مقدمة الطبعة الأولي
الكتاب الأول: في الحياة العقلية
الباب الأول: في الدعوة الفاطمية
1 - عقائد الفاطميين
2 - مراتب الدعوة الفاطمية ومراكزها
3 - مجالس الحكمة التأويلية
4 - أشهر علماء الدعوة الفاطمية
الباب الثاني: في الحياة العلمية
1 - العلوم الفلسفية
2 - علوم اللغة العربية والفقه
3 - التاريخ والسير
الكتاب الثاني: في الحياة الأدبية
الباب الأول: في الشعر
1 - ازدهار الشعر
2 - الشعر والأئمة
3 - الشعر والوزراء
4 - الشعر والحرب الصليبية
5 - في الغزل
6 - أغراض أخرى في الشعر
خاتمة القول في الشعر
الباب الثاني: في النثر
1 - ازدهار النثر
2 - كتاب ديوان الإنشاء
خاتمة
المصادر والمراجع
المصادر والمراجع الإفرنجية
مقدمة الطبعة الأولي
الكتاب الأول: في الحياة العقلية
الباب الأول: في الدعوة الفاطمية
1 - عقائد الفاطميين
2 - مراتب الدعوة الفاطمية ومراكزها
3 - مجالس الحكمة التأويلية
4 - أشهر علماء الدعوة الفاطمية
الباب الثاني: في الحياة العلمية
1 - العلوم الفلسفية
2 - علوم اللغة العربية والفقه
3 - التاريخ والسير
الكتاب الثاني: في الحياة الأدبية
الباب الأول: في الشعر
1 - ازدهار الشعر
2 - الشعر والأئمة
3 - الشعر والوزراء
4 - الشعر والحرب الصليبية
5 - في الغزل
6 - أغراض أخرى في الشعر
خاتمة القول في الشعر
الباب الثاني: في النثر
1 - ازدهار النثر
2 - كتاب ديوان الإنشاء
خاتمة
المصادر والمراجع
المصادر والمراجع الإفرنجية
في أدب مصر الفاطمية
في أدب مصر الفاطمية
تأليف
محمد كامل حسين
مقدمة الطبعة الأولي
هذا الكتاب «في أدب مصر الفاطمية»، حلقة جديدة من سلسلة: «أدب مصر الإسلامية»، وكان من حقه أن يكون بين يدي الجمهور منذ خمسة عشر عاما، ولكننا لم نشأ أن نخرجه للناس قبل أن نعطيهم صورة صحيحة لتلك النزعة الدينية التي تمايز بها عصر الفاطميين عن غيره من عصور مصر؛ فقد خضعت مصر لهذا المذهب الديني، واتخذها أئمة هذا المذهب قاعدة ملكهم، فأصبح هذا المذهب هو المحور الذي تدور عليه الحياة المصرية من اجتماعية وسياسية وفكرية وأدبية، بحيث لا نستطيع أن نعرف حقيقة هذه الألوان المختلفة من الحياة المصرية في عصر الفاطميين إلا على ضوء عقائد هذه الفرقة من فرق المسلمين.
أدركنا هذه الحقيقة، وقرأنا الكتب التي تحدثت عن الفاطميين وعقائدهم، فرأينا هذه الكتب تعطينا صورا متناقضة أشد التناقض عن عقائد الفاطميين بحيث لا يستطيع أن يطمئن إليها باحث؛ ففي الوقت الذي نرى فيه هذه الكتب تذهب إلى أن الفاطميين أقاموا دولتهم على أساس ديني إسلامي، وأن الخلفاء الفاطميين اتخذوا سندهم من نسبتهم إلى الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم ، وأن الفاطميين احتفلوا بالأعياد الدينية الإسلامية احتفالا لم يعهد من قبل، وأنهم أسسوا المساجد لإقامة الصلوات، وكانوا يخرجون لإمامة الناس والخطبة في الأعياد، إلى غير ذلك من المظاهر التي تشعر بأن الفاطميين كانوا من أشد الناس حرصا على الإسلام وتقاليد المسلمين، في الوقت نفسه نرى هذه الكتب أيضا تذهب إلى أن الفاطميين كانوا يقولون بالإباحة وتحليل ما حرمه الله تعالى، ونبذوا الصلاة والصوم والحج، بل عملوا على طرح الأديان، ودانوا بالتناسخ والحلول والتلاشي، وادعوا معرفة الغيب ... إلى غير ذلك. قرأنا ذلك كله، وعجبنا أشد العجب لهذا التناقض الذي وقع فيه القدماء والمحدثون، فحرصنا على أن نرجع إلى كتب دعوة الفاطميين، وراعنا أن القاهرة التي أنشأها الفاطميون وكانت قاعدة ملكهم الواسع، لا تحتفظ بكتاب واحد من كتب الدعوة، فسعينا إلى البحث في غير مصر، وكان السعي شاقا عسيرا كلفنا من الجهد والمال الشيء الكثير، وما حيلتنا إذا كانت أكثر كتب الدعوة في حوزة طاهر سيف الدين الذي لقب نفسه بسلطان البهرة، وزعم أنه الداعي المطلق لإمام مستور من نسل الأئمة الفاطميين، وهو رجل شحيح بهذه الكتب على الباحثين بدعوى أنها كتب الدعوة السرية، ولكن حجته هذه أوهى من بيت العنكبوت؛ فإن الأئمة الفاطميين - الذين ورث دعوتهم - لم يستروا علومهم، بل عملوا على نشرها وإذاعتها: شجعوا العلم والعلماء، وأنشئوا دار العلم وخزائن الكتب ليطلع عليها من يشاء متى يشاء، وكانوا يطلبون من العلماء تأليف الكتب على النحو الذي سنراه في هذا الكتاب، فطاهر سيف الدين الآن يعمل عكس ما عمله الأئمة، ويأتي بآراء لم نعهدها في عصر الفاطميين، ولعله يريد أن يظل أتباعه في جهل مطبق حتى يستطيع أن يخدعهم بهذه الآراء الرجعية التي لا سند لها من تقاليد الأئمة ونظمهم، ومن يدري لعله يريد أن يستغل ما عليه أتباعه من جهل بحقيقة الدعوة الفاطمية كي يستولي على أموالهم باسم الدين، شأنه في ذلك شأن كل دجال مشعوذ، ومع ذلك كله ففي طائفة البهرة عدد من المثقفين المستنيرين الذين لا يعبئون بطاهر سيف الدين، ولا يقيمون وزنا لضلالاته، زودونا بالكتب التي حرصنا على تقديمها للجمهور قبل أن نقدم إليهم هذا الكتاب، حتى يدركوا حقيقة الدعوة الفاطمية من كتب الدعاة أنفسهم، فقد نشرنا ستة كتب فاطمية، وسيتبعها كتب أخرى إن شاء الله.
والدعوة الفاطمية دعوة شيعية، وقبل أن نتحدث عنها وعن أثرها في مصر نتساءل: إلى أي حد عرفت مصر التشيع قبل دخول الفاطميين بها؟
كان المسلمون في مصر بعد الفتح العربي يجمعون على مذهب واحد، ويخضعون لإمام واحد، فلم نعرف أنه كان بين العرب الوافدين من خالف في مسألة الإمامة، أو تحدث عن تفضيل خليفة على آخر، ولكن بدأ المسلمون في عهد عثمان بن عفان يتحدثون عن سياسته وتصرفاته، فانتهز بعض المسلمين في مصر هذه الفرصة ودعوا لخلعه، ويروي الطبري قصة عجيبة عن ثورة المصريين ضد عثمان، وأن ذلك كان بتأثير عبد الله بن سبأ!
يقول الطبري: «كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم؛ فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما قال: لعجب من يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدا يرجع، وقد قال الله - عز وجل:
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد
فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي النبي. ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء ... إلخ.»
1
وهكذا ساق الطبري هذه الرواية بين روايات عديدة عن سبب قيام المصريين ضد عثمان، ونحن نعجب لهذه الرواية؛ إذ لم أجد في كتب التاريخ التي وضعها المصريون عن بلدهم وعن تراجم رجال مصر، مثل كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم، وكتب الكندي وابن الداية وابن زولاق، أو في كتب المتأخرين الذين نقلوا عن هؤلاء المؤرخين القدماء ما يشير إلى وفود شخصية عبد الله بن سبأ على مصر، أو أن أحدا من المصريين قال بمثل هذه المقالة التي زعم الطبري أن ابن سبأ علمها للمصريين، فلو صحت رواية الطبري لرأينا شيئا من إنكار الصحابة الذين كانوا في مصر إذ ذاك لهذه الدعوة السبئية، ومعارضتهم لها، ولا سيما أن ابن عبد الحكم وغيره رووا بعض الأحاديث عن صحابة مصر وترجموا لهم، ولم يرد ذكر ابن سبأ ولا آرائه، ولم يذكروا شيئا عن إنكار هذه الآراء أو معارضتها، فقصة ابن سبأ في مصر، وأنه بث آراء التشيع بين المصريين هي أقرب إلى الخرافات منها إلى أي شيء آخر.
حقيقة ثار بعض المصريين على عثمان، وقام محمد بن أبي حذيفة بانتزاع الإمارة في مصر، وطرد عامل عثمان من الفسطاط سنة 35ه، وزج بعدد من شيعة عثمان في السجون، ولكن ليس معنى ذلك أن ابن سبأ هو الذي أثر على الناس وألبهم على عثمان، إنما كان ذلك بتدبير بعض أبناء الصحابة الذين كرهوا أن يكون أمير مصر هو عبد الله بن أبي سرح أخو عثمان في الرضاعة، وكبر في نفوسهم أن يعزل عمرو بن العاص عن مصر، فلم تكن ثورة المصريين ضد عثمان تمت بسبب إلى تشيع المصريين إلى علي بن أبي طالب أو المطالبة بإمامته، وعلى الرغم من أن المصريين هم الذين بايعوا عليا بالخلافة بعد مقتل عثمان، فإن ذلك لم يكن عن حب خالص له أو عن عقيدة بأنه أحق الناس بها، فالمفاوضات التي كانت قبل مبايعته تدل على أنهم نظروا إلى علي بن أبي طالب نظرتهم إلى غيره من الصحابة، أضف إلى ذلك أن المصريين بعد أن بايعوا عليا عادوا إلى الفسطاط وهم يرجزون:
خذها إليك واحذرن أبا الحسن
إنا نمر الحرب إمرار الرسن
بالسيف لن نخمد نيران الفتن
ففي هذا الرجز تحذير للإمام الجديد علي بن أبي طالب، فإن سار على نهج عثمان في سياسته فهي الحروب الدائمة والفتن المستمرة، فهذا دليل على أن المصريين لم يذهبوا في علي بن أبي طالب ما رواه الطبري عن ابن سبأ، وأن المصريين لم يقدسوا عليا أو يقولوا بوصايته. ثم إننا نرى المسلمين في مصر انقسموا بعد مقتل عثمان إلى فريقين: فريق يطالب بدم المقتول، وفريق يؤيد خلافة علي، وكانت مصر من الولايات التي خضعت للأمراء الذين أرسلهم علي، ولكن أنصار علي لم يكن لهم شأن كبير في الأحداث التي جرت، ولم يقيموا وزنا للنزاع بين علي ومعاوية؛ فقد سم الأشتر النخعي على حدود مصر، وقتل الوالي محمد بن أبي بكر الصديق، وأدخلت جثته في إهاب حمار، وأحرقت على مرأى من المصريين، فلم يحرك شيعته ساكنا، فلو كان التشيع في مصر قويا لأسهم الشيعة في النزاع بين علي ومعاوية، ولناصروا عليا، ونحن نتساءل أيضا: أين كان شيعة مصر عندما قتل علي وبعد مقتل الحسين؟ وأين كان شيعة مصر إبان حركة المختار الثقفي؟ هذه أسئلة لم يجب عنها المؤرخون، فالمصادر التي بين أيدينا لم تذكر شيئا عن قيام الشيعة بمصر في المساهمة في الحركات الشيعية التي كانت في الأقطار الأخرى، مما يجعلنا نذهب إلى أن الشيعة في مصر كانوا من الضعف لدرجة أنهم لم يؤثروا في الحياة السياسية والعقلية؛ ولذلك نعجب لقول المؤرخين الذين يزعمون أنه بعد أن تم الأمر للأمويين أصبح الجند وأهل شوكة مصر عثمانية وكثير من أهلها علوية،
2
والمقصود بالعثمانية أهل الكف الذين قالوا: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. وإذا كان هذا موقف الشيعة في مصر من علي وابنه الحسين، فكيف نرى عددا من المصريين يخرج لمناصرة عبد الله بن الزبير في ثورته سنة 64ه ضد الأمويين، بل نرى ابن الزبير يرسل واليا من قبله على مصر هو عبد الرحمن بن جحدم الفهري وهو من الخوارج، وقد قدم مصر ومعه عدد كبير من الخوارج، فأظهروا بمصر التحكم ودعوا إليه،
3
ثم عادت الشوكة والقوة للعثمانية بعد فشل الزبيريين وعودة مصر لسلطان الأمويين، وكان الأمويون يظهرون في مصر سب علي بن أبي طالب دون خشية ثورة الشيعة، وذلك لضعف شأن الشيعة في مصر، ومع ذلك فقد روى المقريزي عن يزيد بن أبي حبيب المتوفى سنة 128ه أنه قال: نشأت بمصر وهي علوية، فقلبتها عثمانية.
4
فإن صح هذا القول عن يزيد، فإنما يدل على أن بعض المصريين كانوا يتحدثون عن فضائل علي، وأن يزيد استطاع أن يصرف الناس عن ذلك، ويجعلهم يميلون إلى رأي أهل الكف والمسائل الفقهية، ولا نستطيع أن نقول إن المصريين شغلوا بالآراء الشيعية التي شغلت شيعة العراق وفارس؛ فإننا نستطيع أن نمر بالعصر الأموي في مصر دون أن نسمع شيئا عن الشيعة بمصر، ومن يدري لعله كان بمصر شيعة هواهم مع أبناء علي وقلوبهم مع أهل البيت، ولكن سيوفهم كانت مع بني أمية، وأغفلت كتب التاريخ الحديث عنهم فأصبحنا لا ندري شيئا عن نشاط الشيعة في مصر في هذا العصر الأموي، ولا عن العقائد التي دانوا بها إلا ما قيل عن قصة فرار مروان بن محمد إلى مصر من وجه المسودة؛ فقد وجد الدعوة الجديدة سبقته إلى مصر، ووجدت بين المصريين قبولا، وقد ذكر الكندي أسماء زعماء هذه الحركة بمصر؛ ففي الحوف الشرقي كان أول من لبس السواد شرحبيل بن مذيلفة الكلبي، وفي الإسكندرية كان الأسود بن نافع، وبالصعيد عبد الأعلى بن سعيد الجيشاني، وبأسوان يحيى بن مسلم.
5
ونحن نعلم أن دعوة المسودة في أول أمرها كانت للرضا من أهل البيت، وتوهم الشيعة في جميع الأقطار الإسلامية أن الدعوة لهم فاستجابوا لها، ونشطوا مع القائمين بها، فلعل هؤلاء الذين دعوا للمسودة في مصر كانوا من الشيعة، وتوهموا ما وهمه غيرهم، فإن صح ذلك فتكون هذه أول حركة شيعية في مصر علمنا بها.
ومهما يكن من شيء فإن مروان استطاع أن يقضي على هذه الحركة وأن يقتل زعماءها ، ولكن القدر لم يمهله كي يستمر في حكم مصر، فقد دخلت جيوش العباسيين مصر سنة 133ه، وقبض على مروان بن محمد ومن معه من الموالين للأمويين، وخضعت مصر للعباسيين، وكان العباسيون في مبدأ أمرهم يتحببون إلى الشيعة، فمحي من مصر سب علي وآله، وظن العلويون أن الأيام أقبلت عليهم، وجاءت دولتهم التي طالما حلموا بها، ولكنهم سرعان ما فطنوا إلى أن العباسيين نقمة حلت بهم؛ ذلك أن العباسيين نكلوا بأهل البيت ومن لاذ بهم أو من عرف بولايتهم، فلا غرابة إذا كنا نرى في العصر العباسي سلسلة حركات شيعية تظهر من وقت إلى آخر، وأمعن الشيعة في التقية، وأكثروا من الدعوات السرية المختلفة، وكانت مصر من الميادين التي ظهرت فيها بعض حركات الشيعة في العصر العباسي، ففي خلافة أبي جعفر المنصور قدم مصر سنة 144ه علي بن محمد بن عبد الله ودعا لأبيه النفس الزكية، وانتشرت دعوته في البلاد على يد الداعي خالد بن سعيد بن ربيعة الصدفي، ولكن الوالي العباسي استطاع أن يقضي على هذه الحركة.
6
وفي عهد المتوكل العباسي أرسل إلى والي مصر بإخراج كل أهل البيت من مصر إلى العراق، فأخرج الوالي إسحاق بن يحيى سنة 235ه بعض أهل البيت بعد أن فرق فيهم الأموال ليتحملوا بها، فأعطى كل رجل ثلاثين دينارا والمرأة خمسة عشر دينارا،
7
فاضطر من كان بمصر من الشيعة إلى التقية خوفا من بطش العباسيين، ولا سيما بعد أن أصبح أكثر الولاة في مصر من الأترك الذين كانوا شديدي التعصب ضد الشيعة، ولعل أكثر الولاة الأتراك اضطهادا للشيعة ومطاردة لهم هو الوالي يزيد بن عبد الله الذي ولي مصر سنة 242ه، وظل على مصر حتى سنة 255ه، وتذكر كتب التاريخ قصصا عديدة عما أتاه هذا الوالي من اضطهاد للشيعة، من ذلك أنه ضرب رجلا من الجند في شيء وجب عليه، فأقسم الجندي بحق الحسن والحسين إلا أعفاه، فزاده الوالي ثلاثين درة، ورفع صاحب البريد أمر هذا الجندي إلى الخليفة في بغداد ، فأمر بضربه مائة سوط، ثم حمل بعد ذلك إلى بغداد،
8
وفي أيامه دل على علوي هو محمد بن علي بن الحسن بن علي زين العابدين، فذهب الوالي وأحرق الموضع الذي به العلوي بعد أن قبض عليه،
9
وفي أيامه أيضا أتاه من بغداد بأن لا يقبل علوي ضيعة ولا يركب فرسا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، ومن كانت بينه وبين أحد العلويين خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة،
10
وفي سنة 250ه أخرج هذا الوالي ستة رجال من الطالبيين إلى العراق، وفي رجب من السنة التالية أخرج ثمانية منهم،
11
وكانت هذه السياسة التعسفية سببا في أن ينضم أحد العلويين وهو عبد الله بن أحمد بن محمد المعروف بابن الأرقط، إلى ثورة جابر المدلجي سنة 252ه، وقوي الثائرون بانضمامه إليهم، وزاد عددهم فهزموا جيش الوالي الذي استعان بالخليفة العباسي فأمده الجيش بقيادة مزاحم بن خاقان فأخمدت الثورة، واستأمن ابن الأرقط العلوي فأخرج من مصر.
12
وفي سنة 254ه ثار بغا الأكبر وهو أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن طباطبا، ولكنه هزم وقتل، وفي سنة 255ه في ولاية أحمد بن طولون خرج بغا الأصغر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا، وانتشرت دعوته في الإسكندرية وبرقة والصعيد ولكنه قتل، وفي هذه السنة أيضا خرج بمصر ابن الصوفي وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى من نسل عمر بن أبي طالب، واستمر ثائرا يحارب ابن طولون أربع سنوات إلى أن هزم، فاضطر إلى أن يهرب إلى مكة سنة 259ه.
وكانت المصائب التي صبها الجند من السودان على الشيعة بمصر أضعاف ما نال الشيعة من اضطهاد الولاة، فقد كثر عدد السودان في مصر واستفحل أمرهم، فأصبحوا مصدر فتن بين أهل السنة والشيعة، ففي سنة 350ه خرج شيعة مصر إلى قبر كلثوم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق، وأقاموا هناك مأتم الحسين، فتدخل الجند واضطربت الأمور بين الجند والشيعة، وقتل جماعة من الفريقين، فلم يكتف الجند من السودان بذلك بل ساروا في الطرقات يصيحون: معاوية خال علي! حتى إنهم كانوا يصيحون بنقيب الأشراف الحسنيين أبي جعفر مسلم، ويهتفون بذلك في وجهه،
13
ولما ورد الخبر بقيام بني الحسن بمكة ومحاربتهم الحاج، خرج خلق من المصريين، ولقوا كافورا الأخشيدي بالميدان، وصاحوا: معاوية خال علي! وسألوه أن يبعث جيشا لمحاربة بني الحسن.
14
وهكذا كان حال الشيعة في مصر، فقد أصابهم ما أصاب غيرهم في الأقطار الإسلامية من اضطهاد العباسيين ونقمتهم، وهذه الأمثلة التي أوردنا بعضها إن دلت على شيء فإنما تدل على أن التشيع بدأ يدخل مصر، بل أخذ يقوى ويشتد أزره، وأصبح الشيعة يؤثرون في الحياة العامة بمصر، ويقومون بثورات ضد الولاة. أضف إلى ذلك أن مصر في هذا العصر شاهدت عددا من العلماء الذين كانوا يفضلون عليا على الشيخين، ويخلصون في حبهم لأهل البيت، ولعل الشافعي أصدق مثل لذلك، ففي شعره ما يدل على عاطفة مخلصة قوية لأهل البيت، فهو يقول:
يا آل بيت رسول الله حبكم
فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له
15
فهذا قول إمام من أئمة أهل السنة، وصاحب مذهب فقهي من مذاهبهم، فقد ذهب إلى أن حب أهل البيت فرض أنزله الله تعالى في القرآن، وأن الله تعالى لا يقبل صلاة من لا يصلي على أهل البيت، وهذه آراء شيعية لا يقول بها إلا متعصب في تشيعه، ونحن نشك في أن تصدر مثل هذه الآراء من الشافعي، ونخشى أن تكون موضوعة ونسبت إليه، ولكن الشافعي يظهر مرة أخرى أنه يحب عليا، ولا ينكر فضل الشيخين، وهذا الرأي يخالف الرأي السابق، فالشافعي يقول:
إذا نحن فضلنا عليا فإننا
روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل
وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته
رميت بنصب عند ذكري للفضل
فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما
بحبيهما حتى أوسد في الرمل
وهكذا كان الشافعي في أحاديثه وأماليه وأشعاره يشيد بفضل علي وحبه، وأخذ المصريون عن الشافعي فيما أخذوه هذا الحب لأهل البيت، واتخذ المصريون عادة التبرك بأهل البيت أحياء وأمواتا، فقد قيل: إنه في سنة 208ه توفيت بمصر السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد، فأراد زوجها إسحاق بن جعفر الصادق أن يحملها ليدفنها بالمدينة، ولكن أهل مصر سألوه أن يتركها في مصر ليتبركوا بها،
16
فدفنت في مصر وبنى قبرها الوالي عبيد الله بن السري بن الحكم، ولا يزال قبرها إلى الآن مقصد المسلمين في مصر يتبركون بها. ووضع النسائي المحدث المعروف كتابا في فضائل علي بن أبي طالب رواه عنه المصريون، ومنهم القاضي الفقيه محمد بن أحمد بن الحداد،
17
وكان هذا القاضي ممن يفضلون عليا، ولكنه لم يستطع أن يصرح بذلك خوفا من السلطان ومن شغب العامة، ويروي ابن زولاق أن ابن الحداد كان في مجلس أبي القاسم بن الإخشيد مع جماعة، فلما نهض ابن الحداد أمسكه ابن الإخشيد وسأله: أيهما أفضل أبو بكر وعمر أم علي؟ فقال القاضي: الاثنان حذاء واحد. فكرر عليه السؤال فقال ابن الحداد: إن كان عندك فعلي، وإن كان بره - في الخارج - فأبو بكر.
18
وشبيه بهذا ما يرويه ابن زولاق أيضا عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فقيه مصر ورئيس مذهب مالك في عصره، أن رجلا سأله: أيهما أفضل أبو بكر وعمر أم علي؟ فاستعفاه ابن عبد الحكم، فألح عليه الرجل، فقال له ابن عبد الحكم: إن أخبرت أحدا عما أقول لك كلمت أحمد بن طولون الأمير فضربك بالسياط، علي أفضل.
19
وقبل أن يموت ابن المزرع كان في حلقته يلقي دروسه الأدبية واللغوية على المصريين، فتطرق الحديث عن أبي بكر وعمر وعلي، فانقسم الناس إلى طائفتين؛ طائفة تزيد فضائل علي، وطائفة تزيد فضائل أبي بكر، وكانت هذه الطائفة الأخيرة أكبر،
20
فهذا كله يدل على أن المصريين أخذوا ينقسمون بين أبي بكر وعلي، وأن الحديث قد كثر في التفضيل بينهما، ولكن الذين كانوا يفضلون عليا كانوا يتسترون خوفا من شغب العامة، وبطش الولاة وجندهم من السودان.
على أن أمر الشيعة بمصر أخذ يقوى منذ استطاع دعاة عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية بسط دعوتهم في شمال أفريقيا، وتقويض أركان دولة بني الأغلب، وقد كان للمهدي دعاة وأنصار بمصر، ويحدثنا القاضي النعمان في كتابه افتتاح الدعوة، أن المهدي نفسه دخل مصر مستترا في زي التجار هربا من العباسيين، فأتت الكتب من بغداد إلى والي مصر بصفة المهدي والأمر في طلبه، وكان بعض أهل خاصة ذلك الوالي وليا مؤمنا «بدعوة المهدي» فأسرع إلى المهدي بالخبر، ولطف في أمره إلى أن خرج المهدي من مصر ومعه القائم وبعض عبيده.
21
ويروي صاحب سيرة جعفر بن علي الحاجب: وسرنا - أي المهدي ورجاله - من الرملة إلى مصر، فاستقبلنا أبو علي الداعي، وكان مقيما يدعو بها وأكثر دعاة الإمام من قبله، وكان فيروز الذي رعاه ورباه وزوجه ابنته أم أبي الحسين ولده، فتقدم إليه المهدي قبل دخولنا مصر بأن لا ينزله عنده ولا عند من يشار إليه بشيء من أمرنا، وأن ينزله عند من يثق به، فأنزله عند ابن عياش.
22
ويقول في موضع آخر عن داعي المهدي بمصر: ولما صح عند فيروز خروج المهدي إلى المغرب تغيرت نيته وعزم على النفاق، وكان قد زوج ابنته كما ذكرنا أولا بأبي علي الداعي بمصر، ومحمد أبو الحسين بن أبي علي الداعي ولده، وقد بلغ محمد أبو الحسين هذا مع الأئمة المهدي بالله والقائم بأمر الله والمنصور بالله والمعز لدين الله - صلوات الله عليهم - المحل الجليل العظيم، وكان داعي الدعاة.
23
ولما تم الأمر للمهدي بالمغرب سنة 296ه راسله شيعته بمصر للنهوض إليها، وفعلا حاول الفاطميون غزو مصر عدة مرات، منها تلك الحملة التي كانت بقيادة حباسة بن يوسف الكتامي التي نجحت في دخول الإسكندرية، ولكن تكاثرت جيوش العباسيين فانهزم حباسة،
24
وشعر والي مصر أن بين المصريين من كاتب الفاطميين لغزو البلاد، فتتبعهم الوالي، وسجن منهم عددا كبيرا، وعذب آخرين بقطع أيديهم وأرجلهم،
25
وفي ذلك قال الشاعر المصري ابن مهران:
وقد وافى حباسة في كتام
بكل مهند وبكل خطي
وقد حشدوا لمصر ودون مصر
له خرط القتاد وأي خرط
وأقبل جاهلا حتى تخطى
وجاز بجهله حد التخطي
بكتب جماعة قد كاتبوه
من أقباط بمصر وغير قبطي
وكل كاتبوه ونافقونا
وكل في البلاد له موطي
فقل لحباسة إن كنت عنا
مضيت فإن قتلك ليس يبطي
26
كذلك نذكر الحملة التي كان يقودها القائم بأمر الله في سنة 307ه، فقد فتح القائم بأمر الله الإسكندرية، ثم سار إلى الفيوم، وكاتب المصريين بالنثر تارة وبالشعر تارة أخرى، فكان القائد مؤنس الخادم يصادر هذه المكاتبات، ويرسلها إلى الخليفة العباسي المقتدر، وظلت أحوال القائم بمصر مضطربة حتى اضطر إلى العودة إلى المغرب سنة 309ه، وقد حفظ عريب بن سعد القرطبي صورة مقطوعة من الشعر، قيل: إن القائم أرسلها إلى شيعته من المصريين يستنهض همهم، وذهب عريب إلى أن هذه المقطوعة أرسلت إلى بغداد، وأن الخليفة أمر محمد بن يحيى الصولي بالرد عليها، وهاك المقطوعة:
أيا أهل شرق الله زالت حلومكم
أم اختدعت من قلة الفهم والأدب
صلاتكم مع من؟ وحجكم بمن؟
وغزوكم فيمن؟ أجيبوا بلا كذب
صلاتكم والحج والغزو ويلكم
بشراب خمر عاكفين على الريب
ألم ترني بعت الرفاهة بالسرى
وقمت بأمر الله حقا كما وجب
صبرت وفي الصبر النجاح وربما
تعجل ذو رأي فأخطأ ولم يصب
إلى أن أراد الله إعزاز دينه
فقمت بأمر الله قومة محتسب
وناديت أهل الغرب دعوة واثق
برب كريم من تولاه لم يخب
فجاءوا سراعا نحو أصيد ماجد
يبادونه بالطوع من جملة العرب
وسرت بخيل الله تلقاء أرضكم
وقد لاح وجه الموت من خلل الحجب
وأردفتها خيلا عتاقا يقودها
رجال كأمثال الليوث لها جنب
شعارهم جدي ودعوتهم أبي
وقولهم قولي على النأي والقرب
فكان بحمد الله ما قد عرفتم
وفزت بسهم الفلح والنصر والغلب
وذلك دأبي ما بقيت ودأبكم
فدونكم حربا تضرم كاللهب
27
وتتابعت غزوات الفاطميين لمصر فكانت ترد مهزومة مدحورة، فاضطر شيعة المهدي إلى اتخاذ التقية وإلى الدعوة السرية حتى ولي كافور نيابة عن ابن سيده الحسن بن عبد الله بن طغج، وكان ابن طغج ضعيفا، فطمع فيه الجند وكرهوه، واستغل ضعفه أحد دعاة الفاطميين وهو أبو جعفر بن نصر، وحبب إليه دخول مذهبه، ومكاتبة المعز لدين الله.
28
ويذكر ابن زولاق أنه كان بمصر داعية آخر يسمى بأبي عيسى عبد العزيز بن أحمد،
29
ويخيل إلي أن أبا جعفر بن نصر الداعي كان معروفا أكثر من صاحبه، وأنه كان من جلساء كافور وبني طغج، وعرف عنه الدعوة للفاطميين في مصر، ولا أدري سبب سكوت الأمير عنه. ويذكر ابن زولاق أن هذا الداعي بنى دارا له بمصر، فمر عليه سيبويه المصري فقال: كافور الأسود غدا يؤخذ بأذنه، إنما بنيت هذا الدار لصاحب المغرب تؤخذ فيها البيعة على كل تابع ومتبوع، وذليل مرفوع، تغير فيها الأحوال وتحمل إليها الأموال.
30
معنى هذا كله: أن الدعوة الفاطمية كانت أسبق إلى مصر من جيوش الفاطميين، وأن الدعاة استطاعوا أن يبذروا بين بعض المصريين عقائد الفاطميين، فاستجاب لهم من استجاب، وكانوا عونا لجيش جوهر القائد في دخول مصر سنة 358ه.
إذن كان بمصر شيعة، ولكننا لا ندري إلى أي فرقة من فرق الشيعة كان المصريون، ويغلب على ظني أن المصريين لم يعتنقوا مذهبا من مذاهب التشيع كغيرهم من فرق الشيعة الأخرى، ولم يتخذوا التشيع من ناحية العبادة العملية كما فعل غيرهم، إنما كان هواهم مع علي بن أبي طالب وأهل بيته، ولكنهم لم يجاهدوا كما جاهد الشيعة في الأقطار الأخرى، ولم يفلسفوا عقيدتهم الدينية على النحو الذي نراه عند غيرهم، بل اكتفوا بالقول بتفضيل علي، وحرصوا على حبهم وولائهم لأهل البيت، يكرمون الأحياء ويتبركون بالأموات، حتى دخل جوهر مصر، ووجد المصريون أنفسهم أن لا طاقة لهم بقتاله وصده عن ديارهم، فأرسلوا إليه وفدا برياسة أحد العلويين بمصر كان نقيب الأشراف الحسنيين بها، وهو أبو جعفر مسلم بن عبد الله الحسني، وطلبوا من جوهر الأمان والصلح، فأجابهم، وكتب لهم الأمان، وفيه نص بتأمين المصريين على عقيدتهم، فقد كان السواد الأعظم من المصريين حريصين أشد الحرص على أن لا يتحولوا عن مذهبهم الديني الذي كانوا عليه، وهو مذهب أهل الجماعة والسنة، وأن لا يتعرض الفاطميون لعقائدهم التي دانوا بها، فألحوا في أن يذكر جوهر ذلك في كتاب أمانه لهم. فهل وفى الفاطميون في مصر بذلك؟ الواقع أن الفاطميين لم يحترموا الأمان الذي أعطاه جوهر للمصريين، فقد عملوا على تشيع المصريين على النحو الذي سنراه في هذا الكتاب، فأصبحت مصر شيعية، لها من الآراء ما تتمايز به في هذا العصر عن جميع عصورها التاريخية، وأثرت هذه العقائد الفاطمية الجديدة على الحياة المصرية، بل تعدت مصر إلى غيرها من البلدان الأخرى ولا سيما التي خضعت لنفوذ الفاطميين، فأثرت في الحياة العقلية الإسلامية تأثيرا كان له خطره في جميع البلدان الإسلامية.
وهذا الكتاب هو محاولة الكشف عن الحياة العقلية والأدبية بمصر في عصر الفاطميين، وهو عصر غامض لنا أشد الغموض على الرغم مما كتب حوله، وكان عصر الفاطميين عصرا زاهرا في الأدب والعلم، ولكن ما بقي لنا من آثار هذه الفنون والعلوم شيء قليل جدا متفرق في كتب مختلفة، وقد حاولنا مما بقي لنا أن نعطي صورة لما كانت عليه الحياة العقلية والأدبية، ونرجو أن نكون قد وفقنا في هذه المحاولة.
محمد كامل حسين
جزيرة الروضة في 15 أبريل سنة 1950
27 جمادى الآخرة سنة 1369
الكتاب الأول: في الحياة العقلية
الباب الأول
في الدعوة الفاطمية
الفصل الأول
عقائد الفاطميين
جاء الفاطميون مصر يدعون إلى عقيدة تختلف عما كان عليه أكثر المسلمين؛ فقد كان السواد الأعظم من مسلمي مصر ينقسمون بين مذهب مالك وبين مذهب الشافعي، وقليل منهم من كان على مذهب أبي حنيفة، ومهما كانت الفروق بين هذه المذاهب فكلها من مذاهب أهل السنة والجماعة التي تخالف عقائد الفرق الشيعية وتباينها؛ والفاطميون فرقة من فرق الشيعة عرفت بالإسماعيلية نسبة إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق. قال الفاطميون بنبوة محمد عليه السلام، ووصاية علي بن أبي طالب،
1
وإمامة ابنه الحسن، فالحسين، فزين العابدين، فمحمد الباقر، فجعفر الصادق. فهم على هذا النحو يتفقون في تسلسل الإمامة مع الشيعة الاثني عشرية، وبعد وفاة جعفر الصادق سنة 148ه انقسمت الشيعة الإمامية إلى الإسماعيلية، وهي الفرقة التي قالت بإمامة إسماعيل بن جعفر، فابنه محمد بن إسماعيل، فأئمة «دور الستر» وهم: عبد الله بن محمد، فأحمد بن عبد الله، فالحسين بن أحمد،
2
ثم أئمة دور الظهور، وأولهم عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية. وإذا قرأنا كتب دعاة الفاطميين استطعنا أن نطمئن إلى أن الفاطميين نظروا إلى أئمتهم على أنهم من البشر، يجري عليهم ما يجري على البشر من موت وحياة، فهم في ذلك يخالفون الغلاة من الشيعة الذين ألهوا عليا والأئمة من ذريته، وقالوا: إنهم أحياء يرزقون، ويخالفون الشيعة الاثني عشرية الذين ذهبوا إلى غيبة الإمام محمد بن الحسن العسكري، وأنه سيظل حيا حتى يعود ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا. وقال الفاطميون: إن الإمامة تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ولا تنتقل من أخ إلى أخ بعد انتقالها من الحسن إلى الحسين ابني علي بن أبي طالب، فالأب ينص على ابنه في حياته. وهذه العقيدة أصل من أصول المذهب في تسلسل الإمامة عند الفاطميين، وقد أولوا قول الله تعالى:
وجعلها كلمة باقية في عقبه
بأن الله - سبحانه وتعالى - لا يترك العالم خاليا من إمام ظاهر مكشوف أو باطن مستور، تنتقل الإمامة إليه بعد أبيه الإمام من نسل علي بن أبي طالب.
والإمام حجة الله على عباده، وهاديهم إلى الطريق القويم؛ فوجب على كل مؤمن أن يتبع هذا الإمام، وجعلوا ولاية الإمام أحد أركان الدين ودعائمه، بل ذهبوا إلى أن الولاية أفضل دعائم الدين وأقواها، ولا يستقيم الدين إلا بها. قال المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي في مجالسه: «فلو أن رجلا عمل بفرائض الله تعالى وسننه التي جاء بها رسوله كلها، ثم لم يقترن بعمله اعتقاد ولاية الرسول - عليه الصلاة والسلام - الآتي بها لم يغن عنه ما عمل فتيلا، ولم يتبع غير أهل النار سبيلا؛ إذ ولاية الرسول كالمركز الذي تدور عليه دائرة الفرائض، فلا يصح وجودها إلا بوجوده، وإذا كانت هذه نصبة الرسول في حياته كانت نصبة من يوليه أمر دينه مثلها، ومثل ذلك نصبة من يليه ومن يلي من يليه ما انتقلت الولاية من واحد إلى واحد، وورثها ولد عن والد؛ إذ الولاية هي الأصل الذي يدور عليه موضوع الفرائض.»
3
وبهذا الرأي يقول الشيعة الإمامية جميعا، وهو ما يتمايزون به عن جمهور أهل السنة، وأيد الشيعة الإمامية ومنهم الإسماعيلية هذا الرأي، بقصة تروي أن النبي بعد أن أدى حجة الوداع ونزل عند «غدير خم» في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، هناك أنزل عليه قوله تعالى:
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، فذهب الشيعة إلى أن النبي الكريم صدع بأمر ربه وأمر بالصلاة، حتى إذا انتهى منها أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى. قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.» واعتبر الشيعة قول الرسول - عليه السلام - تبليغا لأمر الله تعالى، ونصا صريحا بوجوب اتباع علي وولايته، ومن بعده من ذريته المنصوص عليهم. وقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب هذه القصة وأتبعها بقوله: «فلقيه - أي لقي عليا - عمر بن الخطاب، فقال: هنيئا لك يابن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.»
4
فالشيعة الإمامية على اتفاق مع الإسماعيلية في وجوب ولاية الوصي علي بن أبي طالب، ويروون عن النبي أحاديث كثيرة في شأن علي، مثل قولهم: «أنا مدينة العلم وعلي بابها.» و«علي مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.» و«أنا المنذر وعلي الهادي من بعدي.» و«النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض.» و«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.» و«أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تركها غرق.» و«إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.»
5
واشترك الفاطميون في رواية هذه الأحاديث وغيرها.
واتخذ الفاطميون دليلا آخر أخذوه من تاريخ الأنبياء الذين سبقوا دور محمد - عليه السلام - فذهبوا إلى أن لكل نبي وصيا يكل إليه أمر المؤمنين، وأن الله تعالى هو الذي يوحي إلى نبيه بإعلان من اختاره الله وصيا لنبيه، وخليفة له، فكان وصي آدم هابيل، ووصي نوح ابنه سام، ووصي إبراهيم ابنه إسماعيل، وكان وصي موسى أخاه هارون، ووصي عيسى بن مريم حواريه شمعون الصفا - سمعان بن يونا المعروف بالصفا
6 - فوجب أن يكون لمحمد وصي، شأنه في ذلك شأن غيره من الأنبياء السابقين، وأن الله تعالى اختار علي بن أبي طالب لمرتبة الوصاية، ويخيل إلي أن الفاطميين أخذوا هذا الرأي مما جاء في إنجيل يوحنا في مواضع متعددة أن سمعان بن يونا هو الذي سماه المسيح بطرس أو صفا، وأمره المسيح أن يرعى بعده خرافه أي جماعة المؤمنين، فصبغ الشيعة هذه العقيدة بالصبغة الإسلامية، اتخذوا لها أدلة من القرآن والأحاديث، على أن الإسماعيلية الذين جعلوا عليا وصيا للنبي جعلوا عليا من ناحية أخرى يشارك النبي في كل صفاته وخصائصه وفضائله، إلا في مرتبة النبوة والرسالة اللتين خص بهما النبي وحده، فكل الآيات القرآنية التي جاءت في النبي كقوله تعالى:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، و
إنما أنت منذر ولكل قوم هاد
إلى غير ذلك من الآيات، هي في محمد وفي علي أيضا، بل جعلوها في كل الأئمة المنصوص عليهم من نسل علي.
ولم يكتف الإسماعيلية بذلك بل ذهبوا في تأويل كثير من آيات القرآن إلى أن الله تعالى يشير فيها إلى علي والأئمة من ذريته، مثل قوله تعالى:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ، وقوله:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ، وقوله:
وأولي الأمر منكم ، وقوله:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
وغير ذلك. فقد أولت جميع هذه الآيات بأن الإشارة فيها إلى علي بن أبي طالب والأئمة من أهل بيته الذين اصطفاهم الله واختارهم دون غيرهم من البشر. فمحمد وعلي عندهم صنوان متشابهان في كل الصفات إلا في مرتبة النبوة التي أطلقوا عليها اسم «مرتبة الاستيداع»، فقد اختص بها محمد عليه السلام، على حين اختص علي بمرتبة الوصاية والإمامة التي أطلقوا عليها اسم «مرتبة الاستقرار»؛
7
ولذلك يروون أن النبي قال: لم أزل أنا وأنت يا علي من نور واحد ننتقل من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية، كلما ضمنا صلب ورحم ظهر لنا قدرة وعلم، حتى انتهينا إلى الجد الأفضل والأب الأكمل عبد المطلب، فانقسم ذلك النور نصفين في عبد الله وأبي طالب، فقال الله تعالى: «كن يا هذا محمدا، ويا هذا كن عليا.»
8
ولهذه العقيدة التي تجعل من علي شريكا وشبيها للنبي في كل شيء قال الإسماعيلية بعصمة الأنبياء والأوصياء والأئمة، بل لعل الفاطميين لم يدينوا بعصمة الأنبياء ولم يؤولوا قصص الأنبياء هذا التأويل الذي نراه في كتبهم،
9
إلا لإثبات عصمة أئمتهم، ولا ينفرد الإسماعيلية بالقول بهذه العصمة، إنما هو رأي جميع فرق الشيعة، وكان موضوع عصمة الأنبياء من موضوعات الجدال بين علماء الكلام.
ولعل المشاركة الكبرى التي جعلوها بين محمد وعلي هي عقيدتهم في التأويل الباطن، وهو العلم الذي خصوا أنفسهم به، وسموا من أجله بالباطنية، فقد جعلوا محمدا هو صاحب تنزيل القرآن، وجعلوا عليا صاحب تأويله، أي إن القرآن الكريم أنزل على محمد بلفظه ومعناه الظاهر للناس، أما أسرار الدين وأسرار التأويل الباطن فقد أنزلت على محمد، ولكنه خص بها عليا وأبناءه من بعده دون غيرهم من البشر، وأن عليا وأبناءه من الأئمة هم الذين يدلون الناس على هذه الأسرار. أخذ الإسماعيلية بعض آيات القرآن الكريم دليلا على عقيدتهم في وجوب التأويل كقوله تعالى:
وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ، وقوله:
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، وقوله:
سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي ذهبوا في تفسيرها إلى أن الله تعالى جعل لدينه تأويلا خاصا، يختلف عما يقول به جمهور أهل السنة والجماعة الذين أطلق الإسماعيلية عليهم لقب أهل الظاهر أو العامة.
واستدلوا بقول الله تعالى:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب
على أن الأنبياء والأوصياء والأئمة هم الراسخون في العلم، وهم الذين يعلمون تأويله، وذهب علماؤهم إلى أن قوله تعالى:
والراسخون في العلم
نسق على الله؛ وقوله:
يقولون آمنا به
أخرجوه مخرج الحال بمعنى أنهم ليعلمونه ويقولون آمنا به؛ إذ لو لم يكن الراسخون في العلم يعلمونه لكان مستحيلا منهم أن يقولوا آمنا به؛ لأن الإيمان معناه التصديق، والتصديق بالشيء لا يثبت إلا بعد إحاطة العلم به، ولا يجوز تصديق المرء بما لم يعلمه. ثم إنه ليس يخلو من أن يكون النبي علم بتأويل ما أتى به أو لم يعلم، فإن كان علم به بطل الوقف بعد لفظ «الله» في الآية السابقة، ووجب دخول النبي في شرط من علمه، وهو أول الراسخين في العلم وأفضلهم، وعنه أخذ من أخذ من الراسخين في العلم؛ وإن كان النبي لم يعلم فإرسال الله تعالى إياه بشيء إذا سئل عنه لا يعلمه، خارج عن الحكمة والرسالة.
10
فالنبي كان يعلم بتأويل القرآن، ومن يقوم مقام النبي في كل عصر يعلم هذا التأويل أيضا، وضربوا مثلا بقصة موسى مع الرجل الصالح التي وردت في القرآن الكريم بأن الله خص الرجل الصالح بأسرار لم يعرف كنهها نبي ناطق من الأنبياء، وهو موسى، فقصة موسى هذه دليل عندهم على أن العامة من المسلمين أضعف وأقصر من النهوض بأعباء تأويل القرآن الذي اختص به الوصي والأئمة، وفي ذلك يقول المؤيد في الدين:
وإن أجزنا ظاهر الكلام
في ذاك أسلمناه للخصام
ففي اختلافات القران كثرة
من كل قول مع كل زمرة
يا قوم سر الملكوت هذا
يجعل أصنامكم جذاذا
سر له صاحب موسى الخضرا
قال معي لن تستطيع صبرا
وقال موسى سوف ألفى صابرا
فلم يكن إذ ذاك إلا قاصرا
تدبروا القصة ماذا يمما
من قصها إن لم تكونوا نوما
لعلكم أن تحسبوها سمرا
إذن أسأتم النفوس النظرا
من كان ذا عقل وذا عينين
يبلغ حقا مجمع البحرين
11
ولهم أدلة عقلية على وجوب التأويل أخذوها أيضا من القرآن الكريم، كقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ، وفي قوله:
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، فذهبوا إلى أن مثالة الدين تؤخذ من خلقة السموات والأرض، وتركيب الأفلاك، وجميع ما يتأمل مما خلقه الله تعالى، فقد ركزت في المخلوقات كل معاني الدين الذي حمله القرآن الكريم، فآيات القرآن إذن في حاجة إلى من يخرج كنوز هذه المعاني،
12
وبناء على هذه الطريقة التي اتخذوها لأنفسهم للتأويل، وهذه القاعدة التي بها يستدلون بما في هذه الطبيعة والمخلوقات على الدين؛ جعلوا المخلوقات قسمين: قسم ظاهر للعيان، وقسم باطن خفي، وجعلوا الظاهر يدل على الباطن، وسموا الباطن ممثولا والظاهر مثلا، ولذلك أستطيع أن أطلق على نظرية التأويل عندهم «نظرية المثل والممثول»،
13
وقد أخذت هذا الاسم مما كتبه دعاة الفاطميين، فالمؤيد في الدين يقول في مجالسه: «خلق الله أمثالا وممثولات؛ فجسم الإنسان مثل ونفسه ممثول، والدنيا مثل والآخرة ممثول، وإن هذه الأعلام التي خلقها الله تعالى، وجعل قوام الحياة بها من الشمس والقمر والنجوم، لها ذوات قائمة يحل منها محل المثل، وإن قواها الباطنة التي تؤثر في المصنوعات هي ممثول تلك الأمثال.»
14
وقول صاحب المجالس المستنصرية: «معشر المؤمنين، إن الله تعالى ضرب لكم الأمثال جملا وتفصيلا، ولم يستح من صغر المثال إذا بين به ممثولا، وجعل ظاهر القرآن على باطنه دليلا.»
15
ويقول المؤيد في الدين:
اقصد حمى ممثوله دون المثل
ذا إبر النحل وهذا كالعسل
16
وإذن فالقاعدة في التأويل عند الإسماعيلية هي تطبيق نظرية المثل والممثول، فظاهر القرآن مثل وباطنه ممثولات، والظاهر: هو هذه المعاني التي يعرفها العامة، وينطق بها علماء أهل السنة. والباطن : هو هذه المعاني التي يستخلصها الوصي والأئمة من أهل البيت دون سواهم من سائر المسلمين. وعلى الرغم من أن الإسماعيلية أتوا بأدلة من القرآن الكريم على التأويل وعلى نظرية المثل والممثول، فإن هذه النظرية وإن كانت قد صبغت بالصبغة الإسلامية، فإنها هي نظرية المثل الأفلاطونية القديمة، أدخلوها في عقيدتهم بعد أن غيروا فيها بما يتفق مع تعاليمهم وعقائدهم الإسلامية.
ويخيل إلي أن فكرة التأويل الباطن على هذا النحو الذي نراه عند الإسماعيلية لم تعرف لدى المسلمين قبل عصر الترجمة والحركة العلمية التي ظهرت في عصر المأمون العباسي وبعده، وبعد أن ترجمت الكتب الفلسفية اليونانية، فالمعروف أن بعض فلاسفة الإسكندرية، وعلى الأخص فيلون وتلاميذه، حاولوا تأويل التوراة تأويلا باطنيا - إن صح هذا التعبير - وأن القديس أوغسطين هو أول من حاول تأويل الإنجيل تأويلا باطنيا كذلك، وجاء الإسماعيلية وأخذوا فكرة التأويل مما نقل إلى العرب من آثار هؤلاء الفلاسفة، ولكنهم صبغوا تأويلهم بالصبغة الإسلامية كعادتهم دائما في كل ما أخذوه عن العلوم والفلسفة الأجنبية، ومع ذلك كله لم يستطع الإسماعيلية ألا يتخلوا جملة عما أخذوه من العلوم والفلسفة الأجنبية، فقد ظهرت في تأويلاتهم آثار هذه العلوم والفلسفة كما ظهر تأثرهم بالعقائد والأديان القديمة التي غمرت العالم قبل الإسلام وبعده.
ويخيل إلي كذلك أنهم لم يتخذوا هذا التأويل الباطن إلا إمعانا منهم في زيادة شرف علي بن أبي طالب والأئمة، وخصهم بميزات تبعدهم بعض البعد من سائر البشر، فكأن الولاية هي المحور الذي تدور عليه جميع العقائد الفاطمية، فتأويلاتهم وفلسفتهم في الإبداع والخلق وكل عقيدة في النفس والعقل كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة هي الوصي والأئمة، ففي التأويل الباطن أن «وجه الله» و«يد الله» و«جنب الله» هم الأئمة، والشمس محمد، والقمر علي والأئمة، والأهلة هم الأئمة، بل ذهبوا كما ذهب بعض فلاسفة الإسكندرية إلى أن الله أبدع الكلمة «اللوجوس»، فقالوا: إن الكلمة هي «كن» من قوله تعالى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وكلمة «كن» حرفان كاف ونون، ولكنها في التأويل الباطن مثلان للحدود الروحانية المقربة إلى الله، فالكاف رمز للعقل الأول أو «القلم» وهو أقرب الحدود إلى الله، وهو الذي ورد فيه الحديث النبوي الذي رواه البخاري: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: أقبل فأقبل. فقال له: أدبر فأدبر. فقال: بعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أعز علي منك، بك أثيب وبك أعاقب ... إلخ.» والعقل الأول الذي ذكر في ظاهر القرآن بالقلم، ولأنه أقرب الحدود إلى الله تعالى وأسبقهم إلى معرفة الله وتوحيده سمي بالسابق. أما النون فهي رمز للنفس الكلية، وهي التي رمز إليها في القرآن باللوح وسميت بالتالي، وبناء على نظرية المثل والممثول يجب أن يكون في العالم الأرضي عالم جسماني ظاهر يماثل العالم الروحاني الباطن؛ فالإمام هو مثل السابق، وحجته مثل التالي، وكل خصائص العقل الأول «السابق» جعلت للإمام، فمثلا نرى الإسماعيلية ينزهون الله تعالى عن كل الصفات والأسماء، وقالوا: إن أسماء الله الحسنى هي أسماء العقل الأول «السابق»، وإن الله سبحانه يتعالى على أن يتصف بصفة، وإنه ليس أيسا وليس لبسا، إنما كل ما جاء في القرآن الكريم من صفات الله فهي صفات العقل الأول «السابق»، وإذن فهذه الصفات يوصف بها أيضا مثل العقل الأول في العالم الجسماني وهو الإمام، وعلى ضوء هذه النظرية نستطيع فهم قول ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فقد فهم القدماء من هذا البيت وأمثاله من شعر ابن هانئ أنه يؤله إمامه، وحكموا بأن الأئمة الفاطميين ادعوا الألوهية، بدليل هذا البيت وأمثاله، ولو كان القدماء يعرفون حقيقة العقيدة الفاطمية ما وجدوا في هذا القول تأليها ولا غلوا في العقيدة، وسنتحدث عن ذلك كله في باب الشعر.
وإذن فالتأويل الباطن عندهم لسبب واحد هو إغداق صفات التمجيد والتفخيم لأئمتهم. على أن الإسماعيلية الذين قالوا بالباطن وضرورته، قالوا أيضا بالظاهر معه، فلا يقبل الظاهر دون الباطن، ولا ينفع الباطن دون الظاهر، «فإن الظاهر والباطن كالروح والجسد إذا اجتمعا انقدحت الفوائد وعرفت المقاصد».
17
ومن عبد الله تعالى بظاهر دون باطن، أو بباطن دون ظاهر، فهو ممن يعبده على حرف،
18
والظاهر عندهم هو هذه العبادة العملية من طهارة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والجهاد في سبيل الله، فيجب على المؤمن أن يؤدي هذه الفرائض العملية الظاهرة كما ورد في كتاب الله وما سنه رسول الله، وفي الوقت نفسه يجب أن يؤمن بعلم الباطن الذي هو العبادة العلمية التي خص بها الوصي والأئمة، فالفاطميون إذن لم يعملوا على طرح الأديان وإبطال العبادة كما وهم الكتاب والمؤرخون الذين تحدثوا عن الفاطميين، بل كانوا كما قال شاعرهم المؤيد في الدين:
فإننا لأهل علم وعمل
لله دنا بهما عز وجل
19
وشاركوا غيرهم من المسلمين في هذه العبادة الظاهرة، ودعوا إليها دعواتهم إلى عبادتهم الباطنة، وإذا قرأنا كتب الفقه الإسماعيلي مثل كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد، وكتاب المجالس المستنصرية للداعي ثقة الإمام علم الإسلام؛ وجدنا أن الفقه الإسماعيلي لا يكاد يختلف عن فقه أهل السنة وفقه مالك على وجه خاص، مع أن الإسماعيلية لا يأخذون في أحكامهم الشرعية بالرأي ولا بالقياس، إنما يأخذون بالأحكام التي يشرعها الإمام، ومع ذلك لم يختلفوا عن مذهب أهل السنة إلا في بعض مسائل فرعية، لعل أهمها مسألة ابتداء شهر الصوم، فقد كانت هذه المسألة من أهم المسائل التي أثارت سخط المسلمين على الفاطميين، ذلك أن الفاطميين لا يبدءون صوم رمضان برؤية الهلال على ما يذهب إليه جمهور أهل السنة، فقد وجد الفاطميون أن الهلال إذا غم في بلد من البلاد بسبب سحاب أو غيره، فقد يظهر في بلد آخر قريب، فلا يصوم أهل البلد الأول على حين يصوم أهل البلد الآخر، وكثيرا ما يحدث اضطراب في بدء الصيام في البلد الواحد، فيقع ما يسمى بيوم الشك، وهو ما نشاهده كل عام إلى اليوم؛ ومن ثم لجأ الفاطميون إلى الفلك والحساب، فعملوا تقويما قمريا يحسبون بمقتضاه سير القمر، ويقدرون منازله حتى يعرفوا أن هلال رمضان قد أهل حقا، فجعلوا الشهور العربية شهرا تاما، والتالي له ناقصا دائما، وبذلك أصبح شعبان ناقصا دائما ورمضان تاما دائما، ومن هذا التقويم الدقيق عرفوا متى يبدأ رمضان ومتى ينتهي، دون الرجوع إلى رؤية الهلال رؤية نظر، بل جعلوا قول النبي الكريم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» أنها رؤية استبصار لا رؤية إبصار. وهذا التقويم الفاطمي جعلهم يصومون قبل جمهور أهل السنة بيوم أو يومين، ويبدءون عيد الفطر قبل جمهور أهل السنة بيوم أو يومين، ومن هنا أساء المؤرخون والعلماء الذين تحدثوا عن الفاطميين فهم حقيقة دعوتهم، ورموهم بالخروج عن الجماعة وعن الإسلام.
ومن الخلافات بين الفاطميين وجمهور أهل السنة، بل بين الشيعة عامة وبين السنيين: مسألة ميراث البنت، فالشيعة يورثون البنت كل ما تركه الأب إذا لم يترك ولدا ذكرا، ومن الخلافات أيضا مسألة مسح الرجلين في الوضوء؛ فقد ذهب الشيعة إلى وجوب المسح، على حين قال أهل السنة بوجوب غسل الرجلين، ومن أهم الخلافات التي بين الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية أن الفرقة الأولى تقول بأن إمامهم الثاني عشر حي يرزق منذ اختفى في السرداب، وأنه سيظهر ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا. على حين يذهب الإسماعيلية إلى أن الإمام من البشر، يجري عليه ما يجري على البشر من حياة وموت، فمن السخف أن يقال: إن إماما يعيش طول هذه المدة. ومن الخلاف أيضا قول الاثني عشرية بتحليل زواج المتعة، على حين يحرمه الإسماعيلية.
ولم يذهب الفاطميون بالقول بالرأي كالمعتزلة، ولا بالقياس كأهل السنة، بل رفضوا الأخذ بالرأي والقياس، وقالوا بالرجوع إلى الإمام المعصوم وإلى علوم أهل البيت التي خصهم بها الله تعالى دون غيرهم من سائر البشر، فعلم الباطن الذي خص به الأئمة دعاهم إلى القول بأن إعجاز القرآن من ناحية المعنى أقوى من إعجازه من ناحية اللفظ، فالقرآن معجز بلفظه ومعناه، ولكن إعجازه يظهر بما يحتويه من معان، وفي ذلك يقول المؤيد:
إن كان إعجاز القرآن لفظا
ولم ينل معناها منه حظا
صادفتم معقوده محلولا
من أجل أن أنكرتم تأويلا
وفكرة عصمة الإمام دعتهم كما دعت الشيعة عامة إلى القول بعصمة الأنبياء، أما ما ورد في القرآن الكريم عن معاصي الأنبياء، فقد ذهبوا في تأويلها إلى أوجه لم يعرفها المفسرون، ولا أدري من أين أتوا بها. راع ما كتبناه عن تأويل الأنبياء في كتاب «ديوان المؤيد في الدين».
وهكذا ترى الفاطميين لا يكادون يختلفون في عبادتهم العملية الظاهرة عن غيرهم من المسلمين، فهم يحرمون ما حرمه الله تعالى، ويتجنبون المآثم والمعاصي، ويحللون ما أحله الله تعالى للمسلمين، ولكن التأويل الباطني للإسماعيلية هو الذي جعلهم يوسعون الهوة بينهم وبين غيرهم من المسلمين، فقد أرادوا بتأويلهم الباطني إسباغ الفضائل على الأئمة، فجعلوا يناسبون العقل الأول، وصفات الله وأسماؤه الحسنى المذكورة في القرآن الكريم جعلوها للعقل الأول، وتبعا لذلك جعلوها للأئمة، أما الله - سبحانه وتعالى - فقد نزهوه عن كل صفة، ووحدوه التوحيد كله.
نوحد الله ولا نشبه
فقد انتفت عنا بذاك الشبه
20
فالإمام مثل سائر البشر مكون من جسم ونفس، وبعد موته يتحلل كل قسم إلى ما يناسبه، فالجسم الترابي يعود إلى التراب، والنفس الشريفة تعود إلى ما يجانسها ويناسبها، فتصبح نفس الإمام عقلا من العقول المدبرة للعالم، فلا تتناسخ ولا تتلاشى؛ لأن الفاطميين لا يدينون بالتناسخ، وهي المنقصة التي رماهم بها خصومهم، ولا يقولون بالتلاشي، بل ناقشوا أصحاب هذه العقائد وسفهوا آراءهم، كما كفروا الغلاة الذين ألهوا عليا والأئمة من أبنائه. قال المؤيد في الدين داعي الدعاة:
فكيف شرع الأنبياء ندفع
وما لنا إلا النبي مرجع
بنوره في الدرجات نرتقي
وبالكرام الكاتبين نلتقي
يا رب فالعن جاحدي الشرائع
وارمهم بأفجع الفجائع
والعن إلهي من يرى الإباحة
بلعنة فاضحة مجتاحة
والعن إلهي غاليا وقاليا
ولا تذر في الأرض منهم باقيا
يا رب إنا منهم براء
هم واليهود عندنا سواء
فأخزهم وأخز من رمانا
بريبة ولقه الهوانا
21
ويقول في الرد على القائلين بالتلاشي والتناسخ:
أيها المدعي التلاشي حمقا
ذا الذي تدعي عليك وكيل
أترى هذه الصنائع طرا
عبثا، ما لصانع محصول
حركات الأجرام قل لي لماذا؟
ولماذا طلوعها والأفول؟
ألها في مجالها الفعل أم لا؟
فبغير إذن يجوز تجول
إن تقل ذاك فعلها باختيار
أنكرت منك ما ادعيت العقول
إن فيما دنا من الماء والنار
على ما علا لنا التمثيل
ولئن قلت: ذاك غير اختيار
قلت: كل مدبر محمول
فإذا كان هكذا ثبت الحامل
الفاعل اللطيف الجليل
فإذا كان فاعل متقن الفعل
وما دونه له مفعول
فالتلاشي لفعله مستحيل
جل عما به عليه تحيل
والذي قال إنه النسخ والفسخ
وماذا بغير دنيا حلول
فهو عن جوهر النفوس البسيطا
ت ومن حيث بدؤها مسئول
فلئن كان يثبت الأصل منها
فكذا نحوه يكون القفول
ولئن كان نافيا قيل مهلا
فلهذي المشاهدات أصول
فثواب يكون بالأكل والشرب
فذاك العذاب والتنكيل
22
ومع هذا كله نرى المؤرخين والكتاب يرمون الفاطميين بالإباحة المطلقة، والقول بالتناسخ والحلول، إلى غير ذلك من الاتهامات التي أظهر البحث الحديث أن الفاطميين براء منها، على أني لا ألوم هؤلاء الكتاب الذين أظهروا العقيدة الفاطمية على أنها مباينة للإسلام وتوحيد الله، بقدر ما ألوم بعض الغلاة من الدعاة الذين غيروا المذهب الفاطمي، وخرجوا به عن منهجه الصحيح، حتى اضطر الأئمة إلى إعلان عصيان هؤلاء الدعاة وطردهم من الدعوة، وتحذير الناس من ضلالاتهم. نذكر من هؤلاء الدعاة: علي بن الفضل الذي كان من أسبق الدعاة في أواخر دور الستر الأول في إظهار الدعوة في اليمن، ولكنه ضل طريق رشده، فتبرأ منه الإمام وطلب من الداعي الحسين بن حوشب المعروف بمنصور اليمن أن يحاربه ويمحو أتباعه،
23
ونذكر أحمد بن الكيال الذي كان داعيا للإسماعيلية فغير المذهب ودعا لنفسه،
24
والقرامطة الذين استباحوا المحرمات، ونادوا بالإباحة؛ فاضطر عبيد الله المهدي قبل ظهوره بالمغرب إلى عزلهم عن الدعوة، فحاربوه وقتلوا بعض أهل البيت وسلبوا متاعهم، فاضطر المهدي إلى الفرار منهم إلى الرملة فمصر، إلى أن رحل إلى شمال أفريقيا حيث أقام دولته،
25
واستمر العداء بين القرامطة والفاطميين ردحا طويلا من الزمان، وقامت الحروب بين الفريقين على نحو ما ذكر في كتب التاريخ، وكذلك نقول عن فرقة الدرزية التي ظهرت في عهد الحاكم بأمر الله، فأمثال هؤلاء الدعاة كانوا أسلحة ماضية ضد المذهب، حتى قال القاضي النعمان: «ذكر المعز لدين الله رجلا أصابه بلاء عظيم في نفسه، ووصف ما صارت حاله إليه، وكان هذا الرجل قد ألحد في أولياء الله، وغلا في دينه، وقد كان قلد شيئا منه وناله بسبب ذلك من سخط الأئمة ما نعوذ بالله منه، فقال المعز لدين الله لما ذكر ما صار حال هذا الرجل إليه: ما ألحد أحد فينا، ولا أراد إدخال النقص على شيء من أمرنا إلا إبتلاه الله في عاجل الدنيا ببلاء يكون نكالا، ولعذاب الآخرة أخزى وأشد وأبقى.
ثم ذكر من تجاوز هذا الرجل وتعديه، وما أدخل على الدين من الشبهة على ضعفاء المؤمنين ما يطول ذكره. قال: وتقرر عند المنصور بالله أنه يقول: عندنا من حكمة الله وعلمه ما نزيل به الجبال، ولنا من أوليائنا في الدين من تزول السماوات والأرض، ولا يحول ولا يزول. فأعظم ذلك المنصور بالله من قوله، وأحضر جماعة من الأولياء، فذكر ذلك لهم عنه ولعنه، ثم قال المعز لدين الله: أعظم آيات موسى فلق البحر، فهذا الشقي ادعى فوق ذلك لنفسه، وهو ينسب إلينا، ويدعي علمنا ومذهبنا وقولنا. نحن نبرأ إلى الله من دعواه وقوله، وما ينسبه إلى نفسه، أن ينسب إلينا وإلى من يتصل بنا. ثم قال: سمعت القائم بأمر الله يقول: إنما أراد الدعاة إلى النار الذين انتسبوا إلينا بما ينحلونا إياه أنا نعلم الغيب وما تخفي الصدور، وأشباه ذلك مما افتروه علينا ونسبوه إلينا أن يجعلوه عدة لنفاقهم ... إلخ.
26
وقال حميد الدين أحمد بن عبد الله الكرماني: إن أعظم الفرق ضلالا فرقة الغلاة، ضلت وأضلت غيرها، فانسلخت عن جملة أهل الدين والديانة.»
27
ويقول المؤيد في الدين: «استعيذوا بالله من قوم يقولون بأفواههم أنهم شيعة، وهم من طلائع الكفر والإلحاد شر طليعة، يستوطئون مركب الإباحة، ويميلون ميل الراحة، ويحتجون بكون الصلاة إشارة إلى حد من حدود الدين، فإذا عرف سقطت الصلاة، وأن الزكاة إشارة إلى مثله فإذا عرفت بطلت الزكاة، وأن الصوم هو السكوت عن إفشاء سرهم إلى غير أهله، فإذا هم سكتوا لم تبق بهم حاجة إلى الصوم واحتمال كده، وأن النهي عن شرب الخمر هو عن موالاة بعض الأضداد، فإذا هم كفوا كان شربها حلالا سهل القياد، ولا يزالون كذلك حتى يحلوا من تكاليف الشريعة كل عقد، ويردوا من مهاوي الردى في تحليل المحرمات شر ورد، وهؤلاء أضر بالدين وبالمؤمنين ممن شهر سيفه وشرع رمحه إلى أئمتهم بالبغضاء، ولم يزل من مضى من أمير المؤمنين علي والأئمة من ذريته إلى إمام الزمان براء إلى الله تعالى ممن هذه سبيله سرا وجهرا، ينشرون في صحف الخزي على من دان دينهم ... إلخ.»
28
فهؤلاء الدعاة الذين نسبوا أنفسهم إلى الدعوة الإسماعيلية، كانوا سببا في أن يذهب المؤرخون القدماء ومن تبعهم من المحدثين إلى فساد عقيدة الفاطميين، ومن يتعمق في دراسة العقيدة الفاطمية كما جاءت في كتب دعاتهم وعلمائهم - وهي الكتب التي لا يقر بها إلا من بلغ درجة رفيعة في الدعوة - يجد الفاطميين براء من كثير مما نسب إليهم، ولولا هذا التأويل الباطني الذي جعلوه قوام عقيدتهم، لتساووا مع غيرهم من المسلمين في كل شيء، ولما وجد خصومهم مطعنا في عقيدتهم.
والذي ألاحظه على عقائد الفاطميين أنها مزيج من مجموعة المذاهب والديانات القديمة التي عرفت وانتشرت في الأقطار الإسلامية منذ زمن بعيد، بتأثير امتزاج المسلمين بغيرهم من الشعوب المختلفة، واستطاع الفاطميون أن يخضعوا هذه المذاهب والآراء القديمة للآراء الإسلامية، ويصبغوها بالصبغة الإسلامية، فالباحث يستطيع أن يتعقب أكثر عقائد الفاطميين، ويردها إلى أصولها القديمة، فمثلا قال قدماء المصريين بأن روح الملوك تنتقل إلى العالم العلوي، وتصبح من الآلهة، فقال الفاطميون: إن روح الإمام تصبح ملكا من الملائكة وعقلا من العقول الروحانية المدبرة لعالم الكون والفساد، وذهب بعض فلاسفة اليونان إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يرى شيئا إلا بمساعدة ضوء الشمس أو القمر أو الشعل، فقال الفاطميون: إن العقل البشري في تبصره لا يستطيع الوصول إلى معرفة شيء وإدراكه إلا بمساعدة خارجية تأتيه من الأئمة، ومن أقوال فلاسفة اليونان أيضا: إن النفس كانت صفحة بيضاء، فإذا حلت في جسم نقش عليها ما اكتسبه الإنسان، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فقال الفاطميون بهذه المقالة. وأخذ الفاطميون عن العبرانيين والبابلية القديمة عقيدة الأدوار السبعة، وعن الأفلاطونية الحديثة مذهب الإبداع وظهور النفس الكلية عن العقل الكلي، وخلق العالم بوساطة الكلمة؛ مع خلاف أن الأفلاطونية الحديثة جعلت الكلمة هي العقل الكلي، على حين قال الإسماعيلية بأن الكلمة هي السابق والتالي، أي القلم واللوح، وأنها هي كلمة كن من قوله تعالى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
كما أخذ الإسماعيلية عن الأفلاطونية الحديثة الفيوضات ومراتبها، بأن جعلها الإسماعيلية الحدود الروحانية والجسمانية، وأخذوا عن أفلاطون نظرية المثل، وعن الزرادشتية القديمة مذهب التخميس، وعن الفيثاغوريين القدماء مذهبهم في التوحيد وجعل الأعداد أصولا لعقائدهم، بل كان نظام دعوتهم هو النظم الفيثاغورية عينها. وهكذا يستطيع الباحث أن يرد كثيرا من الآراء والعقائد الفاطمية إلى أصولها الأولى، على الرغم من صبغ هذه الآراء والعقائد بالصبغة الإسلامية، حتى ليتوهم الباحث في كتبهم أن كل عقائدهم إسلامية لم يطرأ عليها أي علم أو رأي دخيل.
وخلاصة القول في العقائد الفاطمية: أن الولاية هي محور هذه العقائد، وأن فلسفتهم كلها تدور حول الإمام وتمجيده أكثر من أي شيء آخر، وهم يعتقدون بكل ما يعتقد به غيرهم من المسلمين من موت وحياة وبعث ونشر وثواب وعقاب، ويقومون بفرائض الدين، ويحرمون ما حرمه الله، ولا يقولون بالتعطيل أو الإباحة، ولم يعتنقوا التناسخ أو الحلول أو التلاشي، غير أنهم قالوا بأدوار الأنبياء، فلكل نبي دوره، ويأتي النبي الذي بعده ينسخ شرع النبي قبله، فلما جاء دور محمد وهو خاتم الأنبياء جمع الله له كل أدوار الأنبياء قبله، فمحمد هو آدم وهو نوح وهو إبراهيم وهو موسى وهو عيسى، وأن ما حدث في أدوار هؤلاء الأنبياء يحدث مثله في دور محمد، وما حدث لأوصياء الأنبياء يحدث لوصي محمد والأئمة بعده، وأولوا ذلك كله تأويلا يتفق مع عقيدتهم هذه، ونراه واضحا في أشعار شعرائهم ورسائل كتابهم، على النحو الذي نراه في باب الشعر من هذا الكتاب.
الفصل الثاني
مراتب الدعوة الفاطمية ومراكزها
رتب الفاطميون لدعوتهم نظاما دقيقا محكما لا أكاد أجد له مثيلا في تاريخ الدول والدعوات، حتى في عصرنا هذا الذي عرف فيه للدعاية قدرها ومكانتها، ولعل الفاطميين هم أول من أقاموا للدعاية مناصب رسمية في دولتهم، ومن الحق علينا أن نذكر أنه كان للعباسيين نقباء يدعون لهم قبل أن يستولوا على الحكم، ولكن هؤلاء النقباء لم يظهر لهم شأن بعد أن تم الأمر للعباسيين، وكان للمعتزلة دعاة يدعون لآرائهم في الأقطار الإسلامية، ولكن المعتزلة لم يكن لهم كيان سياسي، ولم تكن لهم دولة لها حكومتها. أما الفاطميون فكان لهم نظم لدعوتهم قبل ظهور دولتهم على مسرح السياسة وبعد ظهورها، بل لا تزال هذه النظم قائمة إلى اليوم بين من ورث دعوتهم، وهم المعروفون بالبهرة، والمعروفون بالإسماعيلية الأغاخانية.
وكما أنهم في تأويلهم الديني يطبقون نظرية المثال والممثول التي تحدثنا عنها في الفصل السابق، كذلك نراهم قد طبقوا هذه النظرية أيضا على نظم الدعوة، أي إنهم أخذوا هذه النظم من المشاهدات المحسوسة، أي من نظام دورة الفلك، وتقسيم السنة إلى شهور وأيام وساعات، فالسنة اثنا عشر شهرا، والشهر ثلاثون يوما، واليوم أربع وعشرون ساعة، منها اثنتا عشرة بالنهار واثنتا عشرة بالليل، فكذلك قسمت مراتب الدعوة. فالسنة التي تجمع الشهور والأيام مثل على النبي في عصره أو الإمام الذي يجمع جميع مراتب الدعوة، والاثنا عشر شهرا مثل على رؤساء الدعوة في الجزائر،
1
ويسمون حجج الجزائر، ولكل من هؤلاء الحجج ثلاثون داعيا أو نقيبا، ولكل داع من هؤلاء الدعاة أربعة وعشرون داعيا مأذونا أو مكاسرا، ولكل مرتبة من هذه المراتب عمل خاص به، فالإمام يختار من شيعته أقواهم لسانا، وأصدقهم جنانا، وألحنهم بالحجة، وأغزرهم علما؛ فيجعله في مرتبة داعي الدعاة أو باب الأبواب، وهذه المرتبة أعلى مراتب الدعوة؛ لأنها تلي مرتبة الإمام مباشرة من الناحية المذهبية، فهو المالك لجماعة الحجج والدعاة، وإليه الإشراف على الدعوة في جميع الأقطار. وقد وصف أحد علماء المذهب هذه المرتبة بقوله: «وحد الباب هو من الحدود الصفوة واللباب، فهو أفضل الحدود، وهو حد العصمة، ولا ينتهي إلى ذلك إلى الآحاد والأفراد.»
2
وقال آخر: «هو باب صاحب الزمان الذي يؤتى منه إليه، وحجته على الخلق، وحامل علمه، وصاحب دعوته.»
3
فنسبة الحجة إلى الإمام كنسبة الوصي إلى الناطق، والحجة هو صاحب التأويل في عصر الإمام، فهو الذي يعقد مجالس الحكمة، ويتلو على المستجيبين علوم أهل البيت، أي علم الباطن.
