الفلسفة اليونانية والمذاهب الدينية القديمة في أرباب هذه الدعوة وعلمائها على نحو ما رأيناه في الباب السابق من هذا الكتاب، فكان الفاطميون يهتمون بهذه الألوان من الدراسة الفلسفية والمذهبية؛ إما لإدخال بعض عناصر منها في عقيدتهم وآرائهم، وإما للرد عليها وتهجين هذه الآراء القديمة، فعل ذلك الفاطميون في الوقت الذي كان فيه أهل السنة في البلاد الأخرى يرمون من يشتغل بالفلسفة بالزندقة والإلحاد. فالفكر اليوناني وجد ترحيبا من الفاطميين، وتوسعوا في دراسته، وقد لاحظ المستشرق أوليري ذلك فقال: «إن الحركة الفاطمية بأكملها أخذت مكانتها في جو مشبع بالفكر الهليني، وإحياء دراسة المواد اليونانية هو الإلهام المباشر لطائفة الإسماعيلية.»

3

وسنرى في الفصل التالي مبلغ اهتمام الفاطميين بالعلوم الفلسفية، واصطناعهم لكل من عرف بالاشتغال بفرع من فروع الفلسفة، فقد قيل إن العزيز بالله كاتب جبرائيل بن بختيشوع، واستدعاه إلى مصر فاعتذر،

4

صفحه نامشخص