كما أخذ الإسماعيلية عن الأفلاطونية الحديثة الفيوضات ومراتبها، بأن جعلها الإسماعيلية الحدود الروحانية والجسمانية، وأخذوا عن أفلاطون نظرية المثل، وعن الزرادشتية القديمة مذهب التخميس، وعن الفيثاغوريين القدماء مذهبهم في التوحيد وجعل الأعداد أصولا لعقائدهم، بل كان نظام دعوتهم هو النظم الفيثاغورية عينها. وهكذا يستطيع الباحث أن يرد كثيرا من الآراء والعقائد الفاطمية إلى أصولها الأولى، على الرغم من صبغ هذه الآراء والعقائد بالصبغة الإسلامية، حتى ليتوهم الباحث في كتبهم أن كل عقائدهم إسلامية لم يطرأ عليها أي علم أو رأي دخيل.
وخلاصة القول في العقائد الفاطمية: أن الولاية هي محور هذه العقائد، وأن فلسفتهم كلها تدور حول الإمام وتمجيده أكثر من أي شيء آخر، وهم يعتقدون بكل ما يعتقد به غيرهم من المسلمين من موت وحياة وبعث ونشر وثواب وعقاب، ويقومون بفرائض الدين، ويحرمون ما حرمه الله، ولا يقولون بالتعطيل أو الإباحة، ولم يعتنقوا التناسخ أو الحلول أو التلاشي، غير أنهم قالوا بأدوار الأنبياء، فلكل نبي دوره، ويأتي النبي الذي بعده ينسخ شرع النبي قبله، فلما جاء دور محمد وهو خاتم الأنبياء جمع الله له كل أدوار الأنبياء قبله، فمحمد هو آدم وهو نوح وهو إبراهيم وهو موسى وهو عيسى، وأن ما حدث في أدوار هؤلاء الأنبياء يحدث مثله في دور محمد، وما حدث لأوصياء الأنبياء يحدث لوصي محمد والأئمة بعده، وأولوا ذلك كله تأويلا يتفق مع عقيدتهم هذه، ونراه واضحا في أشعار شعرائهم ورسائل كتابهم، على النحو الذي نراه في باب الشعر من هذا الكتاب.
الفصل الثاني
مراتب الدعوة الفاطمية ومراكزها
رتب الفاطميون لدعوتهم نظاما دقيقا محكما لا أكاد أجد له مثيلا في تاريخ الدول والدعوات، حتى في عصرنا هذا الذي عرف فيه للدعاية قدرها ومكانتها، ولعل الفاطميين هم أول من أقاموا للدعاية مناصب رسمية في دولتهم، ومن الحق علينا أن نذكر أنه كان للعباسيين نقباء يدعون لهم قبل أن يستولوا على الحكم، ولكن هؤلاء النقباء لم يظهر لهم شأن بعد أن تم الأمر للعباسيين، وكان للمعتزلة دعاة يدعون لآرائهم في الأقطار الإسلامية، ولكن المعتزلة لم يكن لهم كيان سياسي، ولم تكن لهم دولة لها حكومتها. أما الفاطميون فكان لهم نظم لدعوتهم قبل ظهور دولتهم على مسرح السياسة وبعد ظهورها، بل لا تزال هذه النظم قائمة إلى اليوم بين من ورث دعوتهم، وهم المعروفون بالبهرة، والمعروفون بالإسماعيلية الأغاخانية.
وكما أنهم في تأويلهم الديني يطبقون نظرية المثال والممثول التي تحدثنا عنها في الفصل السابق، كذلك نراهم قد طبقوا هذه النظرية أيضا على نظم الدعوة، أي إنهم أخذوا هذه النظم من المشاهدات المحسوسة، أي من نظام دورة الفلك، وتقسيم السنة إلى شهور وأيام وساعات، فالسنة اثنا عشر شهرا، والشهر ثلاثون يوما، واليوم أربع وعشرون ساعة، منها اثنتا عشرة بالنهار واثنتا عشرة بالليل، فكذلك قسمت مراتب الدعوة. فالسنة التي تجمع الشهور والأيام مثل على النبي في عصره أو الإمام الذي يجمع جميع مراتب الدعوة، والاثنا عشر شهرا مثل على رؤساء الدعوة في الجزائر،
1
ويسمون حجج الجزائر، ولكل من هؤلاء الحجج ثلاثون داعيا أو نقيبا، ولكل داع من هؤلاء الدعاة أربعة وعشرون داعيا مأذونا أو مكاسرا، ولكل مرتبة من هذه المراتب عمل خاص به، فالإمام يختار من شيعته أقواهم لسانا، وأصدقهم جنانا، وألحنهم بالحجة، وأغزرهم علما؛ فيجعله في مرتبة داعي الدعاة أو باب الأبواب، وهذه المرتبة أعلى مراتب الدعوة؛ لأنها تلي مرتبة الإمام مباشرة من الناحية المذهبية، فهو المالك لجماعة الحجج والدعاة، وإليه الإشراف على الدعوة في جميع الأقطار. وقد وصف أحد علماء المذهب هذه المرتبة بقوله: «وحد الباب هو من الحدود الصفوة واللباب، فهو أفضل الحدود، وهو حد العصمة، ولا ينتهي إلى ذلك إلى الآحاد والأفراد.»
2
وقال آخر: «هو باب صاحب الزمان الذي يؤتى منه إليه، وحجته على الخلق، وحامل علمه، وصاحب دعوته.»
صفحه نامشخص