ولكل إقليم أو جزيرة من الجزائر التي قسموا إليها العالم حجة، هو كبير دعاة الإقليم والمشرف على الدعوة فيه، وهو الذي ينوب عن باب الأبواب في عقد مجالس الحكمة وتلاوة المجالس، وهذا الحجة على صلة وثيقة بباب الأبواب الذي اختاره الإمام، ولكي ندرك مكانة حجة الجزيرة هذا في نفوس أتباعه أنقل ما كتبه أحدهم، وهو المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي في سيرته، وهو يحادث الوزير بشيراز: «معلوم ما بيني وبين الديلم من الأحوال الممهدة، والأسباب المؤكدة، وأن أحدهم إذا اختصم مع أهله ليلا فإنه يباكرني شاكيا إلي، وموردا جملة أمره وتفصيله علي.»
4
فمكانة حجة الجزيرة في جزيرته لا تقل عن مكانة الوالي أو القاضي؛ ولكل حجة جزيرة ثلاثون داعيا نقيبا يقومون بهداية الناس وبث الدعوة في نفوس المستجيبين، وهم الذي يفاتحون الذين دخلوا في الدعوة بالعلم بعد أن يأخذوا عليهم العهد والميثاق، وهم الذين يجمعون النجوى منهم، ويكون أمرهم لحجة الجزيرة. ولكل نقيب من هؤلاء النقباء أربعة وعشرون داعيا مأذونا مكاسرا، وهو الداعي الذي يشكك المسلمين في عقائدهم المذهبية، ويوقع الوهم في نفوس المتدينين أنهم على ضلال، ولا يزال بهم حتى يطلبوا إليه أن يدلهم على الصواب المبين، ولكنه يحاورهم ويداورهم حتى إذا وثق من اقتناعهم بأنهم على ضلال، أحالهم على الداعي أو النقيب الذي يبدأ في مفاتحتهم بأسرار الدين شيئا فشيئا، بعد أن يأخذ عليهم العهود والمواثيق، وهكذا يصبح المستجيب أو الطالب في زمرة الدعوة، ومن ذلك يتبين أن الداعي المأذون هو الذي يكاسر الناس بأن يمطرهم بأسئلة لا يستطيعون الإجابة عنها؛ ولذلك يشترط في من يتولى هذه المرتبة أن يكون على علم وافر بمذاهب الفرق الإسلامية جميعها، وموضع الضعف في كل مذهب من المذاهب، وأن يكون متمكنا من أصول مذهبه، وأن يكون لسنا مجادلا، وقد حدد الفاطميون الصفات التي يجب أن تتوافر في الداعي، نلخصها في سعة العلم والثقافة وشدة التقوى والورع والعمل بأحكام الشريعة، وأن يكون حسن السياسة مع من يتصل بهم ولا سيما أتباعه، وهذه المرتبة هي أقل مراتب الدعوة، فما بالك بالشروط التي يجب أن تتوافر في مراتب الحدود التي هي أعلى شأنا من مرتبة المكاسر.
ويحدثنا الداعي أحمد حميد الدين الكرماني في كتابه راحة العقل عن الحدود الجسمانية الذين إليهم أمر الدعوة، ورتبهم بالترتيب الآتي: (1)
الناطق: وله رتبة التنزيل. (2)
الأساس: وله رتبة التأويل. (3)
الإمام: وله رتبة الأمر. (4)
الباب: وله رتبة فصل الخطاب. (5)
الحجة: وله رتبة الحكم فيما كان حقا أو باطلا. (6)
داعي البلاغ: وله رتبة الاحتجاج وتعريف المعاد. (7)
الداعي المطلق: وله رتبة تعريف الحدود العلوية والعبادة الباطنية. (8)
الداعي المحدود: وله رتبة تعريف الحدود السفلية والعبادة الظاهرة. (9)
المأذون المطلق: وله رتبة أخذ العهد والميثاق. (10)
المأذون المحدود، الذي هو المكاسر: وله رتبة جذب الأنفس المستجيبة.
5
هكذا ذهب الكرماني في ترتيب الحدود الجسمانية، ولكننا نتساءل عن الطريقة التي رتبوا بها هذه الحدود بعد وفاة الناطق والأساس، ولا سيما وقد ذكر الفاطميون في كتب الدعوة أن الإمام يقوم مقام الناطق بعد وفاته، ثم نتساءل مرة أخرى عن مرتبة الإمام في عهد الناطق؛ إذ المعروف أن الناطق له جميع المراتب، وأن الإمامة كانت له، فما معنى وجود الإمام مع وجود الناطق؟
وضع هذا النظام للدعاة بحيث لا يخلو بلد من دعاتهم، وفي ذلك قال المعز لدين الله الفاطمي: «إن أكثر الناس يجهلون أمرنا، ولا يظنون أنا لا نعنى إلا بمن شاهدناه وكان بحضرتنا، ولو كان ذلك لكنا قد ضيعنا من بعد عنا، وقد أوجب الله على جميع خلقه ولايتنا ومعرفتنا واتباع أمرنا والهجرة والسعي إلينا من قرب ومن بعد، ولكنا للرأفة بهم، ولما نرجوه ونحبه من هدايتهم، قد نصبنا بكل جزيرة لهم من يهديهم إلينا ويدلهم علينا.»
6
وعلى الرغم من أن الدعوة كانت سرية قبل العصر الفاطمي، وكان الأئمة ودعاتهم يتخذون الستر تقية على أنفسهم خوفا من بطش العباسيين، فقد استطاع الباحثون المحدثون بفضل الكشف عن بعض مخطوطات الفاطميين أن يعثروا على أسماء بعض الدعاة الذين كانوا في دور الستر الأول، نذكر من هؤلاء الدعاة الحسين بن حوشب بن زادان الملقب بمنصور اليمن، وهو الذي أوفده الإمام الثالث من أئمة دور الستر - الحسين بن أحمد بن عبد الله - للدعوة باليمن، وهو الذي أوفد تلميذه أبا عبد الله الشيعي داعية إلى المغرب،
7
ومنهم الداعي فيروز، وكان داعي الدعاة في زمن المهدي قبل ظهوره بالمغرب، وكان من أجل الناس عند الإمام، ومن أعظمهم منزلة، والدعاة كلهم أولاده، ومن تحت يده، وهو باب الأبواب إلى الأئمة،
8
ومنهم أبو جعفر الجزري، وكان له أيضا محل جليل عند المهدي؛ لأنه كان من كبار الدعاة، ووكله المهدي بالحريم عندما فر من سلمية،
9
وتوفي هذا الداعي برقادة بعد أن فتحها المهدي، وكان الداعي بمصر في وقت فرار المهدي إلى المغرب رجلا يعرف بأبي علي الداعي، وكان رأس الدعاة بمصر، وأبو علي هذا هو الذي ذكره جعفر بن منصور اليمن في كتابه: «الفترات والقرانات» ملقبا بالشيخ الأجل المفيد، وهو أحد تلاميذ فيروز وزوج ابنته،
10
وأنجب ابنه محمدا أبا الحسين بن أبي علي الداعي الذي بلغ مع الأئمة المهدي بالله والقائم بأمر الله والمنصور بالله والمعز لدين الله، المحل الجليل العظيم، وكان داعي الدعاة،
11
وجاء في كتاب استتار الإمام أن عددا من الدعاة اجتمعوا للبحث عن الإمام المستور، وهم: أبو غفير، وأبو سلامة، وأبو الحسن بن الترمذي، وجياد الخثعمي، وأحمد بن الموصلي، وأبو محمد الكوفي،
12
وهؤلاء جميعا لا نعرف عنهم شيئا. أما في دور الظهور - الذي يبدأ بظهور المهدي بالمغرب إلى انقراض الدولة الفاطمية - فقد وصلت إلينا أسماء عدد كبير من الدعاة، كما وصلت إلينا بعض كتبهم.
13
قلنا: إن من أهم أعمال داعي الدعاة، عقد مجالس الحكمة التأويلية لقراءة علوم أهل البيت على جمهور المؤمنين، فاتخذت مراكز لإلقاء هذه المجالس التأويلية، ولعل أهم هذه المراكز في مصر هي: (1) المساجد. (2) القصر. (3) دار العلم.
المساجد
كانت المساجد تقوم مقام المدارس والجامعات في أيامنا الحديثة، فقد كان الناس يتحلقون في المساجد حول العلماء يستمعون إلى ما يلقيه هؤلاء عليهم من علوم وآداب، على النحو الذي نراه إلى الآن في بعض المساجد في مصر؛ فالمساجد على هذا النحو لم تكن مكانا لإقامة الشعائر الدينية فحسب، بل كانت دور علم أيضا، وعرف الفاطميون هذه الحقيقة فلم يتوانوا في اتخاذ المساجد مجالا لنشر دعوتهم الدينية وبث عقائدهم المذهبية، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله أكثروا من بناء المساجد، وجعلها تتناسب مع عظم ملكهم أولا، وما أرادوه من اتخاذها وسيلة من وسائل نشر دعوتهم ثانيا؛ لذلك نرى القائد جوهر الصقلي عندما وضع أساس مدينة القاهرة لم ينس أن يبني مسجده العتيد - الجامع الأزهر - أنشأه بأمر مولاه الإمام المعز لدين الله، وشرع في بنائه في يوم السبت، لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة،
14
وتم بناؤه لتسع خلون من رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ثم جدد فيه العزيز بالله والحاكم بأمر الله الذي وقف عليه رباعا بمصر، ثم جدده المستنصر بالله والحافظ لدين الله الذي أنشأ فيه مقصورة بجوار الباب الغربي، وهكذا كان هذا المسجد في العصر الفاطمي محل رعاية الأئمة وعنايتهم، فلم يقصروا في تجديده والزيادة فيه، حتى قيل إنه كان يصدر في محرابه منطقة فضة قلعها صلاح الدين الأيوبي سنة 569ه، فكان وزنها خمسة آلاف درهم سوى قناديل الفضة وتنورين من الفضة، ووقفوا لمؤذنيه وخدمه ووسائل نظافته وإنارته وفرشه ما هو مذكور في كتب التاريخ.
والذي يهمنا الآن هو أن الفاطميين كانوا يشجعون العلماء والفقهاء للتحليق في هذا المسجد العتيد، واتخذوا منه جامعة علمية، فعد بحق أقدم جامعة عرفها التاريخ، ففي هذا المسجد اتخذت الدعوة الفاطمية مكانا لها بين أماكن أخرى، ففيه عقد أول اجتماع بمصر للاحتفال بعيد الغدير، وفي ذلك يروي المقريزي عن المسبحي أنه في يوم الغدير ثمانية عشر من ذي الحجة سنة 362ه، اجتمع الناس بجامع القاهرة والقراء الفقهاء والمنشدون، فكان جمعا عظيما أقاموا إلى الظهر، ثم خرجوا إلى القصر، فخرجت إليهم الجائزة، وكان هذا أول ما عمل بمصر،
15
وبالجامع الأزهر كان داعي الدعاة يعقد مجلسا للنساء يلقي عليهن شيئا من علوم أهل البيت،
16
وفيه جلس القاضي عبد العزيز بن محمد بن النعمان، وابتدأ في قراءة كتاب جده: «اختلاف أصول المذاهب.»
17
ويذهب المقريزي إلى أن أول ما عرف من إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بديار مصر في خلافة العزيز بالله نزار، وعمل ذلك بالجامع الأزهر،
18
ويقول القلقشندي: إن الوزير أبا الفرج يعقوب بن كلس سأل العزيز بالله في حمله رزق جماعة من العلماء كانوا بمسجد القاهرة، وأطلق لكل منهم كفايته من الرزق، وبنى لهم دارا بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حلقوا بالجامع بعد الصلاة، وتكلموا في الفقه، وأبو يعقوب قاضي الخندق رئيس الحلقة والملقي عليهم إلى وقت العصر، وكانوا سبعة وثلاثين نفرا،
19
وجاء في خاتمة النسخة الخطية من رسالة مباسم البشارات: «تمت رسالة مباسم البشارات بالإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين عليه السلام، وصلواته وبركاته وتحياته على رسوله وخيرته من خلقه محمد وآله الأئمة الطاهرين، وهي الرسالة التي كتبها علي بن حسين بن أحمد الأصبهاني المؤذن بالجامع الأزهر، عن الداعي أحمد بن عبد الله بن محمد الكرماني مؤلفها قدس الله روحه. كتبت من نسخته وقرئت عليه وعلى جمهور المؤمنين.»
20
ويحدثنا الكرماني في مقدمة هذه الرسالة أنه وفد إلى مصر - ويخيل إلي أنه جاء مصر إبان ثورة الدرزي - فاضطر إلى تأليف هذه الرسالة وقراءتها على الناس، فنقلها عنه مؤذن الجامع الأزهر. فهذا كله يؤيد ما ذهبنا إليه من أن الفاطميين اتخذوا من المسجد الجامع الأزهر مركزا من مراكز دعوتهم، ومعهدا تلقى فيه علوم أهل البيت.
وهنا نقف لنتساءل: هل كان هذا المسجد معهدا لتعليم الدعوة الفاطمية فحسب، فلا نجد أثرا لحلقات الشافعية والمالكية والحنفية؟ يخيل إلي أن الفاطميين كانوا يتسامحون مع علماء أهل السنة بأن أذنوا لبعض فقهاء أهل السنة أن يلقي دروسه وتعاليمه في الجامع الأزهر؛ فقد قيل: إنه في سنة 383ه رتب رجل جعفري للجلوس في الجامع للفتوى على مذهب أهل البيت، فشغب عليه الفقهاء من أهل الجامع، فبلغ القاضي ذلك فقبض على بعضهم.
21
فمن هذا النص نستطيع أن نتبين أنه كان بالجامع فقهاء يخالفون العقيدة الفاطمية، وأنهم كانوا يفتون على حسب مذهبهم وعقيدتهم، فلما جاء هذا الفقيه للفتيا على المذهب الفاطمي شغبوا عليه، فاضطر القاضي إلى أن يقبض على بعضهم لا لشيء سوى أنهم لم يتسامحوا مع هذا الفقيه مثل ما تسامحت الدولة معهم. ويروى أيضا أن الحاكم بأمر الله أمر بطلب فقيهين، وأمرهما بتدريس مذهب مالك في الجامع، ثم بدا له فقتلهما بعد ذلك.
22
أضف إلى ذلك أن مصر شاهدت في العصر الفاطمي عددا من فقهاء الشافعية والمالكية، كذلك وفد على مصر عبد السلام بن محمد بن بندار أبو يوسف القزويني شيخ المعتزلة، وأقام بها أربعين سنة
23
يلقي تعاليمه التي تخالف تعاليم الفاطميين، وسنتحدث عن ذلك كله في الفصل الخاص بفقهاء أهل السنة؛ وإذن نستطيع أن نقول إن الفاطميين كانوا يسمحون لأصحاب المذاهب الأخرى بإلقاء تعاليمهم بجانب ما كان يلقى من تعاليم الفاطمية، وقد تكون هذه سياسة وضعت لأن تقام المناظرات بين علماء هذه المذاهب وبين دعاة الفاطميين، حتى يستطيع جمهرة المستمعين أن يتبينوا بعض المآخذ على المذاهب غير الفاطمية، وأن يقتنعوا بحجج الدعاة وأدلتهم، وتبهرهم فصاحتهم فيدخلوا في الدعوة.
وإلى جانب الجامع الأزهر نرى الفاطميين قد بنوا جامع الحاكم خارج باب الفتوح، وجامع راشدة، وجامع المقس، وجامع القرافة، والجامع الأقمر، وكثيرا من المساجد التي لا يزال بعضها ماثلا أمام أعيننا الآن، وقد نقل الفاطميون إليها المصاحف، وجلس فيها الفقهاء والعلماء ودعاة المذهب الفاطمي، فكانت هذه المساجد بمثابة مدارس لتلقين الدعوة الفاطمية.
القصر
يحدثنا القاضي النعمان بن محمد بأنه: «لما فتح المعز لدين الله (ص) للمؤمنين باب رحمته، وأقبل عليهم بوجه فضله ونعمته، أخرج إلي كتابا من علم الباطن، وأمرني أن أقرأه عليهم في كل يوم جمعة في مجلس في قصره المعمور بطول بقائه، فكثر ازدحام الناس وغص بهم المكان، وخرج احتفالهم عن حد السماع، وملئوا المجلس الذي أمر باجتماعهم فيه.»
24
وفي موضع آخر قال القاضي النعمان: وسمعته صلى الله عليه - أي سمع المعز - يقول لبعض الأولياء: ما تنظرون اليوم في شيء تنتفعون به، ما تقرءون شيئا، ما تسمعون شيئا؟ فسكتوا، وكنت قبل ذلك قد سمعت بعضهم يحرض بعضا في الاجتماع لقراءة كتاب دعائم الإسلام الذي بسطه المعز لدين الله (صلع)، وجعله في مجلس من مجالس قصره، وأباح لهم حتى أحبوا استماعه وقراءته وانتساخه والتعلم منه والتفقه فيه، وقال بعض من حرض على ذلك: ويحكم! أما تخافون إن قصرتم في هذا أن يكون حجة من الله ومن وليه عليكم أن يختبركم فيه، وقد أباحه لكم دهرا طويلا فيختبركم فيه أو في بعض أبوابه، فلا يجدكم حفظتم شيئا منه ولا انتفعتم به، فيقال لكم: إذا كنتم لم تقوموا بما أعطيناكم من ظاهر دينكم الذي تعبدكم الله بالقيام به، فكيف ينبغي لنا أن نعطيكم من باطنه؟
25
ولعل هذه القاعة التي أشار إليها النعمان، والتي ألقى فيها هذا العلم الباطن، هي المكان نفسه الذي خصصه الفاطميون للدعوة وعرف باسم المحول ... فكان المحول في العصر الفاطمي أشبه شيء بقاعات المحاضرات العامة في عصرنا الحديث، وكان يؤم المحول الخاصة وشيوخ الدولة وخدم القصر والطارئون على مصر وعامة الناس،
26
وهكذا جعل الفاطميون جزءا من قصرهم للدعوة لمذهبهم، ومكانا يلقي فيه العلماء والدعاة علوم أهل البيت، وهي المجالس التي عرفت بمجالس الحكمة التأويلية. ولم يكتف الأئمة الفاطميون بأن يكون المحول في قصرهم، بل نراهم يهتمون اهتماما خاصا بمكتبة القصر، حتى عدت هذه المكتبة من مفاخر الفاطميين، فقد تميزت عن جميع مكتبات العالم الإسلامي في ذلك الوقت، ويقول المقريزي نقلا عن ابن أبي طي بعد ما ذكر استيلاء صلاح الدين الأيوبي على القصر: «ومن جملة ما باعوه خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا، ويقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر، ومن عجائبها أنه كان فيها ألف ومائتا نسخة من تاريخ الطبري، إلى غير ذلك. ويقال: إنها كانت تشتمل على ألف وستمائة ألف كتاب.»
27
ويقول المقريزي: ومما يؤيد ذلك أن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي لما أنشأ المدرسة الفاضلية بالقاهرة، جعل فيها من كتب القصر مائة ألف مجلد.
28
ويروى عن المسبحي أن عدة الخزائن التي برسم الكتب في سائر العلوم بالقصر أربعون خزانة، بعضها داخل القصر لا يتوصل إليها أحد، وبعضها في خزائن القصر البرانية، وكانت هذه الخزائن تشتمل على مجلدات في كل فن من فنون العلوم الإسلامية؛ فمن فقه على سائر المذاهب، إلى نحو ولغة وكتب حديث وتاريخ ونجامة، وروحانيات وكيميا، غير المصاحف الكثيرة. ويقال: إن العزيز بالله ذكر عنده كتاب العين للخليل بن أحمد، فأمر خزان دفاتره فأخرجوا من خزائنه نيفا وثلاثين نسخة من كتاب العين منها نسخة بخط الخليل نفسه، وحمل إليه رجل نسخة من كتاب تاريخ الطبري اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز خازنه فأخرج له من الخزانة ما ينيف عن عشرين نسخة منها نسخة بخط ابن جرير ... إلخ.
29
وهكذا كانت خزانة كتب القصر، ولعلنا نستطيع أن ندرك من هذه اللمحة القصيرة مدى عناية الخلفاء الفاطميين باقتناء الكتب في كل فن، وحرصهم على أن تجمع خزائنهم الطرائف والنفائس في كل علم، وذلك تشجيعا منهم للعلم والعلماء، ولا غرو في ذلك، فإن مذهبهم الديني يدعو إلى العلم والعمل، وإلى الاستزادة من جميع العلوم والآداب، حتى يتسنى لدعاتهم أن يكاسروا خصومهم بأدلة علمية، وأن يتخذوا من سعة أفقهم ومداركهم وثقافتهم مجالا يجلون فيه حتى يبزوا غيرهم، فلا نعجب إن رأينا داعيا من دعاتهم مثل هبة الله بن موسى الشيرازي المعروف بالمؤيد في الدين كان يلم بجميع ألوان العلوم التي كانت معروفة في عصره، واستطاع بما حصله من علم أن يرد على جميع المذاهب والفرق الإسلامية، وأن يدحض رأي الزنادقة المارقين أمثال ابن الراوندي والثغوري، وأن يناظر بعض الشاكين أمثال أبي العلاء المعري، وأن يجادل خصومه هؤلاء بأدلة علمية منطقية وحجج قوية، فلولا ما أوتيه من علم، لما استطاع أن يعرف مواطن الضعف عند هؤلاء جميعا، فيهاجمهم ويدحض حجتهم نثرا وشعرا، ويترك لنا هذه الذخيرة في مجالسه وديوانه، ونستطيع أن نقول كذلك عن الداعي أحمد حميد الدين الكرماني، وعن الداعي أبي حاتم الرازي، وعن السجستاني وغيرهم من فحول دعاة المذهب الذين تم على أيديهم فلسفة المذهب، وتبلورت عقائده.
لكن هذه الكنوز العلمية من نفائس الكتب التي حافظ عليها الفاطميون في قصرهم، أصابها ما أصاب الفاطميين أنفسهم، وكان ابتداء هذه المحنة التي نكبت بها مكتبات القصر إبان الشدة العظمى التي حلت بالبلاد أيام المستنصر بالله الفاطمي، وقد شاهد المسبحي المؤرخ المصري شيئا من هذه المحنة، وصفها بقوله: «وكنت بمصر في العشر الأول من محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة، فرأيت فيها خمسة وعشرين جملا موقرة كتبا، محمولة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي، فسألت عنها، فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر هو والخطير بن الموفق في الدين بإيجاب وجبت لهما عما يستحقانه وغلمانهما من ديوان الجبليين، وأن حصة الوزير أبي الفرج منها قومت عليه من جاري مماليكه وغلمانه بخمسة آلاف دينار، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهب جميعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر في صفر من السنة المذكورة، مع غيرها مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج وابن أبي كدينة وغيرهما، هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم بالقاهرة، وسوى ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية، ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به لواتة محمولا مع ما صار إليه بالابتياع والغصب في بحر النيل والإسكندرية، في سنة إحدى وستين وأربعمائة وما بعدها، من الكتب الجليلة المقدار المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة وحسن خط وتجليد وغرابة التي أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم، وأحرق ورقها، تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره، وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم، سوى ما غرق وتلف، وحمل إلى سائر الأقطار، وبقي منها ما لم يحرق، وسفت عليه الرياح التراب فصار تلالا باقية في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب.»
30
هذا ما عاينه هذا المؤرخ المصري الكبير وذكره في كتبه، وعنه أخذ من جاء بعده عن هذه الذخيرة العلمية، ومقدار ما أصابها إبان الشدة المستنصرية من تلاعب الوزراء والخدم، بعد أن ضعف أمر الخلافة الفاطمية، وأصبح الوزراء والأمراء أصحاب الحول والطول في البلاد، ومع ذلك كله بقي في مكتبات القصر عدة آلاف من الكتب.
ويحدثنا ابن ميسر أنه وجد في ثروة الأفضل بن بدر الجمالي خمسمائة ألف مجلد من الكتب،
31
لا أشك أن أكثرها كان في خزائن القصر، وأبادها صلاح الدين الأيوبي كما أباد دولة الفاطميين، وقد ذكرنا ما أخذه القاضي الفاضل من خزائن القصر لمدرسته الفاضلية. ويذكر المقريزي أن ابن صورة دلال الكتب باع منها جملة في مدة أعوام،
32
وكذا ضاعت كنوز الفاطميين العلمية بيد التعصب الممقوت.
كان في هذه الخزائن كتب الدعوة، وما ألفه الأئمة، وكانت هذه الكتب مما يحافظ عليه الفاطميون أشد المحافظة حتى لا يصيبه الفساد، ويحدثنا منصور الجوذري الكاتب أن المنصور بالله أرسل إلى جوذر الصقلبي رسالة نسختها: «بعثت إليك كتبي وكتب الأئمة آبائي الطاهرين. وقد ميزتها فأقررها عندك مصونة من كل شر، فقد وصل الماء إلى بعضها فغير فيه، وما من الذخائر شيء هو أنفس عندي منها، فأمر محمدا كاتبك ينسخ لك منها ثلاثة كتب، ففيها من العلوم والسير ما يسرك الله به.»
33
فهذا يدل على شدة العناية التي كان يوجهها الفاطميون إلى كتب الأئمة، وهي كتب الدعوة ومحافظتهم عليها؛ فلا شك أن مثل هذه الكتب العزيزة لديهم كانت تحفظ داخل القصر فلا يقربها إلا الأئمة والدعاة فقط، أما المكتبات التي عبر عنها المسبحي «بالبرانية»، فأرجح أنها كانت كالمكتبات العامة في عصرنا هذا، ولا سيما في تلك الأيام التي كان يجتمع فيها الناس بالقصر لسماع مجالس الحكمة التأويلية.
فهذه المكتبات التي كانت في القصر لعبت دورا هاما في الدعوة ونشرها، فحرص الفاطميين على اقتناء الكتب على اختلاف فنون العلم والآداب، وشغفهم بالمحافظة عليها سهل للدعاة الاطلاع وإدمان النظر فيها، والمجادلة فيها بينهم، والمناظرة في هذه العلوم حتى يتخذوا منها وسيلة لغايتهم، وسلاحا من أسلحة دعوتهم. حقا لم يذكر لنا القدماء أن الفاطميين استخدموا هذه المكتبات التي كانت بالقصر في خدمة الدعوة، فلم يعقد فيها الدعاة مجالس الحكمة، ولكن هذه الكتب الكثيرة لم توجد في القصر عبثا، ولم يحافظ عليها الفاطميون ليباهوا بها غيرهم ومنافسيهم فحسب، بل كانت أداة من أدوات تثقيف الدعاة وتعليمهم حتى تكون لديهم ذخيرة علمية للقيام بما تفرضه عليه طبيعة عملهم، ولا سيما هذه الكتب التي كانت في داخل القصر والتي لا يقربها إلا الخاصة، وهي الكتب التي قلنا إنها كتب الأئمة، أي كتب الدعوة، فكيف يتأتى للداعي أن يقوم بما فرض عليه من الدعوة إلا بمعرفة هذه الكتب ودراسة ما فيها دراسة كاملة شاملة، ولا سيما أن الداعي كان عرضة دائما للمجادلات والمناظرات مع علماء المذاهب الأخرى المخالفين لمذهبه، وقد ذكرنا شيئا من صفات الداعي العلمية، وما يجب أن يكون عليه من سعة الاطلاع والإلمام بمذهبه؛ وإذن فلنا أن نقول: إن هذه المكتبات التي كانت في القصر استخدمت في الدعوة من طريق غير مباشر، وهكذا استخدم القصر في العصر الفاطمي في نشر الدعوة الفاطمية بمحوله ومكتباته، وفي المحول كان يجتمع الناس لسماع المحاضرات - مجالس الحكمة التأويلية - وكان الجمهور يقسم إلى أقسام؛ فكان للأولياء مجلس، وللخاصة وشيوخ الدولة وخدم القصر مجلس، ولعوام الناس مجلس، وللطارئين مجلس، وللنساء مجلس،
34
وهكذا، وسنتحدث عن ذلك في فصل مجالس الحكمة التأويلية.
دار العلم
ومن مآثر الفاطميين تلك الدار التي أنشأها الحاكم بأمر الله سنة 395ه، وسماها بدار العلم، وجعلها جزءا من قصره، ولعلها هي الخزائن التي أشار إليها المسبحي باسم الخزائن البرانية، وقد حمل إلى هذه الدار الكتب من خزائن القصر من سائر العلوم والآداب ما لم ير مثله مجتمعا لأحد قط من الملوك، وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها؛ فجلس فيها القراء والمنجمون وأصحاب النحو واللغة والأطباء، فكان ذلك من المحاسن المأثورة التي لم يسمع بمثلها من إجراء الرزق السني لمن رسم له بالجلوس فيها والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين ثقافاتهم وفنونهم العلمية؛ فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق،
35
فدار العلم إذن كانت مكتبة عامة على نحو ما نراه اليوم في المكتبات العامة، ولكنها بجانب ذلك كانت جامعة علمية للتعليم، وكثيرا ما كانت تقام المناظرات بين علمائها. من ذلك ما يرويه السيوطي أن جنادة بن محمد بن الحسين الأزدي الهروي أبا أسامة اللغوي النحوي قدم مصر، وصحب الحافظ عبد الغني بن سعيد وأبا إسحق علي بن سليمان المعري النحوي، وكانوا يجتمعون في دار العلم بالقاهرة، وتجري بينهم مباحثات ومذكرات،
36
ويروي المقريزي عن المسبحي أنه في سنة 403ه أمر الحاكم بإحضار جماعة من دار العلم من أهل الحساب والمنطق، وجماعة من الفقهاء منهم عبد الغني بن سعيد، وجماعة من الأطباء إلى حضرته، للمناظرة بين يديه، وكانت كل طائفة تحضر على انفراد، ثم يخلع الحاكم على الجميع ويصلهم.
37
ومن أشهر العلماء الذين ألقوا بعلومهم في دار العلم رجل مكفوف يقال له أبو الفضل جعفر، قدم مصر فأعجب به الحاكم وخلع عليه، ولقبه بعالم العلماء، وجعله يجلس في دار العلم يدرس النحو واللغة.
38
ومنهم أبو بكر الأنطاكي الفقيه المالكي الذي سمح له الحاكم ولشيخ مالكي آخر أن يقيما بدار العلم، ويلقيا دروسا في المذهب المالكي.
39
فهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على أن دار العلم كانت بمثابة جامعة فيها أساتذتها وبها مكتبتها، وفيها كل ما يبعث على النشاط العلمي والبحث والتحصيل؛ فالفاطميون بإنشائهم الجامع الأزهر ودار العلم كانوا أسبق الناس إلى إنشاء الجامعات التي تمتاز بها المدنية الحديثة في أيامنا هذه!
جعل الحاكم بأمر الله النظر على دار العلم إلى عبد العزيز بن محمد بن النعمان قاضي القضاة،
40
وظلت تؤدي أغراضها العلمية، ويقبل عليها الطلاب والعلماء من كل صوب، إلى أن كانت أيام وزارة الأفضل بن بدر الجمالي، وعلم الوزير أن جماعة من المترددين على دار العلم يحاولون بث دعوة إلحادية بين الطلاب، وأن بعضهم ادعى الألوهية، فاضطر الوزير إلى أن يغلق هذه الدار سنة 516ه، بعد أن عمرت أزيد من قرن، وكأن إغلاق هذه الدار العلمية وقع وقع الصاعقة على الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، وعلى بعض العلماء الذين كانوا في خدمته، ولكن الخليفة كان مسلوب الإرادة مع وزيره، فصبر على مضض، حتى قتل الأفضل وتولى الوزارة المأمون البطائحي، ففاتحه الآمر في إعادة دار العلم على ما كانت عليه، وما زال الخليفة بوزيره حتى قبل أن يعيد افتتاحها بشرط أن تكون بعيدة عن القصر، وأن يتولاها رجل دين، وأن ينظر فيها الداعي ابن عبد الحقيق، وأن يقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن، فوافق الخليفة الآمر على ذلك كله، واستخدم في هذه الدار الجديدة أبا محمد حسن بن آدم،
41
ولكن هذه الدار الجديدة لم تعمر طويلا؛ إذ قضي عليها بالقضاء على الدولة الفاطمية.
كانت دار العلم من مراكز الدعوة الفاطمية، فكان الداعي يجلس فيها، ويجتمع إليه من التلاميذ من يتكلم في العلوم المتعلقة بمذهبهم،
42
كما كانت هذه الدار المكان الذي يجتمع فيه داعي الدعاة بالدعاة والفقهاء لتنظيم أمور الدعوة.
43
ومن يدري لعل في دار العلم كانت تحضر مجالس الحكمة التأويلية التي كان يلقيها داعي الدعاة نائبا عن إمامه.
ومهما يكن من شيء فالقصر والمساجد ودار العلم كانت أبرز مراكز الدعوة في العصر الفاطمي، ولما كانت هذه المراكز في القاهرة كان في كل بلد من البلدان مركز للدعوة هو المسجد أو منزل الداعي في هذا البلد. يحدثنا المؤيد في الدين وكان داعيا في أول الأمر بشيراز: «فلما كان يوم عيد الفطر من سنة تسع وعشرين وأربعمائة كنت بيوم قبله مستعدا له في تحصيل فرش وآلة وسجادات يصلي عليها المصلون، ولا يستغنى عنها المتعبدون. فرفع الخبر بأنني أستجمع الجموع للصلاة والخطبة في غد، وأضرب في ساحة داري المضارب والفازات، ولما كان في غد، وهو العيد، اجتمع الخلق الكثير من الديلم للصلاة فصليت بهم، فلما أتممت عكفت عليهم بالوعظ والإنذار ... إلخ.»
44
فالداعي هنا كان يتخذ منزله مركزا للدعوة، ولكنه كان في بلد يخضع لحكم العباسيين، أما في مصر فقد كانت الدعوة ظاهرة مكشوفة تؤيدها الدولة بمالها وسلاحها، فكان الدعاة يتخذون المنازل والمساجد للدعوة دون خشية، وفي المساجد كانوا يلقون مجالسهم التأويلية.
الفصل الثالث
مجالس الحكمة التأويلية
من أجل أعمال داعي الدعاة ونوابه في الجزائر: عقد مجالس الحكمة التأويلية، أو بعبارة أخرى إلقاء محاضرات على جمهور المؤمنين بدعوتهم، يبثهم فيها الداعي عقائد مذهبهم والتأويل الباطن للدين، وهي العلوم التي عرفت بعلوم أهل البيت، والتي هي السر الذي يجب أن يظل مدفونا في صدور الأولياء لا يبوحون به لأحد، فكل المجالس التي عقدها الدعاة هي مجالس تعليمية، ولكن لهذه المجالس درجات، ولكل طبقة من المؤمنين مجلس خاص كما ذكرنا من قبل؛ فللعامة مجلس، وللنساء مجلس، وللخاصة مجلس، وهكذا. ولم تقسم هذه المجالس على حسب الطبقات الاجتماعية لجمهور المؤمنين، إنما قسمت على حسب مرتبة الحاضرين في مدارج الدعوة، فلا يلقي داعي الدعاة على دعاته ما يلقيه على المبتدئين في دخول الدعوة، ولا يلقي على العامة من أهل البلد ما يلقيه على الغرباء، فلكل طبقة من هذه الطبقات أسلوب خاص، وعلوم خاصة، بحيث ينتهي إلى أسرار الدعوة التي يجب ألا يقربها إلا كل ذي قدم راسخة في الدعوة، ومن بلغ فيها مرتبة رفيعة كأن يكون داعيا مثلا.
وداعي الدعاة - ويعرف بباب الأبواب، وباب حطة، وبالحجة - هو الذي يعد هذه المحاضرات، ويرفعها إلى الإمام، فيوقعها هذا بعلامته، ويعيدها إلى كبير دعاته، فيلقيها على المستجيبين في المحول أو غيره، فإذا انتهى من قراءتها مسح على رءوس الناس بعلامة الإمام تبركا بها، وتكتب هذه المجالس عادة على أنها صادرة من الإمام فتظهر للجمهور وكأن الإمام هو الذي كتبها، وأن داعي الدعاة هو قارئ لما كتب الإمام؛ ولذلك يختفي اسم الداعي ولا يظهر في كتب المجالس، مع أن المعروف أن حجة الإمام هو صاحب التأويل في عصره.
تبدأ هذه المجالس عادة بحمد الله، والصلاة على نبيه، والأئمة من نسل علي، ويردفها الداعي بشيء من الوعظ والإرشاد، ثم يبدأ في تأويل آية من آيات القرآن، أو حديث نبوي، أو أثر عن الأئمة، أو يئول شيئا من فرائض الدين العملية، ويختم مجلسه بالدعاء والصلاة والحمد. وتلقى هذه المجالس مرتين في الأسبوع: يوم الإثنين ويوم الخميس، ويخيل إلي أن مجالس يوم الخميس كانت للخاصة، وفيها يقول المؤيد:
يا صباح الخميس أهلا وسهلا
زادك الواحد المهيمن فضلا
أنت عيد للمؤمنين عتيد
جمع الدين منهم فيك شملا
نحن نجني ثمار جنة عدن
كلما أقبل الخميس وولى
من رياض أنهارها جاريات
وبها الحور في المقاصر تجلى
تتروى الأرواح منها بماء
هو أشفى من الزلال وأحلى
رتبة خصنا بها صاحب العص
ر أمين الإله عز وجلا
1
وبين يدي الآن عدة كتب جمعت مجالس الحكمة التأويلية التي كان يلقيها بعض الدعاة، مثل كتاب تأويل دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد، وكتاب المجالس المؤيدية ويحتوي على ثمانمائة مجلس من مجالس التأويل، وكتاب المجالس المستنصرية للداعي الموسوم بعلم الإسلام ثقة الإمام،
2
وهذه المجالس تختلف باختلاف الداعي، فمجالس القاضي النعمان في تأويل فقه الفاطميين، والمؤيد يميل في تأويله إلى فلسفة المذهب، أما ما جاء في المجالس المستنصرية فهو تأويل بدائي، ويخيل إلي أن المجالس المستنصرية كانت تلقى على المبتدئين في الدعوة، وقد رأيت أن أقدم صورة من هذه المجالس المختلفة:
المجلس العاشر من الجزء الرابع من تأويل دعائم الإسلام للقاضي النعمان
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جل عن تقدير المتوهمين، ولطف عن لطيف بحث المتوسمين، وصلى الله على محمد النبي وعلى الأئمة من ذريته الطاهرين، ثم إن الذي يتلو ما تقدم ذكره ما جاء عن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - أنه قال: أول الصفوف أفضلها، وهو صف الملائكة، وأفضل المقدم ميامن الإمام. تأويله ما تقدم القول به من أن أمثال الصفوف في الصلاة أمثال درجات المستجيبين إلى دعوة الحق على مقادير فضلهم وسبقهم، وأن أمثال الملائكة من الناس أمثال المملكين أمور العباد، وهم أولياء الله من رسله وأئمة دينه ومن ملكوه شيئا من أمور العباد وأرسلوه لهم وما أرسلوهم له، والملك والملائكة فيما ذكر أهل اللغة مشتقة أسماؤها من الرسالة، والألوك والمألكة في لغة العرب الرسالة، وقد قال الله جل من قائل:
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس
فالصف الأول من صفوف ظاهر الصلاة لا ينبغي أن يقف فيه إلا أفضل أهل المسجد من علمائهم، كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ليلني منكم أولو النهى والعلم.» وينبغي أن يكون على يمين الإمام في الصف من خلفه أفضلهم، ومن يصلح أن يكون إماما إن حدث به حدث يوجب خروجه من الصلاة؛ لأن انصرافه إذا انصرف من الصلاة إنما يكون عن ذات اليمين، فيكون من يقدمه هناك، فيأخذ بيديه ويقدمه مكانه.
وعلى هذا تجري مراتب أهل الدعوة في حدودها: أن يكون الذين يلون القائم بها في الدرجة العالية من درجات المؤمنين الذين هم أهلها، وأن يكون أقربهم منه عن يمينه، وهي أفضل درجاتهم، من يصلح لمقامه من بعده، ويتلو ذلك ما جاء عنه - عليه السلام - أنه قال: سدوا فرج الصفوف، ومن استطاع أن يتم الصف الأول أو الذي يليه فليفعل، فإن ذلك أحب إلى نبيكم، وأتموا الصفوف فإن الله وملائكته يصلون على الذين يتمون الصفوف.
وعن جعفر بن محمد - صلوات الله عليه - أنه قال: «أتموا الصفوف، ولا يضرك أن تتأخر إذا وجدت تضييقا في الصف الأول فتتم الصف الذي خلفك، وإن رأيت خللا أمامك فلا يضرك أن تمشي منحرفا حتى تسده.» يعني وهو في الصلاة، وعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «صلوا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولا تخالفوا بينها فتختلفوا ويتخللكم الشيطان كما يتخلل أولاد الحذف.» فتعديل الصفوف وسد ما فيها من الفرج وتمامها واعتدال وقوف القيام فيها من واجب الصلاة وحدودها في الظاهر، ومثله في الباطن اعتدال أهل الدرجات في دعوة الحق على درجاتهم وحدودهم التي حدت لهم، لا يتجاوز أحد منهم حده إلى غيره، ومن رأى منهم خللا في حد من الحدود التي فوقه أو دونه، فينبغي له أن يسعى ويجتهد فيما يبلغه إلى تلك الدرجة، ويوجب له سد ذلك الخلل، وبأن يكون أهل كل حدود درجة قد استوت بهم الحال فيها، وأوجبت لهم الأحوال والأعمال أن يكونوا متساوين في ذلك على ما أمروا به من التساوي فيه، لا يتقدم أحد منهم أحدا في ذلك، كما وجب في ظاهر الصلاة أن يحاذي أهل كل صف منها بين مناكبهم، ولا يتجاوز أحد منهم أحدا، وأنهم إن فعلوا ذلك اختلفوا وتخللهم الشيطان. وتأويل ذلك أن أهل مراتب الدعوة إذا تعدى أحدهم حده، وخرج عنه إلى حد غيره، أوجب ذلك اختلافهم، ودخل بينهم ما يجب أن يختلفوا عن أعداء أولياء الله الذين أمثالهم أمثال الشياطين. وقوله: «كما يتخلل أولاد الحذف.» فالحذف ضرب من الغنم الصغار السود، واحدتها حذفة، تتخلل الغنم وتمشي بينها، فشبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تخللها ومشيها بتخلل الشيطان ومشيه بالتخريب بين المؤمنين لما يريده من تقاطعهم وتدابرهم وأمروا بلزومها.
ويتلو ذلك ما جاء عن علي (ص) أنه قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم «يا علي لا تقومن في العيكل.» قلت: وما العيكل يا رسول الله؟ قال: «تصلي خلف الصفوف وحدك.» فهذا مما يكره في ظاهر الصلاة، أن يقف المصلي خلف الصفوف وحده، وهو يجد فيها مكانا يقوم فيه، فإن لم يجد ذلك قام إلى أن يأتي من يقوم إلى جانبه، أو يصلي كذلك وحده إن لم يأت أحد، ولم يجد في الصفوف موضعا يقوم فيه، وتأويل ذلك في الباطن؛ نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليا - عليه السلام - عن أن يفعله في الظاهر؛ لأنه ليس هو حده في الباطن، وحده في الباطن أعلى الحدود وأرفع الدرجات دون درجة النبوة، فكره له أن يقوم في الظاهر في مكان لا يشبه مكانه في الباطن، وكذلك لا ينبغي له أن يخلف بنفسه، وأن يتواضع عن الدرجة التي جعلها له رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
ويتلو ذلك قول محمد بن علي - عليه السلام: «ليكن الذين يلون الإمام أولي الأحلام والنهى، فإن تعايا لقنوه.» وقد جاء في مثل ذلك ما تقدم القول به من أن ذلك كذلك يجب في ظاهر الصلاة أن يكون الذين يلون الإمام إذا صلى بالناس، علماءهم وأهل الفضل منهم، فإن تعايا وتوقف في القراءة لقنوه، وإن سها في الصلاة سبحوا له ليتذكر ما سها فيه، فيرجع إلى الواجب منه، وإن ذلك في الباطن كذلك لا يلي صاحب دعوة الحق في الرتبة والدرجة إلا أفضل أهل تلك الدعوة، فإن سها عن شيء عندهم من علم ذكروه إياه على ما تقدم القول به.
ويتلو ذلك قول أبي جعفر محمد بن علي - عليه السلام: «إذا صلى النساء مع الرجال قمن في آخر الصفوف، لا يتقدمن رجلا ولا يحاذينه، إلا أن يكون بينهن وبين الرجال سترة، فهذا هو الواجب في ظاهر الصلاة، وتأويله ما قد تقدم القول به من أن الرجال أمثال المفيدين، والنساء أمثال المستفيدين، وأن درجة المفيدين فوق درجة المستفيدين، ولا ينبغي للمستفيد أن يتجاوز حدا إلى حد المفيد ولا أن يدانيه، بل ينبغي له كما ذكرنا أن يقع دونه ويتواضع له.» وأما قوله: «إلا أن تكون بينهن وبين الرجال سترة.» تأويله أن يكون المفيد مستترا لحال التقية، فيعامل المستفيد منه في السر ويفيده، ويتقدم إليه ألا يدل عليه شيء من إجلاله ولا التواضع له، فيطرح ذلك المستفيد في ظاهر أمره تقية على مفيده وعلى نفسه. فافهموا بيان التأويل يا ذوي النهى والعقول، جعلكم الله ممن يفهم ويعلم ويعمل بما علم، وصلى الله على محمد نبيه وعلى الأئمة من ذريته وسلم تسليما، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
صورة من المجالس المؤيدية
المجلس التاسع من المائة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي علا عن كل معلوم، وسما عن كل موسوم، وكبر عن كل موهوم ومفهوم، وصلى الله على ربيب رحمته المعمور، وبحر حكمته المسجور، محمد المبشر به في التوراة والإنجيل والزبور، وعلي أخيه وابن عمه فارس يوم الهياج، ومستودع سر ليلة المعراج، علي بن أبي طالب البرزخ بين البحرين، العذب الفرات والملح الأجاج، وعلى الأئمة من ذريته هداة من ذرأ الله من خلقه، والمستحفظين لدينه وحقه، والمتمين كلمة عدله وصدقه. معشر المؤمنين، آمنكم الله من الفزع الأكبر، وحشركم مع من تحبون في يوم المحشر، القليل الطيب خير من الكثير الخبيث، فكونوا طيابا، وكونوا في جانب الخير ولا تيمموا لشر جنابا، والخير كله طاعة الله واتباع رسوله
صلى الله عليه وسلم
فيما شرع، والاقتداء به في وصل ما وصل، وقطع ما قطع، فصلوا ما أمر الله به أن يوصل بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، واقطعوا ما أمر الله به أن يقطع بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ؛ يرض عنكم، وبدلوا حرصكم على الدنيا فتورا، وفتوركم عن الآخرة حرصا، وعوضوا عن نقصكم في طلب الباقي ازديادا، وعن ازديادكم في طلب الفاني نقصا، من قبل أن يغشيكم غواشي الندم، ويطوف عليكم طوائف العدم، فلا دنيا أدركتم، ولا بعقبى تمسكتم، وأنصتوا لما يلقى إليكم من الحكمة، فإنها تنقش صور نفوسكم المستجنة في الأجسام، كما تنقش قوى الشراب والطعام صور الأجنة في الأرحام، واعلموا أنها نعمة الله سبحانه على خالصة عباده، وأنتم بها مشمولون، وعلى حالتي حفظكم لها وإضاعتكم لا محالة مسئولون. قال الله أصدق القائلين:
ثم لتسألن يومئذ عن النعيم . زعم الزاعمون أنه الماء البارد في اليوم الصائف، وحمى الماء البارد للبهائم كما للإنسان مباح، وأحق منه بالسؤال عنه ما هو للإنسان دون البهائم متاح، وهو علم الحقيقة الذي يؤثر في النفوس اللطيفة لصلاح المعاد، أكثر مما يؤثر الماء البارد لصلاح الأجسام.
وفسر بعض مفسري الشيعة أن النعيم المسئول عنه هو ولاية علي بن أبي طالب (ص)، وقد صدقوا إن اعتقدوا فيه أن الولاية مصحة التوحيد، ومعرفة الحدود الوقوف على معالم الإيمان، وعلم التأويل الذي نفك به أقفال القرآن، وكذبوا إن اعتمدوا في معرفة الله سبحانه على عقولهم، وادعوا وقوع الغناء فيها عن الرسول والوصي، على ما عليه رأي كثير من الشيعة، بزعمهم من الاستظهار بالولاء والاقتداء في معرفة التوحيد بذوي القياس والآراء، والجحود بالتأويل الذي ينفذ من ظلمات الاختلاف ويفضي إلى نور الائتلاف، وإنما الافتقار إلى الرسول والوصي - عليهما السلام - لبلوغ ما هم بزعمهم بالغوه من معرفة الله جل جلاله، فإذا كانت معرفة الله سبحانه تصح من دونهما، فأي حاجة تبقى بعدها إليهما للناس، وأية فضيلة تخلص لهما، وسوى هذا فإن كانت المعتزلة التي هي الفئة المبرزة بدعاوي معرفة الله سبحانه بغير واسطة رسول، نزولا على رأي بعض الفلاسفة وإشراف منهم بقوا مأمونين عند من أشرنا إليهم من الشيعة يقتدون بهم في توحيد ربهم، والقول في العدل على قضايا مذهبهم، فلم لا يكونون مأمونين على الإمامة التي هي دونهما فيرجعوا إلى ربهم فيها، ولا يناقضوهم في نقض مبانيها، عهد من يكون مأمونا على انتظار، ولا يكون مأمونا على دينار؛ فقد اختل عليهم القول بولاية علي (ص) بقطعهم ما أمر الله به أن يوصل من نظام الإمامة في ولده، فصاروا في معالم توحيدهم وعدلهم على أضدادهم عيالا، ولو فاءوا إلى جملة المعتصمين بحبل الله الممدود باتصالها لوردوا عيونا وظلالا؛ ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضوانه، فأحبط أعمالهم، وقد كان قرئ عليكم من قول الله سبحانه:
فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا .
ما شفع بالإبانة عن معنى الحق، ولم سمي حقا؟ وإن ذلك جهة كونه أصلا يحتمل الوضع عليه، وانتهى الشرح إلى القول بأن الأشكال الجسمانية الكثيفة موضوعة على القوى النفسانية اللطيفة، ومثال ذلك: أن السموات والأرض وما بينهما محمولة على قوة إلهية لطيفة يعبر عنها بأمر الله، كما قال الله سبحانه:
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ، وكذلك أجسام البشر على ثقلها محمولة على الأرواح اللطيفة التي هي من أمر الله سبحانه:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي
الآية. فقد تثبت العلم أن النفسانيات حاملة والجسمانيات محمولة عليها، وأن النفوس المحقونة بالثواب إذا انفكت عن عالم الجسم ثابت إلى عالم النفس الذي هو الحق والأصل الحامل، وثبت أيضا من ائتلاف الجسم والنفس الإنسانية عن غير قصد منها ولا إرادة، وتفرقتهما عن غير قصد ولا إرادة، على كون تألف النفس الكلية بالجسم الكلية، وعالم الجسم من السماء والأرض وما بينهما أيضا عن غير قصد منهما ولا إرادة، بل بأمر المبدع سبحانه، وأنه إذا أراد أن يبطل دار الدنيا بأفلاكها وأنجمها، وسفلها وعلوها، أمكنته القدرة منه على حسب الإمكان من التفريق بين الأنفس والأجسام الذي يصير به عامر الأجسام خرابا. وأنتم تسمعون ما نقرؤه الآن عليكم من قوله تعالى:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين
وما نلوح به في معناه.
وقال قوم: إن الضلال والهدى من الله سبحانه، وهم جمهور العامة، واستشهدوا عليه بهذه الآية، وما هو في معناها من مثل قوله:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ، وقوله تعالى:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، وقوله حكاية عن نوح - عليه السلام:
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ، ونظائرها كثيرة في القرآن.
وقال أهل الرأي: إنه إن كانت الصورة هذه فقد بطل ثواب المحسنين وعقاب المسيئين، وإن لهذه الآيات تأويلا يرجع إليه ويحمل الأمر عليه، وهو مثل قولهم في معنى الآية:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
أي يضل به عن الثواب الضالين، ويهدي به إلى الثواب المهتدين بفعلهم وكسب أيديهم، واستشهدوا على ذلك بقوله سبحانه:
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وما يجري مجراه وهو كثير في كتاب الله تعالى.
وقد سئل الصادق - عليه السلام - عن ذلك، فقيل: يابن رسول الله الناس مجبورون على المعاصي؟ فقال: الله أعدل أن يجبر خلقه على المعاصي، ثم يعاقبهم عليها. قيل: فمفوض إليهم؟ قال: هو أعز من أن يكون لأحد في ملكه سلطان. قيل: فكيف ذلك؟ قال - عليه السلام: أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض، فقوله تعالى:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
يوجب أن كثير الضالين قليل وقليل المهتدين كثير، وذلك أن الإنسان كثير بنفسه البسيطة لا بجسمه الكثيف، فالنفس الصالحة منسرحة في فضاء عالم النفس منفسحة، وصاحبها قليل من حيث الجسم المعدود المحصور، كثير من حيث النفس غير المحصورة، قال الله تعالى:
إن إبراهيم كان أمة ، والنفس الطالحة ضيقة حرجة كأنفس البهائم لا خطر لها في العالم العلوي، فأربابها وإن كثروا عددا فلقد قلوا محصولا كما قال الله سبحانه:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، وكما قال سبحانه:
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لعلي - عليه السلام: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت الشمس عليه.» وقوله:
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ، معنى الفسوق الخروج من الطاعة وعقد البيعة، وأما «الفاسقين» فمن الفسوق، ففسق عن أمر ربه دور آدم - عليه السلام - الذي هو أول الأدوار وهو إبليس لعنة الله عليه، فنقض بيعة الله، وفيه قال سبحانه:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ، ثم نزل عن مكانه في آخر الأدوار الذي هو دور محمد
صلى الله عليه وسلم
فنقض بيعة الغدير، وسار الآخر على منهاج الأول، فإبليس إمام الفاسقين أولا، وهو إمام الفاسقين آخرا، جعلكم الله براء من الفاسقين، وألحقكم بالصالحين؛ لتكونوا لهم في منازلهم مرافقين، والحمد لله الذي له في إظهار دينه أمر يبلغه، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وصلى الله على رسوله الأمين، محمد المبعوث بالبرهان المبين، وعلى وصيه السني الأقدار، علي بن أبي طالب معدن الفخار، وعلى الأئمة من ذريته هداة الحق، وأولياء الحق.
هكذا كانت مجالس الحكمة التأويلية التي كان يلقيها كبار الدعاة على جمهور المستجيبين، كل بحسب درجته وحده في مراتب الدعوة، فكل مجالس التأويل كما ذكرنا هي تطبيق النظرية التي أطلقت عليها نظرية المثل والممثول، وكل العقيدة الفاطمية إنما تدور حول الإمام وولايته، ومحاولة إثبات أن الله سبحانه أشار إلى الأئمة في كتابه الكريم ورمز إليهم فيه، وعلى المسلمين المؤمنين طاعة الأئمة وولايتهم وتصديق ما جاءوا به، وأن الله - سبحانه وتعالى - خص الأئمة بعلم التأويل الباطن، وأمرهم بستره لمستحقيه من المؤمنين.
الفصل الرابع
أشهر علماء الدعوة الفاطمية
(1) بنو النعمان
1
لا أكاد أعرف في تاريخ مصر الإسلامية حتى نهاية الدولة الفاطمية أسرة كان لها من الأثر في الحياة العقلية والسياسية ما كان لهاتين الأسرتين: أسرة عبد الحكم
2
قبل العصر الطولوني وأثناءه، وأسرة النعمان في العصر الفاطمي، فبنو عبد الحكم كانوا أساتذة المدرسة المالكية في مصر، وكذلك كان بنو النعمان أساتذة مدرسة المذهب الفاطمي بمصر، وكان بين بني عبد الحكم من اتجه إلى التاريخ وتدوينه، كذلك كان بين بني النعمان من دون التاريخ، وكان بنو عبد الحكم مقربين إلى الولاة في مصر، كذلك كان بنو النعمان في مكانة لا تقربها مكانة أخرى لدى أئمة الفاطميين، فالأسرتان - بنو عبد الحكم وبنو النعمان - من أشد الأسرات أثرا في الحياة المصرية، ولا سيما من الناحية العقلية.
أسس أسرة النعمان رجل عرف أنه من أشهر فقهاء المذهب الفاطمي، ومن أكثرهم تأليفا للكتب، وتعد مؤلفاته من الأسس التي تبعها من جاء بعده من علماء هذا المذهب، بل لا تزال بعض كتبه إلى اليوم من أهم الكتب وأقومها لدى طائفة البهرة الإسماعيلية، هذا الرجل هو القاضي أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد الله محمد بن منصور بن حيون التميمي المغربي، ويعرف في تاريخ الدعوة الفاطمية باسم القاضي النعمان، تمييزا له عن سميه أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب السني المعروف. اختلف الناس في تاريخ مولده، فذهب بعضهم مثل الأستاذ جوثيل إلى أنه ولد سنة 259،
3
وتبعه الأستاذ ماسينيون في ذلك الرأي، ولكن الأستاذ آصف فيظي خالفهما وذهب إلى أنه ولد في العشر الأخير من القرن الثالث،
4
وليس لدينا ما يرجح أحد الرأيين، بل نصرح بأنه لم يصلنا شيء عن نشأته الأولى، ولا عن آبائه وأسرته، إلا ما رواه ابن خلكان: أن والده أبا عبد الله محمد قد عمر طويلا، وأنه كان يحكي أخبارا كثيرة نفيسة حفظها في كبره، وتوفي في رجب سنة 351، وصلى عليه ولده أبو حنيفة النعمان، ودفن بأحد أبواب القيروان،
5
فحياة الأسرة غامضة أشد الغموض، ولم يحفظ التاريخ شيئا عنها، ولا أدري من أين استقى الأستاذ جوثيل ما رواه من أن والد النعمان كان من رجال الأدب، إلا إذا كان قد فهم من نص ابن خلكان ذلك.
وليس لدينا شيء عن حياة النعمان قبل قيام الدولة الفاطمية سنة 296ه، وقبل اتصاله بعبيد الله المهدي الفاطمي مؤسس الدولة الفاطمية، إلا أنه كان مالكي المذهب، وتحول إلى المذهب الفاطمي،
6
ولكن مؤرخي الشيعة الاثني عشرية قالوا: إن النعمان كان مالكي المذهب، ثم تحول إلى الشيعة الاثني عشرية، ثم انتقل إلى الإسماعيلية الفاطمية.
7
ويذهب أبو المحاسن إلى أنه كان حنفي المذهب قبل أن يعتنق المذهب الفاطمي،
8
ولكن إذا أمعنا النظر في هذه الخلافات وجدنا أن الأرجح هو ما رواه ابن خلكان، فالمذهب المالكي هو المذهب الذي كان يسود شمال إفريقية والأندلس، على أن المذهب الحنفي كان قليل الانتشار بين المسلمين في إفريقية وفي مصر أيضا، وأن خاصة تلاميذ مالك كانوا مصريين، وعن مصر انتقل هذا المذهب المالكي إلى شمال إفريقية والأندلس، وساد هذه البلاد حتى قل أن تجد فيها مذهبا آخر من مذاهب أهل السنة، فمن المرجح أن النعمان كان على مذهب أهل بلاده، أما ما يدعيه الأستاذ آصف فيظي أن النعمان كان إسماعيلي المذهب منذ نعومة أظفاره، وأنه اتخذ التقية والستر خوفا على نفسه وعلى مذهبه، فهو كلام يحتاج إلى ما يؤيده. وكذلك لم يتحدث أحد من المؤرخين الذين ذكروا النعمان عن إسماعيليته إلا بعد صلته بالمهدي سنة 313ه، أي بعد أن أظهر المهدي نفسه في المغرب، وهزم الأغالبة، واحتل ديارهم. دخل النعمان في خدمة المهدي واتصل به، ولا ندري نوع الخدمة التي كان يؤديها ولا الصلة التي اتصلها به، ولكن بعد وفاة المهدي اتصل النعمان بالقائم بأمر الله طوال مدة حكمه، وفي أواخر أيام القائم ولي النعمان قضاء مدينة طرابلس الغرب، أما قبل ولايته قضاء طرابلس فلا نكاد نعرف عنه شيئا. ولما بنى المنصور مدينة المنصورية كان النعمان أول من ولي قضاءها، بل ولاه المنصور القضاء على سائر مدن إفريقية.
وأصبح النعمان شديد الصلة بالإمام الفاطمي مقربا منه، وظل قاضي قضاة هذه المدن ومن تحته قضاتها، إلى أن ولي المعز لدين الله الإمامة، فاشتدت صلة النعمان به، حتى إنه كان يجالسه ويسايره، وقل أن يفارقه بعد أن كان مستوحشا منه عقب ولايته، ولكن المعز طلب إليه أن يكون في عهده كما كان في عهد أبيه المنصور بالله، ثم قويت الصلة بين المعز والنعمان حتى أصبح النعمان جليسه ومسايره، ووضع النعمان كتابه المجالس والمسايرات جمع فيه كل ما رآه وما سمعه من إمامه المعز. ولما رحل المعز من إفريقية إلى مصر سنة 362ه اصطحب معه بني النعمان، وكان النعمان إذ ذاك قاضي الجيش، وكان من الطبيعي أن يقلد النعمان قضاء مصر، ولكن المعز بعد أن استقر بمصر ترك القضاء لأبي طاهر الذهلي محمد بن أحمد الذي كان على قضاء مصر منذ سنة 348ه، وطلب إلى أبي طاهر أن يحكم بفقه الفاطميين، فكان لابد للقاضي من أن يسترشد في أحكامه بالقاضي النعمان، وما زال كذلك حتى توفي النعمان سنة 363ه.
ويقول ابن حجر: إن النعمان كان يسكن مصر، أي الفسطاط، ويغدو منها إلى القاهرة في كل يوم.
9
ويروي ابن خلكان عن المسبحي أن النعمان كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل ما لا مزيد عليه.
10
ونقل ابن خلكان عن ابن زولاق أن النعمان بن محمد القاضي كان في غاية الفضل، من أهل القرآن والعلم بمعانيه، وعالما بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر الفحل والمعرفة بأيام الناس، مع عقل وإنصاف.
11
وكل من تحدث عن النعمان من المؤرخين يذكر فضله وعلمه وسعة ثقافته، فلا غرابة إذن أن نرى هذه الكتب الكثيرة التي ألفها النعمان، والتي أصبحت عمدة كل باحث في المذهب الفاطمي، بل أصبحت الأصل الذي يستقي منه علماء المذهب، فلا أكاد أعرف عالما من علماء الدعوة الفاطمية لم ينهج نهج النعمان في فقهه، أو اختلف معه في رأي في المسائل الفقهية، وقد يكون ذلك لأن النعمان قال في كتابه المجالس والمسايرات: إن الإمام المعز لدين الله طلب إليه أن يلقي على الناس شيئا من علم أهل البيت، فألف النعمان كتبه، وكان يعرضها على المعز فصلا فصلا وبابا بابا حتى أتمها، فهو يقول مثلا:
أمرني المعز لدين الله (صلع) بجمع شيء لخصه لي وجمعه وفتح لي معانيه وبسط لي جملته، فابتدأت منه شيئا ثم رفعته إليه، واعتذرت من الإبطاء فيه لما أردته من إحكامه ورجوته من وقوع ما جمعته منه بموافقته (ص)، فطالعته في مقداره، فوقع إلي: يا نعمان، لا تبال كيف كان القدر مع إشباع في إيجاز، فكلما أوجزت في القول واستقصيت المعنى فهو أوفق وأحسن، والذي خشيت من أن يستبطأ في تأليفه ، فوالله لولا توفيق الله - عز وجل - إياك وعونه لك لما تعتقده من النية ومحض الولاية، لما كنت تستطيع أن تأتي على باب منه في أيام كثيرة، ولكن النية يصحبها التوفيق.
12
وفي كتابه هذا كثير من النصوص التي تدل على أنه كان يعرض كتبه على المعز قبل إذاعتها ونشرها بين الناس، كما أنه كان يقرأ مجالس المحكمة التأويلية، ومن هنا لقبه ابن زولاق بالداعي.
13
وليس لدينا من النصوص ما يثبت أن النعمان كان من الدعاة، وإن كان مؤرخو المذهب المحدثون، مثل الداعي إدريس، يحدثنا في كتابه عيون الأخبار أن النعمان كان في مكانة رفيعة جدا قريبة من الأئمة، وأنه كان دعامة من دعائم الدعوة، ولكنه لم يصرح بأن النعمان ولي مرتبة داعي الدعاة. ويخيل إلي أن النعمان كان داهية في سياسة التقرب إلى الأئمة، وأنه استطاع بعلمه وثقافته أن يجذب إليه قلوبهم، فقربوه إليهم وعرف أسرارهم ونياتهم فوضع هذه الكتب الكثيرة، وادعى أن الأئمة هم الذين لقنوه إياها، بل لعلي لا أغالي إذا قلت: إن النعمان هو أول من دون فقه المذهب الفاطمي، فلا أكاد أعرف فقيها من فقهاء المذهب قبله كتب في هذا الفن، وبين يدي الآن كتاب المرشد إلى أدب الإسماعيلية، وهو ثبت لأسماء المؤلفين والكتب الإسماعيلية، وأمامي فهرست ابن النديم، ومجموعة خطية قديمة لمؤلف مجهول جمع فيه أسماء الكتب التي ألفت منذ أوائل الدعوة الإسماعيلية، فلم أعثر في هذه الكتب كلها على كتاب واحد في الفقه الإسماعيلي قبل القاضي النعمان بن محمد. فلا غرو أن يعرف المعز فضل هذا العالم، وأن يرفعه إلى أعلى الدرجات، ولا سيما أن النعمان ذكر في كتبه أنه اقتبس هذه العلوم من الإمام! حتى قال المعز عن النعمان: من يؤدي جزءا من مائة مما أداه النعمان أضمن له الجنة بجوار ربه.
14
ويحدثنا المؤيد في الدين في سيرته أن الوزير اليازوري قال له: إن النعمان بنى هذا الأمر، وإن أحق الناس بمكانه أبناؤه؛
15
فالنعمان إذن قد أدى للدعوة الفاطمية هذا الفضل الذي عرفوه له ؛ إذ لا يزال علماء الدعوة يعيشون على الفقه الذي وضعه لهم النعمان، وربما على التأويل الذي ذكره في كتبه.
لننظر الآن إلى هذه الكتب التي وضعها النعمان لأهل الدعوة، فيقول ابن خلكان: إن النعمان ألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأملح سجع، وعمل في المناقب والمثالب كتابا حسنا، وله ردود على المخالفين، له رد على أبي حنيفة، وعلى مالك والشافعي، وعلى ابن سريج، وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت، وله القصيدة الفقهية التي لقبها بالمنتخبة.
16
وسرد الأستاذ إيفانوف مؤلفات القاضي النعمان، فإذا بها نحو أربعة وأربعين كتابا، بعضها لا يزال يحتفظ به أتباع المذهب وهم طائفة البهرة، ومنها كتب عثر على بعض أجزائها، ومنها ما فقد ولم يعرف إلا أسماؤه، ولا تعرف مكتبات أوروبا إلا ستة كتب من كتب النعمان هي: (1)
جزء من كتاب شرح الأخبار بمكتبة برلين، وأحضرت دار الكتب المصرية صورة فتوغرافية منه. (2)
كتاب دعائم الإسلام بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي دار الكتب المصرية صورة فتوغرافية منه. (3)
تأويل دعائم الإسلام بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي مكتبة جامعة القاهرة صورة فتوغرافية منه. (4)
أساس التأويل بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن. (5)
جزء من كتاب المجالس والمسايرات بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي مكتبة جامعة القاهرة. (6)
كتاب الهمة في اتباع الأئمة بمكتبة مكتب الهند بلندن، وعندي نسخة خطية منه.
ويحتفظ أصحاب الدعوة الآن في مكتباتهم الخاصة بالكتب الآتية: (1) افتتاح الدعوة، وعندي نسخة خطية منه، كما تحتفظ مكتبة جامعة القاهرة بصورة منه. (2) كتاب الإيضاح. (3) كتاب الينبوع. (4) مختصر الآثار. (5) كتاب الطهارة. (6) القصيدة المختارة. (7) القصيدة المنتخبة. (8) منهج الفرائض. (9) الرسالة ذات البيان في الرد على ابن قتيبة. (10) اختلاف أصول المذاهب. (11) كتاب التوحيد والإمامة. (12) مناقب بني هاشم. (13) تأويل الرؤيا. (14) مفاتيح النعمة.
أما كتبه التي لم يعثر عليها وعرفت أسماؤها فهي: (1) مختصر الإيضاح. (2) كتاب الأخبار. (3) كتاب الاقتصار. (4) كتاب الاتفاق والافتراق. (5) كتاب المقتصر. (6) كتاب يوم وليلة. (7) كتاب كيفية الصلاة. (8) الرسالة المصرية في الرد على الشافعي. (9) كتاب في الرد على أحمد بن سريج البغدادي . (10) دامغ الموجز في الرد على العتكي. (11) نهج السبيل إلى معرفة علم التأويل. (12) حدود المعرفة في تفسير القرآن والتنبيه على التأويل. (13) كتاب إثبات الحقائق في معرفة توحيد الخالق. (14) كتاب في الإمامة في أربعة أجزاء. (15) كتاب التعاقب والانتقاد. (16) كتاب الدعاة. (17) كتاب الحلي والثياب. (18) كتاب الشروط. (19) أرجوزة ذات المنن، وهي في سيرة الإمام المعز. (20) أرجوزة ذات المحن وهي في تاريخ ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد. (21) كتاب معالم المهدي. (22) كتاب منامات الأئمة. (23) كتاب التقريع والتعنيف.
هذه هي الكتب التي تركها النعمان بن محمد، ولعل أهم كتاب خالد له هو كتاب «دعائم الإسلام، في ذكر الحلال والحرام، والقضايا والأحكام»، وهو الكتاب الذي أمر الظاهر بأن يحفظه الناس، وجعل لمن يحفظه مالا جزيلا، ويشتمل هذا الكتاب على جميع فقه الفاطميين؛ فدعائم الإسلام عندهم الولاية والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، وكل فريضة من هذه الفرائض لها أصولها وفروعها وآدابها، فهو يتحدث عن ذلك كله بشيء من الإطناب، ويروي عن كل فريضة ما ورد عنها في القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبوية، وما جاء عن الأئمة. ومن يقرأ هذا الكتاب ويقارن بين الفقه فيه وبين فقه مالك، لا يكاد يجد اختلافا إلا في بعض أمور لا تمس الدين في شيء، اللهم ما ورد في القسم الخاص بالولاية.
والفصل الخاص الذي في أول الكتاب تحدث فيه عن الإيمان، وجعل الولاية شرطا أساسيا للمؤمن، أما ما سوى ذلك من أحكام فرائض الدين وسننه والمعاملات وغيرها، فلا تختلف عن الأحكام الشرعية عند المالكية. وتظهر قيمة هذا الكتاب عند علماء المذهب - منذ عرف هذا الكتاب - إذا عرفنا أن عالمين من أكبر علمائهم ذكراه في كتبهما، واعتمدا عليه ونوها به، أما العالم الأول فهو أحمد حميد الدين بن عبد الله بن محمد الكرماني المتوفى 412ه، فقد ذكر في مقدمة كتابه «راحة العقل» الكتب التي يجب أن تقرأ قبل قراءة راحة العقل، ومن هذه الكتب كتاب «دعائم الإسلام»، وأما العالم الثاني فهو المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي المتوفى 470ه، فقد ذكر في السيرة المؤيدية أنه كان يعقد مجلسا خاصا كل يوم خميس يقرأ فيه على السلطان أبي كاليجار البويهي فصول كتاب «دعائم الإسلام». ويعتبر هذا الكتاب الآن من أهم كتب الإسماعيلية، على الرغم من أنه في علم الظاهر، ويعد من كتبهم السرية التي لا يقربها إلا علماء المذهب فقط.
وقد أتبعه القاضي النعمان بكتاب تأويل دعائم الإسلام، واسمه الكامل: كتاب تربية المؤمنين، بالتوقيف على حدود باطن علم الدين، في تأويل دعائم الإسلام. وهو في ذكر التأويل الباطني للأحكام والفرائض التي وردت في كتاب دعائم الإسلام، وهو من أهم كتب التأويل عند الإسماعيلية، وعليه اعتمد الدعاة بعد النعمان،
17
وقد توفي النعمان قبل أن يتم هذا الكتاب.
ومهما يكن من شيء فالقاضي النعمان يعد من أكبر علماء الدعوة وفقيهها الأعظم، وتوفي هذا الرجل بمصر سنة 363ه.
كان هذا الفقيه رأس هذه الأسرة ومؤسسها، وجاء بعده أبناؤه وحفدته، وعرفوا جميعا بالعلم والفقه، وتولوا الدعوة والقضاء بعده.
ولد ابنه الأكبر أبو الحسين علي بن النعمان بالقيروان، في رجب سنة 328ه
18
وقدم مصر مع باقي أفراد الأسرة في صحبة المعز لدين الله، ولما مات النعمان اشترك علي بن النعمان في قضاء مصر مع أبي طاهر الذهلي، فظلا يقضيان حتى توفي المعز وولى العزيز، وعرض لأبي طاهر القاضي مرض الفالج، ففوض العزيز الحكم إلى علي بن النعمان، وذلك في صفر سنة 366، وظل منفردا بالقضاء وافر الحرمة عند الإمام العزيز حتى أصابته الحمى وهو بالجامع يقضي بين الناس، فقام من وقته ومضى إلى داره وأقام عليلا أربعة عشر يوما، وتوفي يوم الإثنين لست خلون من رجب سنة 374ه، وصلى عليه العزيز، وهو أول من لقب بقاضي القضاة في مصر، وكان عالما فقيها مثل أبيه، وكان شاعرا أورد له الثعالبي شيئا من شعره، مثل قوله:
ولي صديق ما مسني عدم
مذ وقعت عينه على عدمي
أغنى وأقنى فما يكلفني
تقبيل كف له ولا قدم
قام بأمري لما قعدت به
ونمت عن حاجتي ولم ينم
19
ومن شعره - وقيل بل من شعر أخيه محمد بن النعمان:
20
رب خود عرفت في عرفات
سلبتني بحسنها حسناتي
حرمت حين أحرمت نوم عيني
واستباحت دمي بذي اللحظات
وأفاضت مع الحجيج ففاضت
من جفوني سوابق العبرات
لم أنل من منى منى النفس حتى
خفت بالخيف أن تكون وفاتي
21
ومن شعره أيضا:
صديق لي له أدب
صداقة مثله نسب
رعى لي فوق ما يرعى
وأوجب فوق ما يجب
فلو نقدت خلائقه
لبهرج عندها الذهب
22
فمن هذه الأبيات القليلة نستطيع أن ندرك أنه كان شاعرا، رقيق الشعر، عذب الديباجة، متلاعبا باللفظ، ومن سوء الحظ أن شعره لم يصل إلينا كاملا حتى نستطيع أن نكون رأيا دقيقا في شاعريته.
ولا أدري أيضا من أين استقى الأستاذ آصف فيظي أن أبا الحسن علي بن النعمان كان في مرتبة داعي الدعاة، فليس لدي من النصوص ما يؤيد ذلك، بل الذي ذكره المؤرخون أن أول من أضيفت إليه الدعوة من قضاة الفاطميين هو ولده الحسين بن علي بن النعمان على نحو ما سنذكره بعد.
ولما توفي علي بن النعمان أرسل الإمام العزيز بالله إلى أبي عبد الله محمد بن النعمان يقول: إن القضاء لك من بعد أخيك، ولا نخرجه عن هذا البيت.
23
وهكذا ولي مرتبة قاضي القضاة بعد أخيه، وكان في حياة أخيه ينوب عنه في القضاء، فإنه لما سافر العزيز بالله إلى حرب القرامطة سنة 368، وسار علي في صحبته استخلف أخاه محمدا في القضاء. ولد محمد بالمغرب سنة 345ه،
24
وقدم القاهرة مع أفراد الأسرة، وما زال بها حتى ولي القضاء، وكان جيد المعرفة بالأحكام، متفننا في علوم كثيرة، حسن الأدب والدراية بالأخبار والشعر وأيام الناس.
