28
ويروى عن المسبحي أن عدة الخزائن التي برسم الكتب في سائر العلوم بالقصر أربعون خزانة، بعضها داخل القصر لا يتوصل إليها أحد، وبعضها في خزائن القصر البرانية، وكانت هذه الخزائن تشتمل على مجلدات في كل فن من فنون العلوم الإسلامية؛ فمن فقه على سائر المذاهب، إلى نحو ولغة وكتب حديث وتاريخ ونجامة، وروحانيات وكيميا، غير المصاحف الكثيرة. ويقال: إن العزيز بالله ذكر عنده كتاب العين للخليل بن أحمد، فأمر خزان دفاتره فأخرجوا من خزائنه نيفا وثلاثين نسخة من كتاب العين منها نسخة بخط الخليل نفسه، وحمل إليه رجل نسخة من كتاب تاريخ الطبري اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز خازنه فأخرج له من الخزانة ما ينيف عن عشرين نسخة منها نسخة بخط ابن جرير ... إلخ.
29
وهكذا كانت خزانة كتب القصر، ولعلنا نستطيع أن ندرك من هذه اللمحة القصيرة مدى عناية الخلفاء الفاطميين باقتناء الكتب في كل فن، وحرصهم على أن تجمع خزائنهم الطرائف والنفائس في كل علم، وذلك تشجيعا منهم للعلم والعلماء، ولا غرو في ذلك، فإن مذهبهم الديني يدعو إلى العلم والعمل، وإلى الاستزادة من جميع العلوم والآداب، حتى يتسنى لدعاتهم أن يكاسروا خصومهم بأدلة علمية، وأن يتخذوا من سعة أفقهم ومداركهم وثقافتهم مجالا يجلون فيه حتى يبزوا غيرهم، فلا نعجب إن رأينا داعيا من دعاتهم مثل هبة الله بن موسى الشيرازي المعروف بالمؤيد في الدين كان يلم بجميع ألوان العلوم التي كانت معروفة في عصره، واستطاع بما حصله من علم أن يرد على جميع المذاهب والفرق الإسلامية، وأن يدحض رأي الزنادقة المارقين أمثال ابن الراوندي والثغوري، وأن يناظر بعض الشاكين أمثال أبي العلاء المعري، وأن يجادل خصومه هؤلاء بأدلة علمية منطقية وحجج قوية، فلولا ما أوتيه من علم، لما استطاع أن يعرف مواطن الضعف عند هؤلاء جميعا، فيهاجمهم ويدحض حجتهم نثرا وشعرا، ويترك لنا هذه الذخيرة في مجالسه وديوانه، ونستطيع أن نقول كذلك عن الداعي أحمد حميد الدين الكرماني، وعن الداعي أبي حاتم الرازي، وعن السجستاني وغيرهم من فحول دعاة المذهب الذين تم على أيديهم فلسفة المذهب، وتبلورت عقائده.
لكن هذه الكنوز العلمية من نفائس الكتب التي حافظ عليها الفاطميون في قصرهم، أصابها ما أصاب الفاطميين أنفسهم، وكان ابتداء هذه المحنة التي نكبت بها مكتبات القصر إبان الشدة العظمى التي حلت بالبلاد أيام المستنصر بالله الفاطمي، وقد شاهد المسبحي المؤرخ المصري شيئا من هذه المحنة، وصفها بقوله: «وكنت بمصر في العشر الأول من محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة، فرأيت فيها خمسة وعشرين جملا موقرة كتبا، محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي، فسألت عنها، فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر هو والخطير بن الموفق في الدين بإيجاب وجبت لهما عما يستحقانه وغلمانهما من ديوان الجبليين، وأن حصة الوزير أبي الفرج منها قومت عليه من جاري مماليكه وغلمانه بخمسة آلاف دينار، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهب جميعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر في صفر من السنة المذكورة، مع غيرها مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج وابن أبي كدينة وغيرهما، هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم بالقاهرة، وسوى ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية، ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به لواتة محمولا مع ما صار إليه بالابتياع والغصب في بحر النيل والإسكندرية، في سنة إحدى وستين وأربعمائة وما بعدها، من الكتب الجليلة المقدار المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة وحسن خط وتجليد وغرابة التي أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم، وأحرق ورقها، تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره، وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم، سوى ما غرق وتلف، وحمل إلى سائر الأقطار، وبقي منها ما لم يحرق، وسفت عليه الرياح التراب فصار تلالا باقية في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب.»
30
هذا ما عاينه هذا المؤرخ المصري الكبير وذكره في كتبه، وعنه أخذ من جاء بعده عن هذه الذخيرة العلمية، ومقدار ما أصابها إبان الشدة المستنصرية من تلاعب الوزراء والخدم، بعد أن ضعف أمر الخلافة الفاطمية، وأصبح الوزراء والأمراء أصحاب الحول والطول في البلاد، ومع ذلك كله بقي في مكتبات القصر عدة آلاف من الكتب.
ويحدثنا ابن ميسر أنه وجد في ثروة الأفضل بن بدر الجمالي خمسمائة ألف مجلد من الكتب،
31
لا أشك أن أكثرها كان في خزائن القصر، وأبادها صلاح الدين الأيوبي كما أباد دولة الفاطميين، وقد ذكرنا ما أخذه القاضي الفاضل من خزائن القصر لمدرسته الفاضلية. ويذكر المقريزي أن ابن صورة دلال الكتب باع منها جملة في مدة أعوام،
صفحه نامشخص