ويخيل إلي أن فكرة التأويل الباطن على هذا النحو الذي نراه عند الإسماعيلية لم تعرف لدى المسلمين قبل عصر الترجمة والحركة العلمية التي ظهرت في عصر المأمون العباسي وبعده، وبعد أن ترجمت الكتب الفلسفية اليونانية، فالمعروف أن بعض فلاسفة الإسكندرية، وعلى الأخص فيلون وتلاميذه، حاولوا تأويل التوراة تأويلا باطنيا - إن صح هذا التعبير - وأن القديس أوغسطين هو أول من حاول تأويل الإنجيل تأويلا باطنيا كذلك، وجاء الإسماعيلية وأخذوا فكرة التأويل مما نقل إلى العرب من آثار هؤلاء الفلاسفة، ولكنهم صبغوا تأويلهم بالصبغة الإسلامية كعادتهم دائما في كل ما أخذوه عن العلوم والفلسفة الأجنبية، ومع ذلك كله لم يستطع الإسماعيلية ألا يتخلوا جملة عما أخذوه من العلوم والفلسفة الأجنبية، فقد ظهرت في تأويلاتهم آثار هذه العلوم والفلسفة كما ظهر تأثرهم بالعقائد والأديان القديمة التي غمرت العالم قبل الإسلام وبعده.
ويخيل إلي كذلك أنهم لم يتخذوا هذا التأويل الباطن إلا إمعانا منهم في زيادة شرف علي بن أبي طالب والأئمة، وخصهم بميزات تبعدهم بعض البعد من سائر البشر، فكأن الولاية هي المحور الذي تدور عليه جميع العقائد الفاطمية، فتأويلاتهم وفلسفتهم في الإبداع والخلق وكل عقيدة في النفس والعقل كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة هي الوصي والأئمة، ففي التأويل الباطن أن «وجه الله» و«يد الله» و«جنب الله» هم الأئمة، والشمس محمد، والقمر علي والأئمة، والأهلة هم الأئمة، بل ذهبوا كما ذهب بعض فلاسفة الإسكندرية إلى أن الله أبدع الكلمة «اللوجوس»، فقالوا: إن الكلمة هي «كن» من قوله تعالى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وكلمة «كن» حرفان كاف ونون، ولكنها في التأويل الباطن مثلان للحدود الروحانية المقربة إلى الله، فالكاف رمز للعقل الأول أو «القلم» وهو أقرب الحدود إلى الله، وهو الذي ورد فيه الحديث النبوي الذي رواه البخاري: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: أقبل فأقبل. فقال له: أدبر فأدبر. فقال: بعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أعز علي منك، بك أثيب وبك أعاقب ... إلخ.» والعقل الأول الذي ذكر في ظاهر القرآن بالقلم، ولأنه أقرب الحدود إلى الله تعالى وأسبقهم إلى معرفة الله وتوحيده سمي بالسابق. أما النون فهي رمز للنفس الكلية، وهي التي رمز إليها في القرآن باللوح وسميت بالتالي، وبناء على نظرية المثل والممثول يجب أن يكون في العالم الأرضي عالم جسماني ظاهر يماثل العالم الروحاني الباطن؛ فالإمام هو مثل السابق، وحجته مثل التالي، وكل خصائص العقل الأول «السابق» جعلت للإمام، فمثلا نرى الإسماعيلية ينزهون الله تعالى عن كل الصفات والأسماء، وقالوا: إن أسماء الله الحسنى هي أسماء العقل الأول «السابق»، وإن الله سبحانه يتعالى على أن يتصف بصفة، وإنه ليس أيسا وليس لبسا، إنما كل ما جاء في القرآن الكريم من صفات الله فهي صفات العقل الأول «السابق»، وإذن فهذه الصفات يوصف بها أيضا مثل العقل الأول في العالم الجسماني وهو الإمام، وعلى ضوء هذه النظرية نستطيع فهم قول ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فقد فهم القدماء من هذا البيت وأمثاله من شعر ابن هانئ أنه يؤله إمامه، وحكموا بأن الأئمة الفاطميين ادعوا الألوهية، بدليل هذا البيت وأمثاله، ولو كان القدماء يعرفون حقيقة العقيدة الفاطمية ما وجدوا في هذا القول تأليها ولا غلوا في العقيدة، وسنتحدث عن ذلك كله في باب الشعر.
وإذن فالتأويل الباطن عندهم لسبب واحد هو إغداق صفات التمجيد والتفخيم لأئمتهم. على أن الإسماعيلية الذين قالوا بالباطن وضرورته، قالوا أيضا بالظاهر معه، فلا يقبل الظاهر دون الباطن، ولا ينفع الباطن دون الظاهر، «فإن الظاهر والباطن كالروح والجسد إذا اجتمعا انقدحت الفوائد وعرفت المقاصد».
17
ومن عبد الله تعالى بظاهر دون باطن، أو بباطن دون ظاهر، فهو ممن يعبده على حرف،
18
صفحه نامشخص