25
وقد مدحه الشاعر عبد الله بن الحسن الجعفري السمرقندي بقوله:
تعادلت القضاة علي أما
أبو عبد الإله فلا عديل
وحيد في فضائله غريب
خطير في مفاخره جليل
تألق بهجة ومضى اعتزاما
كما يتألق السيف الصقيل
ويقضي والسداد له حليف
ويعطي والغمام له زميل
لو اختبرت قضاياه لقالوا
يؤيده عليها جبرئيل
إذا رقي المنابر فهو قس
وإن حضر المشاهد فالخليل
فلما قرأ محمد بن النعمان هذه القصيدة كتب إلى الشاعر:
قرأنا من قريضك ما يروق
بدائع حاكها طبع رقيق
كأن سطورها روض أنيق
تضوع بينها مسك فتيق
إذا ما أنشدت أرجت وطابت
منازلها بها حتى الطريق
وإنا تائقون إليك فاعلم
وأنت إلى زيارتنا تتوق
فواصلنا بها في كل يوم
فأنت بكل مكرمة حقيق
26
ومما يروى له أيضا قوله:
أيا مشبه البدر بدر السماء
لسبع وخمس مضت واثنتين
ويا كامل الحسن في نعته
شغلت فؤادي وأسهرت عيني
فهل لي من مطمع أرتجيه
وإلا انصرفت بخفي حنين
ويشمت بي شامت في هواك
ويفصح لي ظلت صفر اليدين
فإما مننت وإما قتلت
فأنت القدير على الحالتين
27
وفي سنة 375 عقد لابنه عبد العزيز بن محمد بن النعمان على ابنة القائد جوهر الصقلي في مجلس العزيز، ثم قرر ابنه هذا في نيابته عنه في الأحكام بالقاهرة ومصر.
وعلت منزلة محمد بن النعمان عند الإمام العزيز بالله، حتى إنه كان يصعد معه على المنبر،
28
وكان مهيبا محترما، حتى إن أحدا لم يكن يخاطبه إلا بسيدنا.
29
ويروي ابن خلكان عن ابن زولاق المؤرخ المصري: «ولم نشاهد بمصر لقاض من القضاة من الرياسة ما شاهدناه لمحمد بن النعمان، ولا بلغنا ذلك عن قاض بالعراق، ووافق ذلك استحقاقا لما فيه من العلم والصيانة والتحفظ وإقامة الحق والهيبة.
30
فكانت هذه المكانة التي حظي بها هذا القاضي سببا في أن ينقم عليه الوزير يعقوب بن كلس. ويخيل إلي أن الوزير كان يخشى اتساع نفوذ بني النعمان، فحاول ما استطاع أن يكسر شوكتهم، وينقص من قدرهم، فكان يعمد إلى أن ينقض أحكام القاضي. ويروي ابن حجر العسقلاني عن المسبحي أن الوزير ابن كلس كان كثير المعارضة لبني النعمان في أحكامهم.»
31
وروى قصة تدل على مدى خوف الوزيز من اتساع سلطانهم ونفوذهم وما كان يضمره لهم، وبعد أن توفي العزيز بالله سنة 385 وولي الحاكم بأمر الله، أقر القاضي محمد بن النعمان على ما بيده من القضاء، وزادت منزلته عنده رفعة، ولكن محمدا تزاحمت عليه العلل، فتوفي ليلة الثلاثاء رابع صفر سنة 399، وصلى عليه الحاكم ووقف على دفنه، وحزن الحاكم لوفاته، فلم يول أحدا مرتبة القضاء إلا بعد شهر، فقلد القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان.
ولد أبو عبد الله الحسين بن علي بن النعمان بالمهدية سنة 353ه، وقدم مع أسرته إلى القاهرة المعزية، ومهر في علوم الفقه حتى صار أحد أقطاب فقهاء المذهب الفاطمي، وكان ينوب أحيانا عن عمه محمد بن النعمان في القضاء حتى وليه بعد وفاة عمه. وفي صفر سنة 391 بينما كان القاضي جالسا في الجامع بمصر يقرأ عليه الفقه، أقيمت صلاة العصر فقام يؤدي الفريضة، وبينما هو في الركوع إذ هجم عليه رجل مغربي وضربه بمنجل في رأسه ووجهه، فحمل القاضي جريحا إلى داره، وظل حتى اندمل جرحه، فصار من ذلك اليوم يحرسه عشرون رجلا بالسلاح، وكان إذا صلى وقف خلفه الحرس بالسيوف حتى يفرغ من الصلاة، ثم يصلي حرسه، ولا نكاد نسمع أن قاضيا من قضاة المسلمين في التاريخ الإسلامي كله كان يصلي والشرطة تحرسه غير الحسين بن علي بن النعمان. وزاد الحاكم في إكرامه حتى أمر أن يضاف له أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته، وفوض إليه الخطابة والإمامة بالمساجد الجامعة، وولاه الدعوة وقراءة مجالس الحكمة التأويلية بالقصر وكتابتها، وهو أول قاض أضيفت إليه الدعوة من قضاة الفاطميين.
32
ويظهر أنه في ذلك الوقت دب دبيب الشقاق بين أبناء هذه الأسرة، فهذا القاضي طالب ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان ببعض ودائع كانت في الديوان أيام ولاية محمد بن النعمان على القضاء، وتشدد القاضي في مطالبة ابن عمه بهذه الودائع حتى ألزمه أن يبيع كل ما خلفه أبوه سدا لهذه المطالبة، ولست في مركز يسمح لي أن أقول: أكان تشدد القاضي عن ورع ودين أم عن حسد وغيرة وشقاق بين بني الأعمام. ومهما يكن من شيء فقد صرف هذا القاضي عن رتبة القضاة والدعوة في رمضان سنة 394، وأمر الحاكم بحبسه، ثم ضربت عنقه في مطلع سنة 395ه، وهكذا لقي حتفه بيد الحاكم، بعد أن كان مكرما لديه مقربا إليه.
وولي القضاء بعده ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، المولود في أوائل ربيع الأول سنة 355ه، وهو الذي كان ينوب عن أبيه في القضاء، وكان عالما من علماء الدعوة الفاطمية ينسب إليه كتاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم في أصول الدين، وهو الكتاب الذي رد عليه القاضي أبو بكر الباقلاني،
33
وقيل إن هذا الكتاب من تصنيف عمه علي بن النعمان. ومهما يكن من شيء فالقاضي عبد العزيز بن محمد هو أول من ولي النظر على دار العلم،
34
وكان يجلس في الجامع، ويقرأ على الناس كتاب جده النعمان «اختلاف أصول المذاهب»، وعلى الرغم من أنه خص بمجالسة الحاكم ومسايرته، فإنه لم ينج من نزوات الحاكم وتقلباته، فعزله عن القضاء سنة 398ه، ثم اعتقله في السنة التالية، ثم عفا عنه وأعاد إليه النظر في المظالم وخلع عليه، وفي سنة 401 اضطر هذا القاضي إلى أن يهرب من وجه الحاكم هو والقائد الحسين بن جوهر الصقلي، فصادر الحاكم بيوتهما وحمل كل ما كان فيها، ثم كتب الحاكم لهما بالأمان وخلع عليهما، ولكنه أمر بعد ذلك بقتلهما في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة 401ه.
وبعد هذه المأساة ضعف أمر بني النعمان وساءت حالهم، ولم تبق لهم تلك السطوة ولا ذلك النفوذ، حتى إن القاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان ولي القضاء سنة 418ه، ولكنه لم يمكث في هذه المرتبة سوى عام وشهرين، وأعيد مرة أخرى إلى القضاء سنة 427ه، وأضيفت إليه الدعوة. ويقول عنه المؤيد في الدين: «وتوجهت إلى الموسوم بالقضاء والدعوة، وهو يومئذ القاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان رحمه الله وإيانا، فرأيته رجلا يصول بلسان نسبه في الصناعة التي وسم بها دون لسان سببه، فارغا مثل فؤاد أم موسى عليه السلام، وفيه جنون يلوح من حركاته وسكناته.»
35
وعزل القاسم عن هذه المراتب سنة 441ه، ويحدثنا المؤيد أن نساء بني النعمان تشفعن للقاسم عند أم المستنصر، وألحفن عليها بالسؤال لإعادته، فعينه الوزير اليازوري 442ه نائبا له في الدعوة، فقبل القاسم أن يكون تابعا لداعي الدعاة بعد أن كان أصلا في هذه الخدمة، واستمر القاسم بن عبد العزيز نائبا لليازوري في مرتبة الدعوة حتى أقعده المرض، فأناب ابنه محمد بن القاسم في الدعوة بدله، واستمر محمد نائبا عن والده في نيابة الدعوة حتى سنة 450ه. ثم لم نعد نسمع شيئا عن هذه الأسرة التي ظلت زهاء قرن في مكانة رفيعة عالية، وفي اتصال بالأئمة الفاطميين، كما كان لهذه الأسرة أثرها في بعث العقائد الفاطمية في نفوس الناس بما ألفوه من كتب، وما ألقوه من مجالس الدعوة، وبما كانوا يحكمون به في القضايا على حسب فقه المذهب الفاطمي الذي وضعه لهم النعمان بن محمد مؤسس هذه الأسرة. (2) يعقوب بن كلس
ومن أشهر علماء الدعوة الفاطمية الذين كان لهم أثر قوي في الحياة العقلية بمصر أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، ولد ببغداد في أسرة يهودية، ونشأ بها حيث درس شيئا من الكتابة والحساب، واتخذ التجارة متكسبا له، شأن غيره من أبناء جلدته الذين لا يتورعون عن كسب المال بشتى الطرق والوسائل، ثم رحل مع أبيه إلى الشام في بعض مسائل تجارية، فنزل مدينة الرملة وأقام بها فصار وكيلا للتجار بها، ثم فر منها إلى مصر. قيل إن سبب ذلك أنه اجتمع قبله مال عجز عن أدائه، فهرب.
36
وقيل بل أرسله أبوه إلى مصر للتجارة بها.
37
ومهما يكن من شيء فقد وفد يعقوب على مصر إبان ولاية كافور الإخشيدي، فاستطاع بذكائه وكياسته أن يتصل بكافور، وأظهر من علو النفس والجد ما جعل كافورا يقربه إليه ويثق به حتى اشتدت صلة يعقوب بكافور، فعرض عليه كافور الإسلام، فترك يعقوب اليهودية ودخل دين الإسلام، وذلك يوم الإثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 356، ولزم التعبد ودراسة القرآن، ورتب لنفسه رجلا من أهل العلم يدرس له أصول الدين الإسلامي، وكأنه في ذلك الوقت كان يتطلع إلى ما وصل إليه بعد ذلك، فعمل على إتمام النقص الذي كان يشعر به، وهو يهوديته السابقة، فأراد ألا يرمى بضعف إسلامه إذا بلغ ما تاقت إليه نفسه، فاجتهد في الدرس والتحصيل حتى بلغ فيهما درجة عالية، وكأني بالوزير أبي الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن حنزابة وزير كافور، عرف ما كان يرمي إليه يعقوب، فخشي من صلة كافور بهذا اليهودي التاجر، فإنه بعد أن أسلم يعقوب بن كلس اشتد مقت ابن حنزابة له، فنصب له الحبائل لإخراجه من البلاد، فلما توفي كافور سنة 357 قبض ابن الفرات على جميع الكتاب وأصحاب الدواوين، وطلب يعقوب بن كلس فوجده قد هرب إلى المغرب، واتصل يعقوب بالمعز لدين الله، فقربه المعز إليه وصحبه معه إلى مصر بعد أن فتحها الفاطميون. وقيل إن ابن كلس هو الذي أطلع المعز على أسرار مصر، وسهل له أمر فتحها بعد أن استعصت على جيوش الفاطميين من قبل.
وبعد أن استتب الأمر في مصر للمعز ونقل عاصمة ملكه إلى مدينة القاهرة، ولي يعقوب بن كلس الخراج وجميع وجوه الأموال والحسبة، وذلك في سنة 363ه، ومن مثل ابن كلس يصلح لأمر المال! فاستمر في عمله حتى سنة 365، فقد زادت صلته بالمعز واكتسب حبه وثقته، فولاه المعز النظر في جميع أموره في قصره، وبعد قليل توفي المعز لدين الله ففوض العزيز بالله ليعقوب النظر في سائر أموره وجعله وزيرا له، وذلك في المحرم 367، وفي رمضان 368 خلع العزيز عليه، ولقبه بالوزير الأجل، فكان يعقوب بن كلس أول وزير في مصر الفاطمية.
ويروي ابن زولاق مؤرخ مصر ومعاصر ابن كلس: «أنه لما خلع على الوزير يعقوب بن كلس، وكان مكينا من العزيز وكنت حاضرا مجلسه، فقلت أيها الوزير: روى الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: حدثني الصادق رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه.» وهذا علو سماوي. فقال الوزير: ليس الأمر كذلك، وإنما أفعالي وتوفيراتي وكفايتي ونيابتي ونيتي وحرصي الذي كان يهجى ويعاب، قد مات قوم ممن كان وبقي قوم. وكان هذا القول بحضرة القوم الذين حضروا قراءة السجل الذي خرج من العزيز في ذكر تشريفه. قال ابن زولاق: فأمسكت، وقلت: وفق الله الوزير، إنما رويت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حديثا صحيحا. وقمت وخرجت وهو ينظر إلي. وحدثني أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني قال: عاتبت الوزير على ما تكلم به، وقلت: إنما روى حديثا صحيحا بجميع طرقه، وما أراد إلا الخير. فقال الوزير: خفي عنك، إنما هذا مثل قول المتنبي في كافور:
ولله سر في علاك وإنما
كلام العدا ضرب من الهذيان
وأجمع الناس على أن ذلك هجو في كافور؛ لأنه أعلمه أنه تقدم بغير سبب، وابن زولاق هجاني على لسان صاحب الشريعة
صلى الله عليه وسلم ، فما أمكنني السكوت، وكان في نفسي شيء فجعلت كلامه سببا.
38
فمركب النقص عند يعقوب دفعه إلى أن يعتقد أن تهنئة ابن زولاق هجاء له، وشعوره بيهوديته الأولى، وأنه أصبح وزيرا مقربا إلى إمام من أئمة المسلمين دفعته إلى أن يتعمق في دراسة الدين الإسلامي حتى أصبح علما من أعلام علماء الدعوة الفاطمية. ومع ذلك فنحن لا ندري السبب الذي من أجله اعتقل الوزير في القصر سنة 373ه عدة أشهر، فالمؤرخون لم يذكروا لنا شيئا عن ذلك، ثم نرى العزيز يطلقه سنة 374ه، ويأمر بحمله على عدة خيول، وقرئ سجل برده إلى تدبير أمور الدولة مرة أخرى، ووهبه العزيز خمسمائة غلام من الناشئة وألف غلام من المغاربة، فاتسعت دائرته وعظمت مكانته حتى كتب اسمه على الطرز وفي الكتب.
39
بجانب هذه المكانة الرفيعة التي بلغها الوزير يعقوب بن كلس، وهذا السلطان القوي الواسع الذي أحرزه، كان هذا الوزير محبا للعلم والعلماء مشجعا لمن طلب العلم، يغدق المنح والعطايا للكتاب والشعراء. ويروي ابن خلكان: «كان يعقوب يجمع عنده العلماء، وكان في داره قوم يكتبون القرآن الكريم، وآخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب والطب، ويعارضون ويشكلون المصاحف وينقطونها، وكان ينصب كل يوم خوانا لخاصته من أهل العلم والكتاب وخواص أتباعه،
40
فكان من خاصة جلسائه الحسين بن عبد الرحيم المعروف بالزلازلي مصنف كتاب الأسجاع،
41
والتميمي المقدسي الطبيب الذي صنف للوزير كتابا ضخما في عدة مجلدات سماه: «مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء.»
42
وأخذ الوزير علم العروض عن شيخه البديهي، وبفتحه وهدايته قال الشعر،
43
وبلغ هو نفسه في علم الفقه الفاطمي درجة أهلته لأن يؤلف الكتب ويعقد مجالس التأويل، فقد رتب لنفسه مجلسا في كل ليلة جمعة يقرأ فيه مصنفاته على الناس، وكان يحضر هذا المجلس القضاة والفقهاء والقراء والنحاة وجميع أرباب الفضائل والعدول، وغيرهم من وجوه الدولة.
44
كما نصب مجلسا في داره يحضره في كل يوم ثلاثاء الفقهاء والمتكلمون وأهل الجدل للمناظرة بين يديه،
45
فرعايته للعلم والعلماء ساعدته على أن يؤلف هذه الكتب التي قرأها على الناس، والتي منها كما ذكر ياقوت:
46 (1) كتاب في القراءات. (2) كتاب في علم الأبدان وصلاحها. (3) كتاب في الفقه مما سمعه من المعز والعزيز. (4) كتاب في الأديان وهو في الفقه. (5) مختصر الفقه وهو المعروف بالرسالة الوزيرية. (6) كتاب في آداب رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
هذه بعض الكتب التي ألفها هذا الوزير، ويقول إيڤانوف: إنها فقدت جميعها، ولم يبق منها إلا الرسالة الوزيرية في مختصر الفقه، وهو الكتاب الذي طلب الإمام الظاهر إلى الناس أن يحفظوه، وشجع على ذلك بترتيب أموال لمن حفظه.
47
ويحدثنا المقريزي أن الناس كانوا يفتون بكتابه في الفقه، ودرس فيه الفقهاء بجامع مصر، وأن العزيز بالله أجرى لجماعة فقهاء كانوا يحضرون مجلس الوزير أرزاقا كل شهر تكفيهم،
48
وقد ذكرنا أن هذا الوزير هو أول من جعل من الجامع الأزهر جامعة علمية، ورتب لعلمائها الأرزاق. معنى هذا كله أن الوزير يعقوب بن كلس رعى العلم والعلماء، فاتسعت بفضله الثقافة، وازداد الإقبال على العلم، وكذلك لقي الشعر على يديه التشجيع الذي لقيه العلم، فقد كان الوزير بعد أن ينتهي من مجالسه العلمية يأذن للشعراء في إنشاده مدائحهم فيه،
49
وكان يغدق عليهم الهبات والعطايا، ولعل أكثر الشعراء مدحا له هو الشاعر أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكي المنبوز بأبي الرقعمق، وعبد الله بن محمد بن أبي الجوع، فمن قول ابن أبي الجوع، وقد مرض الوزير من علة أصابت يده:
50
يد الوزير هي الدنيا فإن ألمت
رأيت في كل شيء ذلك الألما
تأمل الملك وانظر فرط علته
من أجله، واسأل القرطاس والقلما
وشاهد البيض في الأغماد هائمة
إلى العدا وكثيرا ماروين دما
وأنفس الناس بالشكوى قد اتصلت
كأنما أشعرت من أجله سقما
هل ينهض المجد إلا أن يؤيده
ساق يقدم في إنهاضه قدما
لولا العزيز وآراء الوزير معا
تحيفتنا خطوب تشعب الأمما
فقل لهذا وهذا أنتما شرف
لا أوهن الله ركنيه ولا انهدما
كلاكما لم يزل في الصالحات يدا
مبسوطة ولسانا ناطقا وفما
ولا أصابكما أحداث دهركما
ولا طوى لكما ما عشتما علما
ولا انمحت عنك يا مولاي عافية
فقد محوت بما أوليتني العدما
ومن قول أبي الرقعمق:
إن يعقوب قد أفاد وأقنى
وأعاد الندى وأغنى الضعيفا
سل سيفا من البصيرة والرأ
ي فأغناه أن يسل السيوفا
باذلا للعزيز دون حماه
مهجة حرة ورأيا حصيفا
ما رأيناه قط إلا رأينا
خلقا طاهرا وفعلا شريفا
ورأينا قرما كبيرا هماما
منعما مفضلا رحيما رءوفا
51
ووجد بين شعراء مصر في ذلك الوقت من كان يهجو الوزير ابن كلس، ويحدثنا ابن الأثير أن الشاعر الحسن بن بشر الدمشقي هجا يعقوب بن كلس، وهجا كاتب الإنشاء أبا نصر عبد الله الحسين القيرواني بقوله:
قل لأبي نصر صاحب القصر
والمتأتى لنقض ذا الأمر
انقض عرى الملك للوزير تفز
منه بحسن الثناء والذكر
واعط أو امنع ولا تخف أحدا
فصاحب القصر ليس في القصر
وليس يدري ماذا يراد به
وهو إذا ما درى فما يدري
فشكاه ابن كلس إلى الإمام العزيز، وأنشده الشعر، فقال له: هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء، فشاركني في العفو عنه. ثم قال هذا الشاعر أيضا، وعرض بالفضل القائد:
تنصر فالتنصر دين حق
عليه زماننا هذا يدل
وقل بثلاثة عزوا وجلوا
وعطل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أب وهذا ال
عزيز ابن وروح القدس فضل
فشكاه يعقوب إلى العزيز فامتعض منه، إلا أنه قال: اعف عنه. فعفا عنه، ثم دخل الوزير على العزيز فقال له: لم يبق للعفو عن هذا معنى، وفيه غض من السياسة، ونقض لهيبة الملك، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك، وسبك بقوله:
زبارجي نديم
وكلس وزير
نعم على قدر الكل
ب يصلح الساجور
فغضب العزيز على هذا الشاعر، وأمر بالقبض عليه، ثم بدا للعزيز إطلاقه فأرسل يستدعيه، وكان للوزير عين في القصر فأخبره بذلك، فأمر بقتل الشاعر، فقتل.
52
وهكذا كان لهذا الوزير أعداء كما كان له أنصار ومحبون، وقد حزن الناس حين ابتدأت علته في الحادي والعشرين من شوال سنة 380ه، ونزل إليه العزيز بالله يعوده، وقال: «وددت أنك تباع فأبتاعك بمالي، أو تفدى فأفديك بولدي.»
53
وتوفي يعقوب بن كلس ليلة الأحد لخمس خلون من ذي الحجة سنة 380ه، واجتمع الناس فيما بين القصر وداره لتشييعه إلى مقره الأخير، وخرج العزيز من القصر على بغلة، والناس يمشون بين يديه وخلفه بغير مظلة، والحزن ظاهر عليه، وأقام ثلاثا لا يأكل على مائدته ولا يحضرها من عادته الحضور، وأقام الناس عند قبر الوزير شهرا، وغدا الشعراء إلى قبره فرثاه مائة شاعر أجيزوا كلهم. فهذا كله يدل على أنه كان للوزير مكانة في نفس إمامه وفي نفوس معاصريه جميعا، وذلك لما عرف عنه من إنصافه وكرمه وعلمه، وما أظهره من شدة تمسكه بأهداب الدين الإسلامي على مذهب القوم. (3) المؤيد في الدين داعي الدعاة
54
وهل نستطيع أن نتحدث عن علماء الدعوة الفاطمية دون أن نتحدث عن هذا العالم الذي بلغت علوم الدعوة الذروة على يديه، ذلك هو المؤيد في الدين داعي الدعاة الذي عرف في تاريخ الأدب العربي بمناظرته مع أبي العلاء المعري في تحريم أكل اللحم، والذي أراد الأستاذ مرجوليوث المستشرق الإنجليزي أن يعرف شيئا عن حياته فخانه التوفيق، واكتفى بذكر اسمه دون حياته، فعلى الرغم من أن المؤيد لم يكن مصري المولد والنشأة فقد وفد على مصر، وأقام بها زهاء ثلاثين عاما، واستمع له جمهرة من المصريين، أخذوا عنه علوم الدعوة فأثر في الحياة العقلية المصرية بمبادئه التي كان ينادي بها. وفي مصر أخذ عنه لمك بن مالك قاضي الصليحيين باليمن، فنقلت عن مصر علوم الدعوة إلى اليمن، وأصبح اليمنيون يدينون للمؤيد بالأستاذية في علوم الدعوة، وفي مصر أنشد المؤيد أكثر قصائد ديوانه، وألقى مجالسه التي بلغت الثمانمائة مجلس، فلا غرابة أن نتحدث عنه في كتابنا هذا، وهو كتاب خاص بمصر.
اسمه هبة الله بن أبي عمران موسى بن داود الشيرازي، ولد بشيراز في العشر الأخير من القرن الرابع من الهجرة، في أسرة اتخذت العقيدة الفاطمية مذهبا لها، وكان أبوه حجة جزيرة فارس أيام الحاكم الفاطمي، فنشأ ابنه هبة الله ليأخذ مكانته في الدعوة في هذا الإقليم، وأخذه منذ نشأته بالإلمام بكل شيء يخص الدعوة وأسرارها، وكاتب الحاكم بأمر الله بأن يولي ابنه هبة الله أمر فارس من بعده، وبالفعل أصبح هبة الله حجة فارس بعد أبيه، وما لبث أن أصبح يملك نفوس أتباعه فانقادوا له الانقياد كله، فكانوا يفشون إليه أسرارهم الخاصة حتى مع أهل بيتهم، ويضحون في سبيله بأرواحهم، وكثر أتباعه حتى خشي السلطان أبو كاليجار البويهي سطوته ونفوذه، وهم أن ينفيه مرارا من شيراز، ولكنه كان يخاف ثورة أتباع المؤيد، وبلغت كراهية السلطان أبي كاليجار للمؤيد أنه كان يكره سماع اسمه في مجالسه، ولكن المؤيد في الدين احتال حتى استطاع أن يتصل بأبي كاليجار، وأن يجعل السلطان يستمع إليه، وأن يعقد مجالس المناظرة بين المؤيد وعلماء المعتزلة والشيعة وأهل السنة؛ فكان المؤيد يبرز على خصومه ومناظريه، فاضطر السلطان أمام قوة بيانه ودامغ حجته إلى أن يخضع للمؤيد، بل لأن يدخل في دعوته، وأن يعقد مجلسا خاصا يلقي فيه المؤيد على السلطان شيئا من علوم أهل البيت والفقه الفاطمي من كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان.
كان ذلك كله سببا في غضب جمهور أهل السنة في فارس، ولا سيما القضاة والعلماء، فأخذوا يوغرون صدور المقربين من أبي كاليجار وندمائه على المؤيد، وانتهزوا فرصة واتتهم للإيقاع به؛ ذلك أن المؤيد زار أتباعه في مدينة الأهواز، فوجد مسجدا قديما تهدمت جدرانه فأمر شيعته بتجديده ونقش على محرابه بالذهب أسماء الأئمة الفاطميين، وطلب من نقبائه الأذان فيه «بحي على خير العمل» أذان الشيعة، وخطب يوم الجمعة باسم المستنصر الفاطمي، فجهر بالدعوة الفاطمية دون خشية، وأعلن عصيانه في بلد يدين للعباسيين، مما جعل قاضي الأهواز يرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد ينعي الدولة العباسية وضياع خلافتها على يد المؤيد في الدين، كما ثار أهل السنة على أبي كاليجار، وجاء الوزير العباسي ابن المسلمة موفدا من قبل العباسيين للقبض على المؤيد، وكان أبو كاليجار إذ ذاك يرنو إلى ملك بغداد، فكان بين عاملين: إما ضياع هذه الفرصة من يده في سبيل رعاية ذمة المؤيد، وإما أن يضحي بالمؤيد في سبيل أطماعه.
وأدرك المؤيد تردد أبي كاليجار في هذا الأمر، ولا سيما بعد أن قطع السلطان مجالسه الليلية مع المؤيد، ورغبته عن لقائه، فلم يجد المؤيد بدا من النزوح عن وطنه، فسار مختفيا متجنبا الطرق العامة، سالكا البراري والقفار حتى وصل إلى مصر سنة 437ه. جاء مصر يحدوه الأمل فيما سيكون عليه شأنه من جاه وسلطان وتوقير؛ لأنه خدم دعوته بما لم يخدمها به أحد من الدعاة قبله، وقام بأمرها حق قيام، ولكنه من جهة أخرى كان يعلم أن الأمر في مصر ليس بيد إمامه المستنصر، بل كانت السلطة كلها بيد أم المستنصر ووكلائها، أمثال التستري واليازوري وغيرهما، يصرح المؤيد بذلك في سيرته بقوله: «بلغت بشق النفس الباب الطاهر، مترجحا بين أمل ويأس، ومتعقبا لملتقى ما يلقاني من طرفي إيحاش وإيناس؛ فأما الأمل فمن جهة خدمة ما خدم مثلها غيري، حداني حاديها، وناداني بالأهل والمرحب مناديها. وأما اليأس فمن حيث علمت أن المقصود شمس توارت بالحجاب، ووجه نهار تبرقع بالسحاب، وأن المسافة لعلها تقذفني من الإضاعة في يم، وتئويني من حيث أرادت غنما إلى غرم ... أدخلوني من باب القاهرة المعزية إلى قصر الخلافة - عمرها الله تعالى - فاستلمت على جاري العادة في مثله الأبواب، ولمحت الثريا ترابا تحت قدمي إذ ترشفت ذاك التراب، وأجلسوني هنيهة لأفيق من غشية الهيبة التي ملأت جوانحي، لما غشيت المسرة بمشاهدة ذلك المقام قلبي وجوارحي ، ثم أدخلوني إلى الوزير المعروف بالفلاحي - رحمه الله - فرأيت شيخا عليه من الوقار مسحة، ومن الإنسانية سمة، فأدنى وقرب، وأكرم ورحب، وخرجت فأخذوني إلى دويرة كانت فرشت لي، هي من الكرامة في الدرجة الوسطى من الحال، لا بالإكثار ولا بالإقلال ...»
55
وهكذا استقر بمصر، واتصل برجالها، وحضر مجالس الدعوة فيها، ولكن الوشايات لم تنقطع عنه، والدسائس تحاك حبالها حوله، فكان يقربه الوزراء حينا ويبعدونه حينا آخر، فعاش في مصر بين الرضا والغضب، وكثيرا ما فكر في الرحيل عن مصر، ولكن القوم لم يسمحوا له بالرحيل، وكان يأمل أن يولى مرتبة داعي الدعاة، ولكنها كانت تفر منه كلما حاول الإمساك بها، وأخيرا عينه الوزير اليازوري رئيسا لديوان الإنشاء، وزاد في معاشه، فتحسنت حاله، فظل في هذا العمل إلى أن علم بقيام طغرلبك التركماني لامتلاك بغداد، وهنا تظهر لنا موهبة المؤيد وتوقد ذكائه؛ إذ أدرك أن التركمانية خطر على الدولة الفاطمية، وأنه إذا تم أمر بغداد لطغرلبك فإنه لا ينثني عن محاربة أملاك الفاطميين في بلاد الشام وأعالي الجزيرة، فأسرع المؤيد في درء هذا الخطر عن أملاك إمامه، فكاتب رجال طغرلبك يستميلهم إلى الدعوة الفاطمية، كما راسل البساسيري وغيره من رجال العباسيين الذين يحقدون على التركمانية، ويخشون تملكهم للبلاد، ووعد هؤلاء بإمدادات الفاطميين إن قاوموا طغرلبك.
أما البساسيري ورجاله فرحبوا بالعمل باسم الفاطميين، على حين لم يستجب رجال طغرلبك. فأيقن المؤيد أن الحرب لا شك ناشبة بين الفاطميين والتركمانية، فنشط للدعوة بين الوزراء ورجال مصر لحرب طغرلبك، ووجدت دعوته قبولا منهم، وأعدت مصر الخلع والسلاح والعتاد والأموال، وأنفقت الدولة على هذه الحملة أموالا ذكرها المؤرخون في كتبهم، وهي الأموال التي أدت إلى ضعف مصر اقتصاديا، وجرتها إلى ما عرف بالشدة العظمى، وطلب من المؤيد أن يكون على رأس هذه القافلة لتسليم هذه الذخائر إلى البساسيري، فاعتذر المؤيد، ولكن المستنصر الفاطمي أصدر أمره بأن يكون المؤيد على رأس الركب، فلم يسع المؤيد إلا الخضوع لأمر إمامه، وطلب المؤيد لأن يلبس خلع الوزارة فأبى وأمعن في الإباء.
وهكذا بدأ المؤيد حياة جديدة، حياة الرجل العسكري وحياة السياسي الداهية، فقد خرج من مصر وليس معه جندي واحد، وإنما كانت معه ذخائر وأموال وعتاد حربي، ورسم له أن يصطنع من الأعراب وأمراء البادية ومن العرب والأكراد من يشاء، ويغريهم جميعا بالأموال والألقاب من قبل الفاطميين، فإذا كانت إنجلترا تعترف لأحد أبنائها وهو «لورنس» بخدماته في تأليب العرب على العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، وتشيد بذكر أعماله وتمجد بطولته، فكيف ينسى المصريون المؤيد في الدين وقيامه بما عهد إليه من حفظ ممتلكات الفاطميين، بل ما أداه من نشر الدعوة الفاطمية في بلاد لم تذكر الدعوة فيها من قبل، وفي إعادة بلاد أخرى كانت خرجت عن الدعوة وسلطانها. لقد وصف لنا المؤيد في سيرته حركاته ومكاتباته مع أمراء العرب، وكيف استمالهم جميعا للنهوض معه في حرب التركمانية ومساعدته في طردهم من العراق، حتى تكاثر الأنصار حوله، وسارع أمراء الكوفة وواسط وحلب إلى الدعوة باسم الإمام المستنصر، فاستطاع المؤيد بما تجمع حوله أن ينتصر على طغرلبك في موقعة سنجار التي ذكرها الشاعر ابن حيوس في قصيدة منها:
عجبت لمدعي الآفاق ملكا
وغايته ببغداد الركود
وبهذا النصر الذي أحرزه المؤيد دانت له الموصل والجزيرة وديار بكر، ولكن جموعه كانت تضم نفوسا متباغضة متشاحنة، فسرعان ما دب بينها النفور، وحل الشقاق، وتفرق عنه أكثر الأمراء حسدا منهم لمن قربهم المؤيد إليه، ووصف المؤيد حالهم بأنه كان بين ذئاب تتخادش وكلاب تتهارش. وكان يحاول تهدئتهم وإصلاح ما بينهم فلم يوفق، وعلم طغرلبك بحالهم فأسرع إليهم وهزمهم، وكان المؤيد إذ ذاك في الرحبة، فاصطنع الصبر والثبات وأخذ يحث من تفرقوا عنه إلى الرجوع إليه ويعدهم ويمنيهم، ولكنها كانت صيحة في واد، وخشي أن يدركه العدو وهو حي، فآثر أن ينسحب إلى حلب واتخذها مقرا لقيادته، وكانت حلب في يد المرداسيين الذين قطعوا خطبة الفاطميين، فما زال المؤيد بهم حتى سلموا بلدهم إلى الوالي الذي أرسله المستنصر الفاطمي.
وفي حلب استطاع المؤيد أن يتصل بإبراهيم بن ينال، وأغراه أن يخالف طغرلبك، ووعده بالتلقيب والخلع الفاطمية، فكانت مؤامرة ناجحة؛ إذ انفصل إبراهيم بن ينال عن جيوش طغرلبك وخرج هذا لمحاربته، فانتهز المؤيد هذه الفرصة، وأمر البساسيري بالمسير إلى بغداد، فتم له ذلك سنة 450ه، ودعا على منابرها باسم المستنصر الفاطمي لمدة عام، ولو كان وزراء مصر استمعوا لنصائح المؤيد لتغير وجه التاريخ الإسلامي، ولكانت هذه الحركة سببا في محو الخلافة العباسية منذ دخلت جيوش البساسيري بغداد سنة 450ه، ولكن المؤيد عاد إلى مصر دون أن يحفل به أحد، ولم تحتفل مصر بامتلاك بغداد فلم ينفخ فيها بوق واحد، ولم يقرع فيها طبل واحد، ولا غرابة في ذلك فقد كان الوزير في مصر إذ ذاك هو الوزير المغربي الذي لم ينس ما فعله الفاطميون بأجداده وآبائه، وهكذا أضاع وزراء مصر تلك الفرصة الذهبية التي هيأها لهم المؤيد بدهائه وسياسته.
عاد المؤيد إلى مصر فولي مرتبة داعي الدعاة، وبذلك أصبح في المرتبة التي شقي بالتطلع إليها ردحا طويلا من الزمان، ولكنه لم يمكث في تلك المرتبة طويلا؛ إذ خشى الوزراء مكانته ونفوذه وسلطانه فنفي مرة من مصر، ثم أعيد إليها وولي مرتبة الدعوة، ثم عزل عنها وولي ديوان الإنشاء مرة ثانية، وهكذا عاش حتى توفي سنة 470ه بالقاهرة، ودفن في دار العلم بجوار القصر، وصلى عليه الإمام المستنصر نفسه.
كان المؤيد في الدين من أكبر علماء عصره، وتدلنا كتبه التي وصلت إلينا على أنه كان واسع الثقافة ملما إلماما تاما بجميع العلوم التي عرفت في العالم الإسلامي إذ ذاك، قوي الحجة في مناظراته وجداله مع مخالفيه، وقد صدق أبو العلاء المعري حين وصفه بقوله : «وسيدنا الرئيس الأجل المؤيد في الدين، ما زالت حجته باهرة ودولته عالية ... ولو ناظر أرسطاليس لجاز أن يفحمه، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه.»
56
ويكفي أن ننظر إلى مناظرات المؤيد مع المعري لندرك كيف كان شيخ المعرة يتهرب من هذه المناظرة، وأنه كان يخشى قوة منطق المؤيد وحجته مع فصاحة بيانه، فاعترف له بالتفوق في الجدل، وأنه ورث علم الأولين.
وضع المؤيد في الدين عدة كتب أهمها: (1)
المجالس المؤيدية:
وهو أكبر كتاب وصل إلينا في الدعوة الفاطمية؛ إذ يضم هذا الكتاب ثمانمائة مجلس من مجالس الدعوة التي كان يلقيها المؤيد، ويثبت من هذا الكتاب أن الدعوة وعلومها بلغت ذروتها على يد المؤيد، ويعد هذا الكتاب من أقوى الكتب عند طائفة البهرة، ولا يقربه إلا من بلغ مرتبة خاصة من مراتب دعوتهم. وقد رتب حاتم بن إبراهيم الحامدي الداعي اليمني هذا الكتاب، وقسمه إلى أبواب حسب موضوعاته، وسمى الكتاب «جامع الحقائق»، وإذا نظرنا في كتب الدعوة لدعاة اليمن، نرى أن جميع الدعاة كانوا يقتطفون من المجالس المؤيدية ويستشهدون بها. ونرجو أن نوفق إلى نشر هذا الكتاب القيم، فهو موسوعة في علوم الدعوة الفاطمية، وفي هذه المجالس نرى مناظرات المؤيد ورده على المخالفين. (2)
ديوان المؤيد في الدين:
كان المؤيد شاعرا كما كان أديبا وعالما، وقد وصل إلينا ديوانه، فإذا به مجموعة من قصائده التي أنشدها في مدح الأئمة، وفي هذا الديوان نرى تطور حياة المؤيد، ووصف أحواله، وإشارات إلى جهوده، كما ملأ قصائده بالعقائد الفاطمية ومصطلحاتها. وطبع هذا الديوان بشركة الكاتب المصري في سلسلة مخطوطات الفاطميين. (3)
السيرة المؤيدية:
ولعل هذا الكتاب أقوم كتاب تاريخي يفصل لنا الحياة السياسية والاجتماعية في فارس والعراق ومصر، في المدة من سنة 429 حتى سنة 450، كما يعد سجلا للوثائق التي تبودلت بين المؤيد وأمراء العرب، وبينه وبين الوزراء المصريين إبان الثورة التي عرفت في التاريخ باسم ثورة البساسيري، وكذلك لم أجد كتابا من كتب التاريخ تحدث عن هذه الثورة كما تحدث عنها المؤيد، ولا غرو في ذلك؛ إذ كان المؤيد سبب هذه الثورة ومدبرها والمشرف عليها. وقد طبع هذا الكتاب بشركة الكاتب المصري في سلسلة مخطوطات الفاطميين.
وللمؤيد غير هذه الكتب كتاب شرح المعاد، وكتاب الإيضاح والتبصير في فضل يوم الغدير، وكتاب الابتداء والانتهاء، وكتاب تأويل الأرواح، وكتاب نهج العبادة، وكتاب المسألة والجواب، وترجم إلى اللغة الفارسية كتاب أساس التأويل للقاضي النعمان، وهو في تأويل قصص الأنبياء.
ويعتبر المؤيد أستاذ الدعوة في اليمن والهند، فعنه أخذ القاضي لمك بن مالك علوم الدعوة، وعاد إلى اليمن يلقي على المستجيبين ما تلقاه عن المؤيد. كما يعد أستاذ ناصر خسرو الشاعر الفارسي المعروف، فقد ذكره ناصر في أشعاره، ووصف مجالسه، وهكذا كان للمؤيد أثر في الحياة السياسية والعقلية والأدبية.
الباب الثاني
في الحياة العلمية
يعد عصر الفاطميين من أزهى عصور مصر الإسلامية من الناحية العلمية، فقد بلغت الحياة العلمية في مصر الفاطمية درجة كبيرة من النمو والازدهار؛ لكثرة العلماء الذين كانوا في مصر أو وفدوا عليها، وكثرة المؤلفات في كل فن من فنون العلم.
وقد ذكرنا أن أئمة الدعوة الفاطمية كانوا يقربون العلماء، ويشجعون الطلاب، وأنهم أوقفوا أرزاقا ثابتة للمشتغلين بالعلم حتى يتهيأ لهم التفرغ لما أهلوا أنفسهم له، فكان الفاطميون على هذا النحو من الاهتمام بشئون العلماء أسبق مما عليه كثير من الدول التي لم تعرف للعلماء قدرهم، ولم توفهم حقهم، فشغل العلماء بأمر أرزاقهم أولا، فركدت الحركة العلمية عند هذه الدول. وقد رأينا كيف اهتم الفاطميون بإنشاء خزائن الكتب في القصر وفي دار العلم حتى يتسنى للعلماء أن يطلعوا ويستفيدوا مما تركه السابقون، وبلغ من تشجيع الفاطميين لطلاب العلم أن القاضي النعمان سمع إمامه المعز يقول: «إنا لنسر بمن نراه من أوليائنا يطلب العلم والحكمة ويرغب في الخير، كما نسر بذلك في الولد.»
1
ففي ظل هؤلاء الأئمة، وعلى ضوء ما ذكره الإمام المعز، وجد العلماء ملاذا يئويهم من العوز، ويحميهم من الفاقة، بل وجدوا ما يشجعهم على مواصلة البحث والدرس والتأليف.
ويذكر المؤرخون عددا من العلماء الذين وفدوا على مصر الفاطمية، ووجدوا من التشجيع ما جعلهم يذكرون مصر والأئمة بالخير، فيحدثنا ابن أبي أصيبعة أنه لما وصل المهذب بن النقاش - وكان فاضلا في صناعة الطب - إلى الشام من بغداد، أقام بدمشق مدة، ولم يحصل له بها ما يقوم بكفايته، وسمع بالديار المصرية وإنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم ولا سيما من أرباب العلم والفضل، فتوجه إلى مصر واتصل بالقاضي الأجل السديد أبي المنصور عبد الله ابن الشيخ السديد أبي الحسن علي، فوهب له الأموال وأقام في مصر مكرما.
2
ونردد ما ذكره المؤرخون عن القاضي عبد الوهاب بن علي أحد فقهاء المالكية المجتهدين في المذهب، حتى قال عنه صاحب تاريخ بغداد: «لم أر في المالكية أفقه منه.» إذ وفد على مصر لضيق حاله ببغداد، وأكرمه المصريون على الرغم من تمذهبه بمذهب يخالف ما هم عليه، حتى تمول وحسنت حاله جدا، ولكن أدركه المرض، وكان يقول وهو في مرضه: «لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا!» وتوفي بمصر سنة 422ه، وسنذكر غير هذين العالمين في الفصول التالية.
فالقاهرة المعزية أصبحت مطمع أنظار العلماء، ومحط رحال الطلاب، وفي العصر الفاطمي استطاعت مصر أن تنتزع زعامة العالم الإسلامي في الحياة العلمية، وأن تبسط آراءها وتعاليمها على البلدان الأخرى، حتى نرى بعض العلماء الذين كانوا ينقمون على الشيعة عامة والفاطميين خاصة يفدون على مصر، ويتأثرون ببعض الآراء التي كانت سائدة فيها، وأقرب مثل نقدمه لذلك هو الإمام الغزالي، فقد هاجم الفاطميين في كتبه: القسطاس، والمنقذ من الضلال، والمستظهري أو الرد على الباطنية وغيرها من كتبه، ولكنه وفد على مصر في أواخر حياته، ووضع كتابه مشكاة الأنوار متأثرا ببعض العقائد الفاطمية، ولا سيما نظريتهم في ترتيب العقول.
ويخيل إلي أن السبب الذي من أجله شجع أئمة الفاطميين العلم والعلماء أن المذهب الفاطمي نفسه يقوم على العلم والعقل قبل كل شيء، ومن طريق العلم وبالجدل والمناظرات استطاعت الدعوة الفاطمية أن تنتشر في العالم الإسلامي، واستطاع الفاطميون أن يكونوا دولتهم العتيدة، فعقيدة الفاطميين كانت تقوم على العمل والعلم؛ فالعمل هو الظاهر والعلم هو الباطن، وعلم الباطن يقوم على استخدام العقل ومطابقة المحسوس للمعقول؛ فلا غرو أن رأينا الفاطميين يشجعون العلم الذي هو دعامة من دعائم العقيدة الفاطمية.
وقد أثرت الفلسفة اليونانية والمذاهب الدينية القديمة في أرباب هذه الدعوة وعلمائها على نحو ما رأيناه في الباب السابق من هذا الكتاب، فكان الفاطميون يهتمون بهذه الألوان من الدراسة الفلسفية والمذهبية؛ إما لإدخال بعض عناصر منها في عقيدتهم وآرائهم، وإما للرد عليها وتهجين هذه الآراء القديمة، فعل ذلك الفاطميون في الوقت الذي كان فيه أهل السنة في البلاد الأخرى يرمون من يشتغل بالفلسفة بالزندقة والإلحاد. فالفكر اليوناني وجد ترحيبا من الفاطميين، وتوسعوا في دراسته، وقد لاحظ المستشرق أوليري ذلك فقال: «إن الحركة الفاطمية بأكملها أخذت مكانتها في جو مشبع بالفكر الهليني، وإحياء دراسة المواد اليونانية هو الإلهام المباشر لطائفة الإسماعيلية.»
3
وسنرى في الفصل التالي مبلغ اهتمام الفاطميين بالعلوم الفلسفية، واصطناعهم لكل من عرف بالاشتغال بفرع من فروع الفلسفة، فقد قيل إن العزيز بالله كاتب جبرائيل بن بختيشوع، واستدعاه إلى مصر فاعتذر،
4
وأرسل الحاكم بأمر الله إلى ابن الهيثم يستدعيه فأجاب، وكتب الوزير الفلاحي إلى والي حلب وأعمالها بحمل أبي العلاء المعري إلى مصر ليبني له دار علم يكون متقدما فيها، وسمح بخراج معرة النعمان له في حياته وبعده، وإن والي حلب سار إلى معرة النعمان، واجتمع بأبي العلاء، وقرأ السجل عليه فاستمهله، وكتب إلى الوزير الفلاحي يستعفيه من ذلك فأعفاه. وتسامح الفاطميون مع العلماء الذين لم يعتنقوا مذهبهم، بل كانوا متسامحين مع أصحاب الأديان غير الإسلامية، فأبو الفتح منصور بن مقشر كان طبيبا للعزيز والحاكم بأمر الله، ومن المقربين إليهما، وبعد وفاته استطب الحاكم إسحق بن إبراهيم بن نسطاس، وهما من أهل الذمة، ولكن الفاطميين أغدقوا عليهما وعلى غيرهما من أصحاب الفلسفة الأموال والخلع والألقاب، وحفظ لنا التاريخ أسماء عدد كبير منهم.
وقد ذكرنا أن الفاطميين كان لهم دعاة في جميع أرجاء البلاد الإسلامية، يناقشون ويجادلون أصحاب المذاهب الأخرى ، ورأينا كيف التف عدد كبير من المسلمين حول هؤلاء الدعاة، وأخذوا عنهم علوم الدعوة، فنستطيع إذن أن ندرك في سهولة ويسر أن هذه الدعوة الفاطمية لم تؤثر في مصر فحسب، بل أثرت في جميع البلاد الإسلامية، وتبع ذلك أن الآراء اليونانية وغيرها من المذاهب القديمة من إسرائيلية ومسيحية وزرادشتية ووثنية، وهي التي صبغها الفاطميون بالصبغة الإسلامية، قد انتشرت في العالم الإسلامي على أيدي دعاة الفاطميين.
وإذا درسنا الحياة العقلية في العالم الإسلامي في القرن الرابع وما بعده، رأينا أكثر العلماء كانوا متأثرين بهذه الآراء التي بثها دعاة الفاطميين، ونرى بعض الفلاسفة الذين نبغوا في القرن الرابع وما بعده كانوا على صلة قريبة أو بعيدة من العقائد الفاطمية أو العقائد الشيعية عامة، فابن حوقل كان متشيعا لهم حتى قيل إنه من دعاتهم، والفارابي مثلا في حديثه عن القلم واللوح يكاد يتحدت بلسان دعاة الفاطميين، ويكاد يشاركهم في حديثه عن التوحيد،
5
وابن سينا قيل إنه إسماعيلي المذهب، وإن أباه كان أحد دعاتهم فنشأ متأثرا بعقائدهم، وجماعة إخوان الصفاء الذين يرجح أنهم ازدهروا في ظل البويهيين الذين كانوا يميلون إلى التشيع، ومنهم من اعتنق الدعوة الفاطمية، وكان يراسل الخليفة الفاطمي، وظهرت في رسائل إخوان الصفاء إسماعيليتهم. وابن الهيثم كان متصلا بالحاكم بأمر الله الفاطمي وعاش في كنفه، وأبو العلاء المعري حكيم المعرة كان متأثرا تأثرا تاما بهذه الآراء التي كانت تحيط به، فقد امتد ظل الحكم الفاطمي إلى بلاد الشام، وانتشرت فيها آراء الفاطميين كما انتشرت في كل البقاع التي خضعت أو لم تخضع لهم، فترى في أشعار أبي العلاء وكتابته كثيرا من الآراء الفاطمية التي كانت تسود ذلك العصر، ونذكر أحمد حميد الدين بن عبد الله الكرماني فيلسوف الدعوة وحجتها في العراق وكرامان، وصاحب الكتب الفلسفية الفاطمية مثل كتاب راحة العقل، وكتاب المصابيح، وكتاب الهادي والمستهدي، وكتاب الأقوال الذهبية وغيرها التي تدل على أن الكرماني فيلسوف ناضج التفكير، وأنه متأثر بما أخذه من فلسفة اليونان وغيرها.
6
ونذكر المؤيد في الدين، فهو من شيوخ الدعوة وفلاسفتها، وهكذا نستطيع أن نتتبع كثيرا من فلاسفة المسلمين الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية وصبغوها بالصبغة الإسلامية، وكان لهم فضل تقريب هذه الدراسات إلى جمهور المسلمين، فإن هؤلاء الفلاسفة تأثروا بالعقائد الشيعية عامة والفاطمية خاصة.
ولم ينس الفاطميون العلوم العربية الخالصة، بل وجهوا إليها اهتماما ملحوظا وعناية خاصة، وقد رأينا كيف كان الحاكم يجمع علماء اللغة والأدب للمناظرة بين يديه، ورأينا أثر يعقوب بن كلس في نشاط الحركة العلمية والأدبية، ويحدثنا عمارة اليمني أن مجالس الوزير الصالح بن رزيك لم تكن تنقطع إلا بالمذاكرة في أنواع العلوم الشرعية والأدبية، وفي مذاكرة وقائع الحرب مع أمراء دولته؛
7
فكانت هذه العناية الخاصة التي وجهها الأئمة ووزراؤهم وأمراء دولتهم للعلوم سببا في قيام هذه النهضة العلمية الرائعة التي ظهرت في مصر الفاطمية، وفي أن يكثر علماء مصر من التأليف وإنتاج الكتب في مختلف الفنون والعلوم.
حقيقة كان علماء مصر في ذلك العصر يشرحون أو ينقدون ما خلفه علماء المسلمين قبلهم في هذه العلوم العربية، ولا نكاد نجد في مؤلفات المصريين في هذا العصر آراء أصيلة يتميزون بها عن الذين سبقوهم، ولكن ليس ذلك بغريب؛ فالتاريخ يحدثنا أن العلوم إذا تم تكوينها ووضعت قواعدها تمر على العلماء فترة بعد ذلك طويلة أو قصيرة لشرح هذه القواعد أو نقدها، ويكثرون من التأليف حول هذه القواعد دون أن يحاولوا وضع قواعد جديدة، بل يفرعون على هذه الأصول القديمة دون مساس بالقديم. هذا ما كان عند اليونان بعد عصر الفلاسفة، وهذا ما حدث أيضا للمسلمين في جميع الأقطار الإسلامية بعد أن وضعت قواعد اللغة، ودون الأدب العربي بألوانه وفنونه، وبعد أن صيغت القواعد الفقهية على اختلاف المذاهب، فهذه الفترة فترة ركود ذهن العلماء عن وضع أصول جديدة وقواعد متباينة عن القديم، مرت بها مصر الفاطمية بل مرت بها جميع الأقطار الإسلامية، بل أستطيع أن أقول إننا لا نزال نعيش على هذه الأصول القديمة، ولم نستطع أن نتحرر منها إلى الآن؛ فقواعد اللغة التي دونها سيبويه، وأصول الصرف كما تركه ابن جني، وعروض الخليل بن أحمد، وأصول الفقه كما دونه الشافعي ومالك وأبو حنيفة وابن حنبل، هي التي تسيطر على حياتنا العلمية العربية إلى الآن، على الرغم من أن عددا كبيرا من دعاة حرية الفكر ينادون بضرورة التحرر من القديم، وتعديل هذه العلوم تعديلا يلائم حياتنا الحديثة، ولكن لا تزال السيطرة للقديم، ولم يستطع المصلحون إلى الآن أن يجدوا وسيلة للخلاص منه.
فعلى الرغم من تشجيع الفاطميين للعلماء حتى ألفوا هذه المؤلفات الكثيرة التي تحتاج إلى مجلد ضخم لسرد أسمائها، وأن هذه المؤلفات كانت التراث العلمي للعصور التي تلت عصر الفاطميين؛ فإن هذه الكتب الكثيرة ولا سيما ما كان منها في العلوم العربية، لا تظهر فيها شخصية مصر ولا أثر مصر، إلا إذا استثنينا كتب التاريخ التي تحدثت عن مصر. ففي هذه الكتب استطاع مؤرخو مصر أن يتأثروا بما حولهم، وأن يظهروا شيئا مصريا لا يستطيع غير المصريين أن يأتوا به.
وهناك سبب آخر لعدم ظهور شخصية مصر في كتب العلماء المصريين في العلوم العربية، ذلك هو رحلات العلماء في الأقطار الإسلامية طلبا للعلم، فمصر بموقعها الجغرافي الممتاز الذي جعل منها مركزا وسطا بين الشرق والغرب، وطريق الغرب إلى الأراضي المقدسة، هذا الموقع الجغرافي جعل مصر مركزا هاما لتبادل الآراء العلمية بين الأقطار الإسلامية، فعلماء الأندلس والمغرب وصقلية كانوا مضطرين إلى التعريج على مصر في رحيلهم لتأدية فريضة الحج، أو في رحيلهم لطلب العلم في العراق وفارس، وتطول مدة إقامتهم في مصر أو تقصر يأخذون عن علماء مصر، أو يلقون على المصريين ما عندهم من علم؛ فتتلاقح الآراء وتمتزج وتصبح متشابهة، لا فرق بين أندلسي ومصري ومغربي وصقلي، ولا تظهر الشخصية الإقليمية في هذا النحو من العلم، وكذلك نقول عن علماء مصر الذين رحلوا في طلب العلم من الأقطار الأخرى، وعلماء الأقطار الأخرى الذين رحلوا في طلب العلم أو للتعليم في مصر، فهذه الرحلات الكثيرة كانت سببا في ألا تتمايز العلوم العربية بتمايز الأقطار، حتى أصبحنا لا نفرق بين كتب المشارقة وكتب المغاربة إلا عن طريق تاريخ المؤلفين أنفسهم. أما من الناحية الموضوعية للكتب، فمن الصعب العسير أن نصل إلى نتيجة يطمئن إليها الباحث، والأقطار العربية التي كانت تتنازع فيما بينها في السياسة والمذهب الديني، وتنشب فيها الحروب المختلفة، كانت تربطها وتوحدها هذه الحياة العلمية، فجعلتها كتلة واحدة تدرس علوما واحدة لا فرق بين قطر وقطر، ولا تزال هذه الظاهرة إلى الآن في العلوم العربية الخالصة والعلوم الإسلامية، وأملنا عظيم اليوم - وقد توحدت البلاد العربية في آرائها السياسية - أن تتم وحدتها في مختلف ألوان الثقافة، حتى يعود للعرب مجدهم القديم بهذه الوحدة التي لن تنفصم بعون الله وبفضل يقظة البلاد العربية.
الفصل الأول
العلوم الفلسفية
إذا قلت العلوم الفلسفية فإنما أقصد بها جميع العلوم التي كانت تشتمل عليها الفلسفة في القرون الوسطى، والتي تضمها رسائل إخوان الصفاء من رياضيات وموسيقى وطب وتنجيم وطبيعيات وإلهيات ومنطق، إلى غير ذلك من هذه العلوم التي كان يحذقها فلاسفة هذه العصور، والتي لا يستحق طالب الفلسفة هذا اللقب إلا إذا ألم بها جميعا. وقد رأينا كيف كانت العقائد الفاطمية تعتمد قبل كل شيء على العلم وتمييز الإلهيات من الطبيعيات، فلا غرو أن نرى هذه العلوم الفلسفية على اختلاف ألوانها وفنونها تزدهر في العصر الفاطمي ويرعاها الفاطميون، بل كان من الخلفاء الفاطميين من أتقن هذه العلوم وبرز فيها، ولا سيما رصد الكواكب، فالمؤرخون يذكرون أن المعز لدين الله والعزيز والحاكم بأمر الله والحافظ كانوا يرصدون النجوم لاستقراء ما وراءها من أحداث. ويذكر المؤرخون أن اهتمام الأئمة بهذه العلوم كان وسيلة لادعائهم معرفة الغيب، ويروي المؤرخون بعض روايات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، كما يروون بعض الأشعار كان يتهكم بها المصريون على ادعاء الفاطميين معرفة الغيب، من ذلك ما روي أن العزيز بالله صعد المنبر ذات يوم، فرأى رقعة كتب فيها:
بالظلم والجور قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم غيب
فقل لنا كاتب البطاقة
وتضيف الرواية أن العزيز بالله أقلع عن ادعائه الغيب بعد ذلك. ويروي ابن ميسر في تاريخه أن النيل زاد، وبلغ الماء الباب الجديد أول الشارع خارج القاهرة، فلما بلغ الحافظ ذلك أظهر الحزن والانقطاع، فدخل إليه بعض خواصه، وسأله عن السبب فأخرج له كتابا، فإذا فيه: إذا وصل الماء الباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد. ثم قال: هذا الكتاب الذي نعلم منه أحوالنا، وأحوال دولتنا، وما يأتي بعدها.
1
فإن صحت هذه الرواية فهي تؤيد ما أذاعه الناس وتناقله الرواة عن ادعاء الفاطميين الغيب، وأن الأئمة يعرفون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. وبين يدي الآن كتاب: «الفترات والقرانات» المنسوب إلى جعفر بن منصور اليمن من علماء الدعوة في القرن الرابع الهجري - ولكني أشك في نسبة هذا الكتاب إليه - يتحدث في هذا الكتاب عن أثر الكواكب في عالم الكون والفساد، ويتنبأ بما سيحدث في الأيام المقبلة، وذهب مؤلفه إلى أن علم القرانات أو علم الجفر علم خص الله سبحانه به آدم - عليه السلام - وورثه آدم وصيه شيث، وتداولته الأنبياء والأوصياء والأئمة إلى الخلفاء الراشدين والنقباء المتوحدين بالتأييد.
2
ويروي علماء الدعوة أن علي بن أبي طالب كان يقول: «لو ثنيت لي وسادة وجلست عليها، لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، ولولا أن يقال إن ابن أبي طالب ساحر لأخبرتكم بما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، مما علمني رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
3
فهذا كله يؤيد ما قيل عن الفاطميين إنهم كانوا يدعون الغيب، وإنهم كانوا يستغلون معرفتهم بحركات الأفلاك لادعاء الغيب، ولكن بجانب هذه النصوص التي تثبت ذلك، نجد نصوصا أخرى تثبت عكسها، فالقاضي النعمان يحدثنا في كتابه المجالس والمسايرات: «ذكر الإمام المعز لدين الله يوما، وأنا بين يديه، النجامة والمنجمين، فقال: من نظر في النجامة ليعلم عدة السنين والحساب ومواقيت الليل والنهار، وليعتبر بذلك عظيم قدرة الله جل ذكره، وما في ذلك من الدلائل على توحيده لا شريك له؛ فقد أحسن وأصاب، ومن تعاطى بذلك علم غيب الله والقضاء بما يكون، فقد أساء وأخطأ. ولقد كان المنصور بالله من أعلم الناس بها، ولقد قال لي غير مرة: «والله ما نظرت فيها إلا طلبا لعلم توحيد الله وتأثير قدرته وعجائب خلقه، ولقد عانيت ما عانيت من الحروب وغيرها، فما عملت في شيء من ذلك باختبار مني دلائل النجوم، ولا التفت إليه.» ثم قال المعز: أتاني بعض المنجمين بكتاب ألفه يذكر فيه خلق آدم، وكيف كانت الكواكب يوم خلقه الله عز وجل، وما دلت عليه بما آل أمره وأمر ذريته إليه، ورأى أنه أتى في ذلك إلي بفائدة وعلم سبق إليه، فلما وقفت على كتابه سألته هل كان قبل آدم شيء؟ قال: نعم، قد كان قبله. ومن كان؟ وكيف كانت هذه الكواكب قبل ذلك، وما دلت عليه قبل خلق آدم؟ فلم يحر جوابا، وقال: هذا شيء ما ظننت أني أسأل عنه. قلت: وهذا الذي تكلفته وجئت به ما سئلت عنه أيضا فكيف تكلفته؛ فعجبت من قوم ينتهون فيما لا يعلمون ويتعاطون ما لا يدرون.
4
فهذا يدل على أن المنصور بالله والمعز لدين الله لم يدعيا الغيب، ولم يدرسا الكواكب وحركاتها لعلم ما كان وما سيكون. ويقول جعفر بن منصور اليمن في كتابه الكشف: «قال الله تعالى:
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ، وهذا قول نوح - عليه السلام - الذي ذكر الله في كتابه عنه، وكل هذا دليل على أن الأئمة والرسل لا يعلمون إلا ما أعلمهم الله بوحيه وتأييده ونوره وتثبته عن الله جل ذكره.»
5
فهذا دليل آخر نقدمه في دفع تهمة ادعاء الفاطميين للغيب.
وقال القاضي النعمان في كتابه الهمة: «فإنا لا نقول ما قاله الغلاة الضالون المبطلون، الصادون عن أولياء الله، الدافعون إمامتهم، الزاعمون أنهم يعلمون غيب الله، وما تخفى صدور عباده، تعالى الله الذي تفرد بعلم ذلك دون خلقه، ولم يطلع على ما شاء منه إلا من ارتضى من رسله، وإنما أراد هؤلاء الفسقة بما نسبوه إلى الأئمة - صلوات الله عليهم من ذلك - دفع إمامتهم؛ لأنهم لما زعموا أن الأئمة يعلمون الغيب، والناس يرونهم لا يعلمون من أمور الناس إلا ما ظهر منها لهم، لم يكونوا أئمة عند أولئك الفسقة، ولا عند من قبل منهم؛ إذ لم تكن تلك الصفة التي وصفوهم بها منهم.»
6
ولعل سبب هذا الادعاء هو تطرف بعض الدعاة في إسباغ جميع الفضائل على الأئمة، حتى جعلوا أئمتهم يعلمون الغيب، وكان اختلاف الناس في هذا الأمر مصدر جدل بين المصريين، وصور لنا الأمير تميم في إحدى قصائده ذلك كله، بقوله يخاطب أخاه الإمام العزيز بالله:
ولما اختلفنا في النجوم وعلمها
وفي أنها بالنفع والضر قد تجري
فمن مؤمن منا بها ومكذب
ومن مكثر فيها الجدال ولا يدري
ومن قائل تجري بسعد وأنحس
ونعلم ما يأتي من الخير والشر
فعلمتنا تأويل ذلك كله
بما فيه من سر وما فيه من جهر
عن الطاهر المنصور جدك ناقلا
وكان بها دون البرية ذا خبر
فأخبرتنا أن المنجم كاهن
بما قال والكهان من شيعة الكفر
وأن جميع الكافرين مصيرهم
إلى النار في يوم القيامة والحشر
فجمعتنا بعد اختلاف ومرية
وألفتنا بعد التنافر والزجر
وأوضحت فيها قول حق مبرهن
يجلي ظلام الشك عن كل ذي فكر
فعدنا إلى أن الكواكب زينة
وفيها رجوم للشياطين إذ تسري
مسخرة مضطرة في بروجها
تسير بتدبير الإله على قدر
وأن جميع الغيب لله وحده
تبارك من رب ومن صمد وتر
وما علمت منه الأئمة إنما
رووه عن المختار جدهم الطهر
7
وإذن نستطيع أن نخالف المؤرخين الذين رموا الفاطميين بادعاء الغيب، فإن هؤلاء المؤرخين استقوا أخبارهم من إشاعات العامة وأقوال بعض الغلاة، ولم يحققوا الأمر تحقيقا علميا، فقصيدة الأمير تميم، وأقوال علماء الدعوة، تنفي ما جاء به المؤرخون، وتبرئ الفاطميين من ادعاء الغيب.
حقيقة اهتم الفاطميون بالنجوم ورصدها، واستدعى الفاطميون إلى مصر عددا كبيرا من المنجمين، فعندما دخل المعز لدين الله مصر قدم معه منجمه محمد بن عبد الله بن محمد العتقي ،
8
ورفع العزيز بالله منزلة المنجم أبي عبد الله بن القلانسي إلى أن توفي سنة 386،
9
وأنشأ الحاكم بالمقطم منزلا يرصد فيه النجوم، وعمل له منجمه أبو الحسن علي بن يونس الزيج الحاكمي في أربعة مجلدات، ويقول ابن خلكان عنه: إنه لم ير في الأزياج على كثرتها أطول منه.
10
ويقول القفطي: إن ابن يونس كان يقصد تحرير زيج جامع كبير يدل على أن صاحبه كان أعلم الناس بالحساب.
11
وهذا الزيج هو الذي سار عليه منجمو مصر بعده، ويذهب المقريزي إلى أنه عمل للأفضل بن بدر الجمالي مائة تقويم لاستقبال سنة خمسمائة من الهجرة، وكان منجمو الحضرة يومئذ: ابن الحلبي، وابن الهيثمي، وسهلون وغيرهم، يطلق لهم الجاري في كل شهر، والرسوم والكسوة على عمل التقويم في كل سنة، فإذا كان في غرة السنة حمل كل منهم تقويمه، فيقابل بينها وبين التقويمات المحضرة من الشام، فيوجد بينها اختلاف كثير، فأنكر ذلك، فلما كان غرة ثلاث عشرة وخمسمائة عند إحضار التقاويم على العادة، جمع المنجمين والحساب وأهل العلم، وسألهم عن السبب في الاختلاف بين التقاويم، فقالوا: الشامي يحسب ويعمل على رأي الزيج المهجور المأموني، ونحن نعمل على رأي الزيج الحاكمي لقرب عهده، وبين المتقدم والمتأخر تفاوت وخلف. ثم أشاروا عليه بعمل رصد مستجد، وأشار عليه أبو الحسن بن أبي أسامة أن يتولى ذلك القاضي ابن أبي العيش الطرابلسي المهندس العالم، ولكن الأفضل غضب على ابن أبي العيش، وولى بدله أبا سعيد بن قرفة الطبيب، فنشط في إقامة المرصد، وساعده جميع المهندسين وعلماء الحساب والتنجيم إلى أن قتل الأفضل سنة 515ه، وولي الوزارة المأمون البطائحي، فأحب أن يتم هذا الرصد على أن يعرف بالرصد المأموني المصحح، واستمر العمل إلى أن قتل الوزير البطائحي سنة 518ه، فوقف العمل به.
وكان من المهندسين الذين اشتركوا في إقامة هذا الرصد: أبو جعفر بن حسنداي، والقاضي ابن أبي العيش، وأبو الحسن علي بن سليمان بن أيوب، وأبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندراني المهندس، وأبو محمد عبد الكريم الصقلي وغيرهم. ومن الحساب والمنجمين: ابن الحلبي، وابن الهيثمي، وأبو النصر تلميذ سهلون، وابن دياب، والقلعي وغيرهم.
12
وكان الخليفة الحافظ مغرما بعلم النجوم، وله عدة من المنجمين،
13
ومما يدل على شدة عناية الفاطميين بحركات الكواكب ما يرويه ابن السنيدي، وكان من أهل الخبرة بعمل الأصطرلاب والحركات: أن الوزير الجرجرائي تقدم سنة 435 فأمر بعمل فهرست لخزانة الكتب، وبرم ما أخلق من جلودها، وأنفذ القاضي القضاعي وابن خلف الوراق ليتوليا ذلك، وحضر ابن السنيدي ليشاهد ما يتعلق بصناعته، قال: «فرأيت من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة ستة آلاف وخمسمائة جزء، وكرة نحاس من عمل بطليموس، وكرة أخرى من عمل أبي الحسين الصوفي للملك عضد الدولة، وزنها ثلاثة آلاف درهم، قد اشتريت بثلاثة آلاف دينار.»
14
من هذا كله نستطيع أن ندرك مدى عناية الفاطميين بهذا اللون من العلم، ولكن الفاطميين لم يكونوا بدعا في ذلك كله، فهم ليسوا بأول من رصدوا النجوم، وجعلوا رابطة بين الكواكب العلوية والعالم السفلي وتأثير حركات الكواكب في الأرض، فهذا كله قديم معروف قبل ظهور الإسلام وبعد الإسلام؛ ففي أوائل قيام الدولة العباسية عني أبو جعفر المنصور بالتنجيم والنجوم، وترجم له السندهند، وجاء خلفاء العباسيين واقتدوا به حتى أصبح للتنجيم شأن كبير عندهم، وجعلوا للمنجمين رواتب، واستشارهم الخلفاء في أحوالهم الإدارية والسياسية، وليس ببعيد عن أذهاننا قصة فتح عمورية، وقصيدة أبي تمام التي مطلعها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
ويقول أستاذنا المرحوم كارلو ناللينو: إن التنجيم كان له شأن في قصور الخلفاء والسلاطين وبين العامة، وظل كذلك إلى القرن الماضي، فكان في دخول الحضارة الغربية عامة ومذهب كوبر نيقوس خاصة القضاء المبرم على التنجيم، بيد أنه لا يزال موجودا في البلاد التي لم تصب من الحضارة الغربية إلا قليلا.
15
فالفاطميون شاركوا غيرهم من المسلمين في التنجيم والفلك، وقد يكون من أهم الأسباب التي أدت إلى اهتمامهم بالفلك مسألة ابتداء شهر رمضان، فقد ذكرنا أن الفاطميين جعلوا شهر رمضان ثلاثين يوما دائما، ولم يبدءوا صومهم برؤية الهلال رؤية بصر بل رؤية استبصار، فرصدوا حركات الأجرام السماوية ليعرفوا مبدأ الشهر على حساب أن السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما، وخمس يوم وسدس يوم، وأن ستة أشهر من السنة تامة وستة أشهر ناقصة، وأن كل ناقص منها يتلوه تام، ولشدة الدقة في هذا التقويم اضطروا إلى استخدام عدد كبير من علماء الفلك والتنجيم والحساب والمهندسين وغيرهم من الفلاسفة الذين أقاموا المراصد والزيجات.
ابن الهيثم
ولعل أشهر عالم رياضي شهدته مصر الفاطمية هو الفيلسوف أبو علي محمد بن الهيثم، وقيل إنه أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، اتفق المؤرخون على أنه بصري المولد والنشأة، وإن كانوا لم يذكروا شيئا عن حياته في شبابه، فإن هذه الفترة من عمره غامضة أشد الغموض، والذي ذكره المؤرخون أنه رحل إلى الشام، وعاش في كنف أمير من أمرائها، وأن الأمير أغدق عليه نعمه وعطاياه، ولكن ابن الهيثم كان يقول للأمير: «يكفيني قوت يومي، وتكفيني جارية وخادم، فما زاد على قوت يومي إن أمسكته كنت خازنك، وأن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي؟ فما قبل بعد ذلك إلا نفقة احتاج إليها ولباسا متوسطا.»
16
فإن صحت هذه الرواية فهي تدلنا على ما كان عليه ابن الهيثم من انصراف إلى العلم ورغبة عن المال، خوفا من أن يشغله المال عن العلم، وكان حريصا على أن يتمسك بما يجب أن يكون عليه العالم الفاضل من خلق وترفع عن طلب الماديات، وأين هم العلماء الآن الذين لا يسعون وراء المال وإن كان ذلك بطرح العلم؟ وأين العلماء الآن الذين يرفضون من متاع الدنيا ما يفيض عن حاجتهم الضرورية، فإن علماء عصرنا - مع شديد الأسف - يتكالبون على جمع المال بشتى الطرق والوسائل، والحقد يملأ قلب أحدهم إذا أثرى له زميل، أو ارتفع قدره، ولعلنا نشاهد الآن ما عليه بعض من نطلق عليه لقب عالم يترك العلم والبحث للجري وراء اقتناء الدور والأراضي ويكنز الأموال، وهو في غنى عن ذلك كله إن كان عالما حقا قانعا قناعة ابن الهيثم وما تحلى به من خلق.
ويروي البيهقي قصة نذكرها الآن، لعلها تجد عند سادتنا علماء عصرنا رادعا لهم عما هم عليه، فهي تدل على أن ابن الهيثم لم يأبه للمادة، ولم يطلب سوى العلم للعلم. تقول القصة: إن أميرا جاء يطلب العلم عليه، فقال له ابن الهيثم: أطلب منك للتعليم أجرة، وهي مائة دينار في كل شهر؛ فبذل ذلك الأمير ما طلبه ابن الهيثم، وما قصر فيه، وأقام عند ابن الهيثم ثلاث سنوات يأخذ عن أستاذه العلم، فلما عزم الأمير على الانصراف إلى دياره، قال له ابن الهيثم: خذ أموالك بأسرها فلا حاجة لي إليها، وأنت أحوج إليها مني عند عودتك إلى مقر ملكك، ومسقط رأسك، وإني قد جربتك بهذه الأجرة، فلما علمت أنه لا خطر ولا موقع للمال عندك في طلب العلم، بذلت مجهودي في تعليمك وإرشادك. واعلم أن لا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير. ثم ودعه وانصرف.
17
وهكذا كان ابن الهيثم يتصف بصفات العالم بما في هذه الكلمة من معان وأوصاف، وظل ابن الهيثم بالشام حتى سمع به الإمام الحاكم بأمر الله الفاطمي، وقيل إنه نقل إلى الحاكم أن ابن الهيثم قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال وهو في طرف الإقليم المصري،
18
فازداد الحاكم شوقا إلى ابن الهيثم للاستفادة من علمه، وأرسل إليه يرغبه في الوفود إليه، فاستجاب ابن الهيثم إلى رغبته، وخرج الحاكم نفسه للقائه والترحيب به، وقربه إليه وأكرمه، ثم طلب إليه الحاكم أن ينظر في أصول النيل عساه ينفذ ما خطر له وهو بالشام، فرحل ابن الهيثم في النيل حتى بلغ موضع الشلال الأول قبلي أسوان، ورأى في طريقه آثار قدماء المصريين، فعلم أنه لا يستطيع أن يأتي من الأعمال الهندسية ما لم يبلغ القدماء معرفته، فأظهر ابن الهيثم عجزه، وعاد إلى القاهرة معتذرا إلى الحاكم.
19
وهذه خصلة أخرى نسجلها لهذا العالم العظيم الخلق الذي خطر له رأي، فلما كلف بتنفيذه أبى عليه تواضعه العلمي إلا أن يعترف بعجزه أمام ما وجده من فن القدماء، ولو لم يكن ابن الهيثم على هذا الخطر من الخلق العظيم لتمادى في مشروعه، ولكلف الدولة آلاف الدنانير، ولاستفاد هو أيضا، إن كان على نمط علماء عصرنا، فما أحرانا وقد مضى نحو ألف عام على وفاة ابن الهيثم أن نتمثل به في قناعته وتواضعه وعلمه. وكان من المتوقع أن يغضب الحاكم بأمر الله على ابن الهيثم، ولكن الإمام الحاكم حفظ له مكانته وعرف قدر خلقه وعلمه، فولاه بعض الدواوين، وقبل ابن الهيثم العمل رهبة لا رغبة، ثم خاف بطش الحاكم بعماله وتقلباته مع من حوله، فنزوات الحاكم وتسرعه في إراقة الدماء أو التعذيب أمر عرف به هذا الإمام، فاضطر ابن الهيثم إلى أن يتصنع الجنون والخبال، فتركه الحاكم في منزله، وجعل له من يخدمه ويقوم بمصالحه.
20
فاعتكف ابن الهيثم حتى بلغه وفاة الحاكم سنة 411، فاطمأن من نزواته على نفسه، فأظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه، واستوطن قبة على باب الجامع الأزهر، وأقام بها متنسكا، واشتغل بالتصنيف والتعليم ونسخ الكتب القديمة، فكان يتعيش من نسخ ثلاثة كتب كل سنة هي إقليدس والمتوسطات والمجسطي، ويبيعها بمائة وخمسين دينارا هي مئونته لسنة،
21
ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في حدود سنة ثلاثين وأربعمائة.
اتفق المؤرخون الذين ترجموا لابن الهيثم على أنه كان عالما متقنا لعلوم كثيرة، فيقول القفطي عنه: «ابن الهيثم صاحب التصانيف والتآليف المذكورة في علم الهندسة، كان عالما بهذا الشأن، متقنا له، متفننا فيه، قيما بغوامضه ومعانيه، مشاركا في علوم الأوائل، أخذ عنه الناس واستفادوا منه.»
22
ويقول البيهقي: «الحكيم بطليموس الثاني أبو علي بن الهيثم، كان تلو بطليموس في العلوم الرياضية والمعقولات، وتصانيفه أكثر من أن تحصى.»
23
ويذهب ابن أبي أصيبعة إلى أن ابن الهيثم كان متفننا في العلوم، لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي، ولا يقرب منه.
24
ويقول المستشرق دي بور: نجد في القاهرة في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس من الهجرة) رجلا من أعظم الرياضيين والطبيعيين في العصور الوسطى، هو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم.
25
وسرد القفطي أسماء سبعة وستين كتابا من تأليف ابن الهيثم، أما ابن أبي أصيبعة فذكر له ما يقرب من مائتي كتاب، خلا رسائل كثيرة، فقد ألف ابن الهيثم في الهندسة والطبيعيات والفلك والحساب والجبر، وفي الطب والمنطق والأخلاق، فلا غرو إذا رأينا الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية تحتفل بذكرى مرور تسعمائة سنة على وفاة ابن الهيثم، وقد أظهر أعضاء هذه الجمعية الثروة العلمية التي خلفها ابن الهيثم، ونوهوا بمكانته في هذه الفنون التي نبغ فيها وعرض لها في مصنفاته، فالأستاذ مصطفى نظيف «بك» قال: «إن ابن الهيثم قلب الأوضاع القديمة، وأنشأ علما جديدا، هو قد أبطل علم المناظر الذي وضعه اليونان، وأنشأ علم الضوء الحديث بالمعنى وبالحدود وبالأصول التي نراها الآن، وإن عد نيوتن بحق رائد علم الميكانيكا في القرن السابع عشر، فابن الهيثم خليق بأن يعد بحق رائد علم الضوء في مستهل القرن الحادي عشر للميلاد.»
26
وقال الأستاذ محمد رضا مدور «بك»: «إذا أردنا أن نقارن ابن الهيثم بعلماء عصرنا الحاضر، فلا أكون مغاليا إذا اعتبرت ابن الهيثم في مرتبة تضاهي مرتبة العلامة أنيشتين في عصرنا هذا.»
27
ويقول الأستاذ الدكتور مشرفة «باشا»: «المطلع على كتاب ابن الهيثم في حل شكوك إقليدس، يلمس فيه دقة المؤلف في التفكير، وتعمقه في البحث، واستقلاله في الحكم، كما يتضح له صحة إدراك ابن الهيثم لمكان الهندسة الإقليدسية من العلوم الرياضية، على أنها دراسة منظمة للعلاقات والمقادير المكانية من ناحية كونها علاقات أو مقادير، وبغير نظر إلى ما يمكن أن تدل عليه من موجودات. فابن الهيثم في هذا الكتاب رياضي بحت بأدق ما يدل عليه هذا الوصف من معنى، وأبلغ ما يصل إليه من حدود.»
28
فهذا كله قول مختصين يستطيعون الحكم على مكانة ابن الهيثم في العلوم الرياضية والطبيعية، ولكن ابن الهيثم كان في مصر الفاطمية، فوجدت تعاليمه وآراؤه ما وجدت مصر الفاطمية كلها، بسبب تعصب من أتى بعد الفاطميين، وقد لاحظ الأستاذ ديبور إهمال العلماء له، فقال: إنه لم يكن لدعوة ابن الهيثم ثمرة كبيرة في الشرق، ولا يعرف من تلاميذه غير واحد يعد من الفلاسفة هو أبو الوفاء مبشر بن فاتك القائد.
29
ولكني أرى خلاف ما رآه ديبور ، فقد كان لابن الهيثم تلاميذ كثيرون، وإنهم حافظوا على تعاليمه ودعوته، ولكن كما قلت كان التعصب الديني عند الأيوبيين والعباسيين قويا، حتى إنهم لم يفرقوا بين عقيدة الفاطميين أعدائهم وبين العلوم الرياضية، فكل من اتصل بالفاطميين فهو من زمرتهم، وكل عالم من علماء مصر الفاطمية متهم بالخروج عن الدين، ويجب أن تحرق كتبه، ولا تتبع تعاليمه. هذا ما حدث لابن الهيثم وغير ابن الهيثم من العلماء.
أما مبشر بن فاتك الذي ذكر أنه تلميذ ابن الهيثم، فهو الأمير محمود الدولة أبو الوفاء المبشر بن فاتك، وكان من أعيان أمراء مصر وأفاضل علمائها، دائم الاشتغال، محبا للفضائل والاجتماع بأهلها ومباحثاتهم والانتفاع بما يقتبسه من جهتهم، وكان ممن اجتمع به منهم، وأخذ عنه كثيرا من علوم الهيئة والعلوم الرياضية أبو علي محمد بن الهيثم.
30
ويقول أمية بن أبي الصلت: إنه أدرك أبا الوفاء، وأخذ عنه شيئا من المنطق، وتخصص به، وتميز عن أضرابه، وإن أبا الوفاء أدرك أبا كثير بن الزقان تلميذ أبي الحسن علي بن رضوان، وقرأ بعض كتب جالينوس، ثم نصب نفسه لتدريس جميع كتب المنطق، وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والإلهية، وشرح بزعمه وفسر ولخص.
31
وكان أبو الوفاء أحد أدباء مصر العارفين بالأخبار والتواريخ، وكان في أيام الظاهر والمستنصر، وله كتاب سيرة المستنصر في ثلاثة مجلدات، وله تواليف في علوم الأوائل، كما كان حريصا على اقتناء الكتب، فجمع منها ما لا يحصى عدده كثرة.
32
ويقول القفطي: إنه قرأ على المبشر فضلاء زمانه فسادوا،
33
ويذكر من تلاميذه الطبيب سلامة بن رحمون اليهودي الذي ناظر أمية بن أبي الصلت.
34
ومن الرياضيين الذين كانوا في هذا العصر رزق الله المنجم النحاس الذي وصفه أمية بقوله: «وله في فروع النجامة بعض دربة، وبتجرباتها بعض خبرة، وهو شيخ أكثر المنجمين بمصر وكبيرهم الذي علمهم السحر، فجميعهم إليه منسوب، وفي جريدته مكتوب، وبفضله معترف.»
35
وأبو علي المهندس المصري الذي كان قيما بعلم الهندسة، وكان يعيش في أوائل القرن السادس الهجري، وكان مع ذلك أديبا شاعرا، ويظهر من شعره أنه متأثر بدراسته الهندسية، فهو يقول مثلا:
تقسم قلبي في محبة معشر
بكل فتى منهم هواي منوط
كأن فؤادي مركز وهم له
محيط وأهوائي لديه خطوط
36
وقوله أيضا:
إقليدس العلم الذي يحوي به
ما في السماء معا وفي الآفاق
تزكو فوائده على إنفاقه
يا حبذا زاك على الإنفاق
هو سلم وكأنما أشكاله
درج إلى العلياء للطراق
ترقى به النفس الشريفة مرتقى
أكرم بذاك المرتقى والراقي
37
وظهر في مصر في هذا العصر عدد كبير من الأطباء، والطب كما نعلم كان في ذلك العصر من علوم الفلسفة، وكثرت في مصر الفاطمية مناظرات الأطباء ومجادلاتهم، فكان ذلك من أسباب ازدهار هذا النوع من العلم واتساع أفقه وكثرة التآليف حوله، وقرب الفاطميون الأطباء، وأغدقوا عليهم من نعمهم وعطاياهم خلاف ما أوقفوا لهم من مرتبات شهرية، فمن ذلك ما يروى أن منصور بن مقشر النصراني طبيب العزيز بالله اعتل سنة 385ه، وتأخر عن الركوب مع الإمام، فلما تماثل من علته كتب إليه العزيز رقعة بخطه، نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم
طبيبنا سلمه الله
سلم الله الطبيب وأتم النعمة عليه، وصلت إلينا البشارة بما وهبنا الله من عافية الطبيب وبرئه، والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقنا نحن من الصحة في جسمنا، فتمم الله عليك النعمة، وكمل لنا صحتك وعجل بها، ولا أشمت بنا فيك عدوا ولا حاسدا، ورد كيد من يريد الكيد في نحره، وابتلاه مما لا طاقة له، بعد الكفاية فيك، وإقالتك العثرة، ورجوعك إلى أفضل ما عودك. وصلى الله على خيرته من خلقه محمد النبي وآله وسلم تسليما.
38
فمثل هذه الرسالة لا تصدر إلا من صديق حميم يخلص لصاحبه ويحب له الخير، فما بالك إذا صدرت من إمام مسلم إلى طبيبه المسيحي، فالإمام عرف لطبيبه قدرته في فنه وعلو كعبه في صناعته، فقربه واتخذه صديقا. وكذلك يقال إن المعز لدين الله اصطنع لنفسه الطبيب موسى بن العيزار، وكان طبيبا عالما بتركيب الأدوية وطبائع المفردات، وهو الذي ألف شراب الأصول.
39
ووفد على مصر في عهد المعز والعزيز الطبيب محمد بن أحمد بن سعيد التميمي، وهو من بيت المقدس، واشتهر بخواص العقاقير وتركيب الأدوية، ولقي الأطباء بمصر وحاضرهم وناظرهم، واختلط بأطباء الخاصة القادمين من المغرب في صحبة المعز، والمقيمين بمصر من أهلها. ويقول القفطي: إنه كان منصفا في مذكراته، غير راد على أحد إلا بطريق الحقيقة، وصنف للوزير يعقوب بن كلس كتابا كبيرا في عدة مجلدات سماه «مادة البقاء، بإصلاح فساد الهواء، والتحرز من ضرر الأوباء»، وتوفي التميمي بمصر في حدود سنة 370ه.
40
ومن أشهر الأطباء في هذا العصر سلامة بن رحمون أبو الخير اليهودي المصري، الذي قال عنه أمية بن أبي الصلت: «وأنبه من رأيته من أطباء مصر، وأدخلهم في عداد الأطباء؛ رجل من اليهود يدعى أبا الخير سلامة بن رحمون، فإنه لقي أبا الوفاء المبشر بن فاتك، وأخذ عنه شيئا من صناعة المنطق تخصص به وتميز عن أضرابه، وأدرك الكثير الزقاني تلميذ أبي الحسن بن رضوان، وقرأ عليه بعض كتب جالينوس، ثم نصب نفسه لتدريس كتب المنطق جميعا، وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والإلهية، وشرح بزعمه وفسر ولخص، ولم يكن هنالك في تحصيله وتحقيقه، بل كان يكثر كلامه فيضل، ويسرع جوابه فيزل.»
41
وناظره أمية، ولكن إجابات سلامة لم تجد منه قبولا، فرماه بسوء التصور والفهم.
42
ولعل من أشهر أطباء هذا العصر هو أبو الحسن علي بن رضوان، ولد بالجيزة، وكان أبوه فرانا، ولما بلغ السادسة من عمره أسلم نفسه للمعلمين، وانتقل إلى مدينة مصر وهو في العاشرة لطلب العلم، وبدأ في دراسة الطب وغيره من علوم الفلسفة وهو في الرابعة عشرة من عمره، ولفقره وحاجته إلى ما يستعين به في الحياة اضطر إلى أن يتكسب بالطب مرة، وبالتنجيم مرة أخرى، وبالتعليم كذلك، وفي الوقت نفسه كان يواظب على طلب العلم، ويجد في التحصيل حتى بلغ الثانية والثلاثين من سني حياته؛ إذ بدأ يشتهر بالطب، وكفاه ما كان يكسبه عن طريقه، بل تفوق على غيره من الأطباء المعاصرين، وصار له ذكر حسن في البلاد، وسمع به الحاكم بأمره فاستخدمه، وجعله رئيسا على سائر المتطببين، فاتسعت حاله، واقتنى الأملاك في المدينة، كما ذاع صيته في البلاد الإسلامية، حتى إن الأطباء فيها كانوا يناظرونه مراسلة، ويطلبون ما عنده من علم الطب، فممن راسله الطبيب أبو الفرج جرجس بن يوحنا المعروف باليبرودي الدمشقي الذي راسل ابن رضوان وغيره من الأطباء المصريين. ويقول ابن أبي أصيبعة عنه: وله مسائل عدة إليهم طبية ومباحثات دقيقة، وكتب بخطه شيئا كثيرا جدا من كتب الطب، ولا سيما من كتب جالينوس وشروحها وجوامعها.
43
ويفهم من إحدى رسائل ابن رضوان أن اليبرودي زار مصر، وكان كثير الاختلاط به للمناظرة والمناقشة في المسائل الطبية.
44
كذلك ناظره الطبيب أبو الحسن المختار بن الحسن المعروف بابن بطلان النصراني البغدادي، فكان بين الطبيب المصري والطبيب البغدادي مراسلات عجيبة، ولم يكن أحد منهما يؤلف كتابا ولا يبتدع رأيا إلا ويرد الآخر عليه، ويسفه رأيه فيه. ثم رأى ابن بطلان البغدادي أن يفد على القاهرة لمشاهدة زميله ومناظره ابن رضوان، فدخل مصر سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأقام بها ثلاث سنوات، وكان وجوده بالقاهرة المعزية من أسباب شدة المناقشات والمناظرات العلمية بين الطبيبين، وخرج ابن بطلان من مصر، ووضع كتابا تضمن الوقائع التي كانت بينه وبين منافسه ابن رضوان، ورد ابن رضوان عليه.
45
ويقول ابن أبي أصيبعة في الموازنة بين الطبيبين ابن رضوان المصري وابن بطلان البغدادي: كان ابن بطلان أعذب لفظا، وأكثر ظرفا، وأميز في الأدب وما يتعلق به، وكان ابن رضوان أطب وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها.
46
وحفظ لنا خمس رسائل لهذين الطبيبين في المناظرة بينهما ، وطبعت هذه الرسائل بكلية الآداب بجامعة القاهرة.
وكان ابن رضوان معتزا بعلمه ومهارته في فنه، فكان يرد على جميع أطباء عصره وغيرهم، وكان كثير الرد على آراء من سبقه من الأطباء، وكانت عنده سفاهة في بحثه وتشنيع على من يريد مناقشته، وأكثر ذلك عندما كان يرد على حنين بن إسحق، وعلى أبي الفرج بن الطيب أستاذ ابن بطلان، وعلى أبي بكر محمد بن زكريا الرازي.
47
وكان ابن رضوان دميم الخلقة، مشوه الصورة، أسود اللون، ومن تأليفه مقالة في من عيره بقبح الخلقة، وبين في هذه الرسالة أن الطبيب الفاضل لا يجب أن يكون جميل الوجه، وكثيرا ما كان ابن بطلان البغدادي يتحدث عن قبح شكل ابن رضوان المصري، حتى إنه قال في الرسالة التي وسمها «بوقعة الأطباء» يصف ابن رضوان:
فلما تبدى للقوابل وجهه
نكصن على أعقابهن من الندم
وقلن وأخفين الكلام تسترا
ألا ليتنا كنا تركناه في الرحم
وكان يلقبه بتمساح الجن؛ لشدة قبح منظره وسفاهة لسانه.
48
وتغير عقل ابن رضوان في أواخر أيام حياته، وقيل إن السبب في ذلك أنه في إبان المحنة العظمى التي حلت بمصر أيام حكم المستنصر الفاطمي، والتي اشتدت وعظمت من سنة سبع وأربعين وأربعمائة، كان ابن رضوان قد أخذ يتيمة رباها كبرت عنده، فلما كان في بعض الأيام خلا لها المنزل، وكان قد ادخر أشياء نفيسة من الذهب نحو عشرين ألف دينار، فأخذت الجميع وهربت، ولم يظفر منها على خبر، فتغيرت أحواله منذ ذلك الوقت، وتوفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وترك من مؤلفاته وتصانيفه أكثر من مائة كتاب.
كان لابن رضوان أثر كبير في الحياة العقلية بمصر؛ فهذه المناظرات الكثيرة التي كانت بينه وبين غيره من الأطباء، وهذه الردود المختلفة التي كتبها في الرد على الأطباء السابقين، كان لها أثرها في تنبيه الأطباء والفلاسفة إلى آراء ابن رضوان وآراء خصومه، وكان لابن رضوان تلاميذ أخذوا عنه علمه وطبه، فمن هؤلاء التلاميذ: الطبيب الإسرائيلي إفرائيم بن الزفان، وأبو كثير بن الحسن بن إسحق، وكان من الأطباء المشهورين بمصر، واستخدمه الأئمة، وكان كثير الاهتمام بجمع الكتب ونسخها حتى كانت عنده خزائن كثيرة من الكتب الطبية وغيرها، وكان عنده النساخ يكتبون، ولهم ما يقوم بكفايتهم منه، ومن جملة هؤلاء النساخ محمد بن سعيد بن هشام الحجري المعروف بابن ملساقة. وقيل إن أحد وراقي العراق أراد شراء كتب من إفرائيم، فسمع الأفضل بن بدر الجمالي بذلك، فأمر بفسخ هذه الصفقة، وأن تبقى الكتب في مصر ولا تنتقل إلى بلاد أخرى، وأمر بشرائها وإضافتها إلى خزانة الأفضل، وكتب عليها ألقابه. ويقال إن إفرائيم خلف ما يزيد على عشرين ألف مجلد.
49
وصنف الطبيب أبو جعفر يوسف بن حسداي شرحا لكتاب الإيمان من كتب أبقراط، سماه الشرح المأموني، نسبة إلى الوزير المأموني بن البطائحي.
ومن هذه الأمثلة التي ذكرناها عن حركة العلوم الطبية في مصر، ندرك مقدار نشاط هذه العلوم وازدهارها إبان حكم الفاطميين، وأن مصر استطاعت في هذا العصر أن تنافس غيرها من الأقطار الإسلامية في مضمار هذا العلم، فوفد عليها عدد من الفلاسفة نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: أمية بن أبي الصلت الأندلسي، جاء مصر سنة 489ه وظل بها إلى أن نفاه الأفضل بن بدر الجمالي سنة 509ه، وكان أمية عالما في فنون مختلفة، شاعرا فحلا، وأديبا ممتازا بجانب علومه الفلسفية، سجنه الوزير الأفضل فصنف وهو بالسجن رسالة العمل بالأصطرلاب، وكتاب الوجيز في علم الهيئة، وكتاب الأدوية المفردة، وكتابا في المنطق، وآخر سماه الانتصار في الرد على ابن رضوان في رده على حنين بن إسحق. وكان له تلاميذ بمصر نذكر منهم: أبا عبد الله الشامي، وسليمان بن الفياض الإسكندراني، وروى عنه ظافر الحداد وغيرهم، وسنتحدث عن أمية في باب الشعر من هذا الكتاب.
ومن أشهر الفلاسفة الذين تحدثوا في الإلهيات في هذا العصر: أحمد حميد الدين بن عبد الله بن محمد الكرماني، ويعرف في الدعوة الإسماعيلية بحجة العراقين، وفد على مصر في عهد الحاكم بأمر الله. فهو يقول في رسالته «مباسم البشارات بالإمام الحاكم»: «فإني لما وردت الحضرة النبوية مهاجرا، والسدة العلوية زائرا، ورأيت السماء قد أظلت بسحاب عميم، والناس تحت ابتلاء عظيم ...»
50
ويخيل إلي أنه وفد على مصر عقب ثورة الدرزي، وظل بمصر نحوا من عشر سنوات، وصنف بها عدة رسائل منها: «الرسالة الكافية» في الرد على الشريف الهاروني الحسني، والرسالة الواعظة في الرد على الفرغاني ابن الأخرم أحد دعاة الدرزية، ورسالة مباسم البشارات بالإمام الحاكم، ورسالة الصوم ... وغيرها . وإذا قرأنا رسائل الكرماني وكتبه نجده يتحدث في الفلسفة الطبيعية والإلهية كما في «راحة العقل»، وفي الفلسفة الإلهية كما في «الرسالة الدرية»، ورسالة النظم في مقابلة العوالم، ورسالة الرضية في جواب من يقول بقدم الجوهر وحدوث الصورة، والرسالة الحاوية وهي في البحث عن أيهما أسبق الليل أم النهار ... وهكذا؛ نجد الكرماني تحدث في جميع أقسام الفلسفة، ولا سيما في كتابه «راحة العقل» الذي يعد من أقوم كتب الفلسفة في العصر الفاطمي، فهو في هذا الكتاب تلميذ من تلاميذ الفلسفة اليونانية المصطبغة بالصبغة الإسلامية على المذهب الفاطمي. وحديثه عن إبداع العقل الكلي وصفاته وخصائصه، وانبعاث النفس الكلية وصفاتها، وعن العالم الروحاني، وعالم الكون والفساد، يدل على أن الكرماني كان من أكبر الباحثين في هذه الموضوعات الفلسفية، ولا غرو أن كان لهذا الداعي أثره في تاريخ المذهب الإسماعيلي إلى اليوم، فكل من جاء بعده أخذ عنه، واقتبس من رسائله وكتبه.
مما سبق نستطيع أن نكرر ما قلناه من أن العلوم الفلسفية ازدهرت في العصر الفاطمي ازدهارا لا نجد له مثيلا في الأقطار الإسلامية الأخرى، بل نجد غير الفاطميين كانوا يجنحون إلى اعتبار الدراسات الفلسفية دراسة إلحادية، وأن القائمين بها من العلماء زنادقة، ولكن الفاطميين كانوا أوسع أفقا في تفكيرهم، وكان مذهبهم يقوم على الفلسفة، فجمعوا إليهم علماءها، وعقدوا مجالس المناظرات بينهم، فازدهرت بذلك الحركة العلمية، وقوي البحث للوصول إلى معرفة الحقيقة، مستعينين بالمنطق وآراء الفلاسفة الأقدمين.
الفصل الثاني
علوم اللغة العربية والفقه
(1) علوم اللغة والنحو
بجانب هذه الدراسات الفلسفية التي ازدهرت بمصر الفاطمية، كان هناك دراسات عربية في علوم اللغة والنحو، ورواية للأدب القديم وشرحه ونقده، وكانت هذه العلوم تسير جنبا إلى جنب مع غيرها من الدراسات التي أقبل عليها العلماء والمتعلمون في مصر، وكان هؤلاء العلماء كعبة يفد إليها طلاب العلم من البلدان الإسلامية الأخرى للاستفادة من علماء مصر والرواية عنهم.
لم تكن هذه الدراسات العربية جديدة على مصر، فقد ذكرت في كتاب «أدب مصر الإسلامية» أن هذه العلوم وجدت في مصر منذ بدأ المسلمون في مصر يقرءون القرآن الكريم عن الصحابة والتابعين، ويهتمون بإعجامه على نحو ما فعله أبو الأسود الدؤلي وعبد الله بن أبي إسحق، حتى إذا دون علم النحو وظهر كتاب سيبويه ونحاة الكوفة والبصرة، أقبل المصريون على الأخذ عنهم، واطرد نمو هذا اللون من الدراسة حتى غمرت مصر، وفاضت على غيرها من بلدان المغرب والأندلس، وقد استمر تيار هذه الدراسات بمصر في العصر الفاطمي والعصور التي تلته، وكثر العلماء الذين انقطعوا إلى هذا العلم وعرفوا به، وقد ذكرنا كيف كان الخلفاء الفاطميون يشجعون هذه الدراسات، ويحبسون المرتبات للعلماء، وكيف حرصوا على اقتناء الكتب اللغوية والنحوية، وجعلوها مع غيرها من الكتب بين يدي العلماء والمتعلمين، فلا غرو أن رأينا عددا كبيرا ينبغون في هذه العلوم، ويصنفون كتبا كثيرة في هذه الفنون، ويكفي أن نلقي نظرة على كتب التراجم لندرك كيف أقبل الناس على هذه الدراسات، وكيف تضاعف عدد الكتب التي ألفت فيها.
وكما كان الفلاسفة يجتمعون للمباحثة والمذاكرة في فنونهم، كذلك فعل علماء النحو واللغة، فقد قيل: إن جنادة الهروي والحافظ عبد الغني بن سعيد، وأبا إسحق علي بن سليمان المعري النحوي، كانوا يجتمعون في دار العلم بالقاهرة، وتقوم بينهم مباحثات ومذاكرات.
1
وبلغ من اهتمام الفاطميين بعلوم اللغة والنحو أنهم جعلوا في ديوان الإنشاء لغويين ونحويين يراجعون ما كان يصدر عن الكتاب من رسائل، حتى لا يظهر في كتابات الكتاب لحن في اللغة أو خطأ في النحو، وسنتحدث عن ذلك في باب الكتابة الفنية.
ومن أشهر العلماء الذين ظهروا في هذا العصر، أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بالقزاز النحوي، كان في خدمة العزيز بالله الفاطمي، ويقال إن العزيز تقدم إليه أن يؤلف كتابا يجمع فيه سائر الحروف التي أشار إليها النحويون في قولهم «إن الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى»، وأن يقصد في تأليفه إلى ذكر الحرف الذي جاء لمعنى، وأن يجري ما ألفه من ذلك على حروف المعجم، وهو لون جديد لم يسبق إليه أحد من النحاة، فقام القزاز بجمع مواد هذا الكتاب، فبلغ جملة ما جمعه ألف ورقة. ويروي ابن خلكان عن أبي علي الحسن بن رشيق في كتاب الأنموذج: أن القزاز فضح المتقدمين، وقطع ألسنة المتأخرين، وكان مهيبا عند الملوك والعلماء وخاصة الناس، محبوبا عند العامة، قليل الخوض إلا في علم دين أو دنيا، يملك لسانه ملكا شديدا.
2
ولأبي عبد الله القزاز كتاب الجامع في اللغة، وهو من الكتب المختارة المشهورة، وتوفي سنة اثنتي عشرة وأربعمائة بالقاهرة.
ومن العلماء الذين شاهدتهم مصر في العصر الفاطمي علي بن أحمد المهلبي، فقد كان إماما في النحو واللغة، ورواية الأخبار وتفسير الأشعار، وكان من جلساء المعز والعزيز المقربين إليهما، وكان المهلبي قبل ذلك مقربا إلى كافور الأخشيدي، وممن عاصر المتنبي في مصر، وكانت بينه وبين المتنبي بعض محاورات علمية. يروي ياقوت أن المهلبي قال: وقع بيني وبين المتنبي في قول العدواني:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وذلك أن المتنبي قال: إن الناس يغلطون في هذا البيت، والصواب اشقوني من شقأت الرأس بالمشقاة وهو المشط. فقلت له: أخطأت في وجوه: أحدها أنه لم يرو كذلك، والآخر أنه يقال شقأت بالهمزة، وأيضا فإني أظنك لا تعرف الخبر فيه، وما كانت العرب تقول في الهامة؛ إنها إذا لم يثأر بصاحبها لا تزال تقول اسقوني، فإذا ثأروا به سكن كأنه شرب ذلك الدم.
3
وللمهلبي كتاب في الرد على كتاب المقصور والممدود لابن ولاد المصري،
4
وقيل إن المهلبي أخذ مادة هذا الكتاب عن المتنبي ونسبها إلى نفسه. وروى كثير من المصريين عن المهلبي، ومن أشهر تلاميذه: أبو يعقوب يوسف بن يعقوب النجيرمي، وابنه بهزاد، وعبد الرحمن بن إسماعيل العروضي نزيل مصر، وغيرهم. وتوفي المهلبي سنة 285ه.
5
ومن أشهر علماء مصر في ذلك العصر: أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ الذي عد إمام عصره في النحو، وهو أحد الذين عهد إليهم تصحيح رسائل الكتاب في ديوان الإنشاء، يروي ابن خلكان: أن الخطيب التبريزي دخل مصر في عنفوان شبابه، وقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن بن بابشاذ النحوي وغيره علوم اللغة، ثم عاد إلى بغداد.
6
ألف من الكتب كتاب المقدمة المحسنية في فن العربية، ويوجد من هذا الكتاب ثلاث نسخ خطية بدار الكتب المصرية، وله شرح على هذه المقدمة، وشرح الجمل للزجاجي، وشرح كتاب الأصول لابن السراج، وله في النحو كتاب بلغ خمس عشرة مجلدة سماها النحاة بعده «تعليق الغرفة»؛ ذلك أن تلاميذه من بعده احتفظوا بهذا الكتاب عند من تصدر موضع ابن بابشاذ في حلقته بجامع عمرو، فقد انتقلت إلى تلميذه عبد الله محمد بن بركات السعدي النحوي اللغوي، ثم انتقلت بعده إلى صاحبه أبي محمد عبد الله بن بري النحوي، ثم بعده إلى أبي الحسين النحوي المنبوز بثلط الفيل، فكان كل واحد من هؤلاء العلماء يهبها إلى أخص تلاميذه، ويعهد إليه بحفظها. ولقد اجتهد جماعة من الطلاب في نسخها، فلم يتمكنوا من ذلك، وهكذا انتفع الناس بعلم ابن بابشاذ وبتصانيفه، وقد تزهد في أواخر أيامه، واستقال من عمله بديوان الإنشاء، وانقطع في غرفة بجامع عمرو، فخرج ذات ليلة من الغرفة إلى سطح الجامع، فزلت قدمه فسقط، وأصبح ميتا في اليوم الثالث من رجب سنة تسع وستين وأربعمائة.
7
وممن لهم أثر يذكر من علماء النحو واللغة علي بن جعفر بن علي السعدي المعروف بابن القطاع الصقلي، لم يكن مصريا، ولكنه من صقلية، فيها شب، وقرأ على علمائها كابن البر أبي بكر الصقلي اللغوي وأمثاله، ثم رحل عن صقلية لما أشرف الفرنج على تملكها في حدود سنة خمسمائة، فوفد على مصر متخذها وطنا له، ولقيه المصريون بالحفاوة، وبالغوا في إكرامه، وخصه الوزير الأفضل بن بدر الجمالي بالرعاية، وجعله مؤدبا لولده في علوم العربية وفنون الأدب. وقد روى ابن القطاع عن أبي بكر الصقلي كتاب الصحاح للجوهري، وعن طريق ابن القطاع اشتهرت رواية هذا الكتاب في الآفاق، وله حواش على كتاب الصحاح اعتمد عليها محمد بن بري النحوي المصري فيما تكلم عليه من حواشي الصحاح، ولابن القطاع عدة تصانيف أخرى منها: كتاب الدرة الخطيرة في شعراء الجزيرة - أي جزيرة صقلية - اشتمل على مائة وسبعين شاعرا، وعشرين ألف بيت شعر، وكتاب الأسماء في اللغة، جمع فيه أبنية الأسماء كلها، وكتاب الأفعال هذب فيه أفعال ابن القوطية وأفعال ابن طريف وغيرهما في ثلاث مجلدات، وله تاريخ صقلية، وتوفي في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة، ودفن بقرب ضريح الشافعي.
8
ولا يتسع المجال هنا للحديث عن جميع النحاة واللغويين الذين نبغوا في مصر في العصر الفاطمي، أمثال: محمد بن أحمد البازودي، ومحمد بن أحمد العميدي، ومحمد بن أحمد الجرجاني، ومحمد بن الحسين بن عمير اليمني صاحب أخبار النحويين ومضاهاة أمثال كليلة ودمنة، وهو أستاذ القاضي القضاعي، وأمثال محمد بن حميد بن حيدرة، ومحمد علي بن محمد أبو سهل الهروي الذي إليه كانت رياسة المؤذنين بجامع عمرو، وأحمد بن مطرف المتوفي سنة 413 الذي ولي قضاء دمياط، وله تصانيف أدبية ولغوية، كما كان شاعرا له ديوان شعر، وهو الذي أجاز لأبي عبد الله الصوري الحافظ.
وبجانب هؤلاء العلماء المصريين أو الذين استوطنوا مصر من البلاد الأخرى، نرى عددا كبيرا من العلماء الذين كانوا يرحلون إلى الأقطار العربية في طلب العلم أو الكسب به، وفدوا على مصر وأقاموا بها ردحا من الزمان، ثم تركوها إلى بلادهم أو إلى غيرها من البلدان، ولكنهم تركوا في مصر تلاميذ أخذوا عنهم علومهم، كما استفادوا هم من علماء مصر. نذكر من هؤلاء العلماء محمد بن عبد الله بن محمد بن ظفر المكي، ولد بمكة، وقدم مصر في صباه، ورحل عنها إلى إفريقية، وأقام بالمهدية مدة طويلة، انتقل بعدها إلى صقلية، ومنها إلى مصر، ثم وفد على حلب وشاهد هناك الفتنة الكبرى بين الشيعة والسنة، وفي هذه الفتنة نهبت كتبه فقصد حماة، وأقام بها إلى أن مات سنة 565. وكان لغويا أكثر منه نحويا، وله من الكتب: ينبوع الحياة في التفسير، التفسير الكبير، الاشتراك اللغوي، الاستنباط المعنوي، القواعد والبيان في النحو، الرد على الحريري في درة الغواص، المطول في شرح المقامات، وغيرها من الكتب.
9
ومحمد بن أبي الفرج الكناني الصقلي المعروف بالذكي النحوي، كان من صقلية، وطاف العالم الإسلامي حتى وصل إلى الهند، وكان من أئمة النحو، وتوفي بأصبهان سنة 516ه.
10
ومحمد بن يحيى مزاحم أبو بكر الخزرجي، تلميذ القاضي القضاعي وراويته، وكان نهاية في علوم العربية، وألف كتاب الناهج للقراءات بأشهر الروايات، وأصله من لشبونة، ورحل إلى مصر حيث أقام بها ردحا من الزمن، ثم عاد إلى مدينة بطليوس يحدث فيها بما رواه عن المصريين، وتوفي بها سنة 501ه.
11
وإبراهيم بن محمد بن أحمد الهاشمي، وهو كوفي رحل إلى الشام ومصر، ثم عاد إلى موطنه، وبه توفي في شوال سنة 466، وكان له حظ من الشعر، وتفوق في النحو واللغة، وهو صاحب القصيدة التي أنشدها وهو في مصر، ومنها:
فإن تسأليني كيف أنت فإنني
تنكرت دهري والمعاهد والقربى
وأصبحت في مصر كمالا يسرني
بعيدا عن الأوطان منتزحا غربا
وإني فيها كامرئ القيس مرة
وصاحبه لما بكى ورأى الدربا
فإن أنج من بابي زويله فتوبة
إلى الله ألا مس خفي لها تربا
ومن الطريف أن هذا العالم الشاعر حدثنا بأنه قال هذه الأبيات، وكان حصل له من المستنصر بالله خمسة آلاف دينار مصرية،
12
ومع ذلك فإنه كان يشعر بشدة الغربة عن بلاده.
ونذكر من هؤلاء العلماء: الرحالة عبد الله بن أبي سعيد الأندلسي النحوي الذي كانت له حلقة في جامع عمرو للإقراء، وتوفي سنة 520ه.
13
وعبد الجبار بن محمد بن علي المعافري اللغوي الذي قدم مصر، وأقرأ بها العربية، ورحل إلى بغداد حيث ألقى بها علومه ، وهو شيخ ابن بري المصري.
14
ومنهم الحسن بن الوليد القرطبي المعروف بابن العريف النحوي، فقد خرج إلى مصر، ورأس فيها، ومات سنة سبع وستين وثلاثمائة.
15
كذلك نذكر نصر بن صدقة القابسي النحوي، قدم مصر، وأخذ عن علمائها، ثم توجه إلى معرة النعمان، ولازم أبا العلاء المعري، وأخذ عنه ديوان سقط الزند، وكتب منه نسخة جيدة لنفسه، وعاد إلى مصر فقدمها للحاكم بأمر الله الفاطمي، وقرأه عليه فأعجبه نظم المعري حتى قيل: إن الحاكم أرسل إلى عزيز الدولة الوالي بحلب أن يحمل المعري إلى مصر، فاعتذر المعري.
16
إذن نستطيع أن نلمس هذا النشاط في درس علوم اللغة بمصر في هذا العصر، وكيف كثر عدد العلماء، وكثر إنتاجهم، كما تعددت أماكن هذا الدرس؛ ففي الجامع الأزهر كانت تقام حلقات الدرس، وفي دار العلم كان يجتمع العلماء والطلاب، وفي جامع عمرو بالفسطاط استمرت حلقات التدريس التي تحدثنا عن نشاطها في كتابنا «أدب مصر الإسلامية». ولم تكن القاهرة والفسطاط مراكز الدرس في مصر فحسب، بل كانت الإسكندرية أيضا تزخر بالعلماء والطلاب، وقد نقلت كتب التراجم عن الحافظ السلفي تراجم عدد كبير من العلماء والمتعلمين الذين شهدتهم الإسكندرية في هذا العصر، والعلماء الذين وفدوا على الإسكندرية.
كما يحدثنا السيوطي أن محمد بن حميد بن الأرقط الحسيني النحوي قرأ على القاضي الأديب بأسوان الأدب، وظل بأسوان تؤخذ عنه علوم القرآن الكريم والأدب، وانتقل إلى قوص، وتوفي سنة 541ه.
17
وكانت قوص من مراكز العلم في مصر، وسنتحدث عن ذلك كله فيما بعد، ومعنى هذا كله أنه كان بمصر مراكز كثيرة للعلم والثقافة بجانب الفسطاط والقاهرة. (2) القراءات وعلوم القرآن
من المعروف أن العلوم العربية والإسلامية إنما نشأت بسبب القرآن الكريم، وما يدور حول دراسة القرآن من ضبط حروفه، وتفسير غريبه، ومعرفة أسرار إعجازه، وتفهم معانيه، فعلم النحو وعلوم اللغة لم تنشأ إلا بسبب القرآن، فلا غرو أن رأينا هذه العلوم التي كانت تدور حول دراسة القرآن موضع اهتمام المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية ومنها مصر، فقد عرفت مصر هذه العلوم منذ دخلها المسلمون على نحو ما ذكرناه من قبل في كتاب «أدب مصر الإسلامية»، واستمرت هذه الدراسات تنمو وتزدهر حتى جاء الفاطميون فأولوا هذه الدراسات عنايتهم ورعايتهم؛ ففي كل الحفلات التي كان يقيمها الفاطميون كان القراء في مقدمة الحاضرين يقرءون بين يدي الإمام، وكان كل قارئ يحاول أن ينال القربى من الإمام ليفوز بأكبر قسط من العطاء. وكذلك تختتم الحفلات بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم، فكان هناك قراء الحضرة الإمامية، وهم أشبه شيء بموظفين رسميين في الدولة، ولهم جاريهم الشهري سوى الهبات والخلع، وكان عدد العلماء الذين اهتموا بهذه الدراسات كبيرا جدا، كما كثرت كتبهم التي وضعوها في علوم القرآن الكريم، نذكر من هؤلاء العلماء أبا الحسن علي بن إبراهيم بن سعد الحوفي، فقد كان عالما بالعربية وتفسير القرآن، أخذ عن أبي جعفر النحاس وأبي بكر الأدفوي، ولقي جماعة من علماء المغرب وأخذ عنهم، وتصدر للإفادة في العربية وإعراب القرآن وتفسيره، وأخذ عنه خلق كثير، وله تفسير اسمه «البرهان في تفسير القرآن» في ثلاثين مجلدا، وله في إعراب القرآن كتاب علوم القرآن في عشرة مجلدات، وصنف في النحو كتاب الموضح في النحو، وهو أستاذ إسماعيل بن خلف الصقلي المقرئ صاحب كتاب إعراب القراءات في تسعة مجلدات. توفي الحوفي سنة 430ه.
18
ونذكر كذلك عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحق أبا عدي المصري، المعروف بابن الإمام، مسند القراء في زمانه، قرأ على أبي بكر بن عبد الله بن مالك، وقرأ عليه عدد من العلماء المعروفين أمثال طاهر بن غليون، ومكي بن أبي طالب، وابن نفيس وغيرهم. وتوفي سنة 381.
19
ويقول صاحب الشذرات: إن ابن الإمام كان محققا ضابطا لقراءة ورش، وإنه حدث عن محمد بن زبان وابن قديد، وقرأ على أبي بكر بن سيف صاحب أبي يعقوب الأزرق.
20
وكان أبو بكر الأدفوي محمد بن علي بن أحمد المصري المقرئ النحوي المفسر شيخ مصر وعالمها في عصره، كان أصله خشابا، ثم أخذ العلم عن أبي جعفر النحاس النحوي، وقرأ برواية ورش على أبي غانم المظفر بن أحمد، وبرع في علوم القرآن حتى ساد أهل عصره في مصر، وانفرد بالإمامة في وقته في قراءة نافع، وكانت حلقته من أكبر الحلقات العلمية، وله كتاب في التفسير في مائة وعشرين مجلدا سماه كتاب الاستفتاء في علوم القرآن. وتوفي في ربيع الأول سنة 387ه.
21
ويقول السيوطي: بل في سنة 388ه.
22
ومن العلماء أيضا عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي، وكان شيخ القراء بمصر في زمانه، ومن أساتذة أبي الظاهر إسماعيل بن خلف الصقلي، وله كتاب المجتبى في القراءات، وتوفي سنة 420ه.
23
وكذلك نذكر فارس بن أحمد بن موسى بن عمران الضرير مؤلف كتاب المنشأ في القراءات الثماني، وهو المذكور في باب التكبير في الشاطبية، وتوفي سنة 401.
24
ويروي ياقوت عن الحافظ السلفي: «أن عثمان بن علي بن عمر السرقوسي الصقلي كان من العلم بمكان، نحوا ولغة، وقرأ القرآن على ابن الفحام وغيره، وله تواليف في القراءات والنحو والعروض، وصارت له في جامع مصر حلقة للإقراء، وقرأ علي كثيرا، وعلى من كنت أقرأ عليه كأبي صادق وابن بركات الفراء الموصلي وآخرين.»
25
وهكذا كان لعلوم القرآن في مصر مكانة خاصة، وكثرت فيها المؤلفات بجانب غيرها من العلوم والفنون بما كان له أثره في الحياة العقلية المصرية، ونستطيع من هذه اللمحة التي أسلفناها أن نتبين أن الفاطميين الذين كانوا لا يتفقون في تفسير القرآن مع باقي المسلمين، مدعين أن للقرآن الكريم تأويلا باطنيا يخالف ما يقول به المفسرون، قد أفسحوا صدورهم لتفسير هؤلاء العلماء الذين كانوا بمصر، وسمحوا لهم بالتحلق في المساجد، وإلقاء دروس التفسير على طلاب العلم؛ فهذا يدل على أن الفاطميين كانوا متسامحين مع غيرهم من أصحاب الفرق والنحل الأخرى، وسنوضح ذلك فيما بعد. (3) رواية الحديث
نشطت رواية الحديث في مصر كما كان عليه الأمر في البلاد الإسلامية الأخرى، وكثرت الرحلة في طلبه، وكانت مصر من أهم مراكز الرواية منذ دخول الإسلام، ومن أشهر المحدثين الذين كانوا في مصر الفاطمية أبو بكر محمد بن علي بن حسن المصري نزيل تنيس، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وسمع النسائي وأبا علي، وروى عنه الدارقطني وغيره، وتوفي سنة تسع وستين وثلاثمائة.
26
ومعاصره الحسن بن رشيق، أبو بكر محمد العسكري المصري، روى عن النسائي أيضا، وعنه أخذ الدارقطني وعبد الغني بن سعيد، وفيه يقول ابن الطحان في تاريخه الذي جعله ذيلا لتاريخ ابن يونس المصري: «ما رأيت عالما أكثر حديثا منه.» ولد في صفر سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وتوفي في جمادى الآخرة سنة سبعين وثلاثمائة.
27
والمحدث الجوال أبو الفتح عبد الواحد بن محمد المعروف بابن مسرور البلخي، روى عن ابن سعيد بن يونس، وروى عنه عبد الغني بن سعيد، وأقام بمصر وتوفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.
28
ومن أشهر الحفاظ في هذا العصر أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي، ولد سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي والده بعد خمس سنوات من ولادته، ونشأ عبد الغني محبا للحديث، فروى عن حمزة بن محمد المعروف بأبي القاسم الكناني المصري،
29
وأبي بكر محمد بن علي، وابن مسرور البلخي، ثم اتصل بالدارقطني ولازمه وروى عنه. وقيل إن الدارقطني سئل: هل رأيت في الحديث أحدا يرجى علمه؟ فقال: نعم، رأيت شابا بمصر كأنه شعلة نار يقال له عبد الغني. ولما خرج الدارقطني من مصر جاءه المودعون، وتحزنوا على مفارقته وبكوا، فقال لهم: لقد تركت عندكم خلفا - يعني عبد الغني. وقيل أيضا: إن عبد الغني لما صنف كتابه المؤتلف والمختلف عرضه على الدارقطني، فقال له: اقرأه. فقال: كيف أقرؤه لك ومعظمه أخذته عنك؟ فقال: نعم، أخذته عني متفرقا والآن قد جمعته.
30
وروي عن الدارقطني أيضا أنه كان يقول عنه: ما رأيت في طريقي مثله، ما اجتمعت به وانفصلت عنه إلا بفائدة.
31
وكان بين عبد الغني بن سعيد، وبين أبي أسامة جنادة اللغوي، وبين أبي علي المعري الأنطاكي مودة أكيدة، واجتماع في دار العلم، ومذاكرات ومحادثات، فلما أمر الحاكم بأمر الله بقتل جنادة وأبي علي الأنطاكي، استتر عبد الغني خوفا من أن يلحق بهما لصداقته لهما، وأقام مستخفيا مدة حتى حصل له على الأمر فظهر، وتوفي في صفر سنة 409ه، وقيل سنة 410ه. ولما أراد الحاكم بأمر الله بناء جامعه جعل الحافظ عبد الغني بن سعيد على بنائه ونظره.
32
وقد طبع كتابه المؤتلف والمختلف بالهند سنة 1326ه.
ولعل أشهر المحدثين الذين شهدتهم مصر في أواخر الدولة الفاطمية، هو الحافظ السلفي، وكان متقنا ناقدا ثبتا دينا خيرا، انتهى إليه علو الإسناد، وكان أوحد زمانه في علم الحديث، وأعلمهم بقوانين الرواية.
33
ويقول صاحب النجوم: وكان قد طاف الدنيا ولقي المشايخ، وكان يمشي حافيا لطلب العلم والحديث.
34
ورد بغداد فأخذ عن أبي الحسن الهراس علوم الفقه، وعن الخطيب التبريزي علوم اللغة، كما روى عن أبي محمد جعفر بن السراج وغيره، ثم دخل دمشق وأخذ عن علمائها، ودخل الإسكندرية سنة 521ه واستوطنها، فقصده الناس وسمعوا عليه، وبنى له العادل بن الحسن علي بن السلار وزير الظافر الفاطمي مدرسة بالإسكندرية سنة 546ه، وفوض أمرها إليه.
35
وصار إليه الهجرة في الحديث، حتى لم يكن في آخر أيامه مثله، ومن أشهر تلاميذه: جمال الدين عبد الرحمن بن حفص الصغراوي الإسكندري، والحافظ أبو الحسن علي بن فاضل الصوري، والحافظ شرف الدين السكندري، وغيرهم من حفاظ الحديث الذين ظهروا في العصر الذي يلي هذا العصر الذي نؤرخه.
ولما وفد أبو حامد الغزالي على الإسكندرية لقي الحافظ السلفي وتباحثا في بعض المسائل. أما كتبه وأماليه فهي كثيرة، وكذلك كان له بعض مقطعات من الشعر، فمن قوله في كبر سنه:
أنا إن بان شبابي ومضى
فلربي الحمد، ذهني حاضر
ولئن خفت وجفت أعظمي
كبرا، غصن علومي ناضر
36
ذلك أن السن تقدمت به حتى قيل إنه جاوز المائة بخمس سنين؛ إذ توفي سنة ست وسبعين وخمسمائة.
ومن الرحالين الذين وفدوا على مصر في هذا العصر في طلب الحديث الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الأندلسي، ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدثين روى عنهم، كما استفاد بعض المصريين منه، وعاد إلى الأندلس سنة 493ه.
37
وأبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني، وكان أحد الرحالين في طلب العلم والحديث بوجه خاص، روى بالحجاز والشام ومصر والثغور والجزيرة والعراق وفارس، وتوفي ببغداد سنة 507ه.
38 (4) دراسة مذاهب أهل السنة
وهنا نعرض لموضوع كثر فيه اختلاف الكتاب منذ العصر الفاطمي إلى الآن، فقد ذهب أكثر المؤرخين إلى أن الفاطميين كانوا شديدي التعصب لمذهبهم الديني، وتطرفوا في عصبيتهم حتى إنهم أكرهوا الناس على اعتناق عقيدتهم رهبة لا رغبة، وإنهم في سبيل ذلك اضطهدوا علماء مذاهب أهل السنة، بل أفنوهم تقتيلا ، ويقول السيوطي: إن الفاطميين أفنوا من كان بمصر من أئمة المذاهب الثلاثة - أي الشافعية والمالكية والحنفية - قتلا ونفيا وتشريدا، وأقاموا مذهب الرفض والشيعة.
39
وذهب قليل من المؤرخين المحدثين إلى أن الفاطميين كانوا أهل تسامح ورفق بالرعية، وأن جوهر الصقلي أعطى الأمان للمصريين بأن يختاروا المذهب الديني الذي يرتضونه ولا إكراه في الدين، وبلغ تسامح الفاطميين إلى أن استخدموا في أكبر وظائف الدولة من لم يكن مسلما، فكان من الوزراء والنواب في الأقاليم وكتاب دار الإنشاء من كان مسيحيا أو يهوديا، أما الاضطهاد الذي حاق بأهل السنة فقد كان في أيام الحاكم بأمر الله الذي عرف بالتقلب في سياسته وأحكامه.
فقهاء الشافعية
وإذا نظرنا في كتب الطبقات والتاريخ، رأينا عددا كبيرا من علماء مذاهب أهل السنة كانوا يعيشون في مصر الفاطمية، ويلقون تعاليمهم على جمهور المستمعين تحت بصر رجال الدولة الفاطمية ودعاة دعوتهم دون أن يمسهم سوء. فمن علماء مذهب الشافعي: القاضي أبو الفضل محمد بن أحمد بن عيسى البغدادي نزيل مصر، فقد أملى بها وأفاد حتى توفي سنة 441ه.
40
وأبو القاسم نصر بن بشر بن علي، فقد كان فقيها محققا ومناظرا مبرزا، وتوفي سنة 477ه.
41
والقاضي أبو الحسن علي بن الحسين الموصلي الخلعي المولود بمصر سنة 405ه، وكان فقيها مشهورا له تصانيف وروايات متسعة، وكان أعلى أهل مصر إسنادا، وجمع له أبو نصر أحمد بن الحسن الشيرازي عشرين جزءا، وخرجها عنه وسماها «الخليعات»، وبالرغم من أنه كان شافعي المذهب فقد ولاه الفاطميون القضاء سنة 450ه، ولكنه استقال بعد يوم واحد، ومات بمصر سنة 492ه، وينسب إليه مسجد الخلعي بالقرافة، وكان والده أيضا من فقهاء الشافعية، توفي بمصر سنة 448ه.
42
ومن فقهاء الشافعية أيضا في ذلك العصر: أبو الفتح سلطان بن إبراهيم بن مسلم المقدسي، الذي قال عنه الحافظ السلفي: كان من أفقه الفقهاء بمصر، وعليه قرأ أكثرهم، ولد بالقدس سنة 442ه وتفقه على الشيخ نصر المقدسي، ثم دخل مصر فظل بها إلى أن توفي سنة 518ه.
43
وكذلك نقول عن أبي الحجاج يوسف بن عبد العزيز بن علي الميورقي الذي اتخذ الإسكندرية موطنا له، وصنف تعليقه في الخلاف بين الفقهاء، وهو أحد الذين روى عنهم الحافظ السلفي، وتوفي بالإسكندرية سنة 523ه.
44
ومجلي بن جميع بن نجا المخزومي المصري صاحب كتاب الذخائر، تفقه على سلطان المقدسي، وبرع في فقه الشافعي حتى صار من كبار الأئمة، وتفقه عليه جماعة، منهم العراقي شارح المذهب، وعلى الرغم من تمذهبه بمذهب يخالف مذهب أولي الأمر في البلاد، فقد ولي القضاء سنة 547ه ومكث في القضاء عامين، ومات سنة 550ه، ومن تصانيفه: كتاب أدب القضاء، وكتاب الجهر بالبسملة.
45
وأبو محمد عبد الله بن رفاعة بن غدير السعدي المصري الذي ولي قضاء الجيزة، فقد كان فقيها ماهرا في الفرائض، أخذ عن الخلعي ولازمه مدة طويلة، وهو آخر من حدث عنه، ثم ترك القضاء واعتزل في القرافة متعبدا إلى أن توفي سنة 561.
46
وسنتحدث في فصل التاريخ عن القاضي القضاعي الشافعي وكيف ولي القضاء، وولي ديوان الإنشاء بالرغم من شافعيته، وأنه صنف كتابا في مناقب الإمام الشافعي وأخباره، وكتاب الشهاب في فقه الشافعية.
47
وهكذا نرى عددا كبيرا من فقهاء الشافعية كانوا يعيشون في العصر الفاطمي، ومنهم من ولي القضاء أو غيره من مراتب الدولة الفاطمية، دون أن يكون لظاهر مخالفتهم لمذهب الدولة أثر في حياتهم العلمية أو العملية.
فقهاء المالكية
وكذلك نقول عن فقهاء المالكية، فقد وجد في مصر الفاطمية عدد كبير منهم، أمثال محمد بن سليمان المعروف بأبي بكر النعال، الذي كانت إليه إمامة المالكية في وقته، وإليه كانت الرحلة بمصر، وكانت حلقته في الجامع تدور على سبعة عشر عمودا، لكثرة الطلاب الذين كانوا يقصدونه للأخذ عنه، وتوفي سنة 380ه.
48
وأبو القاسم الجوهري عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي المصري صاحب مسند الموطأ، المتوفي في شهر رمضان سنة 380ه.
49
ونحن جميعا نعلم قصة الفقيه المالكي عبد الوهاب بن علي، أحد الأئمة المجتهدين في المذهب حتى وصفه الخطيب في تاريخ بغداد بأنه لم ير في المالكية أفقه منه، ونعلم كيف وفد إلى مصر لضيق حاله في بغداد، وكيف أكرمه المصريون حتى تمول وحسنت حاله، ولما أدركه المرض كان يقول: لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا! وتوفي بمصر 422ه.
ونسمع في هذا العصر عن عبد الجليل بن مخوف الصقلي الذي قال ابن ميسر عنه: إنه أفتى بمصر أربعين سنة، ومات بها سنة 459ه. وعن علي بن الحسن بن محمد بن العباس الفهري صاحب كتاب فضائل مالك وشارح الموطأ، وعن أبي بكر الطرطوشي محمد بن الوليد الأندلسي نزيل الإسكندرية، وكان كثير الرحلة في طلب العلم، فسافر إلى العراق، وسمع ببغداد، ثم استوطن الإسكندرية، واتصل بالوزير المأمون البطائحي الذي أكرمه، فصنف له الطرطوشي كتاب «سراج الملوك». كان له عدة من التلاميذ أمثال سند بن عفان بن إبراهيم الأزدي الذي خلفه في حلقته، والذي شرح المدونة، وتوفي الطرطوشي سنة 525ه، وتوفي تلميذه سنة 541ه.
إذن تستطيع أن تطمئن إلى أن دراسة مذهب مالك استمرت في مصر في العصر الفاطمي بجانب مذهب الشافعي، بالرغم من أن الفاطميين كانوا يوجهون النقد اللاذع إلى هذين المذهبين، وأن دعاة المذهب الفاطمي كثيرا ما كانوا يتناولون بالتجريح هذه المذاهب السنية في مجالس حكمهم وفي أشعارهم، وها هو ذا الداعي المؤيد في الدين يقول:
فما أبو حنيفة والشافعي
حيثهم قد نفعوا بنافع
50
ويقول مرة أخرى:
وتزيل لبس الشافعي ومالك
ببيان زين العابدين وجعفر
وقياس قياس غدا متبرجا
بالاعتزال وترهات المجبر
51
بيد أن الفاطميين تركوا لفقهاء هذه المذاهب حريتهم العقلية ، وسمحوا لهم بالتحلق في المسجد، وإلقاء تعاليم المذاهب السنية على من يشاء من الطلاب، وقد ذكرنا أن الحاكم بأمر الله لما أمر بعمارة دار العلم، ونقل إليها الكتب من القصر، أسكنها من شيوخ السنة شيخين، أحدهما أبو بكر الأنطاكي، وخلع عليهما وقربهما، وسمح لهما بحضور مجالسه وملازمته، وأنه جمع الفقهاء والمحدثين إلى دار العلم. ويحدثنا عمارة اليمني أن الملك الصالح طلائع بن رزيك كان يلقى في ولايته فقهاء السنة ويسمع كلامهم،
52
مع ما كان عليه الملك الصالح من إفراط في التعصب لمذهبه.
53 (5) تعصب الفاطميين لمذهبهم!
أما هذه المسألة التي أثارها المؤرخون حول تعصب الفاطميين أو تسامحهم، فيخيل إلي أن الفاطميين كانوا يميلون إلى صبغ البلاد كلها بصبغة مذهبهم، أحيانا بالترغيب وأحيانا بالترهيب، فكان الدعاة يؤدون واجبهم في تشكيك المسلمين في مذاهبهم السنية، ويحببون إليهم المذهب الفاطمي؛ فمن المصريين من استجاب لهذه الدعوة عن رغبة بعد أن اقتنع بأقوال الدعاة، ومنهم من استجاب لغرض التقرب إلى الحاكمين، عساه يجد حظوة لديهم وينال مآربه، وهذا اللون من الناس كثير في كل البيئات والأقاليم، ومن المصريين من امتنع عن التحول عن مذهبه الديني، واستمر يحافظ على عقيدته التي دان بها، والتي نشأه عليها أبواه، ولو أدى ذلك إلى تعسف الحاكمين معه. وإذا كان الفاطميون استعملوا السيف في سبيل نشر عقيدتهم وإخضاع الخارجين على مذهبهم، فهذا أمر طبيعي نجد مثيلا له في ظل كل الحكومات التي لها نزعة خاصة حتى في عصرنا الحاضر، فقد رأينا اليوم ألوانا مختلفة من الحكومات الفاشية والشيوعية والنازية، وكلها تحاول فرض سلطانها ومبادئها في بلادها، وأن تصبغ هذه البلاد بصبغتها الخاصة، وأن تحكم بالقوانين التي سنتها نظمها، ولو أدى ذلك إلى القتل والنفي والتشريد لكل من حاول مخالفة تلك النظم والقوانين، رأينا ذلك كله ولمسناه في هذا العصر الحديث، فلا نستطيع أن ننكر أن الفاطميين الذين حكموا مصر منذ ألف عام تقريبا، كانوا يستعملون وسائل الإرهاب لمخالفي عقيدتهم، ولا سيما أن الشيعة عامة ذاقت من العذاب والتنكيل على أيدي خصومهم ما تتحدث به كتب التاريخ.
كان الفاطميون منذ أوائل حكمهم بمصر إلى آخر عهد الظاهر يحكمون بأنفسهم، ولم يكن الوزراء قد بلغوا من القوة والاستبداد بالأمر هذا المبلغ الذي نراه في عهد المستنصر ومن بعده من خلفاء الفاطميين، ففي هذا العصر الأول كان اضطهاد أهل السنة أمرا طبيعيا لتثبيت أركان الدولة، وحمايتها من أعدائها أمويي الأندلس في الغرب، ومن العباسيين في الشرق؛ فكانت السياسة تقضي على الفاطميين أن يكونوا على حذر من كل مخالف لعقيدتهم، وأن يشحذوا السيف لكل من تحدثه نفسه بالخروج على سلطانهم، ولا سيما أن العباسيين وأمويي الأندلس أخذوا يسيئون إلى الفاطميين في نسبهم وفي عقائدهم، وحاربوا الفاطميين بالسيف طورا وبالدعاية طورا آخر، فكتبوا المحاضر في نسب الفاطميين، وطلبوا من العلماء والكتاب الطعن في عقائد الفاطميين، مثل ما نراه في كتب الغزالي وغيره؛ فاضطر الفاطميون إلى أن يكونوا على يقظة من أمرهم إذا جد الجد، وأن يعتبروا كل من لم يعتنق عقيدتهم عدوا لهم، وبهذا نستطيع أن نفسر تطورات الحاكم بأمر الله في سياسته، فكان حينا يقرب أهل السنة ويغدق عليهم أمواله، وطورا يشتت شملهم ويمعن فيهم بالقتل والسجن، وهو في كلا الأمرين مضطر إلى اتخاذ هذه السياسة أو تلك على حسب مقتضى الحال مع خصومه وأعدائه، فالحاكم بأمر الله لم يكن مجنونا كما يصور في كتب التاريخ، وإنما كان سياسيا حازما في سياسته، يعفو في وقت العفو، ويقتل حين يشتد به الأمر، وهكذا كانت الحال في سياسة الفاطميين نحو أهل السنة.
فحينا ترى الفاطميين لا يفرقون بين أصحاب الفرق الإسلامية أو الذمية، فهم يستخدمونهم في وظائف الدولة، ولا يتعرضون لهم بمقت ولا أذى، وقد قال القاضي النعمان في كتابه المجالس والمسايرات:
54 «لما قلدني القضاء بالمنصورية، رأيت قوما لم يصلوا إلى الدعوة، ورأيت فيهم مقاربة، ورجوت أن يهديهم الله إن فتح في ذلك لعباده، فلما جاء الله من ذلك بما هيأه لخلقه من فتح باب رحمته لعباده تخلفوا، ورجوت أن يحاسبوا أنفسهم، ورمزت لهم وطارحتهم، فلم أرهم يقبلون على شيء، فواجهتهم وكلمتهم واحتججت عليهم وناظرتهم حتى قطعتهم، فلم يزدهم ذلك إلا تماديا في الغي وإصرارا على الجهل، فثقل علي أمرهم، وكرهت جانبهم، وأبغضت رؤيتهم، وسئمت صحبتهم، فأردت الاستبدال بهم، فرفعت ذلك إلى المعز، فوقع إلي فيهم: «أبقهم على خدمتك، فإن يفيء الله بهم فسعادة ساقها الله إليهم، وثواب يصير إليك بما بذلته من النصيحة لهم، وإلا فلا يمنعك جهل الحمر المستنفرة من الانتفاع بها في بعض مصالحك، ويكونون بعد كما قال الله - عز وجل:
عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية .
وحينا آخر كان الفاطميون يضطرون اضطرارا إلى أخذ أهل هذه المذاهب بالشدة والعنف، حتى ولي المستنصر بالله سنة 427ه، فأخذ الوزراء ورجال الدولة كل سلطة من الخلفاء، واستطاع الوزراء أن يكونوا هم أصحاب السلطة الفعلية في البلاد، وأصبح الخليفة الفاطمي ألعوبة في أيدي وزرائه، وليس له من الأمر إلا الخطبة، وظهر بين الوزراء من كان على مذهب يخالف المذهب الفاطمي.
55
هنا نرى حدة العصبية الأولى تخف، وتعود إلى الناس حرية العقيدة أكثر مما كانت من قبل، بل ذهب الوزير أبو علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي إلى أن يعين للبلاد أربعة قضاة، اثنين من الشيعة واثنين من أهل السنة، فالشيعيان أحدهما فاطمي المذهب والآخر إمامي المذهب، والسنيان أحدهما شافعي والآخر مالكي، وأعطى لكل واحد السلطة المطلقة في إصدار أحكامه على وفق مذهبه.
56
وقد ذكرنا أن الوزير أبا الحسن علي بن السلار وزير الظافر كان ظاهر التسنن شافعي المذهب، وهو الذي أنشأ مدرسة للشافعية بالإسكندرية، وفوض أمرها إلى الحافظ السلفي،
57
وهكذا بدأ الضعف يدب في الدولة الفاطمية والمذهب الفاطمي نفسه، حتى هم بعض الوزراء في مصر إلى تسيير الدعوة لابني صاحب عدن، ويقول عمارة اليمني في ذلك: إن الداعي ابن عبد القوي والأجل الفاضل، وشاور، والكامل، عزموا على أن يتبرعوا ابتداء بتسيير الدعوة لولدي صاحب عدن بعد موته، ثم قال شاور: أحضروا فلانا (يعني عمارة) وخذوا ما عنده. ولم يبق في النوبة إلا صرمها، فلما حضرت وأعلموني منعتهم، وقلت: إن أهل اليمن إنما يبعثون لكم الهدايا والتحف والنجاوي ويتولونكم لأجل الدعوة، فإذا تبرعتم بها فقد هونتم حرمتها، فرجع الجميع عما كانوا عليه.
58
وقصة أخرى رواها عمارة أيضا تدلنا على ما بلغ إليه التهاون في عقيدة الفاطميين، ذلك أن سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء، صهر الصالح بن رزيك، توضأ ومسح رجليه ولم يغسلهما - على حسب عقيدة الفاطميين - فتناول عمارة الإبريق وسكب الماء على رجليه، فجذبهما وهو يضحك، فقال عمارة: إن كان الحق معكم في مسح الرجلين يوم القيامة، فما نعطى ولا نعاقب على غسلها، وإن كان الحق معنا في غسل الرجلين خرجتم من الدنيا بلا صلاة؛ لأنكم تتركون غسل الرجلين وهو فرض. فكان سيف الدين يقول له بعد ذلك: والله لقد أدخلت على قلبي الشك والوسواس بكلامك في مسألة الوضوء.
59
ولعل قصة محاولة إدخال عمارة اليمني في الدعوة من القصص التي ترينا أن القائمين بأمر الدولة الفاطمية في أواخر عهدها لم يأبهوا بأمر المذهب، وأنهم كانوا يتسامحون مع مخالفيهم إلى حد بعيد، فبالرغم من أن الملك الصالح طلائع بن رزيك كان شديد التعصب لمذهبه الفاطمي، وأنه أدخل عددا من المسلمين في مذهبه، فإنه لم يستطع أن ينجح في محاولته مع عمارة. يقول عمارة: وكانت تجري بحضرته مسائل ومذاكرات، ويأمرني بالخوض مع الجماعة فيها وأنا بمعزل عن ذلك لا أنطق بحرف واحد، حتى جرى من بعض الأمراء الحاضرين في مجلس السمر من ذكر السلف ما اعتمدت عند ذكره وسماعه قول الله - عز وجل:
فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
ونهضت فخرجت فأدركني الغلمان، فقلت: حصاة يعتادني وجعها. فتركوني، وانقطعت في منزلي أياما ثلاثة، ورسوله يأتي في كل يوم والطبيب معه، ثم ركبت بالنهار فوجدته في البستان المعروف بالمختص في خلوة من الجلساء، فاستوحش من غيبتي، فقلت: إني لم يكن بي وجع، وإنما كرهت ما جرى في حق السلف وأنا حاضر، فإن أمر السلطان بقطع ذلك حضرت، وإلا فلا، وكان لي في الأرض سعة وفي الملوك كثرة . فعجب من هذا، وقال: سألتك بالله ما الذي تعتقده في أبي بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولاهما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم، وأنه ما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. فضحك، وبعد أيام جاءت عمارة رقعة فيها أبيات بخط الملك الصالح، ومعها ثلاثة أكياس ذهبا، وفي الرقعة:
قل للفقيه عمارة يا خير من
أضحى يؤلف خطبة وخطابا
اقبل نصيحة من دعاك إلى الهدى
قل «حطة» وادخل إلينا البابا
تلق الأئمة شافعين، ولا تجد
إلا لدينا سنة وكتابا
وعلي أن يعلوا محلك في الورى
وإذا شفعت إلي كنت مجابا
وقبضت آلافا وهن ثلاثة
صلة وحقك لا تعد ثوابا
فأجابه عمارة مع الرسول بهذه الأبيات:
حاشاك من هذا الخطاب خطابا
يا خير أملاك الزمان نصابا
لكن إذا ما أفسدت علماؤكم
معمور معتقدي وصار خرابا
ودعوتم فكري إلى أقوالكم
من بعد ذاك أطاعكم وأجابا
فاشدد يديك على صفاء محبتي
وامنن علي وسد هذا البابا
60
ولا أدري كيف سكت الملك الصالح بعد أن طعن عمارة مذهب الفاطميين بالبيت الثاني من هذه المقطوعة، ولكن الأمر لم يكن أمر تعصب من الملك الصالح بن رزيك، بل هو أمر تهاون بالمذهب شمل الأمراء وغير الأمراء، ولعل هذا الضعف الذي حل بالعقيدة الفاطمية هو الذي سهل الأمر لصلاح الدين الأيوبي في أن يقوض أركان الدولة المتداعية، وأن يعيد إلى الناس عقيدة أهل السنة والجماعة، وقبل الناس منه ذلك، فتحولت مصر بعد عشية وضحاها من شيعية إلى سنية؛ لأن الدعوة الشيعية لم تكن متغلغلة في نفوس المصريين، وأن الذين اعتنقوا هذه الدعوة تهاونوا بها، فسهل على الأيوبيين أن ينتزعوها منهم.
الفصل الثالث
التاريخ والسير
رأينا في عصر الولاة بمصر
1
كيف أسهم المصريون في تدوين التاريخ منذ القرن الثاني للهجرة، وعرفنا بعض المؤرخين الذين نبغوا في العصر الذي سبق العصر الفاطمي، أمثال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وعمار بن وسيمة المصري، وابن يونس، والكندي، وابن الداية وغيرهم. وقد استمر تيار هذا اللون من العلم طوال العصر الفاطمي، فظهر عدد كبير من المؤرخين، وحفظت لنا أسماء مؤلفاتهم، وبعض مقتطفات من كتبهم متفرقة في كتب التواريخ، ففي كتب المقريزي وأبي المحاسن بن تغري بردي والسيوطي وابن فضل الله العمري والنويري والقلقشندي مقتبسات كثيرة من الكتب التي وضعها مؤرخو مصر الفاطمية، وهذه المقتطفات تدلنا على أن مؤرخي مصر في العصر الفاطمي كانوا يهتمون اهتماما خاصا بمصر، فأكثر كتبهم كانت تدور حول مصر، وإن كان منها ما كتب في التاريخ العام.
فمن المؤرخين الذين شاهدوا هذا العصر: أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني، ولد بمصر في ذي الحجة سنة 327ه، وكان أبوه مؤرخا صاحب ابن جرير الطبري وروى عنه تصانيفه، وأخذ أحمد بن عبد الله عن أبيه كتبه وكتب الطبري، وصنف عدة كتب منها: كتاب التاريخ وصل به تاريخ أبيه، وكتاب سيرة كافور الأخشيدي، وسيرة العزيز بالله الفاطمي، وكان مقامه بمصر إلى أن توفي في ربيع الأول سنة 398ه.
2 (1) ابن زولاق
وشهد هذا العصر المؤرخ المصري الكبير الذي أخذ عنه كل من جاء بعده من المؤرخين الذين تحدثوا عن مصر، ذلك المؤرخ هو الحسن بن إبراهيم الليثي المصري المعروف بابن زولاق، فقد كان من أعيان علماء مصر، ولد سنة ست وثلاثمائة، وروى الحديث، وأخذ عنه بعض المحدثين أمثال عبد الله بن دهبان وغيره، وأولع بالتاريخ فروى عن الكندي وابن قديد وابن الداية، يقول ابن زولاق: كان أبو جعفر أحمد بن يوسف بن إبراهيم الكاتب (أي ابن الداية) قد عمل سيرة أحمد بن طولون أمير مصر، وسيرة ابنه أبي الجيش، وانتشرتا في الناس، وقرأتهما عليه، وحدثت بهما عنه مع غيرهما من مصنفاته، ثم عملت أنا ما فاته من سيرتهما.
3
وكان ابن زولاق من فرط حبه لرواية التاريخ، كثيرا ما ينشد:
ما زلت تكتب في التاريخ مجتهدا
حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا
4
وصنف ابن زولاق عدة كتب منها: سيرة محمد بن طغج الإخشيد، وكتاب أخبار سيبويه المصري، وكتاب سيرة المادرائيين - وقد طبعت هذه الكتب كلها - وكتاب فضائل مصر (منه نسخة خطية بمكتبة الأزهر، وأخرى بدار الكتب المصرية، وثالثة بالمكتبة الأهلية بباريس)، وكتاب سيرة كافور، وكتاب سيرة جوهر، وكتاب سيرة المعز، وكتاب سيرة العزيز، وكتاب التاريخ الكبير على السنين، وله تذييل على كتاب الولاة للكندي، وآخر على كتاب القضاة للكندي أيضا، وكتاب خطط مصر. وأكثر هذه الكتب فقدت ولم يبق منها إلا شذرات متفرقة في الكتب، وإذا نظرنا إلى الكتب التي حفظت إلى الآن نرى ابن زولاق يدون ما سمعه من الثقات العدول من معاصريه، أو ما شاهده بنفسه من أحداث، فهي سجلات حوادث يتلو بعضها بعضا دون أن يكون هناك رابطة بين الحادثة والأخرى، فالكتب ليست بكتب تاريخ على النحو الذي نفهمه الآن من كتب التاريخ، بل هي أشبه شيء بجرائد الأخبار في عصرنا الحديث، وإن كان الكتاب الواحد يجمع الحوادث التي حدثت في عصر ملك من الملوك. ولم تقسم الكتب إلى أبواب وفصول، بل هي كما قلت مجرد سرد للحوادث، كما أن أكثرها ليس مرتبا على السنين أو على حسب وقوع الأحداث التي ذكرها، فقد تجد حادثة في أول الكتاب وتاريخ حدوثها بعد الحوادث التي جاءت بعدها، ومهما يكن من شيء فقد كان تأليف كتب السير في ذلك العصر على هذا النحو الذي نراه في كتب ابن زولاق، وبالرغم من ذلك فقد كانت كتب ابن زولاق مصدرا هاما من المصادر التي اعتمد عليها المؤرخون الذين تحدثوا عن مصر بعده؛ فابن خلكان، والنويري، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وابن دقماق، وأبو المحاسن، وياقوت، والقلقشندي، والعمري ... وغيرهم، نقلوا كثيرا من مادة كتبهم عن كتب ابن زولاق، وكانوا يطلقون عليه «مؤرخ مصر» مما يدل على قيمة كتبه وأخباره، ولا غرو في ذلك فقد كان محدثا، والمفروض في المحدث أن يكون صدوقا فيما يرويه، وقد تكون ميزة ابن زولاق الكبرى هي صدق أخباره، حتى عرف بذلك بين معاصريه أنفسهم، فاستطاع أن يكتسب مكانة رفيعة في نفوسهم، وقد ذكرنا قصته مع الوزير يعقوب بن كلس. وتوفي ابن زولاق في عهد الحاكم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة من الهجرة.
5 (2) المسبحي
ومن مؤرخي هذا العصر الذين كثر نقل المتأخرين عنهم: المؤرخ الأمير المختار عز الملك بن أبي القاسم عبيد الله بن أحمد المعروف بالمسبحي، الحراني الأصل، المصري المولد والنشأة، ولد في رجب سنة ست وستين وثلاثمائة، واتصل في صباه بخدمة الحاكم بأمر الله في زمرة جنده، وما زال يرقى في مراتب الجندية حتى صار أميرا على إقليم البهنسا والقيس من أعمال صعيد مصر، ثم ولي ديوان الترتيب، وينقل عنه أنه كان له مع الحاكم بأمر الله مجالس ومذكرات أودعها كتابه «التاريخ الكبير»، الذي وصفه بقوله: «التاريخ الجليل قدره، الذي يستغنى بمضمونه عن غيره من الكتب الواردة في معانيه، وهو أخبار مصر، ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء، وما بها من العجائب والأبنية، واختلاف أصناف الأطعمة، وذكر نيلها، وأحوال من حل بها، وأشعار الشعراء، وأخبار المغنين، ومجالس القضاء والحكام والمعدلين والأدباء والمتغزلين وغيرهم، وهو في ثلاثة عشر ألف ورقة.» ويدلنا هذا النص على أن المسبحي لم يهتم بالتاريخ السياسي فحسب، بل أراد أن يجعل من كتابه موسوعة عامة عن مصر من ناحيتها السياسية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية، ومن المؤلم حقا أن يضيع مثل هذا الكتاب القيم، ولم يبق منه إلا هذه الفقرات القليلة المتفرقة في كتب التاريخ، وهذا الجزء الصغير المخطوط بمكتبة الأسكوريال بإسبانيا.
لم يكن الأمير المسبحي مؤرخا فحسب، بل كان أديبا له ذوق فني واطلاع واسع في ميدان الأدب، وألف في ذلك الميدان كتبا كثيرة منها: كتاب «التلويح والتصريح» في معاني الشعر، وكتاب «الشجن والسكن» في أخبار أهل الهوى وما يلقاه أربابه، وكتاب «جونة الماشطة» يتضمن غرائب الأخبار والأشعار والنوادر التي لم يتكرر مرورها على الأسماع، وكتاب «الراح والارتياح» في وصف الشراب وآلاته والندامى عليه، واختيار أوقاته، وذكر الأزهار والرياض والثمار والأشجار، وكتاب «الغرق والشرق»، وكتاب مختار الأغاني ومعانيها، وكتاب المفاتحة والمناكحة في أصناف الجماع، وكتاب الطعام والإدام في صفة ألوان الطعام وما يقدم على الخوان، وكتاب درك البغية في وصف الأديان والعبادات وذكر الملك والأنبياء والمتنبئين وذكر الفرائض والآداب، وكتاب الجوعان والعريان، وكتاب القران والتمام، وكتاب الأمثلة للدول المقبلة ... إلى غير ذلك من الكتب. كما كان شاعرا رقيق العاطفة دقيق الحس، فمن شعره في رثاء أم ولده:
ألا في سبيل الله قلب تقطعا
وفادحة لم تبق للعين مدمعا
أصبرا وقد حل الثرى من أوده
فلله هم ما أشد وأوجعا
فيا ليتني للموت قد مت قبلها
وإلا فليت الموت أذهبنا معا
وانظر إليه وهو يرثي والده سنة 400ه:
خطب ألم من الزمان عظيم
فالدمع سح للمصاب سجوم
خطب يقل له البكاء وينطوي
عنه العزاء ويظهر المكتوم
خطب يميت من الصدور قلوبها
أسفا، ويقعد ثأره ويقيم
يا دهر قد أنشبت في مخالبا
بالأسودين لوقعهن كلوم
يا دهر قد ألبستني حلل الأسى
مذ حل شخص في التراب كريم
لو كنت تقبل فدية لفديت من
رضت عظامي فيه وهو رميم
يا من يلوم إذا رآني جازعا
من طارق الحدثان فيم تلوم؟
بأبي فجعت فأي ثكل مثله
ثكل الأبوة في الشباب أليم
قد كنت أجزع أن يلم به الأذى
أو يعتريه من الزمان هموم
وبجانب هذه النفحة الأدبية كان المسبحي يلم بالنجامة، وله في ذلك كتاب «القضايا الصائبة في معاني أحكام النجوم». من هذا كله نستطيع أن ندرك أن المسبحي كان من أركان الحركة العلمية والأدبية في مصر الفاطمية، وقد استفاد منه المؤرخون الذين جاءوا بعده، فاقتبسوا من مؤلفاته، ولقبوه بمؤرخ الفاطميين. وتوفي المسبحي سنة عشرين وأربعمائة، ورثاه جماعة من شعراء عصره، ذكرهم ولده في تاريخه وذكر مراثيهم.
6 (3) القضاعي
ومن المؤرخين النابهين في هذا العصر، أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي، تفقه على مذهب الشافعي، ومع ذلك فقد ولاه الفاطميون القضاء، ثم اتصل بالوزير الجرجرائي فجعله الوزير كاتب علامته، ثم عمل في ديوان الإنشاء، وأوفده أولو الأمر بمصر إلى القسطنطينية سنة 447ه رسولا من قبلهم إلى الإمبراطورة تيودورا؛ لإصلاح ما فسد من العلاقات بين المصريين والبيزنطيين، ولكن البيزنطيين لم يرحبوا بصداقة المصريين إذ ذاك، وفضلوا أن يتحالفوا مع طغرلبك التركماني،
7
ولما عاد القاضي القضاعي من هذه السفارة اتخذه الوزير اليازوري كاتبا لإنشائه وعلامته، وهكذا كان مقدما عند الفاطميين بالرغم من تمذهبه بمذهب يخالف عقيدتهم. ألف القضاعي كتبا كثيرة نذكر منها: كتابه في مناقب الإمام الشافعي وأخباره، وكتاب الشهاب، وكتاب الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء، وكتاب خطط مصر، وقد وهم المقريزي حين قال:
8 «إن أول من رتب خطط مصر وآثارها، وذكر أسبابها في ديوان جمعه، هو أبو عمر محمد بن يوسف الكندي، ثم كتب بعده القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي كتابه المنعوت بالمختار في ذكر الخطط والآثار، ومات في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدة، فدثر أكثر ما ذكر.» فإن أول من تحدث من مؤرخي مصر عن الخطط هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، في كتابه فتوح مصر،
9
وتبعه المؤرخون بعده.
والقاضي القضاعي كان أستاذ مدرسة في رواية التاريخ، أخذ عنه عدد كبير من المؤرخين أمثال محمد بن بركات بن هلال السعدي النحوي المولود سنة 420ه، صاحب كتاب خطط مصر،
10
وكان ابن بركات نحويا لغويا، وله في هذه العلوم كتاب الإيجاز في معرفة ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ، ألفه للأفضل بن بدر الجمالي، وله تصانيف في النحو حتى قيل إنه بحر العلوم، وعنه روى الحافظ السلفي، والبوصيري صاحب البردة، وأبو الميمون عبد الوهاب المالكي، وهبة الله بن صدقة المعروف بأبي الرداد وغيرهم، وتوفي ابن بركات سنة 520ه.
وممن روى عن القضاعي: أبو عبد الله الحميدي، والخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد، فقد قابل القضاعي في الحج سنة 445ه، وروى عنه. وهكذا كان أثر القضاعي في معاصريه، كما أن الذين جاءوا بعده نقلوا كثيرا من رواياته، واقتبسوا من أقواله. وتوفي القضاعي سنة 457ه.
11
ومن المؤرخين في أواخر العصر الفاطمي: ابن المأمون البطائحي، وكان والده وزيرا للآمر بأحكام الله، ونحن لا نعرف شيئا عن هذا المؤرخ ولا عن كتبه، ولكن المقريزي اقتبس كثيرا من كتاباته في مواضع متفرقة. (4) فن السير
أما فن السير، وهو ذلك الفن الذي يعد من فنون التاريخ، فقد كان له شأن كبير في الحياة الفكرية في مصر الإسلامية، ذلك أن كتاب مصر وعلماءها وجهوا عنايتهم إلى كتابة سير عظمائهم وأبطالهم ومجتهديهم، وقد وصل إلينا بعض هذه الكتب مثل سيرة عمر بن عبد العزيز لعبد الله بن عبد الحكم، رئيس المدرسة المالكية في مصر في القرن الثاني للهجرة.
12
وقد ذكرنا أن ابن الداية كتب سيرة أحمد بن طولون، وسيرة ابنه أبي الجيش، وكتب ابن زولاق سيرة الإخشيد، وسيرة ابنه، وسيرة كافور، وسيرة المعز لدين الله، وسيرة العزيز، وسيرة سيبويه المصري. وكتب القاضي النعمان سيرة المعز لدين الله، وكتب محمد بن محمد اليماني سيرة جعفر الحاجب، ويطول بنا الأمر لو أحصينا كل ما وصل إلينا في فن السير مما كتبه المصريون مما يدل على كلفهم بهذا الفن. ويخيل إلي أن مصر منذ أقدم عصورها اهتمت بهذا الفن اهتماما خاصا، نراه ممثلا فيما تركته مصر الفرعونية من سير ملوكها وأمرائها منقوشا على جدران المعابد والمقابر، أو مسطرا على ورق البردي، ونراه في مصر القبطية فيما تركه الآباء البطارقة من سير من سبقوهم من الآباء والقديسين. وفي مصر الإسلامية ظهرت هذه الحلقات المتتابعة في فن السير، ولعل أولها ما قيل من أن ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية وفد على مصر وروى بها السيرة، ووفد ابن هشام على مصر وروى بعض أجزاء السيرة عن المصريين.
وبلغت عناية المصريين بالسير وكلفهم بهذا الفن، أنهم وضعوا للشعب سيرا عن أبطال أحبهم المصريون، وردد الشعب هذه السير في اجتماعاته ومغانيه، مثل سيرة عنترة بن شداد، وسيرة الهلالية، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد.
وقد حصلنا أخيرا على مخطوطين في فن السير: الأول «سيرة الأستاذ جوذر»، والثاني «سيرة المؤيد في الدين».
سيرة الأستاذ جوذر
13
يتحدث هذا الكتاب عن حياة رجل من رجال الدولة الفاطمية الذين أغفل المؤرخون ذكرهم، وهو الأستاذ جوذر الصقلي، مع ما كان له من مكانة رفيعة في الدولة الفاطمية بالمغرب قبل انتقال المعز لدين الله إلى مصر، ومع ما كان للأستاذ من منزلة قريبة عند الأئمة الفاطميين. يحدثنا هذا الكتاب عن دخول جوذر في خدمة المهدي بالله الفاطمي، وأن المهدي أهدى هذا الغلام إلى ولي العهد القائم بأمر الله، وكيف اشتدت الصلة بين العبد وسيده؛ إن القائم - وكان لا يزال ولي العهد - عندما خرج لغزو بلاد المغرب حتى سنة 200ه، استخلف جوذر على قصره وجميع من فيه من حرمه وأهله، ولما توفي المهدي بالله سنة 222ه خص القائم عبده جوذر دون سائر أهله ورجال الدعوة بمرتبة الاستيداع لولي عهده المنصور بن القائم، فظل هذا السر سبع سنوات حتى أعلن القائم ولاية العهد على الملأ، وفي خلافة القائم أصبح جوذر صاحب بيت المال، ووكل بخزائن الكساء، كما كان سفيرا بين الخليفة وسائر الناس.
وهكذا ارتفعت منزلة جوذر، وأصبح له نفوذ قوي في هذه الدولة الناشئة، فهابه الناس، ولحبه للخير وعطفه على الشعب أحبه الناس، وتوفي القائم بعد ذلك، ولكن المنصور بالله لم يعلن وفاة أبيه، فلم يعلم أحد الخبر إلا جوذر، وخرج لحرب الخارجين عليه مستخلفا جوذر على دار الملك وسائر البلاد، وسلمه مفاتيح خزائن الأموال، ولما عاد من حروبه أعلن موت القائم، وكافأ جوذر على خدماته، فأعتقه ولقبه «مولى أمير المؤمنين»، وأمره ألا يكني في رسائله أحدا، ولا يقدم على اسمه اسما إلا الخليفة وولي العهد، وأن يرقم اسمه بالذهب على ملابس الخليفة وولي عهده، وأن يثبت اسمه على الحصر والبسط، كل ذلك إمعانا في تشريفه. وفي خلافة المعز كان جوذر موضع سر مولاه، إلى أن فتحت مصر، وأراد المعز أن يسير إليها، فأرجف الناس بأن أمر المغرب سيئول إلى جوذر، ولكن جوذر أبى أن يفارق إمامه فسار معه إلى مصر، ولكنه توفي بالقرب من مدينة برقة في مكان يعرف بمياسر سنة 632ه.
لم تقف أهمية سيرة جوذر على هذه الناحية التاريخية من ترجمة أحد رجال الدولة الفاطمية، الذين كان لهم أثر قوي في هذه الدولة منذ نشأتها، وإنما يوضح هذا الكتاب بعض نواح تاريخية هامة أغفلها المؤرخون القدماء أو مروا بها مرا سريعا، ففي الكتاب حديث عن تلك الثورات العنيفة التي نشبت بالمغرب عقب قيام الدولة الفاطمية، وكادت تقوض أركان تلك الدولة، كما يطلعنا على العلاقة بين الفاطميين وصقلية، وعلى ما كان يعانيه الفاطميون من رجال هذه الجزيرة، ومن قرصان البحر، ويظهر سبب الجفاء الذي كان بين المنصور وبين بني عمومته من أولاد المهدي، وكيف طلب إلى جوذر أن يشتد في تأديبهم ورصد حركاتهم. أضف إلى ذلك كله أننا نستطيع أن نعتبر كتاب سيرة جوذر من الوثائق الأدبية؛ فقد جمع مصنفه جميع التوقيعات التي خرجت من المنصور والمعز إلى جوذر، ورسائله إليهما، وقد بلغ عددها في هذا الكتاب نحو المائة ، فالكتاب أشبه بديوان توقيعات للفاطميين، ولا أكاد أعرف كتابا جمع توقيعات الفاطميين سوى هذا الكتاب، وكتاب المجالس والمسايرات للقاضي النعمان الذي جمع فيه مصنفه بعض توقيعات المعز إليه، وكتاب السجلات المستنصرية الذي جمع فيه رسائل المستنصر إلى الصليحيين باليمن. وأجد في سيرة جوذر بعض قطع من شعر المنصور بالله، وخطبة المنصور في نعي القائم، وخطبة المعز في نعي المنصور، وهكذا نستطيع أن نستفيد من هذا الكتاب الصغير من الناحية الأدبية والتاريخية والاجتماعية في العصر الفاطمي بالمغرب.
أما مصنف هذه السيرة فهو رجل مغمور لا نكاد نعرف عنه إلا أنه منصور الجوذري العزيزي، وأنه دخل في خدمة الأستاذ جوذر كاتبا له سنة 350ه، وأصبح موضع سره، وظل في عمله إلى أن توفي جوذر فاتصل بالمعز فالعزيز. ويتضح من كلامه أن العزيز جعله في مرتبة رفيعة هي نفس المرتبة التي كان فيها جوذر، ويضيف المقريزي أن أبا علي منصورا الجوذري زادت مكانته في عهد الحاكم بأمر الله، فأضيفت إليه مع الأحباس الحسبة وسوق الرقيق والسواحل وغير ذلك.
14
هذا كل ما نعرفه عن واضع هذه السيرة، ونستدل من هذه السيرة أنها صنفت في عهد العزيز بالله الذي ولي سنة 365ه، وتوفي سنة 368ه، ولكننا لا نستطيع أن نحدد السنة التي ألفت فيها،
15
ونرجو أن نوفق إلى نشر هذا الكتاب قريبا.
السيرة المؤيدية
لا أكاد أعرف كاتبا من كتاب المسلمين، سبق المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي داعي الدعاة - الذي تحدثنا عنه من قبل - في تصنيف كتاب خاص لسيرته. فقد ترجم لنفسه في هذا الكتاب، بفصل من تاريخ حياته، أي من سنة 429ه إلى سنة 450ه، وأودع هذا الكتاب بعض رسائله ومناظراته العلمية المذهبية. ولما كان المؤيد ممن أسهم في الحياة السياسية في هذه الفترة، فهو يوضح جهوده وحركاته وسكناته منذ كان في بلاط أبي كاليجار البويهي بفارس، فوصف المؤيد حياته في هذه البلاد، كما وصف هذه الحياة التي كان يحياها السلطان مع الندماء، وصلة السلطان بالعباسيين، وكان المؤيد متصلا برجال المستنصر الفاطمي من وزراء وكتاب ودعاة، فاضطر إلى أن يتحدث عن شيء من أسرار هذا العصر الغامض المضطرب، وأسرار وزراء مصر في ذلك العصر، وذهب المؤيد لمؤازرة البساسيري في العراق، واجتمع بعدد كبير من أمراء العرب والأتراك والأكراد، فتحدث عن هذه الحركة السياسية التي كادت تقوض أركان العباسيين، فالكتاب على هذا النحو ليس ترجمة للمؤيد فحسب، بل هو مصدر هام للحياة السياسية والاجتماعية في القرن الخامس الهجري؛ لأن المؤيد ترجم لنفسه من حيث علاقته بالمجتمع الذي عاش فيه، والكتاب قيم جدا في دراسة هذه السنوات الإحدى والعشرين التي كان بها أحداث وخطوب، وكان لها أثر قوي في مجرى الحياة الإسلامية عامة، ولقيمة هذا الكتاب نشرناه،
16
فهو في متناول القراء الآن.
وهكذا كانت حركة التاريخ والسير قوية في مصر الفاطمية كما كانت قوية قبل عصر الفاطميين، ففن التاريخ وروايته من الفنون التي ازدهرت في مصر في عصورها المختلفة، شغف به المصريون فأكثروا من روايته وتدوينه. (5) خاتمة القول في الحياة العقلية
قلنا إن العقائد الفاطمية كانت ميدانا فسيحا للعقل، وإن الفاطميين أفسحوا صدورهم للدراسات الفلسفية في وقت كانت فيه هذه الدراسات موضع هجمات عنيفة في الأقطار الإسلامية الأخرى، بل رأينا الفاطميين يأخذون من النظريات والآراء الفلسفية والدينية القديمة، ويصبغون هذه الآراء والديانات بالصبغة الإسلامية بما يتفق مع العقائد التي بشروا بها، فأعطوا لأنفسهم من حرية التفكير وفي الأخذ عن القديم، والاجتهاد في المذهب، ما لا نراه عند غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى، ولكن هذا الاجتهاد وهذه الحرية الواسعة في الفكر كانت مقيدة بموضوع الإمامة؛ فكل مؤلفات الدعوة الفاطمية، ومجالس حكمتهم، كانت تدور قبل كل شيء حول صاحب النص المعصوم، وتثبيت إمامته، وإظهار الإمام بمظهر الجلال والقدسية، فكأن الفاطميين في مصر قد أعادوا إليها شيئا من الحياة الفكرية التي كانت بالإسكندرية منذ عهد بطليموس؛ إذ كان أهم الدراسات بالإسكندرية استرضاء الحكام وإشباع غرورهم بإسناد الفضائل كلها إليهم وإلى أجدادهم، بيد أن دعاة الفاطميين اتخذوا التعاليم ذريعة للوصول إلى غرضهم، فأدخلوا في الدين ما وصلت إليه الفلسفة الهلينية والأفلاطونية الحديثة، وبعض الإسرائيليات والمسيحيات، وآراء هرمس الحراني، وغيرها من الآراء القديمة، وذلك كله لإسباغ الفضائل كلها على الأئمة من أهل البيت، فكأنهم قالوا بحرية الفكر إلى أبعد مدى هذه الحرية، ولكنهم مع ذلك قيدوا هذه الحرية بالإمامة.
وكانت هذه الحرية الفكرية سببا في ازدهار الحركة الفلسفية في مصر، وظهور عدد كبير من الفلاسفة على نحو ما ذكرنا من قبل، ولكن هذه الدراسات الفلسفية كانت في أغلبها تتبع عقائد الفاطميين، فدراسة الأفلاك والنجوم وإنشاء الرصد مثلا كانت كلها بسبب معرفة ابتداء شهر رمضان، ويغلب على ظني أن الفاطميين لو لم يدينوا برؤية الهلال رؤية استبصار وعلم، لما ازدهرت هذه الألوان من الدراسات.
وروينا أن مصر الفاطمية شاهدت دراسات أدبية عربية، ولكننا نلاحظ أن هذه الدراسات مقصورة على دراسة النصوص القديمة وشرحها والتعليق عليها، دون أن تنتج مصر شيئا جديدا، وهذا ما كان أيضا في مصر إبان ازدهار مدرسة الإسكندرية حين كانت الدراسات الأدبية تقوم على دراسة شعر هوميروس، ووضع المعجمات لمفردات هذه الأشعار وغيرها من الشعر القديم، دون أن يكون للدراسات الوجدانية أثر قوي في هذه الدراسات التي قوي فيها عمل العقل والآراء العلمية، أكثر مما يظهر تأثير العاطفة التي تستوحى من نفسية الشعب؛ ولذلك تتفق الدراسات الأدبية في العصر الإسكندري مع العصر الفاطمي في أن هذه الدراسات لا تظهر فيها شخصية مصر، وكذلك في المزاوجة بين الدراسات الأدبية الخالصة والآراء الفلسفية بمصطلحاتها وتعبيراتها، ومن هنا نرى سبب هذا التعقيد في أسلوب الدعاة والعلماء، حتى يخيل إلينا أن هؤلاء العلماء بعدوا عن التعبيرات الأدبية التي تتمثل فيها البساطة والذوق الموسيقي والعاطفي في اللفظ والمعنى، ولكن الدعاة والعلماء في العصر الفاطمي حشوا كتاباتهم بالتعبيرات الفلسفية، واستعملوا مصطلحات اضطروا أن ينحتوها من ألفاظ عربية، وأن يتلاعبوا بقواعد الصرف المعروفة، فجاءت كتاباتهم غريبة عن الأسلوب العربي. حقيقة حاول بعض الدعاة والعلماء أن يستعيدوا الأسلوب الأدبي، وأن يبتعدوا عن تعقيدات الفلاسفة، ولكنهم وجدوا مشقة في تعبيرهم، وصعوبة في صناعتهم؛ فاضطروا إلى استخدام المحسنات البديعية والإغراق فيها ليفتنوا الجماهير بالزينة اللفظية، فكانت نتيجة ذلك أنهم تجنبوا تعقيدا ليقعوا في تعقيد آخر، وهذه الشروح والحاشيات التي وضعت حول النصوص القديمة، احتاجت هي نفسها فيما بعد إلى شروح وحواش أخرى لتوضيحها وتقريبها إلى المتعلمين، وهكذا كانت جناية الدراسات الفلسفية والمصطلحات العلمية على الأساليب العربية.
على أن هذه الظاهرة لم تكن في مصر فحسب، بل كانت في جميع الأقطار الإسلامية منذ عرفت هذه الأقطار هذه العلوم التي عرفت بالعلوم الدخيلة، ومنذ أخذ أصحاب الفرق المختلفة الصياغات المنطقية والفلسفية للتعبير عن آرائهم، ودحض رأي خصومهم، ومن يدري لعل هؤلاء العلماء تعمدوا تعقيد أسلوبهم حتى يقال عنهم إنهم علماء، وها هو ذا الجاحظ يحدثنا عن هؤلاء الذين تعمدوا التعقيد فيقول: «قلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها، وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها، وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ فأجاب: أنا رجل لم أصنع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجات الناس إلي فيها، وإنما كانت غايتي المنالة، فأنا أضع بعضها هذا الوضع المفهوم؛ لتدعوهم حلاوة ما فهموا إلى التماس فهم ما لم يفهموا، وإنما قد كسبت في هذا التدبير ، إذ كنت إلى التكسب ذهبت.»
17
ومهما يكن من شيء، فقد كانت هذه الحركة العقلية في مصر الفاطمية في نمو مطرد في كل نواحيها وألوانها وفنونها، وتعددت مراكزها في مصر، وكانت حلقات الدرس في المساجد أو الدور في القاهرة والفسطاط وفي الإسكندرية وتنيس في الشمال، وفي أسوان وقوص وقفط في الجنوب، كما كان أمراء الأقاليم يجمعون حولهم العلماء والشعراء، وها هو ذا عمارة اليمني يحدثنا في «النكت» عن بعض هؤلاء الأمراء وعن مجالسهم وشعرائهم؛ فالحياة العلمية كانت مزدهرة في مصر الفاطمية، وعن مصر أخذ كثير من العلماء في الغرب والشرق، فلا غرو إن قلنا إن مصر الفاطمية كانت بدءا للزعامة المصرية للأقطار الإسلامية، تلك الزعامة التي لا تزال مصر تحمل لواءها إلى الآن.
الكتاب الثاني : في الحياة الأدبية
الباب الأول
في الشعر
الفصل الأول
ازدهار الشعر
عرف الفاطميون بثراء دولتهم، وبذخهم الذي لا مثيل له بين ملوك الدول الأخرى، وأكثروا من استحداث الأعياد والمواسم، وافتنوا في إقامة حفلاتهم ومواسمهم، حتى يخيل إلى من يقرأ تاريخهم أن حياة مصر في ذلك العصر الزاهر كانت كلها أعيادا ومواسم، وكلها لهوا ومرحا، بالرغم مما كان في هذا العصر من سني شدة وقحط ضرب بها المثل، ولكن هذه الأيام العجاف لم تمنع الفاطميين من الاحتفال بأيامهم التي اتخذوها لأنفسهم أعيادا بجانب تلك الأعياد التي يتخذها باقي المسلمين، والأعياد التي يحييها مسيحيو مصر، ويشترك معهم فيها إخوانهم المسلمون. فكان الشعب في عصرهم يتظاهر بما يجلب السرور إلى نفسه، حتى لو كان ذلك عن طريق المجون وارتكاب المعاصي، وكانت الدولة تحتفل بهذه الأيام احتفالا يتناسب مع عظم ملكهم، واتساع سلطانهم، ووفرة خيراتهم وأموالهم، وقد تكون هذه المبالغة منهم في حياتهم لونا من ألوان التنافس السياسي بينهم وبين أعدائهم، فيقف أعداؤهم على هذه الحياة البهيجة الفرحة، والنفقات الطائلة؛ فيعلمون أنهم أمام دولة قوية غنية، فتضعف همتهم عن مهاجمتها.
أما هذه الأعياد التي استحدثوها في مصر؛ فقد روى المقريزي عن ابن الطوير المؤرخ: أن الفاطميين كانوا يحتفلون بستة موالد : مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومولد علي بن أبي طالب، ومولد فاطمة بنت الرسول، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد الخليفة الحاضر.
1
وفي فصل آخر من خطط المقريزي تحدث المؤلف عن الأيام التي كان الفاطميون يتخذونها أعيادا ومواسم، فقال: وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشورا، ومولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومولد علي بن أبي طالب، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد فاطمة الزهراء، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس.
2
وأضاف إلى ذلك أيام حفلات صلاة الجمعة، فقد كان الخلفاء يركبون في كل سنة ثلاث ركبات لصلاة الجمعة بالناس في جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر مرة، وفي جامع الحاكم مرة، وفي جامع عمرو بن العاص مرة، وينال الناس من الخليفة في هذه الجمع الثلاث رسوما وهبات وصدقات.
3
وأضاف أيضا أيام الركوبات التي كان فيها الخليفة يركب في كل يوم سبت وثلاثاء إلى متنزهاته بالبساتين والمناظر التي بنوها لنزهاتهم،
4
ويوم سفر الحاج،
5
وركوب الخليفة في أول شهر رمضان.
6
وتحدث المقريزي كذلك في مكان آخر عن ليالي الجمع من شهر رجب وشعبان، وليلتي النصف منهما،
7
فكل هذه الأيام التي كان يحتفل بها الفاطميون، سواء كانت أيام حزن مثل عاشوراء، أو أيام فرح تمد فيها السمط الفاخرة، وينفق فيها عن بذخ وإسراف، ويصيب رجال الدولة وكل من يتصل بالقصر من النعم والخلع، كل بما يتناسب مع مكانته، وينال الشعب الذي يشارك أمراءه في أفراحهم وأحزانهم حظا مما كان يغدقه الخلفاء والأمراء عليه، فإذا مصر كلها تحتفل بهذه الأيام التي استنها الفاطميون، وقد يطول بي الحديث لو توخيت وصف هذه الحفلات الكثيرة، وأكتفي هنا بأن أعطي صورة ليوم واحد من أيام أعيادهم، نقلا عن المقريزي عن المؤرخ المعاصر ابن المأمون في وصف موسم أول العام:
وأسفرت غرة سنة سبع عشرة وخمسمائة، وبادر المستخدمون في الخزائن وصناديق الإنفاق بحمل ما يحضر بين يدي الخليفة من عين وورق من ضرب السنة المستجدة، ورسم جميع من يختص به من إخوته وجهاته وقرابته وأرباب الصنائع والمستخدمات، وجميع الأستاذين العوالي والأدوان، وثنوا بحمل ما يختص بالأجل المأمون وأولاده وإخوته، واستأذنوا على تفرقة ما يختص بالأجل المأمون وأولاده وإخوته، واستأذنوا على تفرقة ما يختص بالأجل المأمون وأولاده، والأصحاب والحواشي والأمراء والضيوف والأجناد، فأمروا بتفرقته، والذي اشتمل عليه المبلغ في هذه السنة نظير ما كان قبلها.
وجلس المأمون باكرا على السماط بداره، وفرقت الرسوم على أرباب الخدم والمميزين من جميع أصنافه على ما تضمنته الأوارق، وحضرت التعاشير والتشريفات وزي الموكب إلى الدار المأمونية، وتسلم كل المستخدمين المدارج بأسماء من شرف بالحجبة ومصفات العساكر، وترتيب الأسمطة، وأصمد كل منهم إلى شغله، وتوجه لخدمته، ثم ركب الخليفة، واستدعى الوزير المأمون، ثم خرج من باب الذهب، وقد نشرت مظلته، وخدمت الرهجية، ورتب الموكب والجنائب ومصفات العساكر عن يمينه وشماله، وجميع تجار البلدين من الجوهريين والصيارف والصاغة والبزازين وغيرهم قد زينوا الطريق بما تقتضيه تجارة كل منهم ومعاشه لطلب البركة بنظر الخليفة، وخرج من باب الفتوح، والعساكر فارسها وراجلها بتجملها وزيها، وأبواب حارات العبيد معلقة بالستور، ودخل من باب النصر، والصدقات تعم المساكين، والرسوم تفرق على المستقرين، إلى أن دخل من باب الذهب، فلقيه المقرئون بالقرآن الكريم في طول الدهاليز إلى أن دخل خزانة الكسوة الخاص، وغير ثياب الموكب بغيرها، وتوجه إلى تربة آبائه للترحم على عادته، وبعد ذلك إلى ما رآه من قصوره على سبيل الراحة، وعبيت الأسمطة وجرى الحال فيها، وفي جلوس الخليفة، ومن جرت عادته، وتهيئة قصور الخلافة، وتفرقة الرسوم على ما هو مستقر.
وتوجه الأجل المأمون إلى داره فوجد الحال في الأسمطة على ما جرت به العادة والتوسعة فيها أكثر مما تقدمها، وكذلك الهناء في صبيحة الموسم بالدار المأمونية والقصور، وحضر من جرت العادة بحضوره للهناء، وبعدهم الشعراء على طبقاتهم، وعادت الأمور في أيام السلام والركوبات وترتيبها على المعهود، وأحضر كل من المستخدمين في الدواوين ما يتعلق بديوانه من التذاكر والمطالعات مما تحتاج إليه الدولة في طول السنة وينعم به ويتصدق، ويحمل إلى الحرمين الشريفين من كل صنف على ما فصل في التذاكر على يد المندوبين، ويحمل إلى الثغور، ويخزن من سائر الأصناف ما يستعمل ويباع في الثغور والبلاد ... إلخ.
8
هذه صورة ما نقله المقريزي على المؤرخين المعاصرين عما كان يجري تحت بصرهم وسمعهم في يوم من أيام هذه الأعياد الكثيرة التي استحدثها الفاطميون، ومن هذه الصورة نتبين أن هذه الأعياد لم تكن أعياد الخلفاء والأمراء ورجال القصر فحسب، بل كانت أعياد الشعب أيضا بما كان يقدم فيها من الصدقات والسمط، فإذا الشعب يشارك الحاكمين، ويناله شيء من بذخ الفاطميين، فإذا هو في فرح وبشر، ولا يكاد يمضي عيد حتى يلحقه آخر.
في هذه الحفلات كان الشعراء يتبارون في إنشاد قصائدهم، ويتنافسون في الإجادة والإتقان، وينعمون بأخذ جاريهم وصلاتهم بما لم ينعم به الشعراء في الدول الأخرى، فلا غرابة إن قلنا إن هذه الأعياد والمواسم كانت من دوافع ازدهار الشعر في العصر الفاطمي، وموضوعا من موضوعاته، حتى إن عمارة اليمني في قصيدته التي رثى بها دولة الفاطميين لم يستطع إلا أن يذكر هذه الأعياد والمواسم فقال:
أبكي على ما تراءت من مكارمكم
حال الزمان عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم
واليوم أوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إذ أضحت مكارمكم
تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست
ورث منها جديد عندهم وبلي
وموسم كان في يوم الخليج لكم
يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدين كم لكم
فيهن من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في يوم الغدير كما
يهتز ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشي وفي شية
مثل العرائس في حلي وفي حلل
9
ولعل هذه الصورة التي صورها الشاعر عمارة اليمني لحفلات وأعياد الفاطميين تدل على ما كانت عليه مصر في ذلك العصر المترف الغني.
وليست الأعياد والمواسم التي استحدثها الفاطميون هي فقط أظهر ما كان في الحياة الاجتماعية في مصر الفاطمية، ولكننا نرى الفاطميين يكثرون من المباني والمنشآت التي أقاموها في البلاد، ولعل عنايتهم بالمتنزهات والمناظر والإكثار منها من الأدلة التي نستطيع أن نقدمها على حب الفاطميين للفنون المختلفة، فهذه البساتين التي جملوا بها مدينتهم القاهرة وضواحيها، لم تتخذ متنزها لهم فقط دون غيرهم من الرعية، بل أباحوا للناس دخولها والتمتع بمناظرها وجوها، فأوجد ذلك عند المصريين لونا من ألوان الحياة الناضرة البهيجة، وسمت النفوس إلى حب الطبيعة وحب الجمال معا. ولقد كان خروج المصريين في ذلك العصر إلى المتنزهات جزءا هاما من مقومات حياتهم، وهناك كانوا يقصفون ويطربون، وينعمون بجمال الرياض وأريج الأزهار، وكان الشعراء يقصدون هذه الرياض جماعات يتطارحون الشعر، ويتبارون في الإنشاد، يستوحون من جمال الزهر والطبيعة وحي شعرهم، فإذا صح ما رواه القدماء أن شعراء الجاهلية كانوا يخرجون إلى الصحراء لاستلهام الشعر، فكذلك خرج شعراء مصر إلى البساتين يتغنون ببدائع الطبيعة، فكانت هذه المتنزهات والبساتين التي أكثر منها الفاطميون مصدرا خصبا لكثير من الشعر المصري في العصر الفاطمي.
كانت الحياة المصرية إذن حياة ترف، وكان سكان مصر على حظ من الثراء والغنى، يحسدهم عليه العباسيون في أوج مجدهم وسعة سلطانهم، وكان الخلفاء الفاطميون يسرفون في الإغداق على الشعب مما يملكون من مال ومتاع ورقيق، مما كان يحمله إليهم الدعاة من مال الخمس
10
وأموال النجوى، ومن هدايا الأمراء في المشرق، وكان الوزراء يتشبهون بالأئمة في الظهور بمظهر الملك فأنفقوا عن سعة، وافتن الشعب في التشبه بأمرائهم وحكامهم، فظهروا بمظهر صاحب الثروة، واتخذوا من الحياة أبهجها، ومن الزينة واللباس أزهاها، وأكثروا من اقتناء الرقيق والقيان، وإقامة المآدب واستدعاء الخلان لمجالس اللهو والشراب، حتى خيل إلينا أن حياة المصريين كانت حياة لهو وقصف وسماع غناء وألحان، فكان ذلك كله وحيا للشعراء بالقريض.
ومن عوامل ازدهار الشعر في هذا العصر الفاطمي أن القائمين على شئون البلاد اتخذوا من الشعر وسيلة من وسائل دعوتهم السياسية على نحو ما تتخذ الأحزاب السياسية اليوم بعض الصحف لتعبر عن اتجاه هذه الأحزاب وآرائها، وقد ذكرنا أن الفاطميين عرفوا قدر الدعاية فاهتموا بها أيما اهتمام، واصطنعوا كل ما يفيدهم في دعوتهم من علماء وأدباء وشعراء، وكان الفاطميون على قدرة وكياسة في فن السياسة، فعرفوا أن الشعر العربي منذ العصر الجاهلي كان من أهم وسائل الدعاية للقبيلة في العصر الجاهلي وللأحزاب السياسية والفرق الإسلامية بعد ظهور الإسلام، وأن بعض الشعراء في العصر العباسي أمثال مروان بن أبي حفصة وأبان بن عبد الحميد اللاحقي وغيرهما، أدخلوا في شعرهم بعض الآراء الفقهية في الدفاع عن الخلافة العباسية ضد الطامعين من العلويين، فلم يشأ الفاطميون أن يتركوا سلاح الشعر دون أن يشهروه على خصومهم، أو أن يستخدموه في الدفاع عنهم والمباهاة بفضائلهم والإشادة بدولتهم، فلا غرو أن وجدنا الفاطميين يبذلون العطاء الضخم الجسيم لشعراء دولتهم، ويجعلون لبعض الشعراء مرتبات شهرية، وينقل المقريزي عن ابن الطوير أنه كان للشعراء رواتب جارية من عشرين دينارا إلى عشرة دنانير.
11
ويروى أيضا أنه في يوم عاشوراء كان يخرج الرسم المطلق للمتصدرين والقراء والوعاظ والشعراء وغيرهم على ما جرت به عادتهم،
12
ومعنى هذا أن الفاطميين كانوا يعطون الشعراء في أيام المواسم والأعياد رواتب خاصة غير ما كان يعطى لهم شهريا. ويحدثنا المقريزي مرة أخرى في كلامه عن بركة الحبش أنه كان بها طاقات، وعليها صور الشعراء، كل شاعر واسمه وبلده، وعلى جانب كل من هذه الطاقات قطعة من القماش كتب عليها قطعة من شعر الشاعر في المدح، وعلى الجانب الآخر رف لطيف مذهب، وأن الخليفة الآمر بأحكام الله لما دخل هناك وقرأ الأشعار، أمر أن توضع على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارا، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده.
13
فلا أكاد أعرف دولة من الدول الإسلامية أقامت للشعراء هذا التمجيد بأن يضعوا صورة كل شاعر مع اسمه وبلده في طاقات في متنزهات عامة، مما يدل دلالة قاطعة على تمجيد لفن الشعر والشعراء، فأين نحن الآن من مصر في العصر الفاطمي؟!
ويذكر العماد في الخريدة أن الفاطميين جعلوا من وظائف الدولة وظيفة «مقدم الشعراء»، ويذكر أن مقدم الشعراء في عهد الأفضل بن بدر الجمالي هو الملقب بمسعود الدولة المعروف بابن حريز.
14
وكانت سيدات قصر الإمامة الفاطمية يغدقن الأموال على الشعراء كلما سمعن منهم شعرا جيدا في مدح الأئمة، ويحدثنا عمارة اليمني أنه بعد أن أنشد قصيدته الأولى في مصر أخرجت له السيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ خمسمائة دينار.
15
وهكذا نرى الفاطميين يولون الشعر والشعراء عنايتهم؛ لأن الشعراء لسان من ألسن تمجيدهم والذود عنهم أمام أعداء كثيرين أقوياء، فإغداق النعم الفاطمية على الشعراء كان من أشد الأسباب التي جعلت الشعراء يحرصون على إتقان الشعر مع الإكثار من الإنشاد، فكثر الشعراء وكثر إنتاجهم، واستغل الفاطميون هؤلاء الشعراء في رفع شأن دولتهم وخلفائهم، حتى في القسم الأخير من العصر الفاطمي الذي ضعف فيه الأئمة، واستبد الوزراء بالملك، فقد طلب إلى الشاعر أبي عبد الله مسلم أن ينظم «السيرة المصرية»، وجعلوا له خمسة دنانير كل شهر على ذلك، فسأل أن يجري له شيء على الشعر مثل غيره من الشعراء، فزيد نصف دينار، فهجاه الشاعر مجير بن محمد الصقلي المتوفى حوالي سنة 540ه بقوله:
جرى الحديث فقالوا كل ذي أدب
أضحت له خمسة تجري بمقدار
بأي فضل حواه ابن المسلم من
دون الجماعة حتى زيد في الجاري
أجروا له خمسة عن حق سيرته
فقال: لا تنقصوني حق أشعاري
نادوا عليه وسوق الشعر نافقة
فلم يزد قدرها عن نصف دينار
16
وهكذا كان الفاطميون يستغلون شعر الشعراء في تثبيت أركان دولتهم، حتى في وقت ضعف سلطانهم.
شعر الأئمة
بجانب ذلك كله كان الفاطميون يقدرون الشعر ويتذوقونه من حيث هو فن من الفنون التي تجب العناية بها، ويقدرها كل من نال حظا من الثقافة ورقة الشعور ودقة الإحساس، بل يذكر المؤرخون أن من بين الأئمة الفاطميين من كان ينشد الشعر، وقد رأينا كيف خاطب القائم بأمر الله المصريين بالشعر إبان غزواته، ويذكر صاحب سيرة جوذر عدة أبيات للمنصور بالله، منها:
تبدلت بعد الزعفران وطيبه
صدا الدرع من مستحكمات السوامر
ألم ترني بعد المقامة بالسرى
ولين الحشايا بالخيول الضوامر
وفتيان صدق لا ضغائن بينهم
يثورون ثورات الأسود الخوادر
أروني فتى يغني غنائي ومشهدي
إذا رهج الوادي لوقع الحوافر
أنا الطاهر المنصور من نسل أحمد
بسيفي أقد الهام تحت المغافر
17
ومن شعر المنصور بالله أيضا يخاطب ابنه وولي عهده المعز لدين الله:
كتابي إليك من أقصى الغروب
وشوقي شديد عريض طويل
أجوب القفار وأطوي الرمال
وأحمل نفسي على كل هول
أريد بذاك رضاء الإله
وإعزاز دولة آل الرسول
إلى أن برى السير أجسامنا
وكل الركاب وتاه الدليل
فوا غربتاه ووا وحشتاه
وفي الله هذا قليل قليل
وما ضقت ذرعا ولكنني
نهضت بقلب صبور حمول
وقد من ذو العرش من فضله
بفتح مبين وعز جليل
وفي كل يوم من الله لي
عطاء جديد وصنع جميل
فلله حمد على ما قضى
وحسبي ربي ونعم الوكيل
18
ولعلك تلاحظ معي أن المقطوعة الأولى أقوى وأجزل شعرا من المقطوعة الثانية التي هي أقرب إلى الكلام العادي منها إلى فن الشعر، فالقطعة الأولى من شعر المنصور تدل على أن صاحبها شاعر حماسي ملك ناصية الفن في اللفظ والمعنى، فهو يختار اللفظ الذي يتلاءم في موسيقاه مع المعنى الذي يقصده الشاعر، فيلذ الأذن والعقل معا، ولكن القطعة الثانية، فلا أستطيع أن أقول إلا أن ناظمها يعبث حين يدعي أنه يقول شعرا.
ويذكر ابن خلكان أن المعز لدين الله كان أديبا شاعرا، وينسب إليه هذه الأبيات:
لله ما صنعت بنا
تلك المحاجر في المعاجر
أمضى وأقضى في النفوس
من الخناجر في الحناجر
ولقد تعبت ببينكم
تعب المهاجر في الهواجر
19
فهذه الأبيات إن دلت على شيء فهي تدل قبل كل شيء على أن الشاعر كان من شعراء الزينة البديعية، فقد فتن بهذه الملاءمة اللفظية بين «المحاجر» و«المعاجر»، وبين «أمضى» و«أقضى»، وبين «الخناجر» و«الحناجر»، وبين «المهاجر» و«الهواجر»، ومع ظهور هذه الصنعة البديعية في هذه الأبيات، فإن خيال الشاعر كان قويا في تعبيره عما تفعله العيون التي تختفي تحت المحاجر، ولكنها تصيب هدفها، وتفعل في النفوس أكثر مما تفعله الخناجر في الحناجر.
وكذلك ينسب القدماء إلى المعز لدين الله هذه الأبيات:
أطلع الحسن من جبينك شمسا
فوق ورد في وجنتيك أطلا
وكأن الجمال خاف على الور
د جفافا فمد بالشعر ظلا
20
هنا صورة جميلة من شاعر بلغ درجة لا بأس بها من الفن، فهو يصف جمال المحبوب بصورة من صور الطبيعة المحببة إلى النفس، فهي كالورد المتفتح قد غمرته الشمس، ولكن الشاعر كان دقيق الحس رقيق الشعور، فخشي أن يذبل الورد من حرارة الشمس، فظلله بخصلة من شعر الحبيب، فالصورة هنا لا شك جميلة، ولا غرو أن رأينا القدماء قد فتنوا بها حتى قال ابن خلكان: «إن هذا معنى غريب بديع.»
21
ولكن هل أستطيع أن أنسب هذه الأبيات إلى المعز لدين الله كما روى ابن خلكان، أم أنسبها إلى ظافر الحداد الشاعر الفاطمي الفحل؛ إذ ورد في الخريدة أن ظافرا قال:
أطلع الشمس من جبينك بدر
فوق ورد من وجنتيك أطلا
فكأن العذار خاف على الور
د جفافا فمد بالشعر ظلا
22
لست أدري لمن أنسب البيتين، فربما حاكى ظافر الإمام المعز، فأخذهما عنه بعد أن غير بعض الألفاظ، أو ربما نسب أتباع المذهب البيتين إلى المعز عندما أرادوا إثبات شاعريته، ومهما يكن من شيء فإن المؤرخ ابن إياس تحدث أيضا عن شعر المعز فقال: «كان المعز عاقلا حازما لبيبا فصيحا شاعرا، وله شعر جيد، من ذلك قوله:
ما بان عذري فيه حتى عذرا
وبدا البنفسج فوق ورد أحمرا
همت بقبلته عقارب صدغه
فاستل ناظره عليها خنجرا
23
وهكذا كان المعز لدين الله ينشد الشعر، وعرف به، وكذلك كان ابنه العزيز بالله نزار، وابنه المعروف بالأمير تميم، يقول أبو المحاسن عن العزيز: «كانت لديه فضيلة، وله شعر جيد.»
24
وروى الثعالبي في يتيمته قول العزيز، وقد وافق بعض الأعياد وفاة ابنه، وعقد المأتم عليه:
نحن بنو المصطفى ذوو محن
يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا
أولنا مبتلى وخاتمنا
يفرح هذا الورى بعيدهم
طرا وأعيادنا مآتمنا
25
فالشاعر في هذه الأبيات صادق العاطفة يعبر عن ألم دفين وحزن كمين، فهو لم يحزن لفقد ولده فحسب، بل هو يألم لما أصاب أهل البيت من محن وكوارث حتى أصبحت أعيادهم مآتم، ويخيل إلي أن هذه العاطفة الصادقة هي التي دفعت العزيز لأن يقول:
ولما رأيت الدين رثت حباله
وأصبح ممحو الضيا والمعالم
وأصبحت الأغنام من كل أمة
تسوم عباد الله خزم المخاطم
وتحكم في أموالها ودمائها
بغير كتاب الله عند التحاكم
غضبت لدين الله غضبة ثائر
غيور عليها مانع للمحارم
وسيرت نحو الشرق بحر كتائب
تموج بأبطال رجال قماقم
يقودون جرد الخيل تخطر بالقنا
وبالمشرفيات الرقاق الصوارم
أنا ابن رسول الله غير مدافع
تنقلت في الأنوار من قبل آدم
لي الشرف العالي الذي خضعت له
رقاب بني حواء من كل عالم
بنا فتحت أبواب كل هداية
ومنا بحمد الله (خير الخواتم)
فقل لبني العباس مع ضعف ملكهم
بأنهم أسرى بأيدي الأعاجم
غصبتم بني المروان ما غصبوه من
مواريثنا، سحقا لظالم ظالم
ولم تحفظوا فينا وصايا محمد
ولا ما ادعيتم من مناسب هاشم
سنسقيكم كأسا كما قد سقيتم
أوائلنا والله أعدل حاكم
26
ففي هذه الأبيات نحن أمام رجل غيور على عقيدته ودينه، شديد العداء لمن خالفه من العباسيين، يتوعدهم بالانتقام لما أصاب آباءه وأجداده من محن على أيديهم، شديد الفخر بنسبته إلى الرسول الكريم، وهو في ذلك كله لا ينسى عقائده المذهبية التي كان إمامها، فأشار إلى أنه تنقل في الأنوار من قبل آدم، فهذا المعنى لا يقوله إلا من اعتقد مذهب الفاطميين، وذلك أن الفاطميين ذهبوا إلى أن الله سبحانه خلق نور محمد
صلى الله عليه وسلم
قبل أن يخلق السموات والأرض، وأن هذا النور تنقل في الأصلاب الطاهرة والأرحام الزكية حتى بلغ عبد المطلب، فقسم الله هذا النور قسمين، قال لأحدهما: كن يا هذا محمدا، ويا هذا كن عليا. وأن هذا النور تجمع مرة أخرة بزواج علي من فاطمة بنت الرسول، وتنقل في الأئمة من ذريتهما حتى كان العزيز بالله، فكأن العزيز وجد قبل آدم؛ لأن النور الذي حل به وجد قبل آدم.
27
وكان الحاكم بأمر الله شاعرا أيضا، وينسب إليه صاحب النجوم الزاهرة:
دع اللوم عني لست مني بموثق
فلا بد لي من صدمة المتحنق
وأسقي جيادي من فرات ودجلة
وأجمع شمل الدين بعد التفرق
28
ولكن هذين البيتين يعود صاحب النجوم مرة أخرى فينسبهما إلى الآمر، وكذلك المقريزي.
29
وعندي في المجموعة الخطية عدة أبيات للحاكم، ولكن هذه الأبيات ضعيفة في صياغتها وفي معناها، ويظهر فيها الانتحال، ويخيل إلي أن قائلها هو أحد أتباع المذهب الذين لا يحسنون صناعة الشعر، والأبيات هي:
إذا ما انقضى لبس السواد أتيتكم
بأبيض من فوق الدماء يفور
على أشقر يغلي إذا ما ركبته
ولا صحبت رجلي بعد حمير
وأجلس عادتي كما كنت قبل ذا
ويختال بي من بعد ذاك وزير
30
ويحدثنا ابن بسام في الذخيرة أن الشاعر الواساني، هجا يوسف بن علي المشرف على دمشق أيام الحاكم، وسمع الحاكم بأمر هذا الهجاء فقال يوما: أريد سماع هذه القصيدة من رجل حسن النشيد.
31
فهذا يدل على أن الحاكم كان يلذ له سماع الشعر ممن يحسنون النشيد.
وتكاد تجمع المصادر على أن المستنصر بالله كان شاعرا مبدعا، وأنه كان متمكنا من إنشاد الشعر يرتجله في مناسبات، ويجيب عن بعض الرسائل التي كانت ترد عليه بالشعر. يروي صاحب النجوم أن ناظر الدولة جاء بالأتراك سنة 460ه إلى الوزير ابن كدينة، وطالبوا الوزير بالمال، فقال لهم الوزير: «وأي مال بقي عندي بعد أخذكم الأموال واقتسامكم الإقطاعات.» فطلبوا من الوزير أن يرفع الأمر إلى المستنصر، فكتب الوزير رقعة بما جرى وأرسلها إلى الإمام، فأجاب المستنصر على الرقعة نفسها بخطه:
أصبحت لا أرجو ولا أتقي
إلا إلهي وله الفضل
جدي نبي وإمامي أبي
وقولي التوحيد والعدل
32
ففي هذين يظهر الألم الشديد الذي كمن في نفس الإمام لما حل به وحاق بالبلاد إبان الشدة العظمى المعروفة في التاريخ، والبيت الثاني يذكرنا بما نسمعه عند دفن الموتى بما يعرف بتلقين الأموات، فلعل المستنصر أراد أن يتهكم بمن جاء يطالبه بالأموال، فأجاب بما يلقن به الموتى. فهو يسخر بهؤلاء الناس وهو في أشد حالات الألم والحزن، فالعقدة النفسية التي كانت عند المستنصر، هي التي جعلته يسخر ويتهكم على هذا النحو.
ومما يروى عن المستنصر أيضا أن المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي بعد أن عاد سنة 450ه إلى القاهرة، منعه الوزير ابن المغربي من لقاء المستنصر، فأخذ المؤيد يرسل إليه الكتب والرسائل، وينشد فيه الشعر حتى بلغ المستنصر قول المؤيد:
أقسم لو أنك توجتني
بتاج كسرى ملك المشرق
وأنلتني كل أمور الورى
من قد مضى منهم ومن قد بقي
وقلت أن لا نلتقي ساعة
أجبت يا مولاي أن نلتقي
لأن إبعادك لي ساعة
شيب فودي مع المفرق
فلما بلغت الرقعة التي فيها هذا الشعر إلى المستنصر أجاب عليها بخطه:
يا حجة مشهورة في الورى
وطود علم أعجز المرتقي
ما غلقت دونك أبوابنا
إلا لأمر مؤلم مقلق
خفنا على قلبك من سمعه
فصدنا صد أب مشفق
شيعتنا قد عدموا رشدهم
في الغرب يا صاح وفي المشرق
فانشر لهم ما شئت من علمنا
وكن لهم كالوالد المشفق
إن كنت في دعوتنا آخرا
فقد تجاوزت مدى السبق
مثلك لا يوجد فيمن مضى
من سائر الناس ولا من بقي
33
وتنسب إليه قصيدة وردت في مجموعة أشعار الإسماعيلية مطلعها:
كفى ملامك يا ابنة الغمر
ما بال وفر أبيك من وفر
34
ولكني أرى هذه القصيدة موضوعة، ونسبت إلى المستنصر، فأكتفي الآن بالإشارة إليها.
وينسب طائفة البهرة إلى المستنصر مجموعة رسائل قيل إنه كتبها إلى علي بن محمد الصليحي باليمن، ولكن من يطلع على هذه الرسائل يدرك أن مثل هذه الرسائل لا تصدر عن الإمام، إنما تصدر عن كتابه، وقل أن نجد خليفة من خلفاء المسلمين أرسل مثل هذه الرسائل لأحد عماله، إنما كان ذلك عمل كتاب ديوان الإنشاء، ونحن نشك في نسبة هذه الرسائل إلى المستنصر، ونرجح أنها كتبت بعد انتقال مركز الدعوة المستعلية إلى اليمن، وأن كاتبها أحد الدعاة في اليمن، وسنعود إلى هذه الرسائل في بحث آخر.
35
ويقول صاحب النجوم عن الآمر بأحكام الله: «كان للآمر نظم ونظر في الأدب.»
36
وروى له عدة أبيات منها الأبيات التي نسبها حينا إلى الحاكم، وحينا آخر إلى الآمر، كما ذكرنا من قبل. وينسب ابن ميسر إلى الآمر قوله:
أما والذي حجت إلى ركن بيته
جراثيم ركبان مفلعة شهبا
لأقتحمن الحرب حتى يقال لي
ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا
وينزل روح الله عيسى بن مريم
فيرضى بنا صحبا ونرضى به صحبا
37
وينسب طائفة البهرة إلى الآمر بأحكام الله رسالة تعرف «بالهداية الآمرية في إبطال الدعوة النزارية»، وقد نشر هذه الرسالة صديقنا الأستاذ آصف فيظي، وذكر في مقدمته لهذه الرسالة أنها ليست للآمر في الحقيقة، وربما كانت لأحد كتابه، فإن هذه الرسالة من السجلات التي يكتبها رجال ديوان الإنشاد، وربما كان الآمر هو الذي أوصى بها.
38
وهكذا كان بعض الأئمة الفاطميين ينشد الشعر، فلا غرو أن رأيناهم يقربون الشعراء ويجزلون لهم العطاء، ويلتف الشعراء حولهم ويتنافسون بين أيدي أمرائهم في الإنشاد، مما دعا إلى كثرة الشعر وازدهاره.
وكما كان الأئمة في عهد سلطانهم وقوتهم - أي في القسم الأول من العصر الفاطمي - ينشدون الشعر ويقربون الشعراء، كان بعض الوزراء في عهد غلبة الوزراء في مصر ينشد الشعر ويثيب عليه، ولا سيما أن الوزراء أصبحوا كل شيء في الدولة؛ فأصبحوا مقصد الشعراء ووجهتهم، حتى إن الشعراء عندما كانوا يريدون مدح الخليفة الفاطمي كانوا يذكرون بجانبه الوزير، ويطنبون في مدح الوزير أكثر مما يقولون في مدح الإمام. ويروي المقريزي أن جميع الشعراء لم يكن لهم في الأيام الأفضلية، ولا فيما قبلها على الشعر جار، وإنما كان لهم إذا اتفق طرب السلطان واستحسانه لشعر من أنشد منهم ما يسهله الله على حكم الجائزة، فرأى القائد أن يكون ذلك من بين يديه من الظروف.
39
إذ كان الأفضل يجلس بدار الملك التي أنشأها في مجلس العطايا، وقد أمر بتفصيل ثمانية ظروف ديباج أطلس، من كل لون اثنين، وجعل في سبعة منها خمسة وثلاثين ألف دينار في كل ظرف خمسة آلاف، فمن هذه الظروف كان يغدق عطاياه على الشعراء الذين كانوا يقصدونه، ولعل أكثر الوزراء في العصر الفاطمي إنشادا للشعر وتحببا إلى الشعراء هو الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك، فقد جمع شعره في مجلدين كبيرين، وجمع شعر الشعراء فيه فكان شيئا كثيرا، ولكن هذه الأشعار كلها فقدت، ولم يبق منها إلا شذرات، وكذلك كان الوزير الناصر العادل رزيك بن الصالح الذي وصفه عمارة اليمني بقوله: وأما فهمه فكان يعرف جيد الشعر ويستحسنه ويثبت عليه.
40
فسوق الشعر قد ازدهرت في عهد الوزراء كما كان مزدهرا في عهد الأئمة على ما سنوضحه فيما بعد.
ضياع الشعر الفاطمي
وكانت الحياة في مصر الفاطمية - كما رأينا جانبا منها - تدعو إلى ازدهار الشعر وإلى كثرة ما أنتجه الشعراء في كل فن من فنون الشعر، وكل موضوع من موضوعاته، ولكن هذه الموجة الفنية التي طغت على مصر سرعان ما أبادها الأيوبيون فيما أبادوه من تراث هذا العصر الذهبي في تاريخ مصر الإسلامية، فضاع الشعر ولم يبق منه إلا النزر اليسير، أو قل لم يبق إلا اسم الشاعر أحيانا إن قدر لاسمه البقاء، ونحن لا نتردد في اتهام الأيوبيين بجنايتهم على تاريخ الأدب المصري بتعمدهم أن يمحوا كل أثر أدبي يمت للفاطميين بصلة، فقد حرقوا كتبهم بما فيها من دواوين الشعر خوفا من أن يكون بالشعر مديح للأئمة، وهو كفر بزعمهم. وها هو ذا كاتب الأيوبيين العماد الأصفهاني عندما أراد أن يجمع في خريدته شعر شعراء المائة الخامسة، قال عن ابن الضيف داعي الآمر وشاعره: «وكنت عازما لفرط غلوه على حطه؛ لأنه أساء شرعا وإن أحسن شعرا، بل أظهر فيه كفرا، ولكنني لم أر أن أترك كتابي منه صفرا؛ لأن البحر الزاخر يركبه المؤمن والكافر، ويقصده البر والفاجر، ويحمل الغثاء كما يحمل الدر.»
41
وقال عن ظافر الحداد: أقول ظافر، بحظ من الفضل ظاهر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مداح المصري والله غافر.
42
ومع ذلك لم يرو العماد لهما شيئا في مدح الأئمة، فقد تعمد العماد الأصفهاني أن يستبعد أكثر شعر مديح الأئمة من خريدته، وتبعه في ذلك غيره من الأدباء والمؤرخين، فضاع أكثر شعر مصر الفاطمية بسبب هذا التعصب المذهبي.
أضف إلى ذلك أن الأحداث التي كانت في مصر، ولا سيما في عهد المستنصر بالله، إبان المحنة الكبرى، وفي الصراع الذي كان بين شارو وضرغام في أواخر العصر الفاطمي، كانت من أهم أسباب ضياع شعر الشعراء وكتب العلماء، حتى إن الشاعر عمارة اليمني عندما أراد أن يذكر لنا شيئا من شعره في مدح طي بن شاور قال: فإن جميع ما قلته فيه نهب من دار الخليج.
43
ولم يتذكر منه شيئا يرويه، فكانت هذه الأحداث والاضطرابات مأساة للعصر الفاطمي نفسه؛ إذ سببت زوال دولة الفاطميين، ومأساة للحياة الأدبية والفكرية أيضا، وإلا فحدثني عن شعر الشعراء المائة الذين رثوا ابن كلس، وأين ديوان ابن حيدر العقيلي؟
44
وأين ديوان أبي الحسن علي بن المؤمل بن غسان الكاتب المصري، وكان ديوانه في مجلدين؟
45
وأين ديوان أبي الحسن بن مطير؟
46
وديوان ابن الشخباء أستاذ القاضي الفاضل،
47
وديوان الملك الصالح بن رزيك،
48
وديوان القاضي الرشيد بن الزبير،
49
وديوان أخيه المهذب بن الزبير،
50
وديوان ابن الضيف، وديوان ظافر الحداد الذي وصفه أحد معاصريه، وهو الفقيه نصر بن عبد الرحمن الفزاري بقوله: «وله ديوان شعر مشهور، وبالجودة له مشهود.»
51
وأين ديوان الفقيه الصوفي ابن الكيزاني؟ وأين شعر بني عرام شعراء الصعيد؟ وأين مقطوعات ابن الصياد في أنف ابن الحباب؟ فقد قيل: إن ابن الحباب كان كبير الأنف، وكان ابن الصياد مولعا بأنفه وهجاه بأكثر من ألف مقطوعة.
52
وأين شعر أولاد الكنز بأسوان؟
53
وأين المجموعة التي جمعها عثمان بن عبد الرحيم المعروف بابن بشرون التي صنفها سنة 561، وسماها: «المختار في النظم والنثر لأفاضل أهل العصر»، وأين مجموع شعراء ابن رزيك؟
54
وأين كتاب جنان الجنان للمهذب بن الزبير الذي صنفه سنة 558ه، وجمع فيه أشعار شعراء مصر، وذيل به اليتيمة؟ وأين ديوان القاضي المفضل كافي الكفاة أبي الفتح محمود ابن القاضي الموفق إسماعيل بن أحمد الدمياطي المعروف بابن قادوس، وكان من أماثل المصريين وكتابهم مقدما عند ملوكهم؟
55
ويطول بنا الأمر لو طالبنا بكل شعر الشعراء الذين كانت تزخر بهم مصر الفاطمية، إنما ذكرنا هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر، لنعرف مدى هذه الخسارة التي لحقت بتاريخ الأدب المصري لضياع هذه الثروة الأدبية المصرية، ولندل على أن مصر الفاطمية كانت غنية بشعرائها، خصبة في شعرها.
هناك جناية أخرى ارتكبها الثعالبي والباخرزي والعماد وابن سعيد المغربي وغيرهم من المؤلفين الذين أرادوا أن يحفظوا في كتبهم شيئا من الشعر، فعمدوا إلى عدة أبيات من قصيدة، ولم يدونوا كل القصيدة، فقد اكتفوا بمقطوعة من بيتين أو أكثر لكل شاعر، وقل أن نجد قصيدة كاملة في هذه الكتب، مما جعلنا لا نستطيع أن نكون حكما صحيحا على فن الشاعر من هذه المقطوعات التي رويت له؛ لأن الناقد المدقق مهما بلغت مقدرته الفنية، واتسعت ثقافته الأدبية، وارتقى ذوقه الأدبي، لا يستطيع أن يحكم على شاعر بمقطوعة من قصيدة، أو بقصيدة واحدة من ديوان، وإلا كنا كالقدماء الذين كانوا يفضلون شاعرا على شاعر ببيت شعر قاله. فهؤلاء الكتاب الرواة كانوا من عوامل ضياع الشعر القديم، كما هم في الوقت نفسه من عوامل حفظ بعضه.
ومهما يكن من شيء، فإن بين أيدينا الآن بعض آثار لحياة الشعر في العصر الفاطمي، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن العصر الفاطمي كان خصبا في إنتاج الشعر، بحيث استطاع شعر مصر الفاطمية أن يقف بجوار غيره من الشعر في الأقطار الإسلامية في أرقى عصوره وصوره، فالعوامل التي تحدثت عنها، والآثار التي وصلتنا، وما قاله الرواة عن شعر مصر، كل ذلك يجعلنا نقول: إن شعر مصر الفاطمية كان يحتل هذه المكانة الممتازة في الحياة الأدبية، ويتطور هذا التطور الذي نلمسه في العصر الفاطمي.
الفصل الثاني
الشعر والأئمة
ذكرنا أن الفاطميين جاءوا بمصر يحملون مذهبا دينيا خاصا يختلف عن العقائد التي كان يدين بها المصريون، وأن للمذهب الفاطمي مصطلحات خاصة لا يعرفها غير المنتسبين لفرقتهم، ولا يفهمها غيرهم، فكان لهذه العقائد الفاطمية تأثير قوي في شعر مصر الفاطمية، ذلك أن الشعراء الذين اتصلوا بالأئمة كانوا يمدحون هؤلاء الأئمة بالصفات التي صبغها المذهب على الأئمة، ويتعمد الشاعر أن يستعمل في شعره المصطلحات التي اصطلح عليها علماء المذهب ودعاته، وكلما أمعن الشاعر في استخدام هذه المصطلحات، وإدخال هذه الصفات في شعره، ازدادت قيمة الشاعر عند الأئمة وكبار رجال الدعوة، وكثر عطاؤه وزاد جاريه، فكان الشعراء على هذا النحو دعاة للأئمة والعقائد دون أن يكون لهم في مراتب الدعوة شأن.
وفي الوقت نفسه كان الشعراء سبب اتهام المذهب الفاطمي بالغلو والميل إلى الخروج عن تعاليم الإسلام؛ ذلك أن الشعر أسرع في الانتقال على أفواه الناس من كتب العلماء، فإذا كانت كتب الدعاة لا يقربها إلا أتباع مذهبهم، وأن مجالس حكمتهم لا يحضرها إلا من استجاب لهم، فالشعر يختلف عن ذلك كله، فإنه يسير بين الناس ويرويه الرواة، فإذا سمع مستمع إلى تلك الأبيات التي زخرت بعقائد الفاطميين دون أن يكون له إلمام بعقائد المذهب وما فيها من تأويلات باطنية، فهو لا يستطيع أن يدرك معنى ما جاء في هذا الشعر، وما قصد إليه الشاعر في مدائحه، ومن هنا يتهم الشاعر ويتهم المذهب نفسه، وقد رأينا كيف وصف العماد الأصفهاني شعر بعض شعراء الدولة الفاطمية، ونقرأ الآن أقوال النقاد والمؤرخين عن ابن هانئ الأندلسي، وما وصف به من شدة الغلو في مدح الأئمة حتى رماه بعضهم بالخروج عن الدين جملة، فلو كان هؤلاء النقاد يعرفون التأويل الباطني لأقوال ابن هانئ، أو أنهم حاولوا معرفة ما أراده الشاعر وقصد إليه ، لرأيناهم يرجعون عن كثير مما اتهم به الشاعر، وذكرنا أن هذا من الأسباب التي أدت إلى ضياع شعر مصر الفاطمية، ولا سيما هذا اللون من الشعر الذي ملئ بالعقائد، والذي قيل في مدح الأئمة، ولكن من حسن الحظ أننا عثرنا على ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة، وديوان الأمير تميم بن المعز، وقصيدة في مدح العزيز، وكانت هذه النصوص في مكتبات رجال البهرة بالهند.
ففي مجموعة أشعار الإسماعيلية قصيدة تكاد تكون فريدة في نوعها في الشعر العربي كله، وهي لشاعر مجهول من شعراء العزيز بالله، وتنسب هذه القصيدة أحيانا إلى المؤيد في الدين،
1
وتنسب مرة أخرى إلى شاعر يلقب بالإسكندراني،
2
ولكني أرفض نسبة هذه القصيدة إلى المؤيد؛ لأن العزيز بالله أقدم عهدا من المؤيد في الدين، وأن المؤيد لم يمدح العزيز مطلقا، إنما مدح الظاهر والمستنصر، وهما الإمامان اللذان عاصرهما المؤيد، ولم يمدح غيرهما من الأئمة، أضف إلى ذلك كله أن هذه القصيدة تختلف عن شعر المؤيد من ناحية فن الشعر عند المؤيد.
أما الإسكندراني الذي تنسب إليه هذه القصيدة فلا نعرف عنه شيئا، ولم تذكره المصادر التي بين أيدينا، وكل ما ورد عنه في المجموعة الخطية هو: هذه قصيدة الإسكندراني - رحمه الله - في مدح الإمام العزيز بالله قدس الله روحه، وهي الموسومة بذات الدوحة.
3
قلت: إن هذه القصيدة فريدة في بابها في الشعر العربي، ذلك أن الشاعر روى الحديث المنسوب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم : «أهل بيتي شجرة؛ أصلها ثابت، وفرعها في السماء.» وقول النبي أيضا: «أنا شجرة، وفاطمة حملها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، ومحبونا أهل البيت ورقها، حقا حقا أن يكونوا معنا في الجنة.»
4
وأمثال هذين الحديثين. فشاء له خياله أن يمدح إمامه العزيز بالله بقصيدة جعل لها جذعا وفروعا على مثال الشجرة، وسمى قصيدته ذات الدوحة، وأودعها كثيرا من المصطلحات والعقائد الفاطمية، والقصيدة هي:
سئمت من البين الذي ليس يصدق
فلست بغير الحق والصدق أنطق
أأمدح رهطا غير رهط محمد
وفي الجيد عهد للإمام موثق
ولا فضل لي في ذا بل الفضل فضل من
بهم يحرم الله الأنام ويرزق
أئمة دين الله مذ قام دينه
وأنوار هذا الخلق من قبل يخلق
محبتهم فرض على الناس واجب
وعصيانهم كفر إلى النار موبق
هم العروة الوثقى، هم منهج الهدى
هم الغاية القصوى التي ليس تلحق
ولولاهم لم يخلق الله خلقه
ولم يك في الدنيا ضياء ورونق
هم دوحة الدين التي تثمر الهدى
وباليمن والتقوى تظل وتسبق
تجير من الأيام من يستظلها
وتحيي من الموت الجهول وتطلق
سقاها غمام الوحي علما فأينعت
بمكنون علم الله فالدين مونق
جرت في تخوم المحكمات عروقها
وفوق الثريا فرعها متعلق
هم الأصل منها والأئمة فرعها
ففي كل عصر نورها يتألق
إلى أن تسامت بالعزيز ولم تكن
بغير أبي المنصور لو كان يلئق
فباهت على الأيام أيامه التي
تكاد لها صم الجنادل تورق
سحائب جود لا يغيب غمامها
وبحر سماح بالندى يتدفق
لئن فقد الناس المعز لدينه
لقد قام بالدين العزيز الموفق
تجددت الدنيا علينا بيمنه
فلا العيش مذموم ولا الدهر أخرق
ولا الجود ممنوع ولا المجد خامل
ولا العرف مقطوع ولا النكر مطلق
تضوع نشر العدل في كل بلدة
ونشر الثناء الطيب للطيب يعبق
ملأت قلوب العارفين محبة
فكل على مقداره يتشوق
فلا صامت إلا بحبك ناطق
ولا مضمر إلا بشكرك ينطق
فضائل مولانا العزيز جليلة
إذا عد فضل فهو بالفضل يسبق
غرست على بيت من الشعر دوحة
لها أغصن في وزنه حين تبسق
فألفت من بيت بيوتا كثيرة
ولكنها مع ذاك لا تتفرق
فسبع وسبع عن يمين ويسرة
على كل حرف منه بيت مفلق
بمدح أمير المؤمنين لأنها
لعمري به من سائر الخلق أليق
عليه صلاة الله ما لاح كوكب
وما ناح في الأيك الحمام المطوق
فالشاعر هنا قد ألزم نفسه بأن يبني بيتين من الشعر على كل كلمة من كلمات البيت الأخير، وأن يفرع عن يمين وشمال هذا البيت الأخير أربعة عشر بيتا، سبعة أبيات عن يمين، وسبعة عن شمال ، حتى تتخذ القصيدة شكل الدوحة، وما رأينا أحدا من شعراء العربية يتلاعب بمثل هذا التلاعب قبل هذا الشاعر الفاطمي، ومن يدري لعل التشجير الذي ظهر في الشعر الفارسي في القرن السادس الهجري وما بعده هو تطور هذا التلاعب الذي نراه في هذه القصيدة، فقد أراد الشاعر أن يهدي إلى إمامه مثالا من الشعر للشجرة التي ذكر في القرآن أن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وشاء الشاعر إلا أن يهدي لإمامه هذه الدوحة، وجعل أبيات الفروع والأغصان سبعة عن يمين وسبعة عن شمال، تمثيلا لرأي الفاطميين في الأدوار السبعة إذا انتهى دور سبعة من أئمة الدين تلاه دور آخر لسبعة آخرين، وقد يكون ذلك أيضا لأن المعز كان سابع الأسبوع الثاني من دعوة النبي محمد، وأن العزيز هو أول الأئمة في دور الأسبوع الثالث، وهكذا كان هذا الشاعر في تلاعبه في شكل القصيدة باطنيا؛ وهو باطني أيضا في المعاني التي قصد إليها، ففي مدحه لإمامه أملت عليه عقيدته الفاطمية هذه المعاني، ففي البيت الثاني يتحدث الشاعر عن العهد أو الميثاق الذي يأخذه الإمام على شيعته والمستجيبين لدعوته، وفي البيت الثالث يشير إلى أن الأئمة مثل للعقل الأول، وبما أن الله - سبحانه وتعالى - قال للعقل (وهو القلم أيضا) «بك أثيب وبك أعاقب»،
5
فهذه الصفات تنطبق أيضا على مثل العقل وهم الأئمة،
6
فيثيب الله من أطاع الأئمة، ويعاقب من خالفهم. وفي البيت الرابع يتحدث الشاعر عن تنقل نور الله منذ بدأ خلقه إلى أن حل هذا النور في إمام العصر،
7
وفي البيت الخامس ذكر طاعة الأئمة، وأن طاعتهم فرض فرضه الله تعالى في القرآن الكريم بقوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وفي البيت الثامن وما بعده يتحدث الشاعر عن العلم الباطن الذي خص به الأئمة دون غيرهم، وأن هذا العلم هو الذي يحيي موتى النفوس، ويجلو غياهب الشك، ثم يتحدث الشاعر بعد ذلك عن عقيدة الفاطميين التي شاركهم فيها غيرهم من المسلمين، وهي العقيدة التي تقول: إن الله لم يخلق هذا الخلق سدى، بل لعبادته وتوحيده، ولكن الفاطميين خالفوا المسلمين في الوسيلة التي تؤدي بهم إلى العبادة والتوحيد، ذلك أن العبادة عندهم لا تقبل إلا بموالاة الأئمة من أهل البيت، فكأن العالم لم يخلق إلا من أجل الأئمة الذين بهم يصل الإنسان إلى عبادة الله وتوحيد الله، فالشاعر في هذه القصيدة شاعر عقائد قبل كل شيء، عرف عقائده فاتخذ هذه العقائد وسيلة لمدح الإمام، فالشاعر متأثر بهذه العقائد فظهرت في شعره.
وها هو ذا الأمير تميم بن المعز لدين الله، الذي نعرف عنه أنه ابن إمام من الأئمة، وأخ لإمام من أئمتهم، كان شاعرا من أكبر شعراء عصره، مدح أباه وأخاه الإمام بعدة قصائد حفظت في ديوانه، وقد استطعنا الحصول على نسخة خطية من هذا الديوان، فرأينا الشاعر يصف الإمام بالمصطلحات الفاطمية، ويلم في شعره بعقائد أسرته، فهو يقول مرة للعزيز بالله:
جئت الخلافة لما أن دعتك كما
وافى لميقاته موسى على قدر
كالأرض جاد عليها الغيث منهملا
فزانها بضروب الروض والزهر
ما أنت دون ملوك العالمين سوى
روح من القدس في جسم من البشر
نور لطيف تناهى منك جوهره
تناهيا جاز حد الشمس والقمر
معنى من العلة الأولى التي سبقت
خلق الهيولي وبسط الأرض والمدر
فأنت بالله دون الخلق متصل
وأنت لله فيهم خير مؤتمر
وأنت آيته من نسل مرسله
وأنت خيرته الغراء من مضر
لو شئت لم ترض بالدنيا وساكنها
مثوى وكنت مليك الأنجم الزهر
ولو تفاطنت الألباب فيك درت
بأنها عنك في عجز وفي حصر
8
ففي هذه الأبيات نرى الشاعر يمدح إمامه بأنه ليس كغيره من الملوك؛ لأن نفس الإمام الشريفة اللطيفة هي روح قدسية حلت في جسم كثيف ترابي، وأن هذه النفس اللطيفة تناسب العقل - الذي سماه هنا بالعلة الأولى على حسب الاصطلاحات الفلسفية والفاطمية أيضا - وبما أن العقل هو أول ما خلق الله فهو سابق لخلق الهيولي، ولما كان العقل الأول هو أقرب مبدعات الله إليه سبحانه، فكذلك الإمام الذي هو مثل العقل أقرب المخلوقات إلى الله على هذه النسبة، وهو متصل بالله تعالى؛ لأن ممثوله العقل الأول متصل بالله تعالى، وأن الإمام آية الله تعالى من نسل النبي محمد؛ لأن ممثوله العقل هو آية الله الكبرى، وهكذا يستمر الأمير تميم في استغلال هذه الآراء والعقائد الفاطمية في مدح شقيقه الإمام العزيز بالله، بحيث لا نستطيع أن نصل إلى فهم أشعاره في هذا المديح دون التوصل إلى ذلك بتطبيق نظرية المثل والممثول. انظر إليه وهو يمدح الإمام:
فيابن الوصي ويابن البتول
ويابن نبي الهدى المصطفى
ويابن المشاعر والمروتين
ويابن الحطيم ويابن الصفا
9
فهو يصف الإمام بمعان باطنية، فمناسك الحج في التأويل الباطن هي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبما أن الوصي والأئمة يقومون مقام النبي بعد موته فهم يوصفون بصفاته، ويكرر هذا المعنى في أكثر قصائده، كقوله:
وابن الصفا والحجر وابن الهدى
وابن نبي الهدى وابن الكتاب
10
فبجانب هذه الصفات التي وصف بها الإمام بأنه ابن الصفا وابن الحجر، نراه يصف إمامه بأنه ابن الكتاب، والكتاب هو القرآن، وفي التأويل الباطن أن القرآن والزبور والتوراة والإنجيل هي مثل، والممثول هو الوصي. يقول في ذلك صاحب المجالس المستنصرية: «فالقرآن العظيم هو هذا الكتاب الكريم، وقرينه في التأويل الحكيم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه أفضل الصلاة والتسليم - لأنه في زمانه قرين القرآن، والقرآن قرينه، وإنما يسمى الكتاب قرآنا لاقترانه بالعترة، يبين ذلك قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.» «فالقرآن قرين كل واحد من الأئمة الطاهرين.»
11
ومرة أخرى يمدح الأمير تميم إمامه بصفات باطنية فيقول:
يا حجة الرحمن عند عباده
وشهابه في كل أمر مشكل
من لم يكن في صومه متقربا
بك للإله فصومه لم يقبل
12
فهو هنا يصف إمامه بأنه حجة الله في الأرض، وهو معنى من المعاني الباطنية، وصفة من صفات الأئمة،
13
ويقول أيضا: إن الإمام هو النور الذي يبين للناس ما غمض عليهم، ويوضح ما أشكل ، وفي البيت الثاني يشير إلى عقيدة الفاطميين التي تقول: إن فرائض الدين الإسلامي لا تقبل إلا باتباع المنصوص عليه من أهل البيت، فلا صيام لصائم ما لم يعتقد ولاية الأئمة؛ لأن الولاية - كما قلنا - هي محور عقيدة الفاطميين، ويكرر هذا المعنى الأخير في قوله:
وأنك أنت المصطفى الملك الذي
بطاعته من ربنا نتقرب
ولولاك كان الملك في غير أهله
وكان على أفق الشريعة غيهب
عليك صلاة الله ما طلع الضحى
وما حن للأوطان من يتغرب
14
وهكذا نستطيع أن نستخرج من ديوان الأمير تميم أثر العقائد الفاطمية في شعره، ونستطيع أن نفهم ما قصد إليه الشاعر من معان إذا طبقنا «نظرية المثل والممثول».
ولعل الشاعر المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي هو أول شاعر في هذا العصر وصل إلينا ديوان شعره، فإذا بشعره كله متأثر بالعقيدة الفاطمية؛ فالشاعر جعل كل قصائده التي في هذا الديوان في مدح الأئمة، ولم يتناول موضوعا آخر من موضوعات الشعر، وملأ قصائده كلها بالمصطلحات الفاطمية، حتى إني لا أكاد أعرف لهذا الديوان مثيلا في الأدب الفاطمي، بل في الأدب العربي كله، فنحن نستطيع أن نتخذ هذا الديوان الشعري من كتب العقائد الفاطمية، ولا غرو في ذلك، فالمؤيد لم يكن شاعرا متكسبا بشعره مثل غيره من الشعراء، ولم يكن شاعرا من الشعراء الذين تستهويهم حياة المجون والقصف واللهو، إنما كان عالما من علماء الدعوة، بل كانت إليه مرتبة داعي الدعاة، ولقبه إمامه المستنصر بالحجة نزوعا إلى رفع شأنه، فليس غريبا أن ينقطع مثل هذا العالم الكبير إلى العلم، وأن يتفرغ إلى كل ما يتصل بنشر الدعوة بين الناس، فإذا أنشد شعرا فيتغلب على هذا الشعر عقل العالم لا عاطفته.
ولذلك ترى هذه الأشعار الكثيرة التي ضمها ديوانه ملئت علما وتأويلا، انظر إليه يقول في إحدى منظوماته التي وضعها «لمكاسرة» مخالفي مذهبه:
ما النون يا صاح ترى والكاف
فالخلق در وهما أصداف
إن الذي ظنهما حرفي هجا
مستوجب من ذي الحجا كل هجا
هل كافل بالأرض والسماء
يا عمي حرفان من الهجاء
تفهموا يا قوم ما الحرفان
إن نجاة المرء بالعرفان
ما فاعل العالم كالمفعول
كلا، ولا الحامل كالمحمول
والكاف والنون اللذان انتظما
صنع الإله منهما والتحما
وعنهما يأتلف الوجود
لمن هو المشاهد الموجود
أنى يكونان من الموات
وعنهما منابع الحياة
15
فقارئ مثل هذه الأبيات من نظم المؤيد يدرك لأول وهلة مقدار تأثرها بالمصطلحات الفاطمية التي لا يعرفها إلا من تعمق في دراسة المذهب الفاطمي، فإن قضية الإبداع، أو الحدود الروحانية والجسمانية عند الفاطميين تكاد أن تكون أدق موضوع عالجه جميع الدعاة والكتاب، فأفردوا لهذا الموضوع كتبا خاصة، وفصولا من كل كتاب من كتب الدعوة، والمؤيد في الدين في هذه الأبيات يشير إلى «الكاف» و«النون» وهما الحرفان اللذان يأتلف منهما لفظ «كن» من قوله تعالى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
غير أن الفاطميين قالوا: إن «كن» هي الكلمة التي قامت بها السموات والأرض وما فيهما من خلق، وإن «الكاف» و«النون» ليسا بحرفي هجاء كما يتوهم العامة، بل هما ملكان روحانيان جليلا القدر عظيما الشأن، وقد أقسم الله - سبحانه وتعالى - بهما في قوله:
ن والقلم
والله تعالى لا يقسم إلا بأعز مخلوقاته، «فالكاف» رمز من الله «بالقلم»، و«النون» رمز إلى «اللوح المحفوظ»، ويسمى «القلم» عندهم بالسابق، وهو العقل الكلي عند الفلاسفة، وله كل صفات وخصائص ذلك العقل كما تحدث عنه الفلاسفة، وهو أول ما أبدعه الله - سبحانه وتعالى - من الحدود الروحانية. ومن علماء المذهب من قال بأن وجود عالم الإبداع ظهر دفعة واحدة عن المبدع الحق تعالى لا من شيء، أي لا من مادة تقدمت عليه، ولا بشيء، أي لا بآلة استعان بها عليه، ولا في شيء أي لا مع غيره يشاكله ويساويه، ولا مثل شيء أي لا مثل معلوم كان له نظير فيه، ولا لشيء أي لا لحاجة في زيادة ولا نقصان في ملكه تعالى ومشيئته، فكان وجود الكل كما رمز به الحكماء ولوح به العلماء عنه تعالى بحرف «الكاف» و«النون» فكان ما كان،
16
ولكن أغلب العلماء على أن «القلم» كان أسبق في الوجود من اللوح، ولذلك سمي «القلم» بالسابق، و«اللوح» بالتالي، و«اللوح» هو ما يسمى عند الفلاسفة بالنفس، وجعل الفاطميون لهذا الحد جميع الصفات التي وصف بها الفلاسفة النفس الكلية، ومن «القلم» و«اللوح» وبواسطتهما أوجد الله تعالى جميع المخلوقات في السموات والأرض، فهما كافلا العالم،
17
فحديثهم في الإبداع هو صورة لمراتب الفيوضات في الأفلاطونية الحديثة، وإن كان الفاطميون صبغوها بالصبغة الإسلامية، وبتطبيق نظرية المثل والممثول، يكون النبي مثلا «للقلم»، والوصي مثلا «للوح»، وبعد وفاة النبي يصبح الإمام مثلا للقلم والحجة مثلا للوح، وللمثل جميع صفات وخصائص الممثول، فكأن الفاطميين لم يبحثوا مسألة الإبداع إلا لإثبات مكانة الأئمة بين الحدود الجسمانية، ومماثلتهم للحدود الروحانية في العالم العلوي، وإسباغ ألوان التقديس على الأئمة بهذه المماثلة، وعن هذه العقيدة اشتق الفاطميون عقائدهم في صفات الإمام، وظهر أثرها في الشعر الفاطمي. من ذلك ما أنشده المؤيد في الدين في مدح إمامه المستنصر:
قد خلقتم من طينة وخلقنا
نحن منها لكن بدا ترتيب
إن أجسامكم لناشئة الطين
الذي منه شق منا القلوب
18
فهو يمدح إمامه بأن جسم الإمام عقل كله؛ ذلك أن جسم الإمام خلق من الطينة التي خلقت منها قلوب البشر، أي إن الطينة التي خلق منها جسم الإمام هي نفس الطينة التي خلق منها عقل البشر، فما هو كثيف عند الإمام هو لطيف عند غيره من عامة الناس، وتأويل ذلك أن عقل الإمام شريف، ويجب أن يكون ما يحل فيه هذا العقل شريفا أيضا، ولكن بما أن الإمام من البشر، وجسمه ترابي كغيره من الآدميين، فجسمه خلق من تراب، ولكنه التراب الذي خلق منه قلب البشر الذي يحله عقول البشر. وفي هذا المعنى يقول المؤيد أيضا:
نعم قد أفاضها في البرايا
فتخلت عن شكرها أنعام
هم نهايات كل من برأ الله
وغايات خلقه والسلام
فإليهم تنمى النفوس إذ را
حت إلى الأرض تنتمي الأجسام
19
وقوله أيضا :
مولى مواليه الأعز
كما معاديه الأذل
ذو نسبة بالمصطفى
والمرتضى يسمو ويعلو
بكثيفه ولطيفه
فأساسه نفس وعقل
20
وهذا المعنى كثير جدا في شعر المؤيد، نراه في أكثر قصائده التي في الديوان.
هناك عقيدة أخرى رددها المؤيد في شعره، فهو يقول مثلا:
سلام على العترة الطاهرة
وأهلا بأنوارها الزاهرة
سلام بديا على آدم
أبي الخلق باديه والحاضرة
سلام على من بطوفانه
أديرت على من بغى الدائرة
سلام على من أتاه السلام
غداة أحفت به النائرة
سلام على قاهر بالعصا
عصاة فراعنة جائرة
سلام على الروح عيسى الذي
بمبعثه شرفت ناصرة
سلام على المصطفى أحمد
ولي الشفاعة في الآخرة
سلام على المرتضى حيدر
وأبنائه الأنجم الزاهرة
سلام عليك فمحصولهم
لديك أيا صاحب القاهرة
بنفسي مستنصرا بالإله
جنود السماء له ناصرة
شهدت بأنك وجه الإله
وجوه الموالي به ناضرة
وأنك صاحب عين الحياة
وعين خصومهم غائرة
بحار الندى كفه والعلوم
مدى الدهر في قرن زاخرة
لإحياء أرواحنا الباقيات
وإنشاء أجسامنا البائرة
21
فالشاعر هنا يسلم على جميع الأنبياء، وعلى الوصي علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته، ولكنه ذهب إلى أبعد من التسليم فقال: «فمحصولهم لديك أيا صاحب القاهرة»، وصاحب القاهرة في عصره هو الإمام المستنصر بالله، فهل معنى ذلك أنه جعل الأئمة في منزلة الأنبياء؟ تقول عقيدة الفاطميين إن النبي محمدا جمع أدوار كل الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا قبله، أي إنه في دوره مثل آدم في دوره، فهو آدم على هذا النحو، وهو إبراهيم في دوره ... وهكذا، فكأنه بذلك جمع أدوار جميع الأنبياء، بل قال الفاطميون إن دور النبي محمد يشبه أدوار الأنبياء السابقين، وما حدث للأنبياء وأوصيائهم وأئمة دورهم يحدث أيضا لمحمد ووصيه وأئمة دوره، فالأدوار واحدة، ولكنها تتخذ أشكالا مختلفة، ولما كان الإمام يقوم مقام النبي فهو مجمع الأدوار أيضا على هذه الصورة، فالمستنصر هو آدم وهو إبراهيم وهو نوح ... إلى آخر الأنبياء، فالنور الذي تنقل بين الأنبياء حل في إمام الزمان، ليس معنى ذلك أن الأئمة كانوا بمنزلة الأنبياء؛ فقد ذكرنا أن لهم نفس صفات الأنبياء إلا صفة النبوة والرسالة، وهكذا نستطيع أن نفسر قصيدة المؤيد السابقة. ومن الطريف أن المؤيد نفسه في قصيدة أخرى قارن بين الإمام وبين بعض الأنبياء، فقال في مقارنة المستنصر بنبي الله عيسى بن مريم:
وصديق مثل العدو مداج
لا أراه إلا عدوا مضلا
جاءني حائرا فقال بجهل
ما أرى للمسيح في الناس شكلا
إن عيسى قد كلم الله في المهد
صبيا وكلم الناس كهلا
قلت: هذا مولى الأنام معد
قد حوى الملك والإمامة طفلا
قال: عيسى أحيا الموات جهارا
قلت: مهلا يا ناقص الفهم مهلا
إن هذا مولى الأنام معد
هو يحيي بالعلم من مات جهلا
قال: عيسى أبرأ العمى، قلت: مولا
ي معد يجلو العمى إن تجلى
قال: حسبي أجبتني بجواب
باطني بينت لي فيه عقلا
ثم ولى عني مقرا بفضل
لإمام الهدى ورحت مدلا
22
وقس على ذلك مقارناته لباقي الأنبياء، فهو يتحايل على المعاني حتى يأتي منها بما يلائم مقابلة أدوار الأئمة بأدوار الأنبياء، وتكاد قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم أن تئول على هذا النحو الذي رأيناه في هذه القصيدة، ويستمر المؤيد في كل قصائده يمدح الإمام بمعان باطنية هي من تأثير العقيدة في نفسه وفي شعره.
ويخيل إلي أن العقائد أثرت أيضا في جميع الشعراء الذين ظهروا في بلاط الأئمة في عهد ضعف الأئمة، وسطوة الوزراء، وفي عهد انتقال مركز الدعوة إلى اليمن، ودخول الأئمة في دور الستر الثاني، وقد ذكرنا أن الحافظ والظافر والفائز والعاضد آخر ملوك الفاطميين كانوا يحكمون نيابة عن الإمام المستتر ولم يكونوا أئمة، ولكن شعراء مصر أبوا إلا أن يغدقوا صفات الأئمة على هؤلاء النواب، بل من الشعراء من لقب هؤلاء الملوك بالأئمة، فالشاعر الشريف أبو الحسن علي بن محمد الأخفش شاعر الآمر والحافظ مدح الحافظ بقوله:
صرف جريال يرى تحريمها
من يرى الحافظ فردا صمدا
بشر في العين إلا أنه
من طريق العقل نور وهدى
جل أن تدركه أعيننا
وتعالى أن نراه جسدا
فهو في التسبيح زلفى راكع
سمع الله به من حمدا
تدرك الأفكار فيه بانيا
كاد من إجلاله أن يعبدا
23
فالشاعر هنا مدح الحافظ بهذه الصفات الباطنية التي هي من صفات الأئمة، ولكن الحافظ كان ينوب عن الإمام المستتر فطبق الشاعر صفات الإمام على نائبه، فالإمام عن طريق العقل، أي عن طريق علم الباطن، هو نور أي إنه عقل كله، والعقل الأول لا يدرك بالأبصار، فهو يتعالى أن يحد بحدود ذلك الجسد، أما قوله: «فهو في التسبيح زلفى راكع» فتأويل الركوع - كما يحدثنا القاضي النعمان في كتابه تأويل دعائم الإسلام - هو طاعة الإمام، والإقرار بحدود الدين الروحانيين والجسمانيين، والتسبيح في الركوع تأويله البراءة والتنزيه لله تعالى أن يقاس أو يشبه به أحد من حدوده أو من خلقه،
24
وتأويل «سمع الله به من حمدا» أن كل من صار إلى الدعوة وجب عليه حمد الله على ما أصاره من فضله إليه، وأطلعه من أمر أوليائه عليه، فيأمر الداعي بذلك من دعاه، ويخبرهم أن الله تعالى يسمع حمدهم، ويطلع على اعتقادهم في ذلك، فإن كانوا قبلوه حق القبول، واغتطبوا به كما يجب، وحمدوا الله على ما هداهم إليه منه فيحمد الله كما أمرهم،
25
أما البيت الأخير فالشاعر يشير إلى أن الإنسان إذا فكر في أمر الإمام، وأن الإمام مثل للعقل الأول، وما يوصف به هذا العقل، فيكاد المفكر من إجلاله للعقل أن يعبده وأن يعبد مثله، وهذا البيت الأخير يشبه قول المؤيد في مدح المستنصر:
لست دون المسيح سماه ربا
أهل شرك ولا نسميك ربا
وهو مثل قول الشريف بن أنس الدولة في مدح الحافظ، وقد صعد المنبر يوم العيد:
خشوعا فإن الله هذا مقامه
وهمسا فهذا وجهه وكلامه
وهذا الذي في كل وقت بروزه
تحياته من ربنا وسلامه
26
فهذا المعنى الذي ورد في جميع هذه الأبيات هو من المعاني الباطنية، وكلها تخضع في التفسير لنظرية المثل والممثول أيضا. فالإمام مثل العقل الأول فهو أشرف من جميع المخلوقات، وإنه هو المقصود بوجه الله ويد الله وجنب الله التي وردت في القرآن الكريم، ثم انظر إلى قول الشاعر:
هذا أمير المؤمنين بمجلس
أبصرت فيه الوحي والتنزيلا
وإذا تمثل راكبا في موكب
عاينت تحت ركابه جبريلا
27 «فمجلس الوحي والتنزيل» هو مجلس النبي
صلى الله عليه وسلم
الذي يقوم الإمام مقامه، أما قوله: «عاينت تحت ركابه جبريل» فتأويل الملائكة في عقيدة الفاطميين هم الدعاة، فكأن الشاعر يقول: إن الإمام إذا سار في موكبه سار تحت ركابه الدعاة الذين يدعون له ولمذهبه.
وكان الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك من الشعراء الذين اتخذوا الشعر وسيلة لنشر عقائد مذهبه، ولتهجين مذاهب أضداده، فمن ذلك قوله:
يا أمة سلكت ضلالا بينا
حتى استوى إقرارها وجحودها
ملتم إلى أن المعاصي لم يكن
إلا بتقدير الإله وجودها
لو صح ذا كان الإله بزعمكم
منع الشريعة أن تقام حدودها
حاشا وكلا أن يكون إلهنا
ينهى عن الفحشاء ثم يريدها
28
فهو هنا يشير إلى تلك المسألة التي شغلت أذهان المسلمين، وأثارها المعتزلة ردحا طويلا من الزمان، وأثارت مجادلات بين علماء المسلمين، وهي مسألة الجبر والاختيار. فجمهور أهل السنة على أن الإنسان مجبر، والمعتزلة تذهب إلى أن الإنسان مخير، ولكن الفاطميين كانوا يذهبون مذهبا وسطا، فالإنسان مجبر في أمور، ومخير في أمور، فهو ولد من غير اختيار بل هو مجبر، وتصيبه بعض الأحداث في حياته قضاء وقدرا، ويموت بغير اختيار، أما أفعاله فهو مخير فيها.
ولم يكن شعراء مصر الذين مدحوا الأئمة والوزراء هم الذين ألموا في أشعارهم بعقائد الفاطميين وتأثروا بها هذا التأثر الذي رأينا بعض نماذجه؛ إذ المفروض أن جميع الشعراء الذين اتصلوا ببلاط الفاطميين كانوا يتمذهبون بمذهب الأئمة، ولكننا نرى الشعراء الوافدين على مصر في ذلك العصر كانوا يحاولون أن يتخذوا العقائد الفاطمية وسيلة للوصول إلى مدح الأئمة، وأن يزينوا شعرهم بهذه العقائد للتقرب إلى الأمراء والوزراء والأئمة، وأكثر الشعراء الذين وفدوا على مصر لم يكونوا فاطميي المذهب، ولكنهم اضطروا إلى أن يمدحوا الأئمة بالمعاني الباطنية على نحو ما كان يفعله شعراء مصر. ويحدثنا ياقوت أن الحسين بن عبد الله الشاعر المعروف بأبي حصينة المعري، المتوفي سنة 457ه، أوفد إلى المستنصر بالله، وأنه مدح المستنصر بقصيدة منها:
ظهر الهدى وتجمل الإسلام
وابن الرسول خليفة وإمام
مستنصر بالله ليس يفوته
طلب ولا يعتاص عنه مرام
حاط العباد وبات يسهر عينه
وعيون سكان البلاد تنام
قصر الإمام أبي تميم كعبة
ويمينه ركن لها ومقام
لولا بنو الزهراء ما عرف التقى
فينا ولا تبع الهدى الأقوام
يا آل أحمد ثبتت أقدامكم
وتزلزلت بعداكم الأقدام
لستم وغيركم سواء، أنتم
للدين أرواح وهم أجسام
يا آل طه حبكم وولاؤكم
فرض وإن عذل اللحاة ولاموا
29
فالشاعر على الرغم من أنه من معرة النعمان يمدح إمام مصر الفاطمي بهذه الصفات الباطنية التي تجد حظا من القبول إذا مدح بها الإمام، فقصر الإمام كعبة والركن والمقام في التأويل الباطن مثل على الإمام، ولولا الأئمة ما عرفت حقيقة الدين، والأئمة عقول والناس أجسام، والولاء للأئمة فرض من الله. فهذه كلها من عقائد الفاطميين، واضطر الشاعر أن يزج بها في مدحه للإمام الفاطمي، ولهذا الشاعر قصيدة أخرى في مدح المستنصر أيضا منها قوله:
أما الإمام فقد وفى بمقالة
صلى الإله على الإمام وآله
لذنا بجانبه فعم بفضله
وببذله وبصفوه وجماله
لا خلق أكرم من معد، شيمة
محمودة في قوله وفعاله
فاقصد أمير المؤمنين فما ترى
بؤسا وأنت مظلل بظلاله
زاد الإمام على البحور بفضله
وعلى البدور بحسنه وجماله
وعلى سرير الملك من آل الهدى
من لا تمر الفاحشات بباله
النصر والتأييد في أعلامه
ومكارم الأخلاق في سرباله
مستنصر بالله ضاق زمانه
عن شبهه ونظيره ومثاله
30
فالشاعر في هذه القصيدة مدح الإمام بالمعاني التي اعتاد الشعراء أن يمدحوا بها الملوك، ولكنه ألم فيها أيضا بالمعاني الباطنية التي تميز مصر الفاطمية عن غيرها من الدول، وتميز شعر مصر الفاطمية عن باقي الشعر العربي؛ فالصلاة على الإمام وآله، وأن الإمام من نسل الرسول، وأن لا شبيه للإمام ولا مثيل، كل هذه من العقائد التي كان يبثها الدعاة بين الناس.
ولعل الشاعر عمارة اليمني أصدق مثال لهؤلاء الشعراء السنيين الوافدين على مصر، والذين ألموا في شعرهم بالعقائد الفاطمية، ففي أول قصيدة أنشدها في مصر قال في مدح الخليفة الفائز، ووزيره الملك الصالح بن رزيك تلك القصيدة التي مطلعها:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم
حمدا يقوم بما أولت من النعم
وفيها يقول:
لا أجحد الحق، عندي للركاب يد
تمنت اللجم فيها رتبة الخطم
قربن بعد مزار العز من نظري
حتى رأيت إمام العصر من أمم
ورحن من كعبة البطحاء والحرم
وفدا إلى كعبة المعروف والكرم
فهل درى البيت أني بعد فرقته
ما سرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
بين النقيضين من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوار مقدسة
تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللنبوة آيات تنص لنا
على الخفيين من حكم ومن حكم
31
ويستمر عمارة في مدح الفائز، ثم ينتقل إلى مدح وزيره الملك الصالح بن رزيك، ولكن الشاعر كان بعيدا عن مركز الخلافة فلم يستطع أن يعرف شيئا كثيرا من عقائد الفاطميين، ولذلك لم يتحدث عن المعاني الباطنية إلا بقدر يسير، ولا سيما في البيت الأخير من هذه المقطوعة، على أن الشاعر بعد أن استقر بمصر، واتصل بالبيئة المصرية حوله، وسمع جدل العلماء ومناقشاتهم في مجالس الملك الصالح، وعرف شطرا من العقائد الفاطمية، تأثر بهذه العقائد في شعره، وإن كان لم يعتنق دعوتهم، بل ظل على عقيدة الشافعية، فهو يقول في مدح العاضد:
وعليك من شيم النبي وحيدر
للناظرين أدلة وشهود
والوحي ينطق عن لسانك بالذي
من دونه يصدع الجلمود
شخصت إليك نواظر الأمم التي
ملكتهم لك بيعة وعهود
يوم جلت فيه الإمامة عزها
ولها الملائكة الكرام جنود
32
في هذه الأبيات يظهر تأثير البيئة الفاطمية في شعر مارة، فالشاعر هنا متأثر بالعقائد، حتى يخيل إلينا أنه أصح على دينهم وعقيدتهم، فالوحي - وهو في التأويل داعي الدعاة - ينطق عن لسان الإمام بالحجج الدامغة، والبراهين القوية التي لا تقف أمامها حجج أو براهين، والبيعة في عنق جميع الذين عاهدوا الإمام، والملائكة وهم الدعاة جنود الإمام. ومرة أخرى يمدح العاضد بقوله:
لا يبلغ البلغاء وصف مناقب
أثنى على إحسانها التنزيل
شيم لكم غر أتى بمديحها ال
فرقان والتوراة والإنجيل
سير نسخناها من السور التي
ما شأنها نسج ولا تبديل
قامت خواطرنا بخدمة نظمها
فيكم، وقام بنثرها جبريل
شرف تبيت به قريش كلها
عولا لكم وعليكم التعويل
إن الرسول أبوكم من دونها
فمن الذي منها أبوه رسول
ولقد ورثت مقام قوم يستوي
منهم شباب في العلا وكهول
وجمعت شمل خلافة لم يختلف
في فضلها المعقول والمنقول
لما برزت إلى المصلى معلنا
وشعارك التكبير والتهليل
وخطبت فيه المؤمنين خطابة
ذابت عيون عندها وعقول
وسللت عرب فصاحة نبوية
شهدت بأنك للنبي سليل
33
فهو هنا يمدح العاضد بأن في سور للقرآن والتوراة والإنجيل آيات في شأن الأئمة، وهذا من أقوال الفاطميين في أئمتهم حتى قال شاعرهم المؤيد في الدين:
لهم معاني الزبر
وفضل آي الزمر
34
وقال عمارة أيضا في هذا المعنى نفسه:
يا خير من نظم المديح لمجده
وتنزلت سور الكتاب بحمده
35
وانظر إليه وهو يقول في مدح العاضد أيضا:
ولاؤك دين في الرقاب ودين
وودك حصن في المعاد حصين
وحبك مفروض على كل مسلم
يقول بحب المصطفى ويدين
36
ولعل الأبيات التي أنشدها في رثاء الملك الصالح بن رزيك تدل دلالة واضحة على مدى تأثر عمارة بالعقائد، وبتأويل الفاطميين، فهو يقول مثلا:
لا تعجبن لقدار ناقة صالح
فلكل عصر صالح وقدار
أحللت دار كرامة لا تنقضي
أبدا وحل بقاتليك بوار
37
فناقة صالح التي ذكرت في القرآن تئول على حجة صالح، وكذلك كان الوزير ابن رزيك حجة الخليفة الفائز، ويتحدث عمارة عن الأدوار، فلكل عصر «صالح» من نبي أو إمام، ولكل عصر «ناقة صالح» أي حجة للإمام، فهذا المعنى لا يأتي به إلا من عرف دقائق الدعوة وأسرارها، وكان عمارة يجالس الدعاة والعلماء فعرف الكثير من أسرارهم، فجرى لسانه به. وفي البيت الثاني يتحدث الشاعر أيضا عن عقيدة الفاطميين في خلود النفس بعد الموت، وعودتها إلى العالم الروحاني، فإن كانت نفسا شريفة بأن كانت نفس حد من حدود الدين الجسمانية عادت إلى عالم الحدود الروحانية، وتأخذ مرتبتها بين الحدود الروحانية كما كانت مرتبتها بين الحدود الجسمانية.
وفي مديحه للصالح قال:
كاف هو الباب الذي من لم يصل
منه فليس له إليك وصول
إشارة إلى أن داعي الدعاة هو باب الأبواب، وهو الذي يشير فيه إلى الحديث النبوي: «أنا مدينة العلم وعلي بابها.» فالإمام في عصره يماثل النبي في عصره، وداعي الدعاة هو الباب أيضا، وقد ذكرنا أن الملك الصالح بن رزيك أنشد يدعو عمارة إلى دخول المذهب، واستعمل الصالح هذا المصطلح أيضا:
قل للفقيه عمارة يا خير من
أضحى يؤلف خطبة وخطابا
اقبل نصيحة من دعاك إلى الهدى
قل «حطة» وادخل إلينا «البابا»
تلق الأئمة شافعين ولا تجد
إلا لدينا سنة وكتابا
38
وفي قضية أول رمضان، حدث أن غم الهلال، ولم يظهر بين الضباب، فلم يره الناس رؤية بصر، ولكن المصريين صاموا على حسب رؤية الاستبصار والعلم بدورة الفلك، وظهر العاضد ووزيره شاور بين الناس، فقال عمارة في ذلك:
ولما تراءت للهلال بصائر
يغطي الهوى أبصارها بضباب
وقفنا فهنأنا الصيام بعاضد
سناه مدى الأيام ليس بخاب
39
فرؤية رمضان التي نحتفل بها اليوم هي من فكرة ظهور الإمام الفاطمي معلنا صوم رمضان.
وبعد القضاء على الدولة الفاطمية وموت العاضد، اتفق أن اجتمع الشاعر يحيى أبو سالم بن الأحدب بن أبي حصينة، والشاعر عمارة اليمني في قصر اللؤلؤة، فأنشد أبو سالم في نجم الدين أيوب:
يا مالك الأرض لا أرضى له طرفا
منها، وما كان منها لم يكن طرفا
قد عجل الله هذي الدار تسكنها
وقد أعد لك الجنات والغرفا
تشرفت بك عمن كان يسكنها
فالبس بها العز، ولتلبس بك الشرفا
كانوا بها صدفا والدار لؤلؤة
وأنت لؤلؤة صارت لها صدفا
فأجابه عمارة:
أثمت يا من هجا السادات والخلفا
وقلت ما قلته في ثلبهم سخفا
جعلتهم صدفا حلوا بلؤلؤة
والعرف ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفا
وإنما هي دار حل جوهرهم
فيها، وشف فأسناها الذي وصفا
فقال لؤلؤة عجبا ببهجتها
وكونها حوت الأشراف والشرفا
فهم بسكناهم الآيات إذ سكنوا
فيها، ومن قبلها قد أسكنوا الصحفا
والجوهر الفرد نور ليس يعرفه
من البرية إلا كل من عرفا
لولا تجسمهم فيه لكان على
ضعف البصائر للأبصار مختطفا
فالكلب يا كلب أسنى منك مكرمة
لأن فيه حفاظا دائما ووفا
40
فانظر إلى قول عمارة: إن جوهرهم هو الذي حل بهذه الدار، وإن الآيات سكنتها وكانت تسكن الصحف، وحديثه عن الجوهر الفرد الذي هو نور تجسم في الأئمة.
أليس ذلك كله من الأدلة التي نسوقها على تأثر عمارة بالعقائد الفاطمية على الرغم من تمسكه بمذهبه السني الشافعي؟
من ذلك كله نستطيع أن ندرك كيف استطاع الفاطميون أن يتخذوا من الشعراء ألسنة لهم في نشر عقائدهم التي أذاعوها بين هؤلاء الشعراء، وكيف استغل الشعراء علم الباطن، وخاصة ما خلعه علماء المذهب على الأئمة من صفات باطنية، وكيف كان الشعراء يمدحون الأئمة والدعاة بهذه الصفات حتى يتقربوا إليهم، وينالوا من هباتهم وعطاياهم. ويقول القلقشندي: كان الشعراء جماعة كثيرة من أهل ديوان الإنشاء وغيره، وكان منهم أهل سنة لا يغلون في المديح، وشيعة يغلون فيه.
41
فكأن القلقشندي كان يرى أن جميع الشعراء الذين مدحوا الأئمة قد ألموا في شعرهم بالعقائد الفاطمية، ولكن بعضهم كان يسرف في ذلك، وبعضهم كان يقتصد.
وها هو ذا الكاتب ولي الدولة أحمد بن علي بن خيران صاحب ديوان الإنشاء في عهد الظاهر والمستنصر، ينشد شعرا يدل على أنه كان يتشيع، ولكنه كان يعارض الفاطميين في أمور، فهو يقول:
أنا شيعي لآل المصطفى
غير أني لا أرى سب السلف
أقصد الإجماع في الدين ومن
قصد الإجماع لم يخش التلف
لي بنفسي شغل عن كل من
للهوى قرظ قوما أو قذف
42
ومهما يكن من شيء فقد كان تأثير العقائد في الشعر الفاطمي، ولا سيما شعر المدح الذي قيل في الأئمة، واضحا جليا نراه في هذه النماذج من الشعر التي قدمناها، كما كان الشعراء من ألسنة الدعوة الدينية، فقد سار شعرهم في البلاد ورواه الناس، واستغله الدعاة في نشر المذهب، وفي عصرنا الحديث لا تزال بعض قصائد المؤيد في الدين تردد في المساجد، فطائفة البهرة في الهند تردد إلى الآن قصيدة المؤيد التي مطلعها:
سلام على العترة الطاهرة
وأهلا بأنوارها الزاهرة
43
عقب صلاة الفجر كل يوم، ويرتلون قول المؤيد:
أبا حسن يا نظير النذير
ولولا وجودك فات النظير
44
عقب صلاة التهجد كل يوم، وينشدون قصيدته التي مطلعها:
إلهي دعوتك سرا وجهرا
أيا مالك الملك خلقا وأمرا
45
عقب صلاة النوافل في رمضان، ولا سيما في ذكرى مقتل علي، ويرددون قول المؤيد أيضا:
هلال بدا من خلال الدجنة
إمام زمان من النار جنة
46
في أول كل شهر عربي. وهكذا يترنم طائفة البهرة بأشعار المؤيد شاعر المستنصر الفاطمي وداعي دعاته، على نحو ما يفعله الصوفية في ترتيل الأوراد.
على أن الشعر الذي يلم بالعقائد هو في أكثره شعر صنعة، والشاعر كان يجهد نفسه في أن يأتي في شعره ببعض العقائد، وأن يلائم بين هذه العقائد والألفاظ التي يختارها لشعره، ثم يوفق بين هذا كله وبين ضرورات الشعر، ذلك كله يدلنا على أن الشاعر كان يصنع شعره، وكان ينفق جهدا كبيرا في إنشاد الشعر؛ ولذلك نرى شعر العقائد أقرب إلى النظم منه إلى الشعر الجيد الجزل، ولا غرابة إذا رأينا في القصيدة الواحدة للشاعر الواحد لونين من الشعر؛ فالمقدمة التي كان يجعلها الشاعر لقصيدته لون، والأبيات التي بها العقائد لون آخر، يظهر في المقدمة فن الشاعر وطبيعته، وتظهر في الأبيات التي بها العقائد صناعة الشاعر وتلاعبه، وقل أن تجد شاعرا استطاع أن يوفق بين طبيعته وعقله، أو بين فنه وعلمه. ومع ذلك كله فإن هذا اللون من الشعر الذي كثر في العصر الفاطمي، ظهر مرة أخرى في شيء من القوة في شعر الصوفية، وهو الشعر الذي كاد يكون الشعر الرمزي في الأدب العربي - وسنرى ذلك في حديثنا عن شعر الصوفية في العصور التي تلت عصر الفاطميين - ويكفي أن أقول الآن: إن شعر الصوفية هو تطور شعر العقائد الفاطمية، وكذلك تأويلات الصوفية هي تطور لتأويل الباطن عند الإسماعيلية.
وأكثر الشعر الذي يتأثر بالعقائد كان في مدح الأئمة الفاطميين، على أن هناك شعراء مدحوا الأئمة، ولم يقربوا العقائد من قريب أو من بعيد، بل كان شعرهم في المدح صورة أخرى للمدح عند غيرهم من الشعراء، ولغير الفاطميين من الأمراء، فوصف بالجمال والكرم والشجاعة والسؤدد إلى غير ذلك من الصفات التي جعلها الشعراء للممدوحين، فمن ذلك قول الشاعر أبي الرقعمق في العزيز:
حي الخيام فإني
مغرى بأهل الخيام
بالراميات فؤادي
بصائبات السهام
لا عذب الله قلبي
إلا بطول الغرام
سقيا لدهر تولى
بشرتي وغرامي
كأنما ذلك العي
ش كان في الأحلام
لم يبق من ترتجيه
لحادث الأيام
إلا ابن أحمد ذو الطو
ل والأيادي الجسام
كفاه أغدق جودا
من واكفات الغمام
يلقى العفاة بوجه
مستبشر بسام
معظما ترتجيه
للنائبات العظام
يرمي الخطوب برأي
أمضى من الصمصام
قرم له عزمات
تفل حد الحسام
47
ففي هذه الأبيات لا تجد معنى باطنيا في حاجة إلى تأويل، ولا تجد مدحا في الإمام الفاطمي يختلف عن المدائح التي تقال لغير الفاطميين، فكل الممدوحين عند الشعراء يوصفون بالجود والشجاعة وأصالة الرأي إلى غير ذلك من الصفات التي اعتاد الشعراء أن يذكروها، وأن يصفوا بها الرجل اليوم، وغدا يصفون عدوه بالصفات نفسها.
وفي قصيدة أخرى مدح أبو الرقعمق الإمام العزيز، ولم يذكر شيئا في حاجة إلى تأويل باطني، فقد قال:
سيد شادت علاه له
في العلا آباؤه النجب
وله بيت يمد له
فوق مجرى الأنجم الطنب
حسبه بالمصطفى شرفا
وعلي حين ينتسب
رتبة في العز شامخة
قصرت عن مثلها الرتب
48
فكل هذه المعاني ليست باطنية، والشاعر قد ثبت نسب الإمام إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب، وهذه المعاني تصلح أن يمدح بها كل شريف علوي.
ومن الغريب أن نرى أكثر مدائح الأمير تميم في أخيه الإمام العزيز بالله هي هذه المدائح المكررة المألوفة، فهو يقول مثلا يهنئه بالعيد:
للعيد في كل عام
يوم يعيد سناه
وأنت في كل يوم
عيد يلوح علاه
ونعمة وسعود
للمعتفين وجاه
يا من تصل المعالي
إليه حين تراه
ومن يبر اليتامى
من كل خلق سواه
لو كان للفضل يوما
مني لكنت مناه
لأن منك استعار الز
مان حسن حلاه
فأنت شمس ضحاه
وأنت بدر دجاه
كفاك في كل سلم
سحاب صوب نداه
وحسن رأيك في الحر
ب سيفه وقناه
فأنت يمنى يديه
وأنت أمضى ظباه
فاسلم لسعدك يا من
يديم نحس عداه
49
فالأمير تميم يهنئ أخاه بيوم من أيام الأعياد الدينية، ولكنه مع ذلك كله لم يأت بمعنى واحد من المعاني الدينية التي كان الشعراء يقصدون إليها في مدح الفاطميين، ولو شاء الأمير تميم أن يأتي بالمعاني الباطنية في شعره لأتى بما يعجز عنه غيره من الشعراء؛ لأنه أقدر على معرفة أسرار العقائد الفاطمية، فهو ابن إمام وأخو إمام، بل كانت الإمامة ستئول إليه بعد أبيه، ومع ذلك كله فالشاعر هنا كان شاعرا فحسب، أراد أن يمدح الإمام فمدحه بهذه المعاني المألوفة. وفي قصيدة أخرى يقول تميم في مدح العزيز:
رأيت معدا كالحسين وإنما
تطول على المولود إن أنجب الجد
تعرب فهما مثلما ذاب رقة
وظرفا فما في وصف كنه له حد
به يشتفي السمع الأصم بلفظه
وتشفى برؤيا وجهه الأعين الرمد
كأن ضياء الشمس رداء نوره
وأهدى إليه قلبه الأسد الورد
وليس يبالي أن يروح ويغتدي
من المال صفرا حين يصبو له المجد
كأنك لا ترضى لنفسك خلة
إذا لم يكن في كل كف لها رفد
ولست تبالي أن تروح بعيشة
تضيق إذا كانت علاك هي الرغد
ولولا احتمال النفس كل مشقة
إذن لتساوى في العلا الحر والعبد
حجبت سنى شعري زمانا ولم يزل
لدي مصونا لا يبين ولا يبدو
ونزهته دهرا فلما هززتني
هززت حساما ليس ينبو له حد
كذا السيف لا تستخبر العين عنفه
إذا لم تفارقه الحمائل والغمد
فسار بمدحي فيك كل مهجر
وغنى به في السهل والوعر من يحدو
وصاغت له علياك حسنا وزينة
وصيغ لها من حلى ألفاظه برد
وليس لكل الناس يستحسن الثنا
كما ليس في كل الطلى يحسن العقد
وكم لك عندي من يد وصنيعة
أقر بها مني لك اللحم والجلد
فلا يعجب الحساد لي أن وددتني
فحق لمثلي من مثالك ذا الود
رأيتك يفني العذر حقدك كله
فترضى ولا يفني مواهبك القصد
ولا توعد الجاني إذا زل بل له
إذا اعتذر المعروف عندك والوعد
وتجحد ما تولي يداك من الندى
وإن كان عند المجتدى للندى جحد
ولو كفر العافون نعماك لم يكن
لطبعك منك الآن عن كرم رد
وتهتز للمدح اهتزاز مهند
تناوله يوم الوغى بطل نجد
عليك صلاة الله ما لاح بارق
وما حن مشتاق تداوله الفقد
50
وهكذا يمضي الأمير تميم في مديحه للإمام، فقل أن نجد الشاعر يصف أخاه بمصطلحات الفاطميين، حتى يخيل إلي أن الشاعر المؤيد في الدين الذي جاء بعد تميم بزهاء قرن من الزمان، لم يعجبه أن تكون مدائح تميم مثل مدائح غيره من الشعراء، فوضع المؤيد قصيدته التي مطلعها:
هلال بدا من خلال الدجنة
إمام زمان من النار جنة
وجعل هذه القصيدة جوابا لقصيدة تميم بن المعز التي مطلعها:
أسرب مها عن أم سرب جنة
حكيتهن ولستن هنة
وفي قصيدة المؤيد يعرض بتميم بقوله:
سينعت فضلك مني اللسان
إذا نعت الغير توريد وجنة
وغير مديحك لهو الحديث
ومدحك دين وفضل وفطنة
فخذها جوابا لنجل المعز «أسرب مها عن أم سرب جنة»
فكأن المؤيد ذهب إلى أن مديح تميم لا يليق بالإمام؛ لأن الأمير تميما مدح إمامه بالطريقة التي كان يمدح بها القدماء في الابتداء بالغزل، ونعت الممدوح بالجمال وورد وجنتيه إلى غير ذلك من الصفات، على حين أن المديح عند المؤيد هو من صميم الدين.
وأنشد علي بن منصور المعروف بابن القارح قصيدة على وزن منهوكة أبي نواس، يمدح فيها الحاكم بأمر الله، منها قوله:
إن الزمان قد نضر
بالحاكم الملك الأغر
في كفه عضب ذكر
فقد عدا على القصر
من غره على الغرر
يمضي كما يمضي القدر
في سرعة الطرف نظر
أو السحاب المنهمر
بادر إنفاق البدر
بدر إذا لاح بهر
51
وقال محمد بن القاسم عاصم المعروف بصناجة الدوح في مدح الحاكم، وقد حدثت زلزلة في مصر:
بالحاكم العدل أضحى الدين معتليا
نجل العلا وسليل السادة الصلحا
ما زلزلت مصر من كيد يراد بها
وإنما رقصت من عدله فرحا
52
فأنت تقرأ هذه القصائد فلا تجد معنى من المعاني الباطنية، ولا تجد أثرا لصفات العقل الأول التي اعتاد شعراء الفاطميين أن يمدحوا بها أئمتهم.
إذا نحن أمام لونين من المديح الذي قيل في الأئمة؛ اللون الأول: هو ذلك الشعر الذي مدح فيه الشعراء الأئمة بصفات هي من خصائص الفاطميين، وفي هذا الشعر يظهر أثر الفاطميين. اللون الثاني من المديح: فهو ذلك المديح الذي اعتاد الشعراء أن ينشدوه في الملوك والأمراء، وهذا اللون لا يظهر فيه إلا فن الشاعر فقط، وقل أن نجد فيه أثرا للبيئة التي تحيط بالشاعر إلا من ناحية واحدة، وهي الظروف التي أنشد فيها هذا الشعر، ولذلك نرى الشعراء الذين وفدوا على مصر ومدحوا الأئمة الفاطميين ينشدون شعرهم في مصر كما كانوا ينشدونه في أي بلد آخر من البلاد الإسلامية.
وكان الشعراء ينشدون الأئمة مدائحهم في المواسم والأعياد التي كثرت في العصر الفاطمي، وكثيرا ما كانت هذه الأيام، وكثيرا ما كانت المناسبات التي ينشد فيها الشعراء مدائحهم؛ ففي يوم فتح الخليج مثلا كان صاحب الباب يستأذن على حضور الشعراء للخدمة، فيؤمر بتقديمهم واحدا بعد واحد، وكان لهم منازل على مقدار أقدارهم، فالواحد يتقدم الواحد بخطوة في الإنشاد،
53
ومما أنشد في هذه المناسبة قول ابن جبر:
فتح الخليج فسال منه الماء
وعلت عليه الراية البيضاء
فصفت موارده لنا فكأنه
كف الإمام فعرفها الإعطاء
54
ومن الطريف أن المؤرخين يذكرون أن المصريين بلغوا في ذلك الوقت درجة كبيرة من دقة الحس وتذوق الشعر ونقده، فإنهم لما سمعوا هذه الأبيات انتقدوه في قوله: «فسال منه الماء» وقالوا: أي شيء يخرج من البحر غير الماء؟ وأن الشاعر أضاع ما قاله بعد ذلك المطلع.
وفي هذه المناسبة أيضا أنشد مسعود الدولة، وكان مقدم الشعراء في عصره:
ما زال هذا السد ينظر فتحه
إذن الخليفة بالنوال المرسل
حتى إذا برز الإمام بوجهه
وسطا عليه كل حامل معول
فجرى كأن قد ديف فيه عنبر
يعلوه كافور بطيب المندل
ولكن هذه القصيدة أيضا لم تعجب السامعين؛ إذ انتقدوا عليه أيضا قوله في البيت الثاني وقالوا: «أهلك وجه الإمام بسطوات المعاول عليه؟!»
55
وأنشد الشاعر أبو العباس أحمد في مناسبة فتح الخليج قوله:
لمن اجتماع الخلق في ذا المشهد
للنيل أم لك يابن بنت محمد
أم لاجتماعكما معا في موطن
وافيتما فيه لأصدق موعد
ليس اجتماع الخلق إلا للذي
حاز الفضيلة منكما في المولد
شكروا لكل منكما لوفائه
بالسعي لكن ميلهم للأجود
ولمن إذا اعتمد الوفاء ففعله
بالقصد ليس له كمن لم يقصد
هذا يفي ويعود ينقض تارة
وتسد أنت النقص إن لم يزدد
وقواه إن بلغ النهاية قصرت
وإذا بلغت إلى نهاية تبتدي
فالآن قد ضاقت مسالك سعيه
بالسد فهو به بحال مقيد
فإذا أردت صلاحه فافتح له
ليرى جنابا مخصبا وثرى ندي
وأمر بفصد العرق منه فما شكا
جسم فصح الجسم إن لم يفصد
واسلم إلى أمثال يومك هكذا
في عيش مغبوط وعز مخلد
56
فشعر المناسبات كثير جدا في العصر الفاطمي، حتى إن الخليفة الحافظ مل طول الشعر وكثرته، فأمر أن يختصر الشعراء مدائحهم، فلم يعجب ذلك الشعراء، فقال أبو العباس أحمد بن مفرج الشاعر يخاطب الخليفة ويمدحه:
أمرتنا أن نصوغ المدح مختصرا
لم لا أمرت ندى كفيك يختصر
والله لا بد أن تجري سوابقنا
حتى يبين لها في مدحك الأثر
57
فكان الشعر ينشد في مواسمهم وأعيادهم وحفلاتهم التي كانت تقام لأي حادثة صغرت أم كبرت، فإذا تم عمل شمسية للبيت الحرام مثلا أنشد الشعراء، من ذلك قول الأمير تميم، وقد تم عمل هذه الشمسية في عهد المعز لدين الله:
إليك مدت رقابها العرب
والملك ماء عليك منسكب
وأنت في دوحة النبوة لا
تألف إلا عداتك الريب
ألست من يرهب الإله ولا
يصده عن حدوده سبب
وكلما قال بدء عزمته
بمذهب لم يخالف العقب
فهكذا يصدع الملوك إذا
صالت، وتنفي الضلالة الشهب
ويزدهي الدين بالمعز لدين الله
والمرهفات واليلب
وكل رحراحة عزائمه دلا
صها، والرماح والقضب
وهذه الدولة التي ذخرت
فلم يسعها الزمان والحقب
يا حبذا دهرك الزلال إذا
أمر دهر، وعصرك الشنب
وحبذا الشمسة التي نصبت
يقصر عنها المديح والخطب
قايست العيد وهي حلته
وأخفت اليوم وهو منتصب
ينهب ياقوتها العيون فما
يكمل الأمر حيث ينتهب
دوائر أحدقت بغرتها
أهلة لا تحفها السحب
كأنما درها وجوهرها
نجوم ليل سماؤها ذهب
نظمتها للهدى ولبته
وإن سخطن الكواعب العرب
في كبد المسجد الحرام بها
شوق، وللبيت نحوها طرب
فلا تمسي بأهله زمن
إلا بما تشتهي وترتقب
عليك صلى الإله ما طلعت
شمس، وما انهل عارض لجب
58
فبالرغم من أن المناسبة التي قيلت فيها هذه القصيدة هي مناسبة دينية، وأن الممدوح إمام المذهب، لم يشأ الأمير تميم أن يلم بشيء من العقائد الفاطمية في هذه القصيدة، ولكنه أنشد الشعر للمناسبة فقط، فإذا تصفحنا ديوان الأمير تميم نجد هذا الشاعر أنشد أكثر قصائده في مدح أبيه المعز أو أخيه العزيز لمناسبات مختلفة، فإذا فصد الإمام مدحه الشاعر، وإذا شكا من مرض مدحه، وإذا سافر مدحه، وإذ أهداه شيئا مدحه، وذلك كله بجانب القصائد التي قيلت بمناسبة الأعياد.
على أن من المصريين من كان ينظر إلى الأئمة الفاطميين بعين الريبة، فلم يستجب لدعوتهم وانتسابهم إلى الرسول الكريم، وظل محافظا على مذهبه معترفا بخلافة العباسيين، وظهر هذا في الشعر المصري، فقد قيل: إن العزيز بالله وجد بطاقة على المنبر فيها:
إنا سمعنا نسبا منكرا
يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما تدعي صادقا
فاذكر أبا بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته
فانسب لنا نفسك كالطالع
أو فدع الأنساب مستورة
وادخل بنا في النسب الواسع
فإن أنساب بني هاشم
يقصر عنها طمع الطامع
59
وقول الآخر في الحاكم، وقيل بل في العزيز:
بالظلم والجور قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم غيب
فقل لنا كاتب البطاقة
وقد رأينا الشاعر الحسن بن بشر الدمشقي، وقد هجا رجال القصر وعرض بالعزيز بالله، وسنرى كيف كان المصريون يهجون النصارى واليهود ممن كان إليهم بعض الدواوين في العصر الفاطمي، فالفاطميون بالرغم من اتخاذهم الدين وسيلة لتوطيد سلطانهم ونفوذهم وادعائهم العصمة للأئمة، فإن بعض الشعراء لم يأبه بذلك، وعرض بهذه العقائد وسخر بهؤلاء الأئمة.
الأمير تميم بن المعز
والآن نتحدث عن الأمير تميم الشاعر الذي ذكرناه مرارا، وسنذكره مرارا؛ فهو الأمير تميم بن المعز لدين الله الفاطمي، وهو الشاعر الذي يقرن دائما بالشاعر ابن المعتز العباسي، لما بينهما من تشابه، فكلا الشاعرين من بيت خلافة، وكلا الشاعرين من شعراء البديع، وكلاهما ممن أكثر من الوصف والمجون، وكلاهما دافع عن عقيدته وحق ذويه في الخلافة، فهما متشابهان في أمور كثيرة جعلت مؤرخي الأدب العربي يقرنون بينهما دائما.
ولد الأمير تميم بالمغرب، وفيها نشأ مع إخوته عبد الله ونزار وعقيل، وكان تميم أكبرهم سنا، فلم يشك الناس في أن ولاية العهد ستكون له، ولكن المعز لدين الله صرفها عنه إلى أخيه عبد الله، ولعل السبب الذي من أجله صرف تميم عن إمامة الفاطميين، هو ما عرف عن تميم من مجون وفجور، فكان يشاع عنه وعن سيرته السيئة ما حدا بأمير صقلية أحمد بن الحسن الكلابي أن يستأذن المعز في أن يقتل أحد أبنائه؛ لأنه كان يساير الأمير تميما، ويشاركه في لهوه وفسقه. ويحدثنا صاحب سيرة الأستاذ جوذر أن المعز أرسل إلى أمير صقلية رد خطابه، وفي هذا الخطاب ألم المعز وغضبه لما عرف عن تميم من فسق وفجور.
60
ولما فتحت مصر انتقل الأمير تميم إليها مع أبيه وباقي أسرته، وفي مصر توفي عبد الله (ولي العهد)، فجعل المعز ولاية عهده إلى ابنه الثالث نزار الذي لقب بالعزيز، ولعل هذا هو السر فيما نراه من حزن دفين ظهر في شعر الأمير تميم؛ إذ كان يمدح أخاه الصغير العزيز بالله، ولكنه لم يستطع أن يخفي ما في نفسه من آلام وشعور بحنق وغيظ، كان يحاول إظهار تجلده وصبره، ولكن عاطفته في الشعر هي عاطفة القانط الحاقد، فهو يقول مثلا من قصيدة في مدح العزيز:
تهون علي صغار الأمور
ويصغر عني جميع الورى
أنا ابن المعز سليل العلا
وصنو العزيز إمام الهدى
وما احتجت قط إلى ناصر
ولا رحت يوما ضعيف القوى
ولم أستشر في ملم يئوب
مشيرا أرى منه ما لا أرى
ولست بوان إذا ما أمر
زمان، ولا فرح إن حلا
61
فهذه الأبيات تظهر فيها قوة الفخر بنفسه، وبنسبته للأئمة الفاطميين، وعدم مبالاته بصروف الدهر، ولكن يستشف منها دخيلة نفس الشاعر، تلك النفس الناقمة الحاقدة، ويقول يفتخر أيضا:
ليس من ساد عن ورانة جد
أو لحظ من الحظوظ مباح
يستحق الثنا ويستوجب الشك
ر ويحوي مدائح المداح
إنما السيد المعلى المفدى
من علا للعلا صدور الرماح
ورمى ليل كل خطب بهيم
بذكاء أضوا من المصباح
واقتنى العز بالظبا والعوالي
واشترى الحمد بالثنا والسماح
فكذا تنتمي المكارم والمج
د ويستبعد العدو الملاحي
لا كمن قد جرى برجل سواه
وسما طائرا بغير جناح
لا ألفت العلا ولا ألفتني
إن توسمت دونها بوشاح
أو ترفهت أو تشاغلت عنها
بأباطيل قينة أو براح
لا ولا أبيض لي سنى المجد إن لم
أستجد غسله بنزف الجراح
وألاقي العداة عنه بعزم
علوي بفل حد الصفاح
وببطش يفري الجماجم والأع
ناق فري المدى لحوم الأضاحي
أنا فرد النهى ورب المعالي
وحسام الكفاح يوم الكفاح
أنا مفتاح قفل كل نوال
يوم يغدو الندى بلا مفتاح
أنا كالجد في الأمور إذا ما
كان عيشي فيهن مثل المزاح
لا كراص من العلا بادعاء
وبعرض مجرح مستباح
فسل المجد عن صباحي وليلي
ومقبلي وغدوتي ورواحي
هل يسر العلا مقالي وفعلي
وارتياحي لكسبها واقتراحي
هاكها كالصهيل في حلبة الفخر
إذا كان غيرها كالنباح
62
ويخيل إلي أن بعض الوشاة سعوا بينه وبين أخيه العزيز، مما جعل العزيز يغضب على الشاعر، وجعل الشاعر يتنصل من وشاية الواشين، فأخذ الشاعر يتلمس الأعذار، ويقدم الاعتذار، ويذكر الإمام بأنهما شقيقان، وأن على الإمام ألا يستمع إلى أمثال هؤلاء الوشاة. فأكثر قصائد المدح التي في الديوان تتحدث عن هؤلاء الذين يسعون بالفساد بين الملك الصغير وأخيه الأمير الكبير. ومن شعر الديوان نستطيع أن نعرف أن الأمير نفي مرة إلى عين شمس، ونفي مرة أخرى إلى الرملة بفلسطين، فكان يرسل إلى إخوانه وأصدقائه مقطوعات من الشعر يبثهم فيها شوقه إليهم، ويشكو غربته التي اضطر إليها اضطرارا. فقد أنشد في عين شمس:
أما كفى الحب شوق موجع وأسى
مبرح يقطع الأحشاء والكبدا
حتى رمى البين بالتفريق ألفتنا
وحل من وصلنا ما كان قد عقدا
فآه من لوعة مشبوبة وجوى
في الصدر لم يبق لي صبرا ولا جلدا
قالت وعبرتها مخلوطة بدم
تجري وأنفاسها مرفوعة صعدا
لا تطلب النطق مني بالسلام فما
أبقى فراقك لي روحا ولا جسدا
فظلت ملتثما من صحن وجنتها
وردا، ومرتشفا من ثغرها بردا
وطاويا في الحشا منها رسيس هوى
لا أحسب الدهر يبلى عهده أبدا
وأنشد وهو في الرملة، وأرسل بها لي بعض أهله في القاهرة:
أنتم في المنام حلمي وأنتم
في انتباهي سؤلي وأنتم مرادي
كل عضو مني إليكم مشوق
زائد شوقه على الأبعاد
لم أفارقكم ولكن جسمي
بان عنكم وحل فيكم فؤادي
فهنيئا لكم وفائي عليكم
وهنيئا للعين طول السهاد
كلما حثني اشتياقي إليكم
قلت لبيك أنت نعم المنادي
وكان الأمير تميم في مصر يشارك المصريين لهوهم، ويخرج إلى متنزهاتها، ويعبث في أديرتها، وأنشد في ذلك كله شعرا - سنتحدث عنه في فصل آخر من هذا الكتاب - وشعره إن دل على شيء فإنما يدل على رقة شعوره، ورقة العاطفة وصدقها. وتوفي هذا الشاعر سنة 374ه.
الفصل الثالث
الشعر والوزراء
كان العزيز بالله أول خليفة فاطمي اتخذ له وزيرا، وكان الوزير يعقوب بن كلس أول وزير في الدولة الفاطمية، ففي رمضان سنة ثمان وستين وثلاثمائة لقبه العزيز بالوزير الأجل، وأمر ألا يخاطبه أحد ولا يكاتبه إلا بهذا اللقب، فعظمت مكانته حتى كتب اسمه على الطرز وفي الكتب.
1
فكان هذا المركز الخطير الذي شغله ابن كلس في هذه الدولة الفتية إذ ذاك من الأسباب التي جعلت الشعراء يسعون إليه وينشدون الشعر في مدحه، وقد رأينا من قبل كيف كان ابن كلس أحد العلماء المبرزين، وكيف كان يلقي علوم الدعوة وغيرها على الناس، وكيف كان يؤم مجلسه عدد من القضاة والفقهاء والشعراء ورجال الدولة يستمعون إلى دروسه، ويتناقشون بين يديه، أضف إلى ذلك كله أنه كان كريم اليد يعطي ويجزل العطاء، فلا غرو أن كان الشعراء يلتفون حوله، ويكثرون من مدحه. مدحه أبو الرقعمق، وعبد الله بن محمد بن أبي الجوع، والأمير تميم بن المعز، وكثير غيرهم من شعراء عصره الذين فقد شعرهم وضاعت أسماؤهم مع ما ضاع من الأدب الفاطمي.
وقد ذكرنا أن الشعراء الذين رثوه بلغوا مائة شاعر، فمن هم هؤلاء الشعراء؟ وأين شعرهم؟ الجواب عن ذلك أولا: عند رجال الدولة الأيوبية الذين عملوا على محو كل أثر علمي أو أدبي للفاطميين لخلاف مذهب الدولتين، وثانيا: عند المؤرخين والكتاب من أهل المشرق الذين كانوا يدينون بالطاعة للعباسيين، فأبوا أن يرووا شيئا عن شعراء مصر الفاطمية، وثالثا: عند الأتراك الذين دان لهم العالم الإسلامي مدة طويلة، فأطاحوا بحضارتين من أرقى الحضارات التي شاهدها العالم، وشاهدها تاريخ الفكر البشري، وهما: الحضارة البيزنطية والحضارة الإسلامية، ولم يستطع الأتراك أن يقيموا حضارة أخرى تقوم مقام هاتين الحضارتين. وكان الأتراك شديدي التعصب للمذهب السني، فأنزلوا نقمتهم على كل ما هو شيعي، أضف إلى ذلك كله المجاعات الكثيرة والاضطرابات العديدة التي سببت محنا عديدة لمصر، ووصفها المقريزي في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، فقد كانت من أشد العوامل في ضياع كتب كثيرة من كتب علماء الفاطميين ودواوين شعر شعرائهم، وهكذا تضافرت قوى عديدة لإبادة العلوم والآداب في العصر الفاطمي، حتى إن الذي بقي من هذا كله أصبح ضئيلا تافها بالنسبة لما كان في عهدهم الزاهر. فقد بقي لنا جزء من قصيدة لأبي الرقعمق في مدح ابن كلس وهي:
لم يدع العزيز في سائر الأر
ض عدوا إلا وأخمد ناره
فلهذا اجتباه دوه سواه
واصطفاه لنفسه واختاره
لم تشيد له الوزارة مجدا
لا ولا قيل رفعت مقداره
بل كساها وقد تخرمها الده
ر جلالا وبهجة ونضاره
كل يوم له على نوب الده
ر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يد شأنها الفرار من البخ
ل وفي حومة الوغى كراره
هي فلت عن العزيز عداه
بالعطايا وكثرت أنصاره
هكذا كل فاضل يده تم
سي وتضحى نفاعة ضراره
فاستجره فليس يأمن إلا
من تفيا بظله واستجاره
فإذا ما رأيته مطرقا يع
مل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئا
في ضمير الغيوب إلا أثاره
لا ولا موضعا من الأرض إلا
كان بالرأي مدركا أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه
خوفه من زمانه وحذاره
2
فالشاعر في هذه الأبيات يمدح الوزير، ولكنه كان يذكر الإمام الفاطمي كلما وسعه فنه ومواهبه في الشعر، فهو لم يستطع أن يغفل الإمام من قصائده، وذلك لقوة الإمام والخلافة الفاطمية إذ ذاك، والوزير نفسه لم يكن ليصدر أمرا قبل أن يطالع الإمام به ويستأذنه فيه، وعرف الشعراء ذلك فكانوا يتقربون للوزير حتى يتقربوا به للإمام، فمدح الوزير كان وسيلة لغايتهم وهي الاتصال بالإمام، هكذا كان أمر الشعراء مع جميع الوزراء في القسم الأول من العصر الفاطمي، وهو القسم الذي كان الأئمة فيه يسيرون مرافق البلاد، ويختارون الوزراء لمساعدتهم في تنفيذ ما كانوا يصدرونه من أحكام وقوانين، وكان أكثر وزراء ذلك العصر من رجال القلم أمثال الجرجرائي واليازوري وابن المغربي والبابلي وغيرهم من الكتاب. ليس معنى ذلك أن الشعراء أفنوا أنفسهم في الوزراء وفي مدحهم، فمن الشعراء من هجا الوزراء كالذي رأيناه من هجاء ابن كلس.
وهجاه أبو محمد القاسم الرسي بقوله:
توق معز الدين شؤم ابن كلس
ولا تقبلن منه مقال مدلس
فإنا أردناه لكافور شربة
فزاد على تقريرنا ألف مجلس
3
وكذلك روي أن الشاعر جاسوس الفلك هجا الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وزير الظاهر لإعزاز دين الله، وكان هذا الوزير أقطع اليدين بسبب خيانة ظهرت عليه أيام الحاكم، فلما ولي الوزارة استعمل العفاف والأمانة، ولكن ذلك لم يمنع الشاعر من أن يقول فيه:
يا أحمقا اسمع وقل
ودع الرقاعة والتحامق
أأقمت نفسك في الثقا
ت، وهبك فيما قلت صادق
فمن الأمانة والتقى
قطعت يداك من المرافق
4
وقال الشاعر الحسن بن خاقان في هجاء الوزير الفلاحي وزير المستنصر:
حجاب وإعجاب وفرط تصلف
ومد يد نحو العلا متكلف
فلو كان هذا من وراء كفاية
عذرنا ولكن من وراء تخلف
5
ونحن نعلم أن الفلاحي كان يهوديا وأسلم، وأن أبا سعد التستري مدبر الدولة إذ ذاك كان يهوديا، ولذلك قال أحد الشعراء:
يهود هذا الزمان قد بلغوا
غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم
ومنهم المستشار والملك
يأهل مصر إني نصحت لكم
تهودوا قد تهود الفلك
6
ولكن بعد أن ضعفت الخلافة الفاطمية في عهد المستنصر، وحلت بالبلاد نكبة الشدة العظمى، اضطر المستنصر إلى أن يستعين برجال السيف، وأن يتخذ منهم وزراء له، وأول هؤلاء الوزراء السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو نجم بدر الجمالي، تولى هذه المراتب سنة 466ه، ولكنه لم يلبس خلعة الوزارة إلا سنة 468ه، وصار صاحب الكلمة النافذة في البلاد التي كانت خاضعة للفاطميين، وأصبح الإمام الفاطمي شبه أسير في يدي الوزير، وظل بدر الجمالي في منصبه إلى أن توفي سنة 487ه قبل المستنصر الفاطمي بأشهر، فتولى الوزارة بعده ابنه القاسم شاهنشاه الأفضل، وفي عهده بلغت قوة الوزارة وسلطانها أعلى الذرى، حتى إنه بعد وفاة المستنصر سنة 487ه لم يعبأ بعقيدة من أهم عقائد الفاطميين في الإمامة، هي النص على من يلي الإمامة؛ إذ الإمام لا بد أن ينص قبل وفاته على خليفته، وأن يبلغ ذلك إلى حجته وحجج الجزائر، ولكن الأفضل بن بدر الجمالي أبى أن يجعل الإمامة إلى صاحب النص، وهو نزار بن المستنصر، وجعلها إلى المستعلي بالله وهو ابن أخته، وكان صغير السن؛ وبذلك انقسمت الدعوة إلى فرعيها: النزارية والمستعلية، وكان هذا الانقسام من أهم الأسباب التي أدت إلى ضعف الدولة الفاطمية، والخلافة الفاطمية، وأضعفت هيبة الإمام بين الناس، وشك في إمامته بعض الأتباع والأشياع. ومهما يكن من شيء فقد أصبحت الوزارة هي القوة المحركة للبلاد كلها، فاتجه الشعراء إلى الوزراء يمدحونهم، ويأخذون هباتهم وصلاتهم، وتشبه الوزراء في بذخهم بالأئمة، فأسرفوا في كل ما يجلب لهم الشهرة والسرور معا، وأحاطوا أنفسهم بهالة من أبهة الملك وألقابه؟ واتخذوا لأنفسهم حاشية هي أشبه شيء بحاشية الملوك والسلاطين، وعقدوا مجالس للشعراء على نحو ما كان يفعله خلفاء بني العباس والأئمة الفاطميون إبان قوتهم وسلطانهم، فانتقل أكثر الشعراء من مدح الأئمة إلى مدح الوزراء.
وكان من الوزراء من ينشد الشعر، فالأفضل بن بدر الجمالي كان شاعرا، ومن شعره قوله في غلامه تاج المعالي:
أقضيب يميس أم هو قد
وشقيق يلوح أم هو خد
أنا مثل الهلال سقما عليه
وهو كالبدر حين وافاه سعد
7
ومن قوله أيضا في جارية له أمر بضرب عنقها لأنه رآها تتطلع إلى الطريق، وكان شديد الغيرة على نسائه، فلما جيء له برأسها قال:
نظرت إليها وهي تنظر ظلها
فنزهت نفسي عن شريك مقارب
أغار على أعطافها من ثيابها
حذارا ومن مسك لها في الذوائب
ولي غيرة لو كان للبدر مثلها
لما كان يرضى باجتماع الكواكب
8
فهذه الأبيات التي بقيت لنا من شعر الأفضل تدل على رقة شعور، وقدرة على التعبير عما يخالج النفس من عاطفة شديدة.
وكان الملك الصالح طلائع بن رزيك جيد الشعر، وكان يثيب على شعر الشعراء
9
وكان شاور وولده الكامل وضرغام ممن ينشدون الشعر - وسنتحدث عنهم جميعا بعد قليل - فهؤلاء الوزراء الشعراء استطاعوا أن يكونوا لأنفسهم حاشية من الشعراء هي أشبه بحاشية الأئمة الفاطميين إبان سلطانهم الفعلي، فكل الشعراء من مصريين ووافدين اتصلوا بهم ومدحوهم.
فممن وفد على مصر: الشاعر علقمة بن عبد الرزاق العليمي، وفد على بدر الجمالي، ويقول علقمة: قصدت بدر الجمالي فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه قد طال مقامهم، فلم يصلوا إليه، فبينما أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرجت في إثره، وأقمت معه حتى رجع من صيده، فلما قاربني وقفت على تل من الرمل، وأومأت برقعة في يدي، وأنشدت:
نحن التجار وهذه أعلاقنا
در، وجود يمينك المبتاع
قلت فتشها بسمعك إنها
هي جوهر تختاره الأسماع
كسد علينا بالشآم وكلما
قل النفاق تعطل الصناع
فأتاك يحملها إليك تجارها
ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوها ببابك والرجا
من دونك الثمار والبياع
فوهبت ما لم يعطه في دهره
هرم ولا كعب ولا القعقاع
يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى
ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا
10 (1) الأفضل وشعراؤه
ويعد عهد الأفضل بن بدر الجمالي من أزهى العصور الأدبية التي شاهدتها مصر الإسلامية، فقد اتصل به عدد كبير من الشعراء، نذكر منهم: مسعود الدولة، وأبا علي حسن بن زبيد، والقاضي ابن النضر المعروف بالأديب، والناجي المصري، وسالم بن مفرج بن أبي حصينة، ومحمود بن ناصر الإسكندراني، ومروان بن عثمان اللكي، وابن البرقي، وظافر الحداد، وأمية بن أبي الصلت ... وغيرهم من شعراء الخريدة، ومن الشعراء الذين ذكرهم أمية في رسالته الموسومة «بالرسالة المصرية»، وقد ذكرنا كيف كان الأفضل يجزل العطاء للشعراء، ويجلس إليهم يستمع إلى أشعارهم وروايتهم للشعر، ولعل «الرسالة المصرية» من أقوم الكتب التي تعطينا صورة صحيحة عن تلك الحياة الأدبية التي كانت بمصر في عهد الأفضل، ومؤلف هذه الرسالة هو أمية بن أبي الصلت.
أمية بن أبي الصلت ورسالته المصرية
لم يكن أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت مصريا، إنما هو أندلسي وفد على مصر في عهد الآمر بأحكام الله، واستطاع أمية أن يتصل بالأفضل، وكان سبب هذه الصلة هو الأمير مختار تاج المعالي - وكان في منزلة قريبة جدا من الوزير - فاتصل به أمية مادحا وقربه الأمير مختار، وكان أمية يخدمه أيضا بصناعتي الطب والنجوم، فأنس به تاج المعالي كما آنس منه العلم والفضل، وكان جمهور المثقفين من المصريين قد التفوا حول أمية يأخذون عنه العلم والآداب، فقدمه تاج المعالي إلى الوزير وأثنى عليه، وذكر للوزير ما سمعه من أعيان العلماء، وإجماعهم على تقدمه وتميزه عن كتاب وقته، واشتدت صلة أمية بالوزير، ولكن الحساد من الكتاب المقربين للوزير أبوا أن تستمر علاقة أمية بالأفضل، فأخذوا يتحينون الفرص للإيقاع بأمية حتى واتتهم الفرصة؛ ذلك أن الوزير قلب ظهر المجن لتاج المعالي واعتقله، فوجد الكتاب السبيل للنيل من أمية، فوشوا به لدى الأفضل؛ فحبسه بالإسكندرية مدة ثلاث سنين وشهر، إلى أن شفع فيه بعض وجوه المصريين، فأطلق سراحه، وسار إلى المغرب، واتصل بالمرتضى أبي طاهر يحيى بن تميم صاحب القيروان، وحظي عنده وحسن حاله إلى أن توفي بالمهدية سنة 529.
11
استطاع أمية أثناء إقامته بمصر أن يدرس مصر والمصريين، وأن يعرف أحوالهم وطبقاتهم وطبائعهم، وأن يتحدث عن ذلك كله في الرسالة التي عرفت «بالرسالة المصرية»، وصف فيها مصر جغرافيا، وعرض لبعض المدن المصرية، وتحدث عن النيل ومنابعه وزيادته ونقصانه، وروى شيئا مما قيل في النيل من شعر، وما أنشد في مهرجان الخليج مما قاله القدماء ومعاصروه، فنستطيع أن نعد هذه الرسالة القيمة من الكتب القليلة الممتعة التي وصلتنا عن هذا العصر، كما أنها مجموعة لأشعار بعض من اتصل بهم أمية في مصر أو من حفظ لهم شيئا من الشعر من المصريين. أضف إلى ذلك كله أن أمية ذكر في هذه الرسالة بعض علماء أهل مصر في ذلك الوقت، ولا سيما ممن كانوا يتعاطون صناعتي الطب والتنجيم، يقول أمية عن المصريين: والمصريون أكثر الناس استعمالا لأحكام النجوم، وتصديقا لها، وتعويلا عليها، وشغفا بها، وسكونا إليها، حتى إنه بلغ من زيادة أمرهم في ذلك إلى أنه لا يتحرك حركة من حركاتهم الجزئية التي لا تحصر فنونها، ولا تحصل أجزاؤها وأنحاؤها، ولا تضبط جهاتها، ولا تقيد غاياتها، ولا تعدد ضروبها إلا في طوالع يختارونها.
12
ويقول عن أطباء مصر في ذلك العصر: «وأكثر أطبائها المزبرقين نصارى أو يهود.» وفي ذلك يقول بعضهم:
أقول للمسلمين طرا
تبغون في طبها اشتهارا
هيهات حاولتم محالا
كونوا إذن هودا أو نصارى
13
ويحدثنا عن بعض الشعراء الذين كانوا بعيدين عن الحضرة، فقال عن القاضي علي أبي الحسن بن النضر، المعروف بين أهالي الصعيد الأعلى بالأديب: ذو الأدب الجم، والعلم الواسع، والفضل البارع، وله في سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى، والرتبة الأولى، وقد كان ورد الفسطاط يلتمس من وزيرها الأفضل تصرفا وخدمة، فخاب فيه أمله، وضاع رجاؤه، فقال يعاتب الزمان:
بين التعزز والتذلل مسلك
بادي المنار لعين كل موفق
فاسلكه في كل المواطن واجتنب
كبر الأبي وذلة المتملق
ولقد جلبت من البضائع خيرها
لأجل مختار وأكرم متقي
ورجوت خفض العيش تحت ظلاله
لا بد أن نفقت وإن لم تنفق
ظنا شبيها باليقين ولم أقل
إن الزمان بما سقاني مشرقي
ولعائبي بالحرص قول بين
لو كنت شمت سحابة لم تطرق
ما ارتدت إلا خير مرتاد ولم
أصل الرجاء بحبل غير الأوثق
وإذا أبى الرزق القضاء على امرئ
لم تغن فيه حيلة المسترزق
ولعمرو عادية الخطوب وإن رمت
حظي بسهم تشتت وتفرق
14
ويذكر شعراء آخرين من أهل الصعيد مثل أبي شرف الدجرجاوي المنسوب إلى قرية دجرجا بالصعيد، والشاعر أبي الحسن علي بن البرقي من أهل قوص وغيرهما، فالسيرة المصرية مرآة صادقة للحياة الأدبية في مصر أوائل القرن السادس للهجرة.
كان أمية أستاذا لبعض المصريين، وذكر ياقوت أن من تلاميذ أمية الذين تلقوا عنه العلم ورووا شعره: أبو عبد الله الشامي الذي ظل مخلصا لأستاذه، وكان يتردد عليه إبان نكبته وسجنه. وينقل ياقوت عن أبي عبد الله الشامي: وكنت أختلف إليه إذ ذاك، فدخلت إليه يوما فصادفته مطرقا، فلم يرفع رأسه إلي على العادة، فسألته فلم يرد الجواب، ثم قال بعد ساعة: اكتب. وأنشدني:
وكان لي سبب قد كنت أحسبني
أحظى به، فإذا دائي هو السبب
فما مقام أظفاري سوى قلمي
ولا كتائب أعدائي سوى كتبي
فكتبت عنه رسالته فقال: إن فلانا تلميذي قد طعن في عند الأمير الأفضل.
15
ويرى ياقوت أيضا أن الشيخ سليمان بن الفياض الإسكندراني كان ممن أخذ العلم عن أمية وروى عنه.
16
وكان لأمية عدد من الأصدقاء في طليعتهم ظافر الحداد الشاعر الذي صادقه بالإسكندرية، وحزن لسفره وبعده عن مصر، فأرسل إليه قصيدة يشكو فراق الصديقين، ويذكر أمية بالأيام التي قضياها معا، والقصيدة هي:
ألا هل لدائي من فراقك إفراق
هو السم لكن في لقائك ترياق
فيا شمس فضل غربت، ولضوئها
على كل قطر بالمشارق إشراق
سقى العهد عهدا منك عمر عهده
بقلبي عهد لا يضيع وميثاق
يجدده ذكر يطيب كما شدت
وريقاء كنتها من الأيك أوراق
لك الخلق الجزل الرفيع طرازه
وأكثر أخلاق الخليفة إخلاق
لقد ضاءلتني يا أبا الصلت مذ نأت
ديارك عن داري هموم وأشواق
إذا عزني إطفاؤها بمدامعي
جرت ولها ما بين جفني إحراق
سحائب يحدوها زفير يجره
خلال التراقي والترائب تشهاق
وقد كان لي كنز من الصبر واسع
فلي منه في صعب النوائب إنفاق
وسيف إذا جردت بعض غرارة
لجيش خطوب صدها منه إرهاق
إلى أن أبان البين أن غراره
غرور، وأن الكنز فقر وإملاق
أخي، سيدي، مولاي دعوة من صفا
وليس له من رق ودك إعتاق
لئن بعدت ما بيننا شقة النوى
ومطرد طامي الغوارب خفاق
وبيد إذا كلفتها العيس قصرت
طلائح أنضاها زميل وإعناق
فعندي لك الود الملازم مثل ما
يلازم أعناق الحمائم أطواق
ألا هل لأيامي بك الغر عودة
كعهدي، وثغر الثغر أشنب براق
ليالي يدنينا جواب أعادنا
من القرب كالصنوين ضمهما ساق
وما بيننا من حسن لفظك روضة
بها حسدت منا المسامع أحداق
حديث، حديث كلما طال، موجز
مفيد إلى قلب المحدث سباق
يرجيه بحر من علومك زاخر
له كل بحر فائض اللج رقراق
معان كأطواد الشوامخ جزلة
تضمنها عذب من اللفظ غيداق
به حكم مستنبطات غرائب
لأبكارها الغر الفلاسف عشاق
فلو عاش رسطاليس كان له بها
غرام وقلب دائم الفكر تواق
فيا واحد الفضل الذي العلم قوته
وأهلوه مشتاق يشم وذواق
لئن قصرت كتبي فلا غرو إنه
لعائق عذر والمقادير أوهاق
كتبت وآفات البحار تردها
فإن لم يكن رد علي فإغراق
بحار بأحكام الرياح فإنها
مفاتيح في أبوابهن وأغلاق
ومن لي أن أحظى إليك بنظرة
فيسكن مقلاق ويرقأ مهراق
17
فهذه القصيدة التي بعث بها ظافر الحداد إلى صديقه أمية بن أبي الصلب، إن دلت على شيء فإنما تدل على مبلغ ما كان يكنه ظافر لصديقه من وفاء وإخلاص وود، وما كان عليه أمية من علم وفضل، وما كان عليه الصديقان من صفاء ووفاء.
أما علاقة أمية بالوزير الأفضل بن بدر الجمالي، فيقول القفطي: «ودخل مصر في أيام أفضلها فلم ينل منها إفضالا، وقصده للنيل فلم يجد لديه منوالا.»
18
ولكني أشك في قول القفطي، وأزعم أن الأفضل قرب إليه أمية، وأجزل له العطاء، فأشعار أمية في الأفضل أكبر دليل على أن الشاعر كان يميل إلى الأفضل، وكان الأفضل يجزل له النوال. فمن شعر أمية في الأفضل قصيدته التي أنشدها يذكر تجريده العساكر إلى الشام لمحاربة الصليبيين بعد انهزام عسكره في الموضع المعروف بالبصة، وكان قد اتفق في أثناء ذلك أن قوما من الأجناد وغيرهم أرادوا الفتك بالأفضل، فوقع على خبرهم، وقبض عليهم وقتلهم، والقصيدة هي:
هي العزائم من أنصارها القدر
وهي الكتائب من أشياعها الظفر
جردت للدين والأسياف مغمدة
سيفا تفل به الأحداث والغير
وقمت إذ قعد الأملاك كلهم
تذب عنه وتحميه وتنتصر
بالبيض تسقط فوق البيض أنجمها
والسمر تحت ظلال النقع تشتجر
بيض إذا خطبت بالنصر ألسنها
فمن منابرها الأكباد والقصر
وذبل من رماح الخط مشرعة
في طولهن لأعمار العدا قصر
يغشى بها غمرات الموت أسد شرى
من الكماة إذا ما استنجدوا ابتدروا
مستلثمين إذا سلوا سيوفهم
شبهتها خلجا مرت بها غدر
قوم تطول ببيض الهند أذرعهم
فما يضر ظباها أنها بتر
إذا انتضوها وذيل النقع فوقهم
كالشمس طالعة والليل معتكر
ترتاح أنفسهم نحو الوغى طربا
كأنما الدم راح والظبا زهر
وإن هم نكصوا يوما فلا عجب
قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر
العود أحمد والأيام ضامنة
عقبى النجاح ووعد الله ينتظر
وربما ساءت الأقدار ثم جرت
بما يسرك ساعات لها أخر
الله زان بك الأيام من ملك
لك الحجول من الأيام والغرر
لله بأسك والألباب طائشة
والخيل تردى ونار الحرب تستعر
وللعجاج على صم القنا ظلل
هي الدخان وأطراف القنا شرر
إذ يرجع السيف يبدي خده علقا
كصفحة البكر أدمى خدها الخفر
وإذا تسد مسد السيف منفردا
ولا يصدك لا جبن ولا خور
أما يهولك ما لاقيت من عدد
سيان عندك قل القوم أو كثروا
هي السماحة إلا أنها سرف
هي الشجاعة إلا أنها غرر
الله في الدين والدنيا فما لهما
سواك كهف ولا ركن ولا وزر
ورام كيدك أقوام وما علموا
أن المنى خطرات بعضها خطر
هيهات أين من العيوق طالبه
لو كان سدد منه الفكر والنظر
إن الأسود لتأبى أن يروعها
وسط العرين ظباء الربرب العفر
أمر نووه ولو هموا به وقفوا
كوقفة العير لا ورد ولا صدر
فاضرب بسيفك من ناواك منتقما
إن السيوف لأهل البغي تدخر
ما كل حين ترى الأملاك صافحة
عن الجرائر تعفو حين تقتدر
ومن ذوي البغي من لا يستهان به
وفي الذنوب ذنوب ليس تغتفر
إن الرماح غصون يستظل بها
وما لهن سوى هام العدا ثمر
ليس يصبح شمل الملك منتظما
إلا بحيث ترى الهامات تنتثر
والرأي رأيك فيما أنت فاعله
وأنت أدرى بما تأتي وما تذر
أضحى شهنشاه غيثا للندى غدقا
كل البلاد إلى سقياه تفتقر
الطاعن الألف إلا أنها نسق
والواهب الألف إلا أنها بدر
ملك تبوأ فوق النجم مقعده
فكيف تطمع في غاياته البشر
يرجى نداه ويخشى عندي سطوته
كالدهر يوجد فيه النفع والضرر
ولا سمعت ولا حدثت عن أحد
من قبله يهب الدنيا ويعتذر
ولا بصرت بشمس قبل غرته
إذا تجلى سناها أغدق المطر
يا أيها الملك السامي الذي ابتهجت
به الليالي وقر البدو والخضر
جاءتك من كلم الحاكي محبرة
تطوى لبهجتها الأبراد والحبر
هي اللآلئ إلا أن ناظمها
طي الضمير ومن غواصها الفكر
تبقى وتذهب أشعار ملفقة
أولى بقائلها من قولها الحصر
ولم أطلها لأني جد معترف
بأن كل مطيل فيه مختصر
بقيت للدين والدنيا ولا عدمت
أجياد تلك المعالي هذه الدرر
19
ويذكر المؤرخون أن أمية أرسل وهو في سجنه بقصيدتين إلى الأفضل يمدحه بهما، الأولى لامية مطلعها:
الشمس دونك في المحل
والطيب ذكرك بل أجل
والثانية بائية مطلعها:
نسخت غرائب مدحك التشبيبا
وكفى بها غزلا لنا ونسيبا
20
وفي هاتين القصيدتين يتحدث الشاعر عن أيامه مع الأفضل، وأيادي الأفضل عليه، ومدائح أمية فيه، ويعتذر إليه من أقوال الوشاة والحاسدين الذين أغرو الوزير به حتى سجنه من غير جرم ارتكبه، فمثل هذه الأبيات التي أنشدها أمية في الاعتذار عن وشاية الواشين، تدل على أن صلة الوزير بالشاعر كانت صلة قوية، وأن الشاعر كان مقربا للوزير فحسده الناس، وأن الشاعر مدح الوزير فأعطاه الوزير صلات، ومع ذلك نرى القفطي يدعي أن الوزير لم يعط الشاعر شيئا، ويخيل إلي أن القفطي اتهم الأفضل بذلك لأنه حبس الشاعر مدة طويلة.
ومهما يكن من شيء فقد مكث أمية عدة سنوات في مصر، اتصل فيها بالحياة المصرية، وشارك المصريين في أعيادهم وحفلاتهم، وأنشد في ذلك شعرا حفظ بعضه وضاع أكثره، فمما حفظ من ذلك قوله في النيل من قصيدة كتبها إلى الأفضل ليلة المهرجان:
أبدعت للناس منظرا عجبا
لا زلت تحيي السرور والطربا
ألفت بين الضدين مقتدرا
فمن رأى الماء خالط اللهبا!
كأنما النيل والشموع به
أفق سماء تألقت شهبا
قد كان من فضة فصار سما
وتحسب النار فوقه ذهبا
21
وخرج إلى المتنزهات المصرية كما كان يفعل غيره من أهل مصر عامة، والشعراء خاصة، ووصف بعضها بالنثر وبالشعر، فمن ذلك قوله في بركة الحبش: فافترشنا من زهرها أحسن بساط، واستظللنا من دوحها بأوفى رواق، وطلعت علينا من زجاجات الأقداح شموس في خلع البدور، ونجوم بالصفاء تنور، إلى أن جرى ذهب الأصيل على لجين الماء، ونشبت نار الشفق بفحمة الظلماء، فقال في ذلك بعضنا (ويقصد نفسه):
لله يومي ببركة الحبش
والأفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب
كصارم في يمين مرتعش
قد نسجتها يد الغمام لنا
فنحن من نسجها على فرش
ونحن في روضة مفوفة
دبج بالنور عطفها ووشي
فعاطني الراح إن تاركها
من سورة الهم غير منتعش
واسقني بالكبار مترعة
فهن أشفى لشدة العطش
فأثقل الناس كلهم رجل
دعاه داعي الصبا فلم يطش
22
وبالرغم من هذه الأبيات التي تدل على أن أمية نعم في مصر بطبيعتها ولهوها، وقدره المصريون لعلمه وأدبه، فحظي بصداقة عدد كبير منهم، فإنه خرج من مصر غاضبا يهجو مصر والمصريين، شأنه في ذلك شأن دعبل الخزاعي، وأبي تمام، والمتنبي، وغيرهم من ذوي الأطماع التي لا تقف عند حد، فهؤلاء الشعراء وفدوا على مصر لقصد النوال والعطاء من أمراء مصر، فأغدق هؤلاء عليهم ما وسعهم، ولكن هؤلاء الشعراء لا يعرفون إلا العطاء السخي، وويل لمصر والمصريين إذا لم يصلوا إلى مطامعهم، فها هو ذا أمية يهجو المصريين جميعا بقوله:
وكم تمنيت أن ألقى بها أحدا
يسلي من الهم أو يعدي على النوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا
كانت مواعيدهم كالآل في الكذب
23
نعم، هكذا زعم أمية، كما زعم دعبل وأبو تمام والمتنبي من قبل، فمصر التي أكرمت هؤلاء الشعراء فمدحوها، هي مصر التي هجوها بعد أن رحلوا عنها.
أبو علي الأنصاري
قلنا إن عددا كبيرا من شعراء مصر اتصل بالأفضل بن بدر الجمالي، وأنشدت القصائد الكثيرة في مدحه في الأعياد والمواسم، فمن هؤلاء الشعراء أبو علي حسن بن زبيد الأنصاري الذي أثنى عليه القاضي الفاضل بقوله: «إنه في فنه لم يسمح الدهر بمثله.»
24
ويقول عنه صاحب الخريدة: وله قصيدة في مدح أفضلهم يصف خيمة الفرح، يدل إحسانه فيها على أن بحره طامي اللجج، ودره نامي البهج، وأقتبس منها قوله:
مجدا فقد قصرت عن شأوك الأمم
وأبدت العجز منها هذه الهمم
أخيمة ما نصبت الآن أم فلك
ويقظة ما نراه منك أم حلم؟
ما كان يخطر في الأفكار قبلك أن
تسمو علوا على أفق السها الخيم
حتى أتيت بها شماء شاهقة
في مارن الدهر من تيه بها شمم
إن الدليل على تكوينها فلكا
أن احتوتك وأنت الناس كلهم
يمد من في بلاد الصين ناظره
حتى ليبصر علما أنها علم
ترى الكناس وآرام الظباء بها
أضحت تجاورها الآساد والأجم
والطير قد لزمت فيها مواضعها
لما تحققن منها أنها حرم
لديك جيش، وجيش في جوانبها
مصور، وكلا الجيشين مزدحم
إذا الصبا حركتها ماج موكبها
فمقدم منهم فيها ومنهزم
أخيلها خيلك اللاتي تغير بها
فليس تنزع عنها الحزم واللجم
علمت أبطالها أن يقدموا أبدا
فكلهم لغمار الحرب مقتحم
آمنتهم أن يخافوا سطوة لردى
فقد تسالمت الأسياف والقمم
كأنها جنة، فالقاطنون بها
لا يستطيل على أعمارهم هرم
علت فخلنا لها سرا تحدثه
للفرقدين وفي سمعيهما صمم
إن أنبتت أرضها زهرا فلا عجب
وقد همت فوقها من كفك الديم
يا خيمة الفرح الميمون طائرها
أصبحت فألا به تستبشر الأمم
ومنها يقول في مدح الأفضل:
ما قال لا قط مذ شدت تمائمه
وكم له نعم في طيها نعم
لو كنت شاهد شعري حين أنظمه
إذن رأيت المعالي فيك تختصم
أزرتك اليوم من فكري محبرة
في ناظر الشمس من لألائها سقم
ترى النجوم للفظي فيك حاسدة
تود لو أنها في المدح تنتظم
ولكن هذا الشاعر النابه، والكاتب المتقدم في ديوان المكاتبات، لقي حتفه بسبب حسد الشعراء له، ذلك أن ابن قادوس الشاعر أنشد بيتين في هجاء حسن بن الحافظ، ونسبهما إلى ابن زبيد الأنصاري، ودسهما في رقاعه، ثم سعى به إلى ابن الحافظ، فلما وجد حسن بن الحافظ البيتين بين رقاع الأنصاري أمر بقتله، ولم يشفع له جودة شعره التي بلغ بها درجة رفيعة بين الشعراء، ولا طول خدمته في ديوان المكاتبات، فإن هذه الأبيات التي رويناها له في وصف الخيمة ومدح الأفضل، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن للشاعر خيالا محلقا، ومقدرة مطاوعة للقريض مع حسن ديباجة.
كان الشعراء في ذلك الوقت يتجهون بمدائحهم إلى الوزراء، والويل كل الويل للشاعر الذي لا يجعل شعر مدحه لهم، فهو يبعد ولا يلتفت إليه، مهما ارتفع شعره وأجاد الشاعر، وهذا ما حدث مع الشاعر المعروف بابن مكنسة أبي طاهر إسماعيل بن محمد، فقد انقطع هذا الشاعر إلى مدح عامل من النصارى يعرف بأبي مليح، وأكثر أشعاره فيه، ولما توفي هذا العالم رثاه الشاعر بقوله:
طويت سماء المكرمات
وكورت شمس المديح
ماذا أرجي في حياتي
بعد موت أبي مليح
ما كان بالنكس الدني
من الرجال ولا الشحيح
كفر النصارى بعد ما
عقدوا به دين المسيح
فلما ولي الأفضل الوزارة أراد هذا الشاعر أن يتقرب إليه ويتصل به، ولكن الأفضل لم ينس شعر ابن مكنسة في أبي مليح، فلم يقبل مدائحه، حتى يئس الشاعر فأرسل إلى الوزير يقول:
مثلي بمصر وأنت ملك
يقال ذا شاعر فقير
عطاؤك الشمس ليس يخفى
وإنما حظي الضرير
وبالرغم من أن هذا الشاعر كان من القلائل الذين مدحهم أمية بن أبي الصلت في رسالته المصرية، وأثنى عليه بقوله: «ومن شعرائها المشهورين: أبو طاهر إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة، شاعر كثير التصرف، قليل التكلف، يفتن في نوعي جد القريض وهزله، وضارب بسهم في رقيقه وجزله.»
25
فمع ذلك كله لم يوفق إلى أن ينال حظوة عند الأفضل، فظل بعيدا عن شعراء الوزارة.
ولعل ابن مكنسة كان أحسن حظا من الشاعر علي بن عباد بن الإسكندري، فقد كان هذا الشاعر منقطعا لمدح الوزير أبي علي بن الأفضل عندما كان هذا الوزير مستبدا بالبلاد وبالخليفة، بل حبس الخليفة الحافظ، حتى بلغ استبداده حدا لا يطاق، واستطاع الحافظ أن يتمكن منه، وأن يقتله في الميدان، وتتبع كل من كانوا على صلة بهذا الوزير الطاغية فقتلهم، ومنهم هذا الشاعر، ويروي العماد أن هذا الشاعر مدح ابن الأفضل بقصيدة مطلعها: «تبسم الدهر لكن بعد تعبيس»، وعرض فيها بالخلفاء الفاطميين ولا سيما في قوله:
وقد أعاد إليه الله خاتمه
فاسترجع الملك من صخر بن إبليس
26
فكانت هذه القصيدة سبب مقتله، ويقول ابن ميسر: إن الحافظ أمر بإحضار الشاعر، فلما امتثل بين يديه قال له: أنشدني قصيدتك. فأخذ الشاعر في إنشادها حتى قال منها في بيت:
ولا ترضوا عن أنجس المناجيس
يعني الحافظ وآباءه، فأمر حينئذ أن يلكمه الغلمان حتى مات بين يديه،
27
بل كانت هذه القصيدة سببا في قتل القاضي ابن ميسر سنة 531ه، فقد روي أن القاضي عندما سمع الشاعر ينشد القصيدة بين يدي ابن الأفضل قام وألقى عرضيته طربا، فلما قتل الوزير صرف القاضي عن عمله وقتل.
28
وعن هذا الشاعر يقول ابن فضل الله: «علي بن عباد الإسكندري، شاعر كان يجلو غرر المدائح، وكانت منن الوزراء تستعطف أعنة قصائده، فيرد عليهم مسردها.»
29
وكان بين شعراء الأفضل من نقم عليه فهجاه، ومن هؤلاء الشاعر الملقب بالناجي المصري الذي ذكره أمية في رسالته المصرية، فقد هجا الأفضل بقوله:
قل لابن بدر مقال من صدقه
لا تفرحن بالوزارة الخلقة
إن كنت قد نلتها مراغمة
فهي على الكلب بعدكم صدقة
فأمر الأفضل بنفيه إلى الواحات، فأقام بها عند علم الدولة المقرب بن ماضي.
30
ظافر الحداد
على أن عصر الأفضل لم يشاهد شاعرا مثل ظافر الحداد، بالرغم من كثرة الشعراء وتفوقهم جميعا في هذا الفن، لكن شعراء ذلك العصر كانوا على حظ من الثقافة والعلم، وكان أكثرهم من كتاب الدواوين، أما ظافر فكان حدادا بالإسكندرية، ولم يتلق من العلوم وألون المعرفة إلا بمقدار، وبلغت به شاعريته إلى أن يضعه النقاد ومؤرخو الأدب في مصاف أكبر شعراء عصره، واستطاع بشعره أن يجالس العلماء والشعراء، وأن يستمع إلى حوارهم وأحاديثهم، ويأخذ من ذلك كله ما وسعته ذاكرته، فيزيد بها مداركه وثقافته، فقد رأيناه صديقا لأمية بن أبي الصلت، ويحدثنا ابن خلكان أن الحافظ أبا طاهر السلفي وغيره من الأعيان كانوا يروون عن ظافر الحداد.
31
واتصل ظافر برجال الدولة فأعجبوا به وبشعره، ولا سيما أن مثل هذا الشعر صدر عن رجل من عامة الشعب في حالة متواضعة من العيش، ويروي ابن خلكان قصة تدل على ذلك كله، تلك هي أن القاضي أبا عبد الله محمد بن الحسين الآمدي دخل على والي الإسكندرية الأمير السعيد بن ظفر، فوجده يقطر دهنا على خنصره، فسأله القاضي عن سببه، فذكر ضيق خاتمه عليه وأنه ورم بسببه، فأشار عليه القاضي بقطع حلقة الخاتم قبل أن يتفاقم الأمر فيه، فاستدعى ظافرا الحداد فقطع الحلقة، وأنشد بين يدي الوالي:
قصر عن أوصافك العالم
وكثر الناثر والناظم
من يكن البحر له راحة
يضيق عن خنصره الخاتم
فاستحسن الأمير الشعر، ووهب لظافر الحلقة، وكانت من الذهب، ويخيل إلي أن الأمير أراد أن يستوثق من شاعرية ظافر، وأن ظافرا الحداد أدرك ما كان يجول بخاطر الأمير، فاغتنم فرصة وجود غزال مستأنس، قد ربض بين يدي الوالي، وجعل رأسه في حجره، فارتجل ظافر:
عجبت لجرأة هذا الغزال
وأمر تخطى له واعتمد
وأعجب به إذ بدا جاثما
وكيف اطمأن وأنت الأسد
فزاد الحاضرون في الاستحسان، وكأني بظافر وقد طمع في أن يعترف الحاضرون بسرعة بديهته، وقدرته على الارتجال، فقد التفت حوله في قاعة المجلس، فوجد شيئا كان على الباب ليمنع الطير من دخولها، فأنشد:
رأيت ببابك هذا المنيف
شباكا فأدركني بعض شك
وفكر فيما رأى خاطري
فقلت: البحار مكان الشبك
32
فهذه القصة إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الشاعر كان على موهبة لنظم الشعر، وأن شعره طبيعي لا تكلف فيه، وأنه كان يرتجل الشعر ببديهته، مما جعل الناس في عصره يحبونه، ويعجبون به، وها هو ذا العماد الأصفهاني يحدثنا عنه بقوله: «ظافر بحظه من الفضل ظافر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مداح المصري والله له غافر، حداد لو أنصف لسمي جوهريا، وكان باعتزائه إلى نظم اللآلي حريا، أهدى بروي شعره الروي للقلوب الصادية ريا، فيا له ناظما فصيحا مفلقا جريا.»
33
ويجمع المؤرخون على أن شعر ظافر الحداد جمع في ديوان كبير، ولكن هذا الديوان فقد ، ولم يبق من شعره إلا أبيات من قصائد.
من ذلك قوله:
لو كان بالصبر الجميل ملاذه
ما سح وابل دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحب يغزو قلبه
حتى وهى وتقطعت أفلاذه
لم يبق فيه مع الغرام بقية
إلا رسيس يحتويه جذاذه
من كان يرغب في السلامة فليكن
أبدا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنك بالفتور فإنه
نظر يضر بقلبك استلذاذه
يأيها الرشأ الذي من طرفه
سهم إلى حب القلوب نفاذه
در يلوح بفيك، من نظامه
خمر به قد جال من نباذه؟
وقناة ذاك القد كيف تقومت
وسنان ذاك اللحظ، ما فولاذه؟
رفقا بجسمك لا يذوب فإنني
أخشى بأن يجفو عليه لاذه
هاروت يعجز عن مواقع سحره
وهو الإمام، فمن ترى أستاذه؟
تالله ما علقت محاسنك امرأ
إلا وعز على الورى استنقاذه
أغريت حبك بالقلوب فأذعنت
طوعا وقد أودى بها استحواذه
ما لي أتيت الحظ من أبوابه
جهدي فدام نفوره ولواذه
إياك من طمع المنى فعزيزه
كذليله وغنيه شحاذه
ومنها أيضا:
دالية ابن دريد استهوى بها
قوم غداة نبت به بغداذه
دانوا لزخرف قوله فتفرقت
طمعا بهم صرعاه أو جذاذه
من قدر الرزق السني لك إنما
قد كان ليس يضره إنفاذه
34
فمن هذه الأبيات وغيرها مما حفظ لنا من شعر ظافر نستدل على أن شعره سهل طبيعي، ليس به تكلف غيره من الشعراء الذين كانوا يصنعون الشعر صناعة، وقد لاحظ العماد أن ظافرا الحداد كان لحنة، واستشهد بقصيدته الزائية الشهيرة:
حكم العيون على القلوب يجوز
ودواؤها من دائهن عزيز
كم نظرة نالت بطرف ذابل
ما لا ينال الذابل المهزوز
فحذار من تلك اللواحظ غرة
فالسحر بين جفونها مكنوز
يا ليت شعري والأماني ضلة
والدهر يدرك صرفه ويجيز
هل لي إلى زمن تصرم عهده
سبب فيرجع ما مضى فأفوز
وأزور من ألف البعاد وحبه
بين الجوانح والحشا مركوز
ظبي يناسب في الملاحة شخصه
فالوصف حين يطول فيه وجيز
والبدر والشمس المنيرة دونه
فالحسن منه يروق والتمييز
لولا تثني خصره في ردفه
ما خلت إلا أنه مغروز
تجفو غلالته عليه لطافة
فبجسمه من جسمها تطريز
من لي بدهر كان لي بوصاله
سمجا ووعدي عنده منجوز
والعيش مخضر الجناب أنيقه
ولأوجه اللذات فيه بروز
والماء يبدو في الخليج كأنه
أيم لسرعة سيره محفوز
والروض في حلل النبات كأنما
فرشت عليه ديابج وخزوز
والزهر يوهم ناظريه كأنما
ظهرت به فوق الرياض كنوز
فأقاحه ورق، وساقط طله
درر، ونور بهاره إبريز
وكأنما القمري ينشد مصرعا
من كل بيت، والحمام يجيز
وكأنما الدولاب يزمر كلما
غنت، وأصوات الضفادع شيز
يا رب غانية أضر بقولها
أني بلفظة معدم منبوز
فأجبتها: ما عازني نيل الغنى
لكن مطالبة الحميد تعوز
ما خاب من هضم التفضل ماله
كرما ووافر عرضه محروز
فأخذ عليه العماد قوله: «عازني»، والصحيح: «أعوزني»، وأخذ عليه قوله: «تعوز» والصحيح: «تعوز»، وأخذ عليه قوله: «محروز» والصواب: «محرز».
35
ولكن نسي العماد أن الشاعر مصري، وقد ذكرنا في أدب مصر الإسلامية صورا من اللحن الذي وقع فيه كتاب مصر وشعراؤها، وقلنا: إن المصريين لا يراعون قواعد الصرف والنحو مراعاة إخوانهم في البلاد الإسلامية الأخرى لهذه القواعد، ونحن لا نستطيع أن نؤاخذ ظافرا الحداد بهذه الألفاظ التي لم يراع فيها قواعد الصرف، فقد كان أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي مع معرفته، إذا أنشد بيتا من الشعر لم يقم بإعرابه،
36
ومن يتتبع شعراء مصر الإسلامية حتى عصرنا الحديث، فسيجد عدم عناية المصريين بهذه الناحية الهامة التي هي من مقومات الشعر.
ومهما يكن من شيء، فإن حياة ظافر الحداد غامضة؛ لعدم وجود ما يكشف عنها، وقد أجمع المؤرخون على أنه توفي سنة 546ه. (2) شعراء بني رزيك حتى آخر الدولة الفاطمية
قتل الخليفة الظافر في المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فكتب خدام القصر إلى طلائع بن رزيك، وإلى قوص وأسوان والصعيد، يخبرونه بقتل الخليفة، ويستنجدونه على القاتل، وأرسل نساء القصر بشعورهن إليه، ولعب الشعر دورا هاما في دعوة طلائع للأخذ بثأر الخليفة، فقد كانت قصيدة القاضي أبي المعالي عبد العزيز بن الحباب المعروف بالجليس، التي أرسلها إلى طلائع بن رزيك، من أشد الرسائل التي وصلت إليه أثرا في نفسه، فطلائع كان شاعرا مجيدا، ويصفه ابن خلكان بقوله: «كان فاضلا سمحا في العطاء، سهلا في اللقاء، محبا لأهل الفضائل، جيد الشعر، وقفت على ديوان شعره وهو في جزأين.»
37
ولذلك كان وقع القصيدة في نفسه أشد من وقع غيرها من الرسائل.
فمن هذه القصيدة قول الجليس:
دهتني عن نظم القريض عوادي
وشف فؤادي شجوه المتمادي
وأرق عيني والعيون هواجع
هموم أقضت مضجعي ووسادي
بمصرع أبناء الوصي وعترة الن
بي وآل «الذاريات» و«صاد»
فأين بنو رزيك عنهم ونصرهم
وما لهم من منعة وذياد
أولئك أنصار الهدى وبنو الردى
وسم العدا من حاضرين وباد
لقد هد ركن الدين ليلة قتله
بخير دليل للنجاة وهاد
تدارك من الإيمان قبل دثوره
حشاشة نفس آذنت بنفاد
وقد كاد أن يطفي تألق نوره
على الحق عاد من بقية عاد
فلو عاينت عيناك بالقصر يومهم
ومصرعهم لم تكتحل برقاد
38
جاء طلائع بن رزيك مع رجاله إلى القاهرة، واستولى على الوزارة، وإذا قلنا الوزارة فإنما نقصد أنه تولى الحكم الفعلي في البلاد، ولذلك لقب بالملك الصالح، وقد أجمع المؤرخون الذين تحدثوا عنه على أنه كان يحب العلم والعلماء والشعر والشعراء، وقد رأينا قول ابن خلكان فيه، ونقل العماد عن خطبة ديوان الصالح: «فقد نشرت أيامه مطوي الهمم، وأنشرت رفات الجود والكرم، ونفقت بدولته سوق الآداب بعدما كسدت، وهبت ريح الفضل بعدما ركدت، إذا لها الملوك بالقيان والمعازف، كان لهوه بالعلوم والمعارف، وإن عمروا أوقاتهم بالخمر والقمر، كانت أوقاته معمورة بالنهي والأمر.»
39
ووصفه عمارة اليمني بقوله: «فكان مرتاضا قد شم أطراف المعارف، وتميز عن أجلاف الملوك الذين ليس عندهم إلا خشونة مجردة، وكان شاعرا يحب الأدب وأهله، ويكرم جليسه ويبسط أنيسه.»
40
ويروي عمارة قصة وفوده على مصر أول مرة، وكيف دخل متنكرا في زي رسول من قبله على الأجل أبي الهيجاء صهر الملك الصالح، وطلب إليه أن يحمل عنه مئونة السجود عند السلام على الخليفة والوزير، فسأله أبو الهيجاء عن عمارة، فقال له: هو فقيه وعنده طرف من الأدب، فقال: تعني شاعرا! قال: نعم. قال: هذه نقيصة في حقه. فلما كان في اليوم التالي استدعي أبو الهيجاء للغداء عند الصالح، فقال أبو الهيجاء: عندي رسول صاحب مكة، وكنت أظنه عاقلا وإذا هو ناقص. فقال له الصالح: وبأي شيء عرفت نقصه؟ قال: لكونه يحسن شيئا من هذا السحت الذي تعلمه أنت والجليس وابن الزبير. قال الصالح: لعله شاعر؟ قال: نعم. قال الصالح: هاته، هات الرجل. ثم أنشد:
إن الذي تكرهون منه
ذاك الذي يشتهيه قلبي
41
فهذه القصة إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن الملك الصالح طلائع بن رزيك كان مولعا بالشعر مقربا للشعراء، ومن عجب أن يجتمع في بلاطه أكبر أعيان أهل الأدب، مثل: الجليس، والموفق بن الخلال ، وابن قادوس، والمهذب بن الزبير، والرشيد بن الزبير ... وغيرهم الذين وصفهم عمارة بقوله: «وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية والرياسة الإنسانية بأوفر نصيب، وما زلت أحذو على طرائقهم، وأعرض جذعي في سوابقهم، حتى أثبتوني في جرائدهم.»
42
فهؤلاء الأعلام كانوا يجتمعون في مجلس الملك الصالح يتناشدون الشعر، ويتناظرون في بعض المسائل العلمية والأدبية، ويستمعون إلى شعر الملك الصالح، وفي ذلك يقول صاحب النجوم الزاهرة: «وجعل له مجلسا في أكثر الليالي يحضره أهل الأدب، ونظم هو شعرا ودونه، وصار الناس يهرعون إلى نقل شعره، وربما أصلحه له شاعر كان يصحبه، يقال له: ابن الزبير.»
43
ويظهر أن الملك الصالح كان ينشد القصيدة أو المقطوعة، ولكنه كان يعرض ما ينشده على المهذب بن الزبير، وعلى غير المهذب ممن كان يتوسم فيهم مقدرة وكفاية على تثقيف الشعر؛ إذ يحدثنا عمارة اليمني: «ودخلت إليه ليلة السادس عشر من رمضان، سنة ست وخمسين وخمسمائة قبل أن يموت بثلاث ليال بعد قيامه من السماط، ولم أكن رأيته من أول الشهر بليلة، فأمر لي بذهب، وقال: لا تبرح. ودخل ثم خرج إلي وفي يده قرطاس قد كتب فيه بيتين من شعره عملهما في تلك الساعة، وهما:
نحن في غفلة ونوم وللمو
ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنينا
ليت شعري متى يكون الحمام؟
ثم قال لي: تأملهما وأصلحهما إن كان فيهما شيء. قلت: هما صالحان.»
44
فالملك الصالح كان يستعين بفحول الشعر في عصره لإصلاح شعره، وليس في ذلك ما ينقص من قدرته في الشعر، والمؤرخون يحدثوننا أن بعض فحول شعراء العرب كانوا يعرضون شعرهم على غيرهم من الشعراء، فمروان بن أبي حفصة شاعر هارون الرشيد الرسمي كان يعرض شعره على بشار بن برد، وكان البحتري يعرض شعره على أبي تمام، وكان أكثر الشعراء يعرضون شعرهم على الأصمعي أو غيره من اللغويين، فإذا كان الملك الصالح طلائع بن رزيك قد استعان بالمهذب أو بعمارة أو بغيرهما من شعراء ذلك العصر لإصلاح شعره، فإن ذلك يدلنا على أن هذا الوزير كان يعرف قيمة الشعر، فلم يستبح لنفسه أن يعرض شعره على الناس قبل أن يتأكد من قوة هذا الشعر وصلاحه، ولكن ياقوت ذكر في معجم الأدباء في حديثه عن ابن الزبير: «وقيل إن أكثر الشعر الذي في ديوان الصالح إنما هو عمل المهذب بن الزبير.»
45
ولا أدري من أين استقى ياقوت هذا الخبر، وربما اشتبه عليه الأمر فظن أن ابن الزبير هو صاحب الشعر الذي في ديوان ابن رزيك بدلا من أنه كان يثقف هذا الشعر، وقد انتهت إلينا قطعة من قصيدة لابن الزبير يتحدث فيها عن شعر الملك الصالح، منها:
ولنار فطنته تريك لشعره
عذبا يروي غلة الظمآن
وعقود در لو تجسم لفظها
ما رصعت إلا على التيجان
وتنزهت عن أن يرى أفوادها
لمواضع الأقراط والآذان
من كل رائقة الجمال زهت بها
بين القصائد غرة السلطان
سيارة في الأرض لا يعتاقها
في سيرها قيد من الأوزان
46
فابن الزبير هنا يصف شعر الصالح بهذه الصفات، وإن كان ابن الزبير قد غالى في وصفه له، ولكنه كان يمدح صاحب الملك، ومهما يكن من شيء فإن المؤرخين أجمعوا على أن الملك الصالح كان مكثرا من قول الشعر، حتى جمع شعره في ديوان من جزأين، ولكن الذي بقي لنا من هذه المجموعة مقطوعات صغيرة، من ذلك قوله يتغزل:
ومهفهف ثمل القوام سرت إلى
أعطافه النشوات من عينيه
ماضي اللحاظ كأنما سلت يدي
سيفي غداة الروع من جفنيه
قد قلت إذ خط العذار بمسكة
في خده ألفيه لا لاميه
ما الشعر دب بعارضيه وإنما
أهدابه نفضت على خديه
الناس طوع يدي وأمري نافذ
فيهم وقلبي الآن طوع يديه
فاعجب لسلطان يعم بعدله
ويجور سلطان الغرام عليه
والله لولا اسم الفرار وأنه
مستقبح لفررت منه إليه
47
ويحدثنا العماد في الخريدة أن أبا الحسن علي بن قيصر أنشد في الملك الصالح قصيدته التي أولها:
لا فرق بين خياله ووصاله
في سرد ماطله وفي تحقيقه
والتي منها:
والله ما للشمس في إشراقها
وضياء بهجته كبعض شروقه
لا تجعل الهجران بعض عقوبتي
فمكلف السلوان غير مطيقه
بلغ إلى الملك الهمام أمانة
تبليغها للحر من توفيقه
حتام حظي في الحضيض وإنه
في الفضل عند الناس في عيوقه
مثلي بمصر وأنت مالك رقه
مثل العقاب مفردا في نيقه
ولقد أشاع الناس أنك في الورى
من ليس ينفق باطل في سوقه
أبطل بنور العقل سلطان الهوى
واعمل بكل الجهد في تطليقه
فأجابه الصالح بقصيدة منها:
نفق التأدب عندنا في سوقه
وبدا اليقين لنا بلمع بروقه
أهدى لي القاضي الفقيه عرائسا
فيها بديع الوشي من تنميقه
فأجلت طرفي في بديع رياضه
من ورده وبهاره وشقيقه
فكأنما اجتمع الأحبة فانبرت
يد عاشق تهوي إلى معشوقه
أدب سعى منه إلى غاياته
وأتى فسد عليه مر طريقه
ولقد علمت بأن فضلك سابق
يعتد من جاراه من مسبوقه
فلذا اقتصرت ولم أر الإمعان في
شأو امرئ أصبحت غير مطيقه
وأرى الزمان جرى على عاداته
في جمعه طورا وفي تفريقه
والشوق في قلبي تضرم وهجه
فمتى أراه يكف عن تحريقه
والدمع من عيني سح، فهل يرى
من بحره يوما نجاة غريقه
نزهت في بستان نظمك ناظري
فحظيت من زهر الربا بأنيقه
أنت امرؤ من قال فيك مقالة ال
غالي فكل الخلق في تصديقه
وأنا أرى تقديم حاجة صاحبي
من دون حاجاتي أقل حقوقه
وكذا الكريم فمهمل لأموره
لا مهمل أبدا أمور صديقه
هذا النجاح فكل ما قد رمته
قد عم فانظر منه في تحقيقه
48
وهكذا نستطيع من هذه المقطوعات التي بقيت لنا من شعر الصالح، أن ندرك أن الصالح كان من شعراء مصر الذين يهتمون بالمعاني أكثر من عنايتهم باللفظ، وأنه لم يكن من الشعراء الذين يكثرون من التشبيهات والاستعارات، ولكن التشبيهات تأتي في شعره بسيطة عادية من غير تكلف ولا تصنع، ولم يكن الصالح شاعرا فحسب، بل كان من علماء المذهب، ويقول المقريزي: إن له قصيدة سماها الجوهرة في الرد على القدرية، وإنه صنف كتابا سماه: «الاعتماد في الرد على أهل العناد»، جمع له الفقهاء وناظرهم عليه، وهو كتاب يبحث في إمامة علي بن أبي طالب والأحاديث النبوية التي وردت فيه.
49
وتوفي الملك الصالح سنة 556ه، وتولى الوزارة بعده ابنه الملك الناصر رزيك بن الصالح، وكان شاعرا مثل أبيه، ناقدا للشعر عارفا بجيده من رديئه، ويقول عمارة عنه: وأما فهمه فكان يعرف جيد الشعر، ويستحسنه، ويثيب عليه.
50
وفي رثاء عمارة للصالح ومدح الناصر قال:
لا يقولن جاهل بالقوافي
ذهب الناقد السميع البصير
فالمرجى أبو شجاع عليم
بمقادير أهلهن خبير
51
ولكن عمارة أثنى عليه الثناء كله؛ لأن الناصر استخدم القاضي الفاضل، يقول عمارة: «ومن محاسن أيامه وما يؤرخ عنها، بل هي الحسنة التي لا توازى، واليد البيضاء التي لا تجازى: خروج أمره إلى والي الإسكندرية بتسيير القاضي الأجل الفاضل أبي علي عبد الرحيم بن علي البيساني إلى الباب واستخدامه.»
52
فكأن دقة إحساس الملك الناصر، وتذوقه للشعر والكتابة الفنية، ومعرفته للجيد من الشعر والنثر، جعلت الناصر يكتشف مواهب القاضي الفاضل الأدبية فيرفعه إلى مرتبة الخدمة في ديوان الجيش بالحضرة، ولولا ذلك لظل القاضي الفاضل مغمورا مثل كثير من الأدباء والشعراء الذين لم تتح لهم تلك الحظوة ، فجهلهم الناس وغمطت مواهبهم. فلا غرو أن رأينا عمارة اليمني يرفع من شأن هذا الكشف ويعده «الحسنة التي لا توازى، واليد البيضاء التي لا تجازى»، ولو كان يعلم عمارة ما ستأتي به الأيام له، وموقف القاضي الفاضل منه، لجعل هذه اليد البيضاء سوداء، وتلك الحسنة سيئة.
لم تمهل الأيام الملك الناصر؛ إذ قتل سنة 558ه، وبموته بدأت المنازعات على الوزارة بين شاور وضرغام، وأدى الأمر إلى تدخل جيوش نور الدين زنكي في أمر هذه المنازعات، وإلى تدخل جيوش الصليبيين لاحتلال مصر، ثم إلى تولية أسد الدين شيركوه، ثم صلاح الدين الأيوبي الوزارة، إلى أن استطاع صلاح الدين أن يقضي على الدولة الفاطمية في المحرم سنة 567ه.
ومع هذه الاضطرابات والفتن التي كانت في مصر، لم ينس الوزراء الشعر والشعراء؛ فكان شاور يجلس ليستمع إلى مدائح الشعراء، وكان ضرغام ينقد شعر الشعراء، ويذكر عمارة أنه أنشد الوزير ضرغاما قصيدة منها:
أوجبت في ذمة الأشعار والخطب
دينا أبا حسن يبقى على الحقب
أيامك البيض لا تحصى، وأفضلها
يوم خصصت به في قاعة الذهب
وفيت للصالح الهادي وقد غدرت
به الصنائع من ناء ومقترب
فقال ضرغام: لو قلت «بعدت» كان أصلح من «غدرت». قلت: إنما أردت مقابلة الوفاء بالغدر. قال: وعلى مقابلتك تنسبنا إلى الغدر.
53
ولعل هذه القصة ترينا مقدار فهم ضرغام للشعر، ونفاذ بصيرته في نقده، وفي هذه الأيام العجاف التي أودت بالدولة الفاطمية توفي كبار شعراء العصر؛ فالجليس توفي سنة 561ه، وفي هذه السنة عينها توفي المهذب بن الزبير، وتوفي الرشيد بن الزبير سنة 562ه، ولم يعد الشعراء يتكسبون كما كانوا يتكسبون من قبل؛ فقد ذكر عمارة أنه أنشد شاور قصيدة مدحه بها بعد طرد الصليبيين من بلبيس إبان وزارته الثانية، ومن هذه القصيدة:
أسمع بذا الفتح المبين وأبصر
واقصر عليه خطا الهناء وأقصر
فتح أضاء به الزمان كأنه
وجه البشير وغرة المستبشر
فتح يذكرنا وإن لم ننسه
ما كان من فتح الوصي لخيبر
فتح تولد يسره من عسرة
طالت، وأي ولادة لم تعسر
حملت به الأيام إلا أنها
وضعته تما عن ثلاثة أشهر
ويقول فيها:
تلقاه أول فارس إن أقدمت
خيل، وأول راجل في العسكر
هانت عليه النفس حتى إنه
باع الحياة فلم يجد من يشتري
ضجر الحديد من الحديد وشاور
في نصر آل محمد لم يضجر
حلف الزمان ليأتين بمثله
حنثت يمينك يا زمان فكفر
يا فاتحا شرق البلاد وغربها
يهنيك أنك وارث الإسكندر
يقول عمارة: وكانت هذه الأبيات أحد الأسباب التي قوت عزمي على الاستعفاء من عمل الشعر؛ لأن الناس فيما تقدم كانوا يغنون الشعراء بما ليس يفوقها جودة.
54
وبالفعل عندما قابل شاور بعد ذلك استعفاه عمارة من قول الشعر، وأمر أن ينقل الجاري على الخدمة راتبا على حكم الضيافة؛ لأن التكسب بالشعر والتظاهر به أصبح نقيصة في حقه. فسأله شاور: فما منعك أن تستعفي في أيام الصالح وابنه ؟ قال عمارة: كانت لي أسوة وسلوة بالشيخ الجليس بن الحباب وبابني الزبير الرشيد والمهذب، وقد انقرض الجيل والنظراء. قال: تعفى. ثم أمر بإنشاء سجل بإعفائه.
55
ومع ذلك لم يستطع عمارة ألا ينشد شعرا في الحوادث التي كانت في هذه الأيام، ولا سيما عندما تولى صلاح الدين الأيوبي الوزارة، فقد أنشد عدة قصائد يهنئه فيها بانتصاره على الصليبيين، وبنصره لآل بيت الرسول، ويشبه جيوش صلاح الدين بأنصار النبي
صلى الله عليه وسلم
فهو يقول مثلا:
لك الحسب الباقي على عقب الدهر
بل الشرف الراقي إلى قمة النسر
كذا فليكن سعي الملوك إذا سعت
بها الهمم العليا إلى شرف الذكر
نهضتم بأعباء الوزارة نهضة
أقلتم بها الأقدام من زلة العثر
كشفتم عن الإقليم غمته كما
كشفتم بأنوار الغنى ظلمة الفقر
حميتم من الإفرنج سرب خلافة
جريتم لها مجرى الأمان من الذعر
ولما استغاث ابن النبي بنصركم
ودائرة الأنصار أضيق من شبر
جلبتم إليه النصر أوسا وخزرجا
وما اشتقت الأنصار إلا من النصر
كتائب في جيرون منها أواخر
وأولها بالنيل من شاطئ مصر
طلعتم فأطلعتم كواكب نصرة
أضاءت مكان الدين ليلا بلا فجر
وآبت إليكم يابن أيوب دولة
تراسلكم في كل يوم مع السفر
حمى الله فيكم عزمة أسدية
فككتم بها الإسلام من ربقة الأسر
أخذتم على الإفرنجي كل ثنية
وقلتم لأيدي الخيل مري على «مري»
لئن نصبوا في البر جسرا فإنكم
عبرتم ببحر من حديد على الجسر
طريق تقارعتم عليها مع العدا
ففزتم بها والصخر يقرع بالصخر
وأزعجه من مصر خوف يلزه
كما لز مهزوم من الليل بالفجر
وكم وقعة عذراء لما اقتضضتها
بسيفك لم تترك لغيرك من عذر
وأيديكم بالبأس كاسرة العدا
ولكنها بالجود جابرة الكسر
أبوك الذي أضحى ذخيرة مجدكم
وأنت له خير النفائس والذخر
ومن كنت معروفا له فاستفزه
بمثلك تيه فهو في أوسع العذر
توقره وسط الندي كرامة
وتحمل عنه ما يئود من الوقر
وتخلفه حربا وسلما خلافة
تؤلف أضدادا من الماء والجمر
وكم قمت في بأس وجود ورتبة
بما سره في الخطب والدست والثغر
ولو أنطق الله الجمادات لم تقم
لنعمتكم بالمستحق من الشكر
يد لا يقوم المسلمون بشكرها
لكم آل أيوب إلى آخر الدهر
بكم آمن الرحمن أعظم يثرب
وآمن أركان الثنية والحجر
ولو رجعت مصر إلى الكفر لانطوى
بساط الهدى من ساحة البر والبحر
ولكن شددتم أزره بوزارة
غدا لفظها يشتق من شدة الأزر
فهنيتم فتحا تقدم حله
وبشر أن الكل يتلو على الإثر
وما بقيت في الشرك إلا بقية
تتمتها في ذمة البيض والسمر
وعند تمام الملك آتي مهنئا
وملتمسا أجر الكهانة والزجر
ولولا اعتقادي أن مدحك قربة
أرجى بها نيل المثوبة والأجر
لما قلت شعرا بعد إعفاء خاطري
ولي سنوات منذ تبت عن الشعر
فأوص بي الأيام خيرا فإنها
مصرفة بالنهي منك وبالأمر
وجائزتي: تسهيل إذني عليكم
وملقاكم لي بالطلاقة والبشر
56
ولما قتل شاور وتولى شيركوه ثم صلاح الدين الوزارة، وجدنا بعض الشعراء يعرضون في أشعارهم بالوزير المقتول، بل يهجونه أقبح هجاء، فالشاعر حسان عرقلة - ولم يكن مصريا، إنما وفد مع صلاح الدين إلى مصر، وأنشد شعرا في الحوادث التي جرت في هذه الأوقات - قال لما قتل شاور وتولى شيركوه قال:
لقد فاز بالملك العظيم خليفة
له شيركوه العاضدي وزير
كأن ابن شاذي والصلاح وسيفه
على لديه شيبر وشبير
هو الأسد الضاري الذي جل خطبه
وشاور كلب للرجال عقور
بغى وطغى حتى لقد قال قائل
على مثلها كان اللعين يدور
فلا رحم الرحمن تربة قبره
ولا زال فيها منكر ونكير
وقال في قصيدة أخرى:
إن أمير المؤمنين الذي
مصر حماه وعلي أبوه
نص على شاور فرعونها
ونص موساها على شيركوه
57
وما كادت تدول هذه الدولة الفاطمية حتى انبرى شعراء الأيوبيين يمدحون ملوكهم، ويقدحون في الدولة الفاطمية ويرمونها بالكفر، وسنتحدث عن ذلك في كتابنا عن الأيوبيين، ويكفي أن نأتي الآن بمثال لهذه الأشعار، فقد قال أحد الشعراء يمدح الأيوبيين:
ألستم مزيلي دولة الكفر من بني
عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل
زنادقة سبعية باطنية
مجوس وما في الصالحين لهم أصل
يسرون كفرا، يظهرون تشيعا
ليستتروا شيئا وعمهم الجهل
58
وهكذا كان الأمر في الشعر لدى الوزراء، فالشعراء كانوا يلتمسون الأحداث ليمدحوا الوزراء ويتقربوا إليهم، حتى دالت الدولة الفاطمية.
المهذب بن الزبير
هو الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير المعروف بالقاضي المهذب، كان من أهل أسوان من أصل عربي ينتمي إلى قبيلة غسان، وكان المهذب وأخوه الرشيد من أكبر شعراء ذلك العصر، رحلا من أسوان إلى القاهرة، وما زالا يرتقيان في مناصب الدولة حتى بلغا مرتبة القضاء وجالسا الوزراء والأمراء ... أما المهذب فقد قدمه القاضي الجليس إلى الملك الصالح طلائع بن رزيك، فحظي عنده، وحصل له من الملك مال جم، لم ينل غير المهذب منه أحد مثله، وأوفد المهذب في سفارة من مصر إلى بلاد اليمن، وهناك أتيحت له فرصة جمع كتب الأنساب، اتخذها مصدرا لكتاب كبير صنفه في عشرين مجلدا هو «كتاب الأنساب»، اطلع ياقوت الحموي على بعض أجزاء منه، فوصفه بقوله: «فوجدته مع تحقيقي هذا العلم، وبحثي عن كتبه، غاية في معناه لا مزيد عليه، يدل على جودة قريحة مؤلفه وكثرة اطلاعه ، إلا أنه حذا فيه حذو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، وأوجز في بعض أخباره عن البلاذري، إلا أنه إذا ذكر رجلا ممن يقتضي الكتاب ذكره لا يتركه حتى يعرفه بجهده، من إيراد شيء من شعره وخبره.»
59
فجمع ابن الزبير بين العلم والشعر، وقد ذكرنا في حديثنا عن الملك الصالح أنه كان يعرض شعره على ابن الزبير لتقويمه وإصلاحه قبل عرضه على الناس، ووصف العماد شعره بقوله: «محكم الشعر كالبناء المشيد، وهو أشعر من أخيه، وأعرف بصناعته وإحكام معانيه ... ولم يكن في زمانه أشعر منه، وله شعر كثير، ومحل في الفضائل أكثر.»
60
ووصف المهذب شعره مرة وهو يعرض بابن الصياد الملقب بالمفيد الشاعر:
فيا شاعرا قد قال ألف قصيدة
ولكنها عن بيته ليس تبرح
ليهنك، لا هنيت، أن قصائدي
مع النجم تسري أو مع الريح تسرح
وقال مرة أخرى يمدح الوزير الصالح بن رزيك، وكان الوزير يغري الشعراء بعضهم ببعض، ويسر للاستماع إلى نقائض الشعراء وأهاجيهم:
يأيها الملك الذي أوصافه
غرر تجلت للزمان الأسفع
لا تطمع الشعراء في فإنني
لو شئت لم أجبن ولم أتخشع
إن لم أكن ملء العيون فإنني
بالقول يابن الصيد ملء المسمع
فليمسكوا عني فلولا أنني
أبقى على عرضي إذن لم أجزع
وأهم من هجوي لهم مدح الذي
رفع القريض إلى المحل الأرفع
ولو أنه ناجى ضميري في الكرى
طيف الخيال بريبة لم أهجع
وإذا بدا لي الهجر لم أر شخصه
وإذا يقال لي الخنا لم أسمع
والناس قد علموا بأني ليس لي
مذ كنت في أعراضهم من مطمع
61
فنحن أمام شاعر عف اللسان، محترم لنفسه بابتعاده عما يعرضه إلى هجاء زملائه، وإذا عرض لأحد الشعراء فإنما يعرض له من ناحية واحدة هي ناحية فن الشعر، فقد كان المهذب شاعرا من فحول شعراء العربية، ولا أغالي إذا قلت إن مصر الإسلامية منذ دخلها العرب، ومنذ عرفت الشعر العربي، لم تنجب من أبنائها شاعرا له شاعرية المهذب، وقوة شعره، وحسن ديباجته، وقد وصلت إلينا عدة قصائد له تدلنا على ذلك كله، فمن ذلك قصيدته التي أرسلها إلى داعي اليمن عندما قبض على أخيه الرشيد، يمدحه ويستعطفه، حتى أطلق سراح أخيه، ففيها يقول:
يا ربع أين ترى الأحبة يمموا
هل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا
رحلوا وقد لاح الصباح وإنما
يسري إذا جن الظلام الأنجم
وتعوضت بالأنس روحي وحشة
لا أوحش الله المنازل منهم
لولاهم ما قمت بين ديارهم
حيران أستاف الديار وألثم
أمنازل الأحباب؟ أين هم وأي
ن الصبر من بعد التفرق عنهم؟
يا ساكني البلد الحرام وإنما
في الصدر مع شحط المزار سكنتم
يا ليتني في النازلين عشية
بمنى، وقد جمع الرفاق الموسم
فأفوز إن غفل الرقيب بنظرة
منكم إذا لبى الحجيج وأحرموا
إني لأذكركم إذا ما أشرقت
شمس الضحى من نحوكم فأسلم
لا تبعثوا لي في النسيم تحية
إني أغار من النسيم عليكم
إني امرؤ قد بعت حظي راضيا
من هذه الدنيا بحظي منكم
فسلوت إلا عنكم وقنعت إلا
منكم وزهدت إلا فيكم
ورأيت كل العالمين بمقلة
لو ينظر الحساد ما نظرت عموا
ما كان بعد أخي الذي فارقته
ليبوح إلا بالشكاية لي فم
هو ذاك لم يملك علاه «مالك»
كلا ولا وجدي عليه «متمم»
أقوت مغانيه وعطل ربعه
ولربما هجر العرين الضيغم
ورمت به الأهوال همة ماجد
كالسيف يمضي عزمه ويصمم
يا راحلا بالمجد عنا والعلا
أترى يكون لكم إلينا مقدم؟
يفديك قوم كنت واسط عقدهم
ما إن لهم مذ غبت شمل ينظم
لك في رقابهم وإن هم أنكروا
منن كأطواق الحمام وأنعم
جهلوا فظنوا أن بعدك مغنم
لما رحلت وإنما هو مغرم
فلقد أقر العين أن عداك قد
هلكوا ببغيهم وأنت مسلم
لم يعصم الله ابن معصوم من الآ
فات، واخترم اللعين الأخرم
62
واعتضت بعدهم بأكرم معشر
بدءوا لك الفعل الجميل وتمموا
فلعمر مجدك إن كرمت عليهم
إن الكريم على الكرام مكرم
أقيال بأس، خير من حملوا القنا
وملوك قحطان الذين هم هم
متواضعون ولو ترى ناديهم
ما اسطعت من إجلالهم تتكلم
وكفاهم شرفا ومجدا أنهم
قد أصبح الداعي المتوج منهم
هو بدر تم في سماء علاهم
وبنو أبيه بنو رويع أنجم
ملك حماه جنة لعفاته
لكنه للحاسدين جهنم
أثنى عليك بما مننت وأنت من
أوصاف مجدك يا مليكا أعظم
فاغفر لي التقصير فيه وعده
مع ما تجود به علي وتنعم
مع أنني سيرت فيك شواردا
كالدر بل أبهى لدى من يفهم
تغدو وهوج الذاريات رواكد
وتبيت تسري والكواكب نوم
وإذا المآثر عددت في مشهد
فبذكرها يبدا المقال ويختم
وإذا تلا الراوون محكم آيها
صلى عليك السامعون وسلموا
وكفى برأي إمام عصرك ناقضا
ما أحكم الأعداء فيك وأبرموا
63
فهذه القصيدة تدلنا على أن الشاعر المهذب بن الزبير كان من الشعراء الذين أعادوا إلينا ذكرى الشعر العربي الرصين وإشراق ديباجته، وأنه كان من الشعراء الذين لم يخدعوا ببهرج اللفظ، ولم تبهرهم زينته، حقيقة قد ألم ببعض مقابلات بديعية، ولكنه لم يسرف فيها إسراف غيره من الشعراء الذين أعجبوا بالصنعة البديعية، فأفرطوا فيها إفراطا جعلهم يخرجون الشعر عن طبيعته وسلامته، وأخلوا بالمعنى في سبيل اللفظ. ولنأخذ مثلا آخر من قصيدة لهذا الشاعر في مدح الملك الصالح طلائع بن رزيك؛ لنستدل بها على أن فن الشاعر قريب من فن شعراء فحول الأمويين والعباسيين:
أقصر فديتك عن لومي وعن عذلي
أو، لا فخذ لي أمانا من يد القتل
من كل طرف مريض الجفن تنشدنا
ألحاظه «رب رام من بني ثعل»
إن كان فيه لنا، وهو السقيم، شفا «فربما صحت الأجسام بالعلل»
إن الذي في جفون البيض إذ نظرت
تطريا في جفون البيض والخلل
كذاك لم يشتبه في القول لفظهما
إلا كما اشتبها في الفعل والعمل
وقد وقفت على الأطلال أحسبها
جسمي الذي بعد بعد الظاعنين بلي
أبكي على الرسم في رسم الديار فهل
عجبت من طلل يبكي على طلل
وكل بيضاء لو مست أناملها
قميص يوسف يوما قد من قبل
تغني من الدر والياقوت لبستها
لحسنها فلها حلي من العطل
بالخد مني آثار الدموع كما
لها على الخد آثار من القبل
كأن في سيف سيف الدين عن خجل
من عزمه ما به من حمرة الخجل
هو الحسام الذي يسمو بحامله
زهوا فيفتك بالأسياف والدول
إذا بدا عاريا من غمده خلعت
غمد الدماء عليه هامة البطل
وإن تقلد بحرا من أنامله
رأيت كيف اقتران الرزق بالأجل
من السيوف التي لاحت بوارقها
في أنمل هي سحب العارض الهطل
ومنها:
أفارس المسلمين اسمع فلا سمعت
أعداك غير صليل البيض في القلل
مقال ناء غريب الدار قد عدم ال
أنصار لولاك لم ينطق ولم يقل
يشكو مصائب أيام قد اتسعت
فضاق منها عليه أوسع السبل
يرجوك في دفعها بعد الإله وقد
يرجى الجليل لدفع الحادث الجلل
فما تخاف الردى نفس وكم رضيت
بالعجز خوف الردى نفس فلم تبل
إني امرؤ قد قتلت الدهر معرفة
فما أبيت على بأس ولا أمل
إن يرو ماء الصبا عودي فقد عجمت
مني طروق الليالي عود مكتهل
تجاوزت بي مدى الأشياخ تجربتي
قدما وما جاوزت بي سن مقتبل
وأول العمر خير من أواخره
وأين ضوء الضحى من ظلمة الأصل
دوني الذي ظن أني دونه فله
تعاظم لينال المجد بالجبل
والبدر يعظم في الأبصار صورته
ظنا ويصغر في الأفهام عن زحل
ما ضر شعري أني ما سبقت إلا
أجاب دمعي وما الداعي سوى ظلل
فإن مدحي لسيف الدين تاه به
زهوا على مدح سيف الدولة البطل
64
ولعلك تلاحظ في هذه القصيدة كيف ضمن الشاعر في البيت الثاني إشارة امرئ القيس إلى بني ثعل، وقول امرئ القيس:
رب رام من بني ثعل
مخرج كفيه من ستره
وكيف ضمن ابن الزبير في البيت الثالث عجز بيت للمتنبي من قوله:
لعل عتبك محمود عواقبه
فربما صحت الأجسام بالعلل
والشاعر في هذه القصيدة، بل في كل قصائده التي وصلت إلينا من ديوانه الذي فقد، يظهر شاعرية فحول الشعراء، تلك الشاعرية الطبيعية التي يصدر عنها هذا الشعر الجزل الرصين الذي لا نجد له مثيلا بين شعر مصر الفاطمية، ولعل ذلك يرجع إلى أن المهذب بن الزبير لم ينشأ في القاهرة أو الفسطاط، ولكنه نشأ في أسوان، وتطبع هناك بالبيئة التي أحاطت به، فهي محافظة أكثر من بيئة القاهرة، وهي إلى البداوة أقرب؛ لبعدها أولا عن بقية بلاد القطر، ولبيئتها الجغرافية التي جعلت منها بلدا يتميز بجو خاص، وتربة هي مزيج من أقسام صحراوية وأخرى صخرية وثالثة خصبة، فالذين يعيشون في هذا البلد أو ينشئون فيه يمتازون بأنهم أقرب إلى البداوة منهم إلى الحضر، فلعل هذا هو السبب في أن شعر المهذب وشعر أخيه الرشيد رصين جزل، لا نجد فيه طراوة شعر أهل القاهرة والفسطاط، ولا نعومة شعر الأمير تميم أو إبراهيم الرسي أو حيدرة العقيلي، ولا شعبية شعر ظافر الحداد.
أصيب هذا الشاعر في أواخر أيامه إبان وزارة شاور بمحنة كان بريئا منها؛ فقد حبسه شاور ظلما بسبب اتصال أخيه الرشيد بصلاح الدين يوسف بن أيوب إبان حصار الإسكندرية، فأخذ المهذب يستعطف شاور، ويرسل إليه الأشعار في مدح ابنه الكامل بن شاور، فمن ذلك قوله:
إذا أحرقت في القلب موضع سكناها
فمن ذا الذي من بعد يكرم مثواها
وإن نزفت ماء العيون بهجرها
فمن أي عين تأمل العيس سقياها
وما الدمع يوم البين إلا لآلئ
على الرسم في رسم الديار نثرناها
وما أطلع الزهر الربيع وإنما
رأى الدمع أجياد الغصون فحلاها
ولما أبان البين سر صدورنا
وأمكن فيها الأعين النجل مرماها
عددنا دموع العين لما تحدرت
دروعا من الصبر الجميل نزعناها
ولما وقفنا للوداع وترجمت
لعيني عما في الضمائر عيناها
بدت صورة في هيكل فلو أننا
ندين بأديان النصارى عبدناها
وما طربا صغنا القريض وإنما
جلا اليوم مرآة القرائح مرآها
ليالي كانت في ظلام شبيبتي
سراي وفي ليل الذوائب مسراها
تأرج أرواح الصبا كلما سرى
بأنفاس ريا آخر الليل رياها
ومهما أدرنا الكأس باتت جفونها
من الراح تسقينا الذي قد سقيناها
ومنها:
ولو لم يجد يوم الندى في يمينه
لسائله غير الشبيبة أعطاها
فيا ملك الدنيا وسائس أهلها
سياسة من قاس الأمور وقاساها
ومن كلف الأيام ضد طباعها
فعاين أهوال الخطوب فعاناها
عسى نظرة تجلو بقلبي وناظري
صداه فإني دائما أتصداها
65
فأطلقته هذه الأشعار من سجنه، واصطنعه الكامل بن شاور لنفسه.
وكان المهذب مثل أخيه الرشيد يذم الزمان، ويتألم لأخلاق الناس حوله، فهم سواسية في اللؤم، وكان يتطلع إلى المجد، فهو يفخر بنفسه، ويفخر بشعره، فهو يقول في إحدى قصائده:
تشابه الناس في خلق وفي خلق
تشابه الناس والأصنام في الصور
ولم أبت قط من خلق على ثقة
إلا وأصبحت من عقلي على غرر
لا تخدعني بمرئي ومستمع
فما أصدق لا سمعي ولا بصري
وكيف آمن غيري عند نائبة
يوما إذا كنت من نفسي على حذر
تأبى المكارم والمجد المؤثل لي
من أن أقيم وآمالي على سفر
إني لأشهر في أهل الفصاحة من
شمس، وأسير في الآفاق من قمر
وسوف أرمي بنفسي كل مهلكة
تسري بها الشهب إن سارت على خطر
إما العلا وإليها منتهى أملي
أو الردى فإليه منتهى البشر
66
ويقول مرة أخرى:
ومن نكد الأيام أني كما ترى
أكابد عيشا مثل دهري أنكدا
أمنت عداتي ثم خفت أحبتي
لقد صدقوا إن الثقات هم العدا
67
وقد توفي هذا الشاعر سنة 561ه.
القاضي الرشيد بن الزبير
أما ثاني المهذبين الأخوين الشاعرين، فهو أحمد بن علي بن إبراهيم بن الزبير الغساني، وكان الرشيد أعلم من أخيه، وأخوه أشعر منه، فقد ضرب الرشيد بسهم وافر في الفقه واللغة والنحو والتاريخ والمنطق والهندسة والطب والموسيقى والنجوم، كما كان جيد النثر، وله تصانيف منها: كتاب «منية الألمعي، وبلغة المدعي»، وكتاب المقامات، ولعل أشهر تصانيفه هو كتاب: «جنان الجنان، وروضة الأذهان» الذي تحدث فيه عن شعراء مصر ومن طرأ عليها، وجعله ذيلا على يتيمة الدهر للثعالبي، وهو الكتاب الذي أخذ عنه العماد الأصفهاني أكثر مادة القسم الخاص بمصر من كتابه الخريدة. وللرشيد عدة كتب أخرى منها كتاب «الهدايا والطرف»، وكتاب «شفاء الغلة في سمت القبلة»، ومجموعة رسائله، وديوان شعره، فهو على هذا النحو عالم شاعر أفاد المصريين وغيرهم، ويحدثنا العماد أن محمد بن عيسى اليمني أخذ عن الرشيد باليمن علم الهندسة،
68
ولكن الرشيد عرف بالشعر أكثر مما عرف بهذه العلوم، حتى قيل: إن سبب تقدمه في الدولة أنه جاء القاهرة بعد مقتل الخليفة الظافر، وحضر المأتم مع الشعراء، فقام آخرهم وأنشد قصيدته التي مطلعها:
ما للرياض تميل سكرا
هل أسقيت بالمزن خمرا
إلى أن وصل إلى قوله:
أفكر بلاء بالعراق
وكربلاء بمصر أخرى
فضج القصر بالبكاء، وانثالت عليه العطايا، ومن ثم بدأت صلته بالقصر والوزراء، ثم أوفد مبعوثا إلى اليمن، ولا ندري الأمر الذي من أجله أوفد إليها، وإن كان صاحب كتاب «الفترات والترانات» يشير إلى أن الرشيد لم يكن رشيدا في بعثته، ولعل هذه إشارة إلى ما روي أن الرشيد قلد قضاء اليمن ولقب هناك «بقاضي قضاة اليمن وداعي دعاة الزمن»، وأنه مكث هناك عامين فقيل: إنه مدح الأمير علي بن حاتم الهمداني بقصيدة منها:
لقد أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا
فلست أنال القحط في أرض قحطان
وقد كفلت لي مأرب بمآربي
فلست على أسوان يوما بأسوان
وإن جهلت حقي زعانف خندف
فقد عرفت فضلي غطارف همدان
فحسده داعي عدن، وكتب بهذه الأبيات إلى مصر، فكانت هذه الأبيات سببا في غضب أولي الأمر بمصر عليه، كما غضب أولو الأمر بعدن، فأخذ الرشيد وحبس ثم صفح عنه، وقيل: بل إن السبب غير ذلك، وذلك أن نفسه سمت إلى مرتبة الخلافة في اليمن فسعى فيها، وأجابه قوم وسلم عليه بها، وضربت له السكة فنقش على وجه:
قل هو الله أحد * الله الصمد ، وعلى الوجه الآخر: «الإمام الأمجد أبو الحسن أحمد»، فقبض عليه وأرسل إلى مصر مكبلا ثم أفرج عنه، ولعل الرواية الأولى أصح من الثانية، فإن الرشيد وقد علمنا ما كان عليه من علم وعقل، لا يبلغ به الأمر إلى أن يدعي الإمامة في الوقت الذي أنكرت فيه إمامة الحافظ والفائز والظافر والعاضد، ودعي فيه للإمام المستور ولقائم القيامة، ثم إن مركز الدعوة للإمام المستور انتقل من مصر إلى اليمن منذ مقتل الآمر بأحكام الله، فكيف يدعي الرشيد الإمامة في اليمن، وجميعهم يعرفون شروط الإمامة، وأهمها: أن يكون الإمام من نسل النبي، وأن يكون الإمام قبله قد نص عليه، ولعل القائمين بأمر مصر في ذلك الوقت لم يكونوا من الغباء والبله لدرجة العفو عن مثل هذا الرجل الدعي، ولا سيما في إبان حكم الملك الصالح طلائع بن رزيك، وقد عرفناه من أشد وزراء ذلك العصر تعصبا للمذهب والإمامة، لهذا كله أرى أن الرشيد إنما أمسك وسجن بسبب حقد داعي عدن عليه. وقد رأينا قصيدة أخيه المهذب التي أرسل بها إلى داعي اليمن حينما قبض على الرشيد؛ فلم نجد في هذه القصيدة إشارة إلى ادعاء الرشيد الخلافة، وقد علم الرشيد بأمر هذه القصيدة فأجاب أخاه بقصيدة هي:
يا ربع، أين ترى الأحبة يمموا
رحلوا، فلا خلت المنازل منهم
وسروا، وقد كتموا الغداة مسيرهم
وضياء نور الشمس ما لا يكتم
وتبدلوا أرض العقيق من الحمى
روت جفوني أي أرض يمموا
نزلوا العذيب، وإنما في مهجتي
نزلوا، وفي قلب المتيم خيموا
ما ضرهم، لو ودعوا من أودعوا
نار الغرام، وسلموا من أسلموا
هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا
أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتهموا
وهم مجال الفكر من قلبي، وإن
بعد المزار فصفو عيشي معهم
أحبابنا، ما كان أعظم هجركم
عندي، ولكن التفرق أعظم
غبتم فلا والله ما طرق الكرى
جفني ولكن سح بعدكم الدم
وزعمتم أني صبور بعدكم
هيهات لا لقيتم ما قلتم
وإذا سئلت بمن أهيم صبابة
قلت: الذين هم الذين هم هم
النازلين بمهجتي وبمقلتي
وسط السويدا والسواد الأكرم
لا ذنب لي في البعد أعرفه سوى
أني حفظت العهد لما خنتم
فأقمت حين ظعنتم، وعدلت لم
جرتم، وسهرت لما نمتم
يا محرقا قلبي بنار صدودهم
رفقا ففيه نار شوق تضرم
أسعرتم فيه لهيب صبابة
لا تنطفي إلا بقرب منكم
يا ساكني أرض العذيب سقيتم
دمعي إذا ضن الغمام المرزم
بعدت منازلكم وشط مزاركم
وعهودكم محفوظة مذ غبتم
لا لوم للأحباب فيم قد جنوا
حكمتهم في مهجتي فتحكموا
أحباب قلبي أعمروه بذكركم
فلطالما حفظ الوداد المسلم
واستخبروا ريح الصبا تخبركم
عن بعض ما يلقى الفؤاد المغرم
كم تظلمونا قادرين وما لنا
جرم ولا سبب، لمن نتظلم؟
ورحلتم وبعدتم وظلمتم
ونأيتم وقطعتم وهجرتم
هيهات لا أسلوكم أبدا وهل
يسلو عن البيت الحرام المحرم؟
وأنا الذي واصلت حين قطعتم
وحفظت أسباب الهوى إذ خنتم
جار الزمان علي لما جرتم
ظلما ومال الدهر لما ملتم
وغدوت بعد فراقكم وكأنني
هدف يمر بجانبيه الأسهم
ونزلت مقهور الفؤاد ببلدة
قل الصديق بها وقل الدرهم
في معشر خلقوا شخوص بهائم
يصدى بها فكر اللبيب ويبهم
إن كورموا لم يكرموا، أو علموا
لم يعلموا، أو خوطبوا لم يفهموا
لا تنفق الآداب عندهم ولا ال
إحسان يعرف في كثير منهم
صم عن المعروف حتى يسمعوا
هجر الكلام فيقدموا ويقدموا
فالله يغني عنهم ويزيد في
زهدي لهم ويفك أسري منهم
69
فهذه القصيدة التي أجاب بها عن قصيدة أخيه، والتي قالها الرشيد وهو أسير في اليمن، تؤيد ما ذهبنا إليه من أن قصة دعوته الإمامة لنفسه، إنما هي قصة موضوعة، فالرشيد لم يشر إليها ولم يعتذر عنها، وإنما يتحدث عن أعدائه الذين لم يقدروا شعره، فلم تنفق الآداب عندهم، ولم يقدروا إحسانه إليهم، فهم صم عن المعروف، وهم «شخوص بهائم». فالرشيد لم يكن بالرجل الذي يطلب الإمامة لنفسه، ثم يقول مثل هذا القول.
كان الرشيد كما وصفه ياقوت: على جلالته وفضله ومنزلته من العلم والنسب، قبيح المنظر، أسود الجلدة، جهم الوجه، سمج الخلقة، ذا شفة غليظة وأنف مبسوط كخلقة الزنوج قصيرا،
70
فكان ذلك سببا في تهكم شعراء مصر به، فقد قيل: إن الرشيد ولي على المطبخ، فقال الشريف الأخفش يخاطب الملك الصالح بن رزيك:
يولي على الشيء أشكاله
فيصبح هذا لهذا أخا
أقام على المطبخ ابن الزبير
فولى على المطبخ المطبخا
71
ومما يروى في ذلك أنه اجتمع ليلة عند الملك الصالح هو وجماعة من الشعراء والفضلاء؛ فألقى الصالح مسألة في اللغة، فلم يجب عنها بالصواب سوى الرشيد؛ فأعجب به الصالح، فقال الرشيد: ما سئلت قط عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهما. فارتجل الشاعر ابن قادوس:
إن قلت: من نار خلق
ت، وفقت كل الناس فهما
قلنا: صدقت، فما الذي
أطفاك حتى صرت فحما
وهجاه ابن قادوس مرة أخرى بقوله:
يا شبه لقمان بلا حكمة
وخاسرا في العلم لا راسخا
سلخت أشعار الورى كلها
فصرت تدعى الأسود السالخا
وتروى عنه قصة هي أشبه بقصة الجاحظ مع المرأة التي أرادت نقش صورة الشيطان على الخاتم، ولعل سواده ودمامته وقصره كانت من الأسباب التي جعلته يكثر من ذم الدهر والناس، وأن يظهر في شعره سمة حزن لعدم وفاء الإخوان وغدرهم به، فقد أنشد وهو في اليمن:
لئن خاب ظني في رحابك بعد ما
ظننت بأني قد ظفرت بمنصف
فإنك قد قلدتني كل منة
ملكت بها شكري لدى كل موقف
لأنك قد حذرتني كل صاحب
وأعلمتني أن ليس في الأرض من يفي
72
وأنشد مرة أخرى وهو في مصر:
تواصى على ظلمي الأنام بأسرهم
وأظلم من لاقيت أهلي وجيراني
لكل امرئ شيطان جن يكيده
بسوء، ولي دون الورى ألف شيطان
73
اتصل الرشيد بن الزبير بآل رزيك ثم بالوزير شاور وابنه، ولي سنة 559ه النظر على الدواوين السلطانية بالإسكندرية، ثم اتصل بصلاح الدين الأيوبي أثناء محاصرته الإسكندرية، فكان ذلك سبب غضب شاور عليه، فاختفى الرشيد بالإسكندرية، وفي أيام اختفائه أرسل إليه ابن قلاقس هذه الأبيات:
تدانيت دارا والوصول نسوع
فخلك ذو الود الوصول قطوع
حجبت ولم تحجب محاسنك التي
تأنق منها يا غمام ربيع
وضيعت في صون فضعت وهكذا
يصان فتيت المسك وهو يضوع
وإنك والبيت الذي قد عمرته
لكالقلب قد ضمت عليه ضلوع
وما أنت إلا العضب لازم جفنه
لينضى بكف إذ يروق يروع
سيفتق عن زهر بديع كمامه
فما ذاك من صنع الإله بديع
وتسفر عن صبح شريق دجنة
ولا سيما قد كان منه طلوع
كأني بها يابن الكرام مغيرة
لها فوق هاتيك الربوع ربوع
بحيث تريك البر كالبحر ذبل
وبيض، وبيض أشرقت ودروع
وفرسان حرب لا البعيد عليهم
بعيد، ولا العالي الرفيع رفيع
بذلك لا تعجب فإني قائل
وإنك في الشهر الأصم سميع
74
وظل الرشيد مختفيا إلى أن قبض عليه، وأشهر على جمل وعلى رأسه طرطور، ووراءه من ينال منه، فكان الرشيد ينشد وهو على هذه الحال:
إن كان عندك يا زمان بقية
مما تهين به الكرام فهاتها
ثم صلب شنقا ودفن حيث شنق، ومن غريب الاتفاق أن يدفن شاور بعد أيام قليلة في نفس المكان الذي دفن فيه الرشيد. ورثى الجليس بن الحباب صديقه الرشيد بقوله:
ثروة المكرمات بعدك فقر
ومحل العلا ببعدك قفر
بك تجلى إذا حللت الدياجي
وتمر الأيام حيث تمر
أذنب الدهر في مسيرك ذنبا
ليس منه سوى إيابك عذر
75
القاضي الجليس
هو أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب المعروف بالقاضي الجليس السعدي، ولقب بأمين الدين،
76
وهو أحد الشعراء الثلاثة الذين كان يقتدي بهم عمارة اليمني في مدح الملك الصالح طلائع بن رزيك، والاثنان الآخران هما ابنا الزبير المهذب والرشيد، ولكن يخيل إلي أن الجليس كان أقل الثلاثة جودة في الشعر، وأقلهم إنتاجا في القريض، وربما كان عمله في ديوان الإنشاء مع الموفق بن الخلال أيام الفائز،
77
جعله لا يهتم بالشعر اهتمام زميليه ابني الزبير، وقد رأينا كيف كانت قصيدته في استدعاء الملك الصالح من الصعيد للأخذ بثأر الخليفة الظافر، والقدماء يذكرون أن الجليس له المعاني المبدعة في شعره، ومثلوا لذلك بقوله:
ومن عجب أن الصوارم في الوغى
تحيض بأيدي القوم وهي ذكور
وأعجب من ذا أنها في أكفهم
تأجج نارا والأكف بحور
78
ولا أدري ما الذي أعجب القدماء في هذه الصورة التي أتى بها في البيت الأول، فإني لا أعجب بها كإعجاب القدماء، وإن كنت أعجب بالبيت الثاني، ومن مقطوعاته التي حفظت لنا قوله يتهكم بطبيب:
وأصل بليتي من قد غزاني
من السقم الملح بعسكرين
طبيب طبه كغراب بين
يفرق بين عافيتي وبيني
أتى الحمى وقد شاخت وباخت
فعاد لها الشباب بنسختين
ودبرها بتدبير لطيف
حكاه عن سنان أو حنين
وكانت نوبة في كل يوم
فصيرها بحذق نوبتين
79
ثم قوله في مدح طبيب:
يا وارثا عن أب وجد
فضيلة الطب والسداد
وحاملا رد كل نفس
همت عن الجسم بالبعاد
أقسم لو قد طببت دهرا
لعاد كونا بلا فساد
80
وكان الجليس من كبار رجال الدولة، ولقب بالجليس لأنه كان جليس الخلفاء مقربا إليهم، فلا غرو أن رأينا شعراء عصره يلوذون به، وينشدونه مدائحهم فيه،
81
فقد مدحه ابن قلاقس بعدة قصائد منها قوله:
عفا طربي إلى عافي الرسوم
فلا روى الغمام ربى الغميم
وكنت أبا المنازل والفيافي
فصرت أخا المدامة والنديم
أميل إلى سلافة بنت كرم
وأدنو من سوالف أم ريم
هدتنا للسرور نجوم راح
بها قذفت شياطين الهموم
وكف الصبح يلقط ما تبدى
بجيد الليل من درر النجوم
فإن توجت راحي كأس راح
فشرب الإثم أولى بالأثيم
ولما أقفرت أوكار وفري
عمرت بعزمتي أكوار كومي
إلى القاضي الجليس استنجدتها
أزمة نجدة وحداة خيم
فقال لها لسان الدهر: هذا
تمام الفضل أودع في تميم
تقسم بين شمس ضحى وبحر
هداية قاصد، وغني عديم
وجلى ظلمتي خطب وجدب
برأي مجرب وندى عميم
وملك حاسديه فجاذبته
خلائقه إلى الطبع الكريم
عجبت لوجهه ولراحتيه
سنا شمس تبدى في غيوم
ومطلب مداه كبا فقلنا
أليم العيش أولى باللئيم
وقافية أهز بها إذا ما
نطقت معاطف الطرب الرميم
تسير وإن أقام بها ثناه
وأعجب ما ترى سفر المقيم
82
ومدحه رضي الدولة أبو سليمان داود بن مقدام، الذي أنشد قصيدة في وصف حاله ومدح فيها الجليس، ومنها:
وقد بكرت تلوم على خمولي
كأن الرزق يجلبه خيالي
تقدر أنني بالحرص أحوي الث
راء وذاكم عين المحال
تقول إذا رأت إرشاد قولي
هبلت ألا تهب إلى المعالي
ومن لم يعشق الدنيا قديما
ولكن لا سبيل إلى الوصال
ولو أدليت دلوك في دلاء
متحت به من الماء الزلال
وكم أدليت من دلو ولكن
بلا بلل يرد على قذالي
ولا أنا بالكفاف النزر راض
ولا أنا عن طلاب الكثر سال
ولكن ذاك من قبل اعتمادي
على عبد العزيز أبي المعالي
83
كما مدحه الشاعر عمارة اليمني بعدة قصائد.
ولكن الشاعر أبا القاسم هبة الله بن البدر المعروف بابن الصياد كان مولعا بهجاء القاضي الجليس، كثير التهكم بأنفه الكبير، حتى قيل: إن ابن الصياد أنشد أكثر من ألف مقطوعة في أنف الجليس،
84
إلى أن انتصر له الشاعر أبو الفتح بن قادوس الذي هجا ابن الصياد بقوله:
يا من يعيب أنوفنا الش
م التي ليست تعاب
الأنف خلقة ربنا
وقرونك الشم اكتساب
85
وتوفي الجليس سنة 591ه قبل المهذب بن الزبير بشهر واحد، وقيل إنه لما مات ابن الحباب شمت به المهذب، ومشى في جنازته بثياب مذهبة، فاستقبح الناس فعله ونقص بهذا السبب،
86
ورثى الجليس عدد من الشعراء منهم ابن قلاقس، فمن قوله يرثي الجليس ، ويمدح ابنيه:
علمنا، وقد مات الكمال، التساويا
فيا حسنات الدهر عدن مساويا
وقمنا نرجي في المصاب مواسيا
فأعوزنا لما عدمنا موازيا
ومما شجا أن المعالي تجدلت
ولم تنتصر فيها الكماة العواليا
سألت فقالوا: مصرع لو علمته
فأيقنت لكني خدعت فؤاديا
فحين احتوت كف المنون على المنى
تقلص عن يأسي جناح رجائيا
ومن يسأل الركبان عن كل غائب
فلا بد أن يلقى بشيرا وناعيا
ولما سرى بي نحوه الوجد قاعدا
ولم أستطع عقرا عقرت القوافيا
وسيرت منها بالنوادي نوادبا
شوائد بالذكر الجميل شواديا
وعضب جدال فلل الدهر حده
وما كان إلا قاضب الحد قاضيا
ونور هدى أسرى به خابط الهدى
فلما خبت أضواؤه عاش عاشيا
لمنعاه قام الرعد بالجو نائحا
وبالبرق ملطوما وبالغيث باكيا
وأسلبت الظلماء نور غدائر
إلى أن أشاب الصبح منها النواصيا
تخرمه الدهر المخاتل صائدا
فخلف حتى الري في الماء صاديا
ولو رامه شاكي السلاح محسدا
لراح كما لا يشتهي عنه شاكيا
وهيهات جر الدهر من قبل «جرهما»
وشد على «عاد» و«شداد» عاديا
وكدر ندماني «جذيمة» بعد ما
أقاما زمانا يشربان التصافيا
جليس أمير المؤمنين أقمتها
لفقدك فاسمع صالحات بواقيا
وقد كنت أجلوها عليك تهانئا
فوا أسفا كيف استحالت تعازيا
ولولا سليلاك اللذان توارثا
حلاك ملأت الخافقين مراثيا
هما ألبساني عنك ثوب تصبر
وأعلاق قلبي باقيات كما هيا
سقى الرائح الغادي ضريحك صوبه
وإن كان يسقي الرائحات الغواديا
ولا برحت فيك القلوب عقيرة
تسيل بأسراب الدماء المآقيا
87
عمارة اليمني
هو الشاعر الذي يقرن اسمه بأسماء فحول شعراء العصر الفاطمي، بالرغم من أنه لم يكن مصريا، ولكنه وفد على مصر في ربيع الأول سنة 550ه برسالة من أمير مكة قاسم بن هاشم، فأدخل عمارة قاعة الذهب بقصر الخليفة، وأنشد قصيدته التي مطلعها:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم
حمدا يقوم بما أولت من النعم
فأعجب الخليفة الفائز ووزيره الملك الصالح ورجال القصر بقصيدته، فأغدقوا على الشاعر نعمهم وعطاياهم، فأمر الوزير بأن يحضر عمارة مجلسه الذي يضم كبار رجال الأدب والعلم بمصر أمثال الجليس، وابن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، وابن قادوس، والمهذب بن الزبير ... وغيرهم، ومكث عمارة بمصر حتى شوال سنة 550ه ثم عاد إلى مكة، ومنها رحل في صفر سنة 551ه إلى وطنه الأصلي اليمن، وفي هذه السنة نفسها ذهب لتأدية فريضة الحج، فطلب منه أمير مكة أن يسفر بينه وبين الملك الصالح مرة أخرى، فجاء إلى مصر حيث أمضى ما بقي من سني حياته.
اتصل عمارة بمصر بالأحداث التي مرت عليها منذ وزارة الملك الصالح طلائع بن رزيك حتى انقرضت الدولة الفاطمية؛ لصلته الوثيقة برجال الدولة إبان هذه الحقبة من الزمان، ويعد شعر عمارة من السجلات والوثائق التي تطلعنا على تاريخ مصر إبان هذه السنوات المضطربة، التي أدت إلى زوال الدولة الفاطمية، فإن الجزء الذي بقي لنا من شعر عمارة يدل على أنه أنشد في كل حادثة ألمت بمصر في هذه السنين؛ فقد كان يمدح الوزراء الذين كان بيدهم مقاليد الأمور، وكان يمدح الأمراء الذين هم كبار رجال الدولة، فوجد من الحوادث مناسبت لهذه المدائح، كما أنه وجد منها مادة لكتابة «النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية»، وهو أوثق المصادر عن تاريخ هذه الأيام من أيام مصر الفاطمية، كما أنه شارك شعراء مصر في الإشادة بالأعياد المصرية وأيام المواسم، ونحن نعلم أن عمارة كان سني المذهب، بل كان متعصبا لمذهبه، ولم يتحول عن هذا المذهب، بالرغم من محاولة الوزراء والأمراء معه لكي يعتنق مذهب الفاطميين، ومع ذلك كله فإن عمارة تأثر بما كان يجري في مصر، وأسهم مع غيره من شعراء مصر في الإشادة بعقائد الفاطميين، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما قبل. ونستشهد الآن بقصيدته النونية التي قالها في رثاء أهل البيت في عاشوراء، وضمنها مدحا للملك الصالح، وهي القصيدة التي أولها:
شأن الغرام أجل أن يلحاني
فيه، وإن كنت الشفيق الحاني
أنا ذلك الصب الذي قطعت به
صلة الغرام مطامع السلوان
ملئت زجاجة صدره بضميره
فبدت خفية شأنه للشاني
غدرت بموثقها الدموع فغادرت
سرى أسيرا في يد الإعلان
عنفت أجفاني فقام بعذرها
وجد يبيح ودائع الأجفان
وفيها يقول عمارة:
يا صاحبي وفي مجانبة الهوى
رأي الرشاد، فما الذي تريان؟
قبضت على كف الصبابة سلو
تنهى النهى عن طاعة العصيان
أمسي وقلبي بين صبر خاذل
وتجلد قاص وهم دان
قد سهلت حزن الكلام لنادب
آل الرسول نواعب الأحزان
فابذل مشايعة اللسان ونصره
إن فات نصر مهند وسنان
واجعل حديث بني الوصي وظلمهم
تشبيب شكوى الدهر والخذلان
غصبت أمية إرث آل «محمد»
سفها وشنت غارة الشنآن
وغدت تخالف في الخلافة أهلها
وتقابل البرهان بالبهتان
لم تقتنع أحلامها بركوبها
ظهر النفاق وغارب العدوان
وقعودهم في رتبة نبوية
لم يبنها لهم «أبو سفيان»
حتى أضافوا بعد ذلك أنهم
أخذوا بثأر الكفر في الإيمان
فأتى «زياد» في القبيح زيادة
تركت «يزيد» يزيد في النقصان
حرب، بنو «حرب» أقاموا سوقها
وتشبهت بهم بنو «مروان»
لهفي على النفر الذين أكفهم
غيث الورى ومعونة اللهفان
أشلاؤهم مزق بكل ثنية
وجسومهم صرعى بكل مكان
مالت عليهم بالتمالئ أمة
باعت جزيل الربح بالخسران
دفعوا عن الحق الذي شهدت لهم
بالنص فيه شواهد القرآن
ما كان أولاهم به لو أيدوا
بالصالح المختار من «غسان»
أنساهم المختار صدق ولائه
كم أول أربى عليه الثاني
88
فهذه القصيدة من شعر عمارة تدل على أن الشاعر جارى القوم في عاداتهم، وفي أشعارهم، فهو لم يتشيع، ولكنه لم يستطع أن يتخلف عن غيره من شعراء مصر في رثاء أهل البيت في أيام مآتمهم، وشارك المصريين في احتفالاتهم، فله عدة قصائد في كسر الخليج، من ذلك ما أنشده سنة تسع وخمسين وخمسمائة في مدح العاضد:
سجودا فهذا صاحب الركن والحجر
ووارث علم النمل والنحل والحجر
وفيها يقول:
تمل أمير المؤمنين مواسما
تزورك من صوم شريف ومن فطر
يواصلها سعد بجدك مقبل
فعام إلى عام وشهر إلى شهر
ركبت إلى كسر الخليج وإنما
ركبت إلى جبر الرعايا من الكسر
ولما رأيت البر بحرا من الظبا
تعجبت من بحر يسير إلى نهر
غدوت بفتح السد في زحف أرعن
يسد هبوب الريح بالأسل السمر
يرد ظلام النقع فجرا كأنما
أسنته مطبوعة بسنا الفجر
كأن على البيداء منه صحيفة
كتائبها سطر يضاف إلى سطر
إذا خفقت أعلامه وبنوده
رأيت عليها غرة العز والنصر
وقد خلع التأييد فوقك حلة
تطرز بالإحسان والعدل والبر
أوارث مجد الحافظ بن محمد
وحافظ حكم الله في محكم الذكر
إذا ما استجاب الله صالح دعوة
فمتعك الرحمن بالناصر الذخر
89
وهكذا اضطر هذا الشاعر السني إلى أن يتأثر بما كان في مصر في العصر الفاطمي، وأن يتأثر بعقائد الفاطميين فأكثر منها في شعره، بل بلغ به تأثره بالفاطميين إلى أن يرثيهم ويثني عليهم في الوقت الذي تخلى عنهم جميع المصريين، وشمت بهم أعداؤهم العباسيون وجمهور أهل السنة، فعمارة اليمني السني المذهب كان وفيا لهم الوفاء كله، فأنشد قصيدته التي مطلعها:
رميت يا دهر كف المجد بالشلل
وجيده بعد حسن الحلى بالعطل
وفيها يقول، بعد أن وصف أيامهم وذكر أعيادهم ومنشآتهم:
والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم
ولا نجا من عذاب الله غير ولي
ولا سقى الماء من حر ومن ظمأ
من كف خير البرايا خاتم الرسل
ولا رأى جنة الله التي خلقت
من خان عهد الإمام العاضد بن علي
أئمتي وهداتي والذخيرة لي
إذا ارتهنت بما قدمت من عملي
تالله لم أوفهم في المدح حقهم
لأن فضلهم كالوابل الهطل
ولو تضاعفت الأقوال واتسعت
ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل
باب النجاة هم دنيا، وآخرة
وحبهم فهو أصل الدين والعمل
نور الهدى ومصابيح الدجى ومحل
الغيث إن ربت الأنواء في المحل
أئمة خلقوا نورا فنورهم
من محض خالص نور الله لم يغل
والله ما زلت عن حبي لهم أبدا
ما أخر الله لي في مدة الأجل
90
فكانت هذه القصيدة، وما قيل من أنه اشترك مع نفر من الأوفياء للفاطميين لإعادة ملكهم بتولية ابن العاضد، سببا في القبض عليه معهم وصلبه سنة تسع وستين وخمسمائة، واتهمه الفقهاء بالكفر، وقال فيه تاج الدين الكندي الشاعر:
عمارة في الإسلام أبدى خيانة
وبايع فيها بيعة وصليبا
فأمسى شريك الشرك في بغض أحمد
فأصبح في حب الصليب صليبا
وكان خبيث الملتقى إن عجمته
تجد منه عودا في النفاق صليبا
سيلقى غدا ما كان يسعى لأجله
ويسقى صدايد في لظى وصليبا
91
وهكذا أصاب عمارة ما أصاب الفاطميين الذين حبوه بأموالهم وعطاياهم، وأكرموه الإكرام كله، فقابل ذلك كله بوفاء الوفي الأمين.
ابن قلاقس
أبو الفتح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد القوي بن قلاقس اللخمي الإسكندري، ولقب بالقاضي الأعز، ولد بالإسكندرية سنة 532ه، وبها نشأ وتثقف فأخذ عن الحافظ أبي طاهر السلفي وعن غيره، ثم رحل عن مصر إلى اليمن، فدخل عدن سنة 563ه متكسبا بشعره، فمدح بها ياسر بن بلال، ثم سافر إلى صقلية سنة 565ه ومدح بها القائد أبا القاسم بن الحجر، وصنف باسمه كتابا سماه: «الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم»، وشاء العودة إلى مصر، وتوفي بعيذاب سنة 567ه.
92
فالشاعر كان يتجر بشعره، ويرحل إلى الممدوحين بقصد الكسب، مع أنه اتصل ببعض رجالات مصر وأخذ نوالهم. مدح الخليفة الفاطمي بقوله :
في مرتقى الوحي تعلو مرتقى الأمل
فافسح رجاءك واطلب فسحة الأجل
لا تنتجع للأماني بعده دولا
فقد تأملت منه واهب الدول
وانظر إلى صفوة الخلق التي ظهرت
للناس أيامه عن صفوة الرسل
لو عاد ينطح ذو القرنين صخرته
لعاد واهي قرون الرأس كالوعل
93
ومدح الوزير شاور، وعرض بشيركوه بقوله:
عارض الصفح في يديك الصفاحا
ورأى البأس أن تطيع السماحا
فرفعت الجناح عن جارم الذن
ب بعفو خفضت منه الجناحا
ووضعت السلاح حين أراك ال
عزم والرأي إن وضعت السلاحا
أي ثغر سما إليه أبو الفت
ح فلم يبتدر إليه افتتاحا
بخيول طارت بأجنحة النص
ر فراحت بها تباري الرياحا
وكماة غرقد اقتطعوا اللي
ل وساقوه في العجاح صباحا
ورماح تجني فنجنيك في الحر
ب شقيقا ما كان قبل أقاحا
وظبي تقطع الترائب مهما
ألقحت بالضراب حبا لقاحا
شاركت شيركوه في النفس والما
ل وصاحت به فصاحا فصاحا
طلب الأمن فاستجيب وما يع
رف منك الطلاب إلا النجاحا
بعد ما ضيق الحمام عليه
سبلا غودرت لديه فساحا
وأقامته كالجذور حماة
ضربت بالقنا عليه القداحا
فليطل بعدها الفخار فقد را
ح طليقا لبيضكم حيث راحا
يا معل الظبا البواتر ضربا
ترك المجد والمعالي صحاحا
فيك لله والخليفة سر
أوضحاه لمبصر إيضاحا
ذاك أعطاك آية النصر تصري
حا، وهذا أعطاك ملكا صراحا
94
ومدح الكامل بن شاور، والقاضي الجليس، والقاضي ابن خليف، والحافظ السلفي، وابن مصال، والقاضي الفاضل ... وغيرهم من رجال مصر، فمن مدائحه للكامل بن شاور قوله:
حمد السرى من كنت وجه صباحه
من بعد ذم غدوه ورواحه
ورأى النجاح مؤمل ألحقته
من حسن رأيك فيه ظل جناحه
وأما وعزمك وهو أنهض فاتك
لقد انبرى والصفح تلو صفاحه
وبديع مدحك وهو أينق متجر
لقد اغتدى والعز من أرباحه
فالدهر بين فريده وفرنده
متقلد بنجاده ووشاحه
بأس تورد في خدود شقيقه
وندى تبسم في ثغور أقاحه
والكامل المسعود في آفاقه
بدر جلا الإمساء عن إصباحه
بمناقب سمت النجوم لنيلها
فاستخدمتها في رءوس رماحه
ومواهب عان السحاب معينها
فاستغرقته في بحور سماحه
يا آل شاور أنتم دون الورى
للملك كالأرواح في أشباحه
وإلى معاليكم إشارة خرسه
وعلى أياديكم ثناء فصاحه
لم لا يكون الشكر عندك منتجا
ونداك قوام بأمر لقاحه
95
ولكنه كان مولعا بالأسفار وركوب البحر، ولذلك يقول:
والناس كثر ولكن لا يقدر لي
إلا مرافقة الملاح والحادي
96
ويقول: في مدح ياسر بن بلال الداعي بمدينة عدن، وكان قد فارقه، ولكن سفينته غرقت فعاد إليه مرة أخرى، وأنشده هذه القصيدة يصف فيها غرقه، ويتحدث عن ولعه بالأسفار:
سافر إذا ما شئت قدرا
سار الهلال فصار بدرا
والماء يكسب ما جرى
طيبا ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النقي
ة بدلت بالبحر نحرا
وصلا إذا امتلأت يداك
فإن هما حلتا فهجرا
فالبدر أنفق نوره
لما بدا ثم استسرا
حركات عيسك ما أرد
ت مهاد عيشك أن يقرا
إما تريني شاحب ال
وجنات قد ألبست طمرا
فوقائع الأيام تخ
رج أهلها شعثا وغبرا
مدت إلى الأربعو
ن يدا وقد قهقرت عشرا
واستحدثت في لمتي
نقطا فهلا كن حبرا
ما قلت أف فإنها
شرر بأف يعود جمرا
وكفاك أني إن نظر
ت لها نظرت النجم ظهرا
كان الشباب الغض لي
لا فاستنار الشيب فجرا
ولئن تقلب بي الزما
ن كما اشتهى بطنا وظهرا
فبما قتلت صروفه
وقتلته جلدا وخبرا
غاض الوفاء وفاض ما
ء الغدر أنهارا وغدرا
فانظر بعينك هل ترى
عرفا، وليس تراه نكرا
خلق جرى من آدم
في نسله وهلم جرا
ومروعي بالبحر يح
سب أنني أرتاع بحرا
أوما درى أني بتس
هيل المصاعب منه أدرى
أعددت نظرة «ياسر»
نحوي وسوف تعود يسرا
من صرف الأقدار في
أيامه كسرا وجبرا
واستخدم الأيام في
أحكامه نهيا وأمرا
وانتاشني في نظرة
أولى سيتبعها بأخرى
فالسحب ترشح إذ جرت
في إثره بالجهد قطرا
والرعد رجع جاهدا
أنفاسه تعبا وبهرا
غرس الصنائع في الرقا
ب فأنبتت حمدا وشكرا
يقظان إن نبهته
عمرا أو استنجدت عمرا
ولرب طرة معرك
سوداء أعدته طرا
أسرى إلى أبطالها
فأبادهم قتلى وأسرى
من كل متشح على
نهر الدلاص الرعف نهرا
جروا الذوائب والذوا
بل خلفهم بيضا وسمرا
فالسيف يقرع بينهم
بثقيفه، والضيف يقرى
يا راويا عن شخصه
خبرا ولم يعرفه خبرا
والثم بنان يمينه
وقل السلام عليك بحرا
وغلطت في تشبيهها
بالبحر، اللهم غفرا
أولست نلت بذا ندى
جما، ونلت بذاك فقرا
بنوافذ ترنو الريا
ح لها بطرف الحقد شزرا
لا زال ينظر عودها
بنداه لدن المتن نضرا
97
وهذا الشاعر الرحالة كان يميل إلى الإكثار من المحسنات البديعية في شعره، بخلاف بعض الشعراء الذين عاصروه أمثال المهذب والرشيد والجليس وغيرهم، وإن كان هؤلاء الشعراء قد ألموا بالمحسنات البديعية، ولكنهم لم يتعمدوها كما تعمدها ابن قلاقس الذي كان يجهد نفسه على ما يظهر لنا في الإتيان بهذه المقابلات والتوريات وغيرها من ألوان الزينة اللفظية. •••
من هذا الفصل نستطيع أن ندرك كيف كان للوزراء أثر في حياة الشعر في العصر الفاطمي، وكيف اجتمع الشعراء حول الوزراء يمدحونهم، ويأخذون عطاياهم، أسوة بما كان يحدث لدى الخلفاء أنفسهم إبان سطوتهم وقوة ملكهم، ونحن نأسف أن يضيع أكثر شعر هؤلاء الشعراء، فلم يصلنا منه إلا هذه القطع المتفرقة أو القصائد الناقصة، ومع ذلك فالذي بقي لنا من الشعر يدلنا على أن نهضة الشعر كانت قوية، وأن تياره كان جارفا، وأن عدد الشعراء المجيدين تضاعف بحيث يخيل إلينا أن كل مثقف في ذلك العصر كان ينشد الشعر، وأن كتاب الدواوين والقضاة كانوا من الشعراء. ويكفي أن نلقي نظرة على مجاميع الشعر، أمثال اليتيمة والدمية والخريدة، أو كتب التراجم؛ لندرك أن عددا كبيرا جدا من المصريين أنشد الشعر، وأن الشعر كان من الجودة بحيث استطاعت مصر أن تبز غيرها في مضمار القريض.
الفصل الرابع
الشعر والحرب الصليبية
يخيل لكل من يقرأ تاريخ الفاطميين في مصر أن مصر في هذا العهد كان يسودها الأمن، وأن المصريين كانوا يعيشون في دعة ولين، ألم يتحدث المؤرخون عن النعيم الذي كان في العصر الفاطمي، والترف الذي كان يرفل فيه المصريون، والحياة الناعمة اللينة التي كان يحياها الناس؟ ولكن المؤرخين أنفسهم تحدثوا أيضا عن لون آخر من الحياة، هي حياة الاضطرابات والحروب الكثيرة التي كان يشنها أعداء الفاطميين على بلادهم وممتلكاتهم، منذ أقام الفاطميون دولتهم في شمال إفريقية، فقد كان أعداؤهم يحيطون بممتلكاتهم من كل جانب، ويتحينون الفرص للإيقاع بهذه الدولة الفاطمية التي قامت لتثل عرش العباسيين في المشرق والأمويين في المغرب، كما كان أمام الفاطميين عدو المسلمين العتيد - أعني الروم - ودول جنوب أوروبا التي كان يهددها الفاطميون من صقلية ومستعمراتهم في إيطاليا، حتى إذا كان النصف الثاني من القرن الخامس للهجرة رأينا الفاطميين يشتبكون في حروب صعبة المراس، هي التي عرفت في التاريخ بالحروب الصليبية. أضف إلى ذلك كله ما ذكره المؤرخون أيضا من قيام خوارج على الدولة الفاطمية في مصر وفي ممتلكاتها، وحروب بين الأمراء لتولي الوزارة. فكل هذه الاضطرابات والحروب اضطلعت بها مصر بعد أن أصبحت عاصمة الإمبراطورية الفاطمية، وسجل الشعراء هذه الحروب في أشعارهم ومدائحهم، فالأمير تميم مدح أخاه الإمام العزيز بالله عندما هزم هفتكين الشرابي التركي - مولى معز الدولة البويهي - في دمشق، ثم طلب العفو من العزيز، فوصف تميم هذا الحادث بقوله:
وإنا لقوم نروع الزمان
ولسنا نراع إذا ما سطا
ومنا الإمام العزيز الذي
به عاد سيف الهدى منتضى
سعى للشآم وقد أصبحت
بها الحرب نزاعة للشوى
فكشف من ليلها ما سجا
وقوم من زيغها ما التوى
ولما تقابلت الجحفلان
وعاد كجنح الظلام الضحى
ولم يبق في الصف من قائل:
هل؟ ولا من مجيب: أنا
وقد ولغت في الصدور الرماح
وصلت لبيض السيوف الطلى
وغنت على البيض بيض الذكور
غناء يعيد الفرادى ثنى
كأن الرماح سكارى تجول
بها الخيل في النقع قب الكلا
فلولا الإمام العزيز الذي
تداركها وهي لا تصطلى
فسكن عارض شؤبوبها
وأمسك من سجله ما انهمى
بدا لهم دارعا في العجاج
كصبح بدا طالعا في الدجى
يكر ويبسم في موقف
عبوس الكماة به قد بدا
ولم يخذل السيف منه يدا
ولم يسكن الروع منه حشا
يقود إلى الحرب من جنده
أسود رجال كأسد الشرى
فلو فدت الحرب قوما، إذن
لفدتك صارخة بالعدا
فلم تصدر الرمح حتى انثنى
ولم تغمد السيف حتى انفرى
ولم يحمل الموت حتى حملت
ولولاك ما خاب ذاك اللظى
فما انفرجت عنك إلا وأنت
بها الفارس الملك المتقى
فجاءك منهم ملوك الرجال
وفدتك منهم ذوات اللمى
ولاذوا بعفوك مستأمنين
ولم يجدوا غيره ملتجا
ولما رأى فتحها هفتكين
عليه وأخلفه ما رجا
تولى لينجو فخفت به
جيوشك واستوقفته الربا
ولو طلب العفو قبل الهروب
لكنت له غافرا ما مضى
ولكنه اعتاد فيها الإباق
وليس الفتى كل يوم فتى
ورام الخلاص وكيف الخلاص
وقد بلغ الماء أعلى الزبى
ولم يك كفؤك في حربه
وإن كان في بأسه المنتهى
وقد هزم الأسد حتى انتهاك
فلما رآك غدا لا يرى
فراح وحشو حشاه أسى
وقد ملئت مقلتاه عمى
أريتهم وقعات تزيد
على وقعات الدهور الألى
ببغداد من ذكره جولة
تذود عن المارقين الكرى
فأنفس ديلمها تغتدي
وتمسي على مثل جمر الغضا
إذا سمعوا بالإمام العزيز
أساءوا الظنون وحلوا الحبا
يخافون من بأسه وقعة
تدور عليهم بقطب الرحى
ينادي «بويه» بنيه بها
ويندبهم وهو رهن البلى
1
ونحن مضطرون إلى أن نترك هذه الحروب الكثيرة التي خاضها الفاطميون، وأن نمر بالأشعار التي أنشدها شعراؤهم في وصف تلك المعارك، لنتحدث عن شعر الفاطميين في هذه الحروب الطاحنة التي شغلت العالم الإسلامي عدة قرون، وكانت مصر هي الدولة الإسلامية الكبرى التي أوقفت مواردها ورجالها للذود عن البلاد الإسلامية وعن الدين الإسلامي، ووقفت أمام مسيحيي أوروبا تكافح وتناضل طوال هذه القرون، حتى أدخلت اليأس في قلوب الأوروبيين، وجعلت آمالهم وأحلامهم قصورا بنيت في الهواء.
ظهرت الحرب الصليبية الأولى سنة 490ه في عهد المستعلي ووزيره الأفضل بن بدر الجمالي، وليس لنا في هذا البحث أن نعرض لهذه الحروب الصليبية من الناحية التاريخية، ونكتفي بأن نذكر أن الأفضل استهان بأمر هذه الحركة في أول الأمر، ولم يدرك الأخطار التي نجمت عن تخاذله وتهاونه، بيد أنه بدأ يدرك خطأ تقديره بعد أن استولى الصليبيون على أنطاكية ومعرة النعمان سنة 491ه، وواصلوا زحفهم إلى بيت المقدس، فاضطر حينئذ إلى أن يعبئ جيوشه ويرسلها إلى فلسطين من طريق البحر والبر، ولكن جيوشه هزمت أمام الصليبيين سنة 492ه بجوار بيت المقدس، واضطرت إلى الانسحاب إلى عسقلان، ثم إلى العودة إلى مصر. على أن شعراء الأفضل ذكروا لنا أن سبب عودة هذه الجيوش المصرية لم يكن هزيمتها أمام الصليبيين، بل سببها ثورة بعض الجنود على الأفضل وتآمرهم للفتك به، ولعل قصيدة أمية بن أبي الصلت التي رويناها من قبل تدلنا على أن الشعراء أخذوا يعتذرون عن الأفضل، وعن انهزامه في هذه الحرب الصليبية الأولى. وفي هذه القصيدة إشارة إلى مؤامرة الجنود، كما أن الشاعر يصرح بأن وزير مصر هو الوحيد الذي قام بالذود عن الدين ونصرة المسلمين، على حين ظلت البلاد الإسلامية الأخرى لاهية عن هذا الخطر الذي دهمهم، فهو يقول:
جردت للدين والأسياف مغمدة
سيفا تفل به الأحداث والغير
وبعد أن تحدث الشاعر عن شجاعة الأفضل وإقدامه في الحروب، أخذ في الاعتذار عن هزيمته، وتوعد الصليبيين بعودة الأفضل إليهم، والانتصار عليهم:
وإن هم نكصوا يوما، فلا عجب
قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر
العود أحمد والأيام ضامنة
عقبى النجاح ووعد الله ينتظر
وربما ساءت الأقدار ثم جرت
بما يسرك ساعات لها أخر
ونقل المقريزي عن ابن الطوير: أن الأفضل قصد استنقاذ الساحل من يد الفرنج، فوصل إلى عسقلان، وزحف عليها بذلك العسكر، فخذل من جهة عسكره، وهي نوبة النصة، وعلم أن السبب في ذلك من جنده، وكان عند الفرنج شاعر منتجع إليهم، فقال يخاطب صنجل ملك الفرنج:
نصرت بسيفك دين المسيح
فلله درك من صنجل
وما سمع الناس فيما رووه
بأقبح من كسرة الأفضل
فتوصل الأفضل إلى ذبح هذا الشاعر.
2
وعاد الأفضل إليهم، وكانت جيوشه تصاب بهزائم منكرة، ولكنه لم ييأس من الظفر، واضطربت أمور مصر من بعده حتى ولي الملك الصالح طلائع بن رزيك، فأخذ يرسل الجيوش المصرية لمحاربة الفرنج، فكان ينتصر حينا وينهزم حينا آخر، وسجل شعراؤه هذه الحروب، فمن ذلك قول شرف الدولة ابن جبر أبو محمد يحيى بن حسن في إحدى المعارك التي خاضها ابن رزيك ضد الفرنج:
أطفى ابن رزيك لهيب ضرامه
والبيض تخطب في الرءوس فتسمع
وكتائب للشرك كنت إزاءها
متعرضا فانفض ذاك المجمع
ولكم صرعت من الفرنج سميدعا
بلقائه لك قيل: أنت سميدع
3
وقال المهذب بن الزبير في حروب ابن رزيك، ولم يذكر العماد الواقعة التي كانت سبب هذه القصيدة ولا تاريخها:
وتلقى الدهر منه بليث غاب
غدت سمر الرماح له عرينا
تخال سيوفه إما انتضاها
جداول والرماح لها غصونا
وتحسب خيله عقبان دجن
يرحن مع الظلام ويغتدينا
إذا قدحت بجنح الليل أورت
سنا يغشى عيون الناظرينا
وإن صبحت مع الإصباح عدوا
أثارت للعجاج به دجونا
كأن الشمس حين نثير نقعا
تحاذر من سطاه أن تبينا
وما كسفت بدور الأفق إلا
أسى إذ أبصرت منه الجبينا
وما اضطربت رماح الخط إلا
مخافة أن يحطمها مبينا
وما تندق يوم الروع حتى
يدق بها الكواهل والمتونا
عجبت لها تصافح من يديه
وتوصف بالظما، بحرا معينا
ويوردها ولا تحظى بري
نطافا من دروع الدارعينا
وهل يشفى لها أبدا غليل
وقد شربت دماء الكافرينا
إذا لقيت عيون الروم زرقا
حسبت نصالها تلك العيونا
تخال البحر مد به خليج
إذا ما مد بالقضب اليمينا
4
ومرة أخرى ذكر العماد أن الملك الصالح أرسل أسطوله سنة 553ه لحرب الصليبيين، وانتصر الأسطول، فأنشد المهذب يمدح الصالح ويصف الأسطول، ومن هذه القصيدة ندرك أن الموقعة كانت بالقرب من العريش:
أعلمت حين تجاوز الحيان
أن القلوب مواقد النيران
لما أبوا ما في الجفان قريتهم
بصوارم سلمت من الأجفان
وثللت في يوم العريش عروشهم
بشبا ضراب صادق وطعان
ألجأتهم للبحر لما أن جرى
منه ومن دمهم معا بحران
ومدح الورى بالبأس إذ خضبوا الظبا
في يوم حربهم من الأقران
ولأنت تخضب كل بحر زاخر
ممن تجاوب بالنجيع القاني
حتى يرى دمهم وخضرة مائه
كشقائق نثرت على الريحان
وكأن بحر الروم خلق وجهه
وطفت عليه منابت المرجان
ولقد أتى الأسطول حين غزا بما
لم يأت في حين من الأحيان
أحبب إلي بها شواني أصبحت
من فتكها ولها العداة شواني
شبهن بالغربان في ألوانها
وفعلن فعل كواسر العقبان
وقرتها عدد القتال فقد غدت
فيها القنا عوضا من الأشطان
حرب عوان حكمتك من العدا
في كل بكر عندهم وعوان
وأعدت رسل ابن القسيم إليه في
شعبان كيما يلأم الشعبان
والفأل يشهد باسمه أن سوف يغ
دو الشام وهو عليكما قسمان
وأراك من بعد الشهيد أبا له
وجعلته من أقرب الإخوان
وهو الذي ما زال يفعل في العدا
ما لم يكن ليعد في الإمكان
قتل البرنس ومن عساه أعانه
لما عسا في البغي والعدوان
وأرى البرية حين عاد برأسه
مر الجنا يبدو على المران
فليهنه أن فاز منك بسيد
أوفى برتبته على كيوان
5
ولعل هذه القصيدة تبين لنا ناحية تاريخية هامة لم يذكرها المؤرخون في كتبهم، ولم يتحدث عنها المؤرخون من الغربيين، تلك هي علاقة الملك الصالح بن رزيك بنور الدين زنكي إبان الحروب الصليبية، فالشاعر هنا يذكر نور الدين، مرة يذكره «بابن القسيم» أي ابن قسيم الدولة أتابك زنكي، ويذكره مرة ثانية باللقب الذي عرف به وهو «الشهيد»، ويتحدث الشاعر عن الاتفاق الذي كان بين الملك الصالح وبين نور الدين، ويقضي هذا الاتفاق على أن يواصلا الحرب ضد الصليبيين حتى يتركوا الشام، فتقسم حينئذ بين مصر ونور الدين، هذا الاتفاق الذي أشار إليه المهذب في هذه القصيدة لم يذكره أحد من المؤرخين، ويغلب على ظني أنه لولا هذه الصلة الوثيقة التي كانت بين الشاعر والملك الصالح، لما استطاع الشاعر أن يعرف مثل هذا الاتفاق الذي كان بين العاهلين.
وفي عهد الملك الصالح طلائع بن رزيك، كان الصليبيون يمعنون في شن غاراتهم على حوران وما حولها من البلدان، ووردت الأنباء بأن عسكر المصريين استولوا على عسقلان، وقتلوا من بها من عسكر الفرنج، وسر المصريون بذلك الانتصار سرورا عظيما نلمح أثره في قصيدة الملك الصالح التي أرسلها إلى أسامة بن منقذ صاحب حصن شيزر، وأحد الأمراء الذين كانوا يساعدون نور الدين زنكي في حروبه ضد الصليبيين:
ألا هكذا في الله تمضي العزائم
وتنضى لدى الحرب السيوف الصوارم
وتستنزل الأعداء من طول عزهم
وليس سوى سمر الرماح سلالم
وتغزي جيوش الكفر في عقر دارها
ويوطا حماها والأنوف رواغم
ويوفي الكرام الناذرون بنذرهم
وإن بذلت فيها النفوس الكرائم
نذرنا مسير الجيش في صفر فما ان
ثنى حتى انثنى وهو غانم
بعثناه من مصر إلى الشام قاطعا
مفاوز، وخد العيس فيهن دائم
فما هاله بعد الديار ولا ثنى
عزيمته جهد الظما والسمائم
يباري خيولا ما تزال كأنها
إذا هي ما انقضت نسور قشاعم
يسير بها «ضرغام» في كل مأزق
وما يصحب الضرغام إلا الضراغم
وواجههم جمع الفرنج بحملة
تهون على الشجعان فيها الهزائم
وما زالت الحرب العوان أشدها
إذا ما تلاقى العسكر المتضاخم
وعادوا إلى حز السيوف فقطعت
رءوس وحزت للفرنج غلاصم
فلم ينج منهم يوم ذاك مخبر
ولا قيل: هذا وحده اليوم سالم
فقولوا «لنور الدين» لا فل حده
ولا حكمت فيه الليالي الغواشم
تجهز إلى أرض العدو ولا تهن
وتظهر فتورا إن مضت منك (حارم)
فما مثلها تبدي احتفالا به ولا
يعض عليها للملوك الأباهم
فعندك من ألطاف ربك ما به
علمنا يقينا أنه بك راحم
أعادك حيا بعد ما زعم الورى
بأنك قد لاقيت ما الله حاتم
بوقت أصاب الأرض ما قد أصابها
وحلت بها تلك الدواهي العظائم
وخيم جيش الكفر في أرض شيزر
فسيقت سبايا واستحلت محارم
فقم واشكر الله الكريم بنهضة
إليهم فشكر الله للخلق لازم
فنحن على ما قد عهدت نروعهم
ونحلف جهدا أننا لا نسالم
وغاراتنا ليست تفتر عنهم
وليس ينجي القوم منا الهزائم
فأسطولنا أضعاف ما كان سائرا
إليهم فلا حصن لهم منه عاصم
6
ومرة أخرى يرسل الملك الصالح إلى أسامة:
يا سيدا يسموا بهم
ته إلى الرتب العلية
أنت الصديق وإن بعد
ت وصاحب الشيم الرضية
يهنيك أن جيوشنا
فعلت فعال الجاهلية
سارت إلى الأعداء من
أبطالها مائتا سرية
فتغير هذي بكرة
وتعاود الأخرى عشية
فالويل منها للفرنج
فقد لقوا جهد البلية
جاءت رءوسهم تلوح
على رءوس السمهرية
7
وفي قصيدة للشاعر ابن الصياد حديث عن موقعه بين الملك الصالح والصليبيين، وعن قتل مقدم خيل الفرنج الذي سماه ابن الصياد «بأرناط»، واسمه الصحيح «رينولد»
Renauld .
قال ابن الصياد:
عن سيف دين الله سل «أرناطا»
حيث المنية كأسها يتعاطى
والمشرفية قد حكت في جيشه
في العل والنهل القطا الفراطا
قد سام طير الكفر منه منسرا
أشغى وعاين مخلبا عطاطا
هو ملبس جيش العدا في الحرب من
حلل النجيع مجاسدا ورياطا
فجياده تشكو مزاحمة القنا
وترد خرصان الرماح سياطا
هو فارس الإسلام يحفظ بالظبا
من دينه الأطراف والأوساطا
كم قد أنار من الأسنة أنجما
لما أثار من العجاج عطاطا
فتخاله ملكا رمى بشهابه
في الروع شيطان الحروب فشاطا
8
ويحدثنا عمارة اليمني في النكت أن في وزارة الملك الصالح غزا الصليبيون مصر، ووصلوا إلى إقليم الحوف، فأرسل الوزير الجيوش بقيادة ابنه العادل الناصر خلفهم، وطاردهم إلى أبي عروق من إقليم فلسطين، وعاد بجيوشه منتصرا إلى بلبيس، ففرق في الجيش مالا كثيرا، وخلع على الأعيان. ويذكر عمارة أن له ولغيره من شعراء مصر شعرا في هذه الموقعة، ولكن لم يصل إلينا من هذا الشعر إلا مقطوعة من قصيدة لعمارة منها قوله:
أنت الذي يعقد الإسلام خنصره
عليه إن جل خطب أو طرا وطر
متوج تشرق الدنيا بطلعته
وتخجل الشمس مهما لاح والقمر
إذا أقامت على ثغر صوارمه
فللنوائب عن سكانه سفر
ومنها قوله:
أغاث أعمال «بلبيس» وأمنها
من بعد ما غالها الإشفاق والحذر
وحين أبليت عذرا في اللحاق بهم
والنصر يقسم لا فاتوك والظفر
وقال: عزمك لما أن ألح ولم
تلح له منهم عين ولا أثر
إن ينج منها «أبو نصر» فعن قدر
نجا، وكم قدرة قد عاقها القدر
وعدت نحو مقر العزم في عصب
يفنى بها الأكثران: الرمل والمطر
وللصوارم في أجفانها أسف
تكاد من حره الأجفان تستعر
9
هذا الشاعر الذي مدح الوزير بانتصاره على الصليبيين يحدثنا أن ابن الوزير نجا من هذه الموقعة (عن قدر)، فهذا البيت إنما يدل على أن الحرب بين الفريقين كانت عسيرة شاقة كاد يقتل فيها ابن الوزير، ولكن القدر فقط هو الذي أنجاه من خطر محقق. ومع ذلك فقد وصلت إلينا قصيدة أخرى من شعر عمارة في مدح الملك الصالح، وفيها ذكر لهذه الموقعة، منها قوله:
تيقنت الإفرنج أنك إن ترد
ديارهم لم ينجهم منك مهرب
وخافتك إن لم تعطها الأمن منعما
فجاءتك يا ليث الشرى تتغلب
وأهدوا رجال السلم آلة حربهم
ومن بعض ما أهدوا مجن ومقلب
وذلك فأل صادق أن عزهم
بسيفك يا سيف الهدى سوف يسلب
10
وهذه الموقعة هي إحدى الغلطات الثلاث التي كان يعدها الصالح نفسه؛ إذ يروي ابن خلكان أن ثالث هذه الغلطات : خروج الملك الصالح إلى بلبيس بالعساكر، ورجوعه بعد أن أنفق فيهم أكثر من مائتي ألف دينار، حيث لم يتم زحفه إلى بلاد الشام ويفتح بيت المقدس، ويستأصل شأفة الفرنج.
11
وفي هذه الموقعة نفسها قال عمارة أيضا في مدح الملك الناصر بن الصالح:
رأيتك لم تقنع بمنصبك الذي
علا فنجوم الأفق عنه سفال
فباشرت مكروه الوغى في مواطن
حرام المنايا بينهن حلال
وهل يفخر الصمصام إلا بقطعه
وإن راق منه جوهر وصقال
كأنك خلت السلم نقصا على العلا
وليس لها غير القتال كمال
ولما تشكي الخوف حيفا على الهدى
وكاد الهوى يسطو عليه ضلال
نهضت إلى الإفرنج تزجي كتائبا
تغل بها أعناقهم وتغال
فولوا وقد أبقت عليهم نفوسهم
سباسب حالت دونهم ورمال
وأتبعتهم ركضا على كل سابح
إذا الريح كلت لم يصبه كلال
12
والمؤرخون يذكرون قصة شاور، واستنجاده بالصليبيين ضد أسد الدين شيركوه وصلاح الدين، ففي موقعة بلبيس التي انتصر فيها شاور والفرنج، قال عمارة يمدح شاور، ويعرض بالغزو:
ولقد دفعت إلى ثلاث نوائب
كادت تشيب لهولها ولدانها
من معشر تغدو السماحة والندى
فيما حوت أجفانها وجفانها
فعصابة غزية غادرتها
وأجل ما نرجوه منك أمانها
وعصابة رومية عاشرتها
فتأدبت وتهذبت أذهانها
وعصابة مصرية بك أصبحت
فوق البرية راجحا ميزانها
وتداركت بلبيس منك عواطف
يسع الزمان وأهله غفرانها
أقسمت لولا حسن رأيك لاغتدى
الناقوس في بلبيس وهو أذانها
بلد لو انهدمت قواعد سوره
بيد النصارى لم يعد بنيانها
أبقيتها للمسلمين وإنه
ليعز بعد خرابها عمرانها
13
فهو هنا يمدح شاور باتفاقه مع الصليبيين، ولولا هذا الاتفاق لاستولى الفرنج على بلبيس، ولدثر الدين في هذا البلد، ولذلك لم يهج الصليبيين في هذا الشعر، وإن كان عرض بهم تعريضا خفيفا، ونستطيع أن نعرف رأي عمارة في الإفرنج إذا قرأنا مقطوعة أخرى له لم يقصد بها مدح الوزير، بل هي أبيات صادرة عن عاطفة الشاعر نحو هذه الأحداث والنكبات التي جرتها سياسة شاور على البلاد، فهو يقول:
يا رب إني أرى مصرا قد انتبهت
لها عيون الأعادي بعد رقدتها
فاجعل بها ملة الإسلام باقية
واحرس عقود الهدى من حل عقدتها
وهب لنا منك عونا نستجير به
من فتنة يتلظى جمر وقدتها
14
وفي مديحه لصلاح الدين، وذكر وقعة الجسر بالجيزة التي انتصر فيها على الصليبيين بقيادة مري، يقول عمارة:
حمى الله منكم عزمة أسدية
فككتم بها الإسلام من ربقة الكفر
لئن نصبوا في البر جسرا فإنكم
عبرتم ببحر من حديد على الجسر
طريق تقارعتهم عليها مع العدا
ففزتم بها والصخر يقرع بالصخر
أخذتم على الإفرنج كل ثنية
وقلتم لأيدي الخيل مري على «مري»
وأزعجه من مصر خوف يلزه
كما لز مهزوم من الليل بالفجر
15
وهكذا نرى شعراء مصر يشيدون بالحروب الصليبية التي شغلت العالم الإسلامي عدة قرون، ولم ير العصر الفاطمي منها سوى زهاء نصف قرن فقط، ومع ذلك فإن هذه الحروب جعلت الشعراء المصريين ينشدون أشعارا حماسية يمدحون شجاعة جنود مصر الذين أخذوا على عاتقهم طرد الصليبيين من فلسطين، على حين بقيت الدويلات الإسلامية تنظر إلى هذه الحروب نظرة عدم اكتراث ، وقد سجل المصريون في هذه الحروب جهودا كثيرة سجلها الشعراء الفاطميون في شعرهم، كما سجلها شعراء الأيوبية وشعراء الفاطميين في شعرهم، كما سجلها شعراء الدولة الأيوبية وشعراء المماليك في العصور التالية لهذا العصر الذي نؤرخه الآن.
الفصل الخامس
في الغزل
لا أكاد أعرف شاعرا من شعراء مصر الفاطمية لم ينشد في الغزل، فجميع الشعراء الذين بلغنا شيء من شعرهم كانوا يتغزلون؛ سواء أكان هذا الغزل في المؤنث أم في المذكر، شأنهم في ذلك شأن شعراء العربية في الأقطار الأخرى، فكان شعراء المدح - الذين ألموا بالعقائد المذهبية في شعرهم - يتبعون سنة الشعراء الأقدمين في الابتداء بالغزل، ولما أراد العماد الأصبهاني أن يروي شيئا من شعرهم، اكتفي بالمقدمات الغزلية التي افتتحوا بها قصائدهم، وأبى أن يروي شيئا من مدح الأئمة.
وإذا نظرنا فيما بقي لنا من شعر الغزل في هذا العصر رأينا المصريين كانوا يرددون في أشعارهم هذه الصفات العديدة التي رددها الشعراء من قبل في صفات المرأة، وما تمتاز به المعشوقة من فتنة ودلال وسحر، ولكن الشيء الذي يلفت نظرنا في هذه الأشعار الغزلية، أن الصور التي صاغ فيها المصريون هذه الصفات اختلفت باختلاف الحياة المصرية والبيئة المصرية، انظر مثلا إلى قول أبي الحسن التنيسي الملقب برضي الدولة:
راح من خمر الصبا مغتبقا
ثملا، أحسن شيء خلقا
تفعل النشوة في أعطافه
فعل عينيه بأرباب التقى
رشأ قد أقسمت ألحاظه
ليريقن دما من عشقا
من عذيري من غزال كلما
سئل الرحمة أبدى حنقا
ورأيت النرجس الغض وقد
أخجل الورد بما قد أحدقا
ينهب الناهب من زهرته
ويذود اللمس عما بسقا
كم أناديه وذلي شافعي
وفؤادي يتلظى حرقا
هكذا يجزى بكم من عشقا
لاعجا يسري وقلبا موبقا
1
فالمعاني التي جاء بها الشاعر في هذه المقطوعة، والتي قدم بها للمدح، ليست بجديدة في الشعر العربي، إنما الجديد في هذه الأبيات هي هذه الصور المختلفة التي صاغ فيها هذه المعاني القديمة.
وانظر إلى قول الشاعر ابن قتادة المعدل، وقد أتى بمعان لم يطرقها القدماء في غزلهم:
نظري إليك يزيد في نظري
فعلام تحجبني عن النظر
يا جملة الحسن التي اقتسمت
منها المحاسن جملة البشر
لهواك بين جوانحي كتب
قد عنونت بالدمع والسهر
2
فهذه المعاني التي ألم بها الشاعر في هذه الأبيات لم يطرقها - فيما أعرف - شاعر عربي من قبل، وإن كان القدماء قد أكثروا من ذكر الدمع والسهر، ولكن الشاعر المصري جعل لهوى المحبوب في نفسه كتبا عنوانها الدمع والسهر.
ويتغزل الشاعر أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد القرشي الإسكندري، فيقول في مقدمة إحدى قصائده:
ومهفهف طالت ذوائب فرعه
كالليل فاض على الصباح المسفر
قصر الدلال خطاه فاعتلقت به
لي مهجة عن حبه لم تقتصر
وسنان كحل السحر حشو جفونه
ففتورها عن مهجتي لم يفتر
ملك القلوب بدر سمطى لؤلؤ
عذب اللمى في غنج طرف أحور
وبوجنة رقم الجمال رياضها
ببنفسج من فوق ورد أحمر
كتب العذار على صحيفة خده
هذا بداية حيرة المتحير
وهبت محاسنه الكمال فأصبحت
فتن العقول وروض غير المبصر
3
ويقول مرة أخرى في مقدمة قصيدة أخرى:
وإني لأهوى رشأ ساحرا
أعار فتور العيون الظبا
إذا ما تثنى فغصن نقا
وبدر جلا شعره غيهبا
وزانت محياه خيلانه
كما يتبع الكوكب الكوكبا
وبي أسمر ناسبته القنا
يروقك خدا جلا مذهبا
سقى روض خديه ماء الشباب
ففتح زهرا به معجبا
تقلد من لحظه صارما
أسال النفوس وما ذنبا
وملك من حسنه دولة
لطاعتها كل قلب صبا
4
فهذه الصور المختلفة التي رسمها الشاعر في هذه الأبيات ليس بها هذه الصور التي رأيناها في شعر القدماء، ولكنها صور متحضرة، لا يذكر الشاعر جزءا من أجزاء الجسم إلا ليصور أثره في نفسه، ويقرن بين هذه الصورة التي أتى بها وبين صورة أخرى أخذها الشاعر من الطبيعة التي حوله، والحياة التي يحياها؛ فالشاعر المصري في غزله لا يأتي بأجزاء الجسم ليصفها وصفا واقعيا - إن صح هذا التعبير - إنما كان يتحدث دائما عن الناحية النفسية أكثر مما يتحدث عن الصفات الحسية، وهنا نرى فرقا كبيرا بين شعراء العرب القدماء وبين شعراء مصر الفاطمية، فالشاعر العربي كان ماديا في وصفه، والشاعر المصري كان عاطفيا؛ وإنما جاء هذا الخلاف من تحضر مصر الفاطمية، ورقي عاطفة المصريين برقي حياتهم.
ناحية أخرى نراها فيما بقي لنا من شعر الغزل في مصر الفاطمية، تلك أن المصريين بدءوا يتركون الأوزان الطويلة، وينشدون غزلهم في أشعار إما مجزوءة وإما منهوكة، ويميلون إلى استخدام اللغة التي يصطنعها الشعب التي لا يزال أثرها باقيا في مصر إلى اليوم. انظر إلى قول الشاعر طلائع الآمري:
ملك الشوق مهجتي
حبذا من تملكا
قد رماني بحبه
ونهاني عن البكا
إنما راحة المحب
إذا أن أوشكا
ما أرى السلو عنه
وإن جاز مسلكا
5
فهذا الشاعر الدقيق الحس، الرقيق الشعور، وصف حالة المحب المضني، وقد تملكه الشوق فلم يجد راحة إلا إذا أن واشتكى، بالرغم من أن المحب نهاه عن البكاء، فاتخذ هذا الوزن الخفيف، واصطنع هذه الألفاظ التي تكاد تكون من ألفاظ الشعب، فهذه المقطوعة وغيرها هي التي سنرى مثلا لها بعد ذلك واضحة في شعر البهاء زهير، ثم انظر إلى قول الشاعر طلائع الآمري أيضا:
أنعموا لي بالوصال
وارحموا رقة حالي
لا تذيبوا مهجتي بي
ن التجني والدلال
ليس عذري في هواكم
قد بدا لي قد بدا لي
إنما قصدي رضاكم
قد حلا لي قد حلا لي
وإن اخترتم عذابي
لا أبالي لا أبالي
6
أليست هذه المقطوعة أقرب إلى لغة الشعب المصري منها إلى لغة الشعراء الذين عودونا الجزالة في اللفظ مع حسن الديباجة، ولكن الشاعر هنا كان شاعرا مصريا قبل كل شيء، كان يتغزل، فاصطنع هذه الألفاظ السهلة والأوزان الخفيفة.
وليس معنى ذلك أن كل شعر الغزل على هذا النحو الذي رأيناه عند طلائع الآمري، فقد كان للمصريين لونان من شعر الغزل: اللون الأول الذي يختار فيه الشاعر ألفاظا جزلة ووزنا قويا طويلا، أما اللون الآخر فهو الذي يترك الشاعر فيه نفسه على سجيتها بلا تصنع، فلا ينتقي الألفاظ الجزلة بل ينشد ما يجري به لسانه وما تمليه عاطفته . وقد رأينا طلائع الآمري في المقطوعة الأولى السابقة يميل إلى اللون الثاني من ألوان الغزل، ونراه مرة أخرى ينشد المعنى نفسه، ولكن في صياغة أخرى تختلف تمام الاختلاف عما رأيناه له، فهو يقول:
تريد الهوى صرفا من الضر والبلوى
لعمرك ما هذي قضية من يهوى
إذ لم يكن طرف المحب مسهدا
وأدمعه تجري، فهذي هي الدعوى
ولا حب إلا أن ترى كلفة الهوى
ألذ من المن المنزل والسلوى
وحتى ترى القلب القريح من الهوى
يمانعه الصبر الجميل من السلوى
رعى الله من أعطى المحبة حقها
وإن لم يكن فيها من الأمر ما يقوى
7
فالشاعر في هذه المقطوعة يختلف في غزله عما جاء به في مقطوعته الأولى، فالشاعر حاول اللونين من شعر الغزل؛ على أن أكثر شعر الغزل الذي انتهى إلينا هو من اللون الخفيف الذي يقرب من أسلوب العامة، فالشاعر مروان بن عثمان اللكي تلمح في غزله أثر السهولة التي تتفق مع رقة الغزل وعاطفة الحب، حين يقول مثلا:
ما بال قلبك يستلين
أبه غرام أم جنون
برح الخفاء بما يجن
فأذهب الشك اليقين
حتى متى بين الجوا
نح والضلوع هوى دفين
وإلى متى قلبي المتي
م في يد البلوى رهين
يا ماطلي بديون قل
بي آن أن تقضي الديون
شخصت له فيك العيون
وتقسمت فيك الظنون
وسلبت ألباب الورى
بلواحظ فيها فنون
وقوام أغصان الريا
ض وأين تدركك الغصون؟
الحسن في الأغصان فن
وهو في هذا فنون
من أين للأغصان ذا
ك الغنج والسحر المبين؟
أم ذلك الورد الجني
بخده والياسمين؟
8
ثم اقرأ هذه المقطوعة الأخرى من غزل ابن عثمان اللكي التي تظهر فيها عاطفة الشاعر في أسلوب أهل مصر الآن، ولا سيما في البيت الثالث:
تمكن مني السقم حتى كأنني
توهم معنى في خفي سؤال
ولو سامحت عيناه عيني في الكرى
لأشكل من طيف الخيال خيالي
سمحت بروحي وهي عندي عزيزة
وجدت بدمعي وهو عندي غالي
وقد خفت أن تقضي على منيتي
ولم أقض أوطاري بيوم وصال
وهون ما ألقى من الوجد أنه
صدود دلال لا صدود ملال
9
وها هو ذا الشاعر أحمد بن محمد المادرائي يتغزل:
يا حبيب العمر عطفا فإني
بهواكم على لظى أتقلى
إن وصلتم، وصلتم مستهاما
عن هواكم وحبكم ما تخلى
هو عبد الهوى وليس بباغي
عتقه في هوى ولو مات قتلا
10
ويقول الشاعر إبراهيم بن إسماعيل الدمياطي:
يا هذه، رقي على صب دنف
صيره الهجر إلى حد التلف
رقي عليه، وصلي حباله
فإنه عن حبكم لا ينصرف
11
وبالرغم من أن الشاعر أبا محمد هبة الله بن عرام كان من إقليم أسوان، فإن غزله كان متأثرا بالحياة اللينة التي عرفت بها مصر، ولا سيما أنه وفد على القاهرة، ومدح بها الوزير رضوان وغيره من رجال الدولة، فأسهم مع غيره من شعراء مصر في التغزل في الأوزان السهلة الخفيفة والألفاظ والصور الشعبية، فهو الذي يقول:
من معيني على اقتناص غزال
نافر عن حبائلي رواغ
قلبه قسوة كجلمود صخر
خده رقة كزهر الباغ
كلما رمت أن أقبل فاه
لدغتني عقارب الأصداغ
وقوله أيضا:
لدغتني عقارب الصدغ منه
فسلوه من ريقه درياقا
إنني عاشق له، وهو مذ كا
ن ظلوم لا يرحم العشاقا
12
وقوله:
يا لائمي في غزال
قلبي رهين يديه
لا تطمعن في سلوى
فلا سبيل إليه
كم لامني فيه قوم
وعنفوني عليه
حتى إذا أبصروه
خروا سجودا لديه
فاحفظ فؤادك فالمو
ت في ظبا مقلتيه
13
أضف إلى ذلك أن القدماء لاحظوا أن للمصريين بعض المعاني المبتكرة، من ذلك قول الأخفش في العذار:
وكأن العذار في حمرة الخد
على حسن خدك المنعوت
صولجان من الزمرد معطو
ف على أكرة من الياقوت
14
ولكن العماد أخذ على الشاعر أنه ذكر «الخد» مرتين في البيت الأول، مع اعترافه بأن المعنى مبتكر لم يسبق الشاعر إليه.
وكذلك قال القدماء: إن قول أبي الغمر الأسناوي في العذار من المعاني المبتكرة:
وغزال خلعت قلبي عليه
فهو باد لأعين النظار
قد أرانا بنفسج الشعر بدرا
طالعا من منابت الجلنار
وقدت نار خده، فسواد الش
عر فيه دخان تلك النار
15
وقول أبي الغمر الأسناوي أيضا:
وغزال أبدى لنا الله من بس
تان خديه في الحياة الجنانا
قد أرانا قدا وخدا وصدغا
وعذارا وناظرا فتانا
غصنا يحمل البنفسج والنر
جس والجلنار والريحانا
16
وقول ابن حيدرة العقيلي أيضا، وفيه لحن من غنائه:
وعذول كان من قولي له
لست أستحسن أجفو الحسنا
قال: لو كنت أنا أنت لما
رضيت نفسي لجسمي بالضنا
قلت: دعني عنك واصنع ما تشا
ما أنا أنت ولا أنت أنا
17
فهذه بعض صور من مقطوعات الغناء من شعر مصر الفاطمية كما حدثنا عنها القدماء من رواة شعر مصر، وهي مقطوعات غزلية يظهر فيها لون من ألوان ذوق المصريين في المقطوعات الغنائية، والعاطفة التي كانت تثار عند سماع هذه المقطوعات.
ولم يشأ شعراء مصر أن يقفوا في غزلهم على تصوير مختلف مشاعرهم عند رؤية الحبيب، أو أن يتحدثوا عن جماله وصفاته، وما يفعله ذلك كله في نفوسهم، إنما صوروا من ناحية أخرى الشوق لرؤية المحبوب إذا بعد عن أنظارهم أو فارقهم إلى مكان آخر، فالحديث عن الفراق أخذ حيزا كبيرا من غزل شعراء مصر الفاطمية، وفي حديثهم عن الفراق نرى لوعة المحب الذي أضناه البعاد وخشينا عليه من الهلاك.
وها هو الشاعر علي بن المؤمل بن غسان ينشد:
فتنت بفاتن الحدق
وزاد بهجره أرقي
إذا ناديت من جزع
أخذت القلب في طلق
رويدك سوف تلقاني
بلا قلب ولا رمق
18
وأنشد ابن معبد الإسكندري:
يا حادي الركب رفقا بالحبيب فقد
طار الفؤاد وقل الصبر والجلد
لعل حبي يرى ذلي فيرحمني
بنظرة علها تشفي الذي أجد
يا ويح من ظعنت أحبابه وغدا
مخلفا بعدهم أكباده تقد
19
وقال محمد بن وهب:
ولما تنادوا بالرحيل رأيتني
أكفكف دمع العين من كل جانب
وأسأل ربي أن تذم ركابهم
عن السير حتى أشتفي بحبائبي
فلم تك إلا ساعة سار ركبهم
وسار فؤادي بين تلك الركائب
فلم أر يوم البين أعظم حسرة
وللبين عندي من كبار المصائب
20
وأنشد طلائع الآمري:
ما لقلبي من لوعة البين راق
أتراني أحيا ليوم التلاق
عزمة لم تدع لجفني دمعا
لا ولا في الحشا مكان اشتياق
أطمعوني حتى إذا أسروني
عذبوا مهجتي وشدوا وثاقي
واستلذوا الفراق حتى كأن لم
يعلموا أنه مرير المذاق
في سبيل الهوى نفوس أقامت
بعد وشك النوى على الميثاق
21
وقال طلائع أيضا:
ما أودعوك مع الغرام وودعوا
إلا ليتلف قلبك المشتاق
قف فاستلم إثر المطي تعللا
إن لم يكن لك نحوهن لحاق
وتنح عن دعوى هواك فإنه
إن لم تمت يوم الفراق نفاق
22
وإذن فالغزل في شعر مصر الفاطمية صورة أخرى من صور الحياة المصرية والعاطفة المصرية التي سمت فبعدت عن المادية التي عرفناها عند الشعراء الأقدمين؛ وذلك لاختلاف بيئة مصر عن غيرها من الأقطار العربية.
الفصل السادس
أغراض أخرى في الشعر
التصوف والزهد
تحدثنا في الفصول السابقة عن بعض الأغراض التي قصد إليها الشعراء في مصر الفاطمية، ولكن هناك بعض أغراض أخرى، لا تقل خطرا في تصوير الحياة في مصر في ذلك العصر، عن هذه الأغراض التي تحدثنا عنها من قبل، فقد ذكرنا شيئا عن هذه الحياة الماجنة التي طغت على مصر حتى خيل لنا أن مصر لم تعرف إلا هذا اللون من ألوان العيش، ولكن المصريين كان لهم لون آخر بجانب هذه الحياة الماجنة اللاهية، وهذا اللون الآخر هو التفكير في العالم الآخر، وطبيعة مصر اضطرت المصريين منذ أقدم عصورهم التاريخية إلى أن يهتموا بأمور الآخرة اهتمامهم بأمور الدنيا، فإذا المصري منذ عرفه التاريخ مضطر إلى أن يعيش لونين من الحياة يناقض أحدهما الآخر أشد التناقض، فهو يعبث في حياته ويمجن ويمزح ما شاء له العبث والمجون والمزاح، وهو في الوقت نفسه حريص على أن يفكر في آخرته فيتحدث عنها ويتذكرها، ويظهر استمساكه بالدين وفرائضه وآدابه، وقد رأينا تصوير الشعراء لحياة المجون، أما الزهد والتقشف فقد أكثر من الحديث عنه شعراء مصر أيضا، حتى إن شعراء المجون أنفسهم كانوا ينشدون الشعر في الحث على الزهد، والتمسك بأهداب الدين، وطلب سعادة الآخرة، وها هو ذا الأمير تميم الذي عرف بمجونه حتى حرم ولاية إمامة الدعوة يقول في الزهد:
أفنيت دهرك تتقي
فيه الحوادث والمصائب
ولو اتقيت معاصي الر
حمن فيما أنت راكب
لأمنت من نار الجحي
م وفي الحياة من المعايب
إن لم تراقب من له
حكم عليك، فمن تراقب؟
1
ويقول مرة أخرى:
يا عجبا للناس كيف اغتدوا
في غفلة عما وراء الممات
لو حاسبوا أنفسهم لم يكن
لهم على أخذ المعاصي ثبات
من شك في الله فذاك الذي
أصيب في تمييزه بالشتات
يحييهم بعد البلى مثل ما
أخرجهم من عدم للحياة
2
فمثل هذه الأبيات لا تصدر من شاعر عرف عنه أنه من أشد الشعراء مجونا وعبثا، ولكن طبيعة مصر اضطرته إلى أن يتحدث عن الآخرة وعن الحياة بعد الموت.
وها هو ذا الشاعر ابن حيدرة العقيلي الذي ذكرنا أنه شاعر الخمر في العصر الفاطمي، وأحد شعراء المجون، ينشد في الزهد، ويدعو إلى التقى والورع:
قد لاح في فودك المشيب
ورث من عمرك القشيب
فكن لداعي التقى مجيبا
من قبل تدعى فلا تجيب
3
ونرى القاضي المعروف بالأديب أبي النضر ينشد:
النفس أكرم موضعا
من أن تدنس بالذنوب
ما لذة الدنيا لها
ثمنا وإن مزجت بطيب
فاسبق إلى إعداد زا
دك هجمة الأجل القريب
والق الإله على التقى
والخوف مزرور الجيوب
4
ويقول مرة أخرى يحث على الزهد وجهاد النفس:
جهاد النفس مفترض فخذها
بآداب القناعة والزهادة
فإن جنحت لذلك واستجابت
وخالفت الهوى فهو الإرادة
وإن جمحت بها الشهوات فاكبح
شكيمتها بمقمعة العبادة
عساك تحلها درج المعالي
وترفعها إلى رتب السعادة
5
وهكذا نرى العاطفة الدينية تسير جنبا إلى جنب مع عاطفة حب المجون، والشعر المصري مملوء بالعاطفتين معا.
وقد ذكرنا في كتاب «أدب مصر الإسلامية» أن مصر عرفت التصوف، ووجدت فرقة عرفت بالصوفية كان لها أثر في الحياة السياسية في العصر العباسي، وقد استمر تيار الصوفية في العصر الفاطمي، وكان الأئمة الفاطميون يرعون هذه الفرقة. ويحدثنا المقريزي: أن الآمر الفاطمي جدد قصر القرافة ، وعمل تحته مصطبة للصوفية، وكان يجلس في الطاق بأعلى القصر، ويرقص أهل الطريقة من الصوفية، والمجامر بالألوية موضعة بين أيديهم، والشموع الكثيرة تزهر، وقد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط، ومدت لهم الأسمطة التي عليها كل نوع لذيذ ولون شهي من الأطعمة والحلوى، أصنافا مصنفة. وكان بين الحاضرين الشيخ أبو عبد الله بن الجوهري الواعظ، ومزق مرقعته، وفرقت على العادة خرقا، وسأل الشيخ أبو إسحق إبراهيم المعروف بالقارح المقري خرقة منها ووضعها على رأسه، فقال الخليفة الآمر بأحكام الله من طاق بالمنظرة: يا شيخ أبا إسحق. قال: لبيك يا مولانا. قال: أين خرقتي؟ فقال مجيبا له في الحال: ها هي على رأسي يا أمير المؤمنين. فاستحسن الآمر ذلك، فأمر في الساعة فأحضر من خزائن الكسوات ألف نصفية، ففرقت على الحاضرين وعلى فقراء القرافة، ونثر عليهم متولي بيت المال من الطاق ألف دينار.
6
ووفد على مصر في هذا العصر سهل بن محمد بن الحسن الصوفي، حدث بالعراق ودمشق وصور، ثم توجه إلى مصر فظل بها إلى أن توفي سنة 444ه، وكان أدبيا شاعرا على طريقة الصوفية، ولكن شعره فقد، ولم يبق منه سوى قوله:
إذا كنت في دار يهينك أهلها
ولم تك محبوبا بها فتحول
وأيقن بأن الرزق يأتيك أينما
تكون ولو في قعر بيت مقفل
7
وشاهد هذا العصر فرقة من فرق الصوفية عرفت «بفرقة الكيزانية»؛ نسبة إلى شيخها أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت الأنصاري المعروف بابن الكيزاني الفقيه الشافعي الواعظ، ذكره العماد في خريدته ووصفه بقوله: «فقيه واعظ مذكر، حسن العبارة، مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة، ولنظمه عذوبة وحلاوة، مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول، وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، ومعرفة بالقديم مكون الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده، وزل في مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العباد قديمة ...» إلى أن قال: «أعاذنا الله من ضلة الحلم، وزلة العلم، وعلة الفهم. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديب أريب ونبيل نبيه.»
8
وتوفي ابن الكيزاني صاحب هذه الفرقة سنة 560ه، ودفن عند قبر الإمام الشافعي، واستمرت تعاليم هذه الفرقة حتى عصر الأيوبيين، فقد ذكر العماد: «والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة.»
9
وظهور هذه الفرقة في مصر واشتهار أمرها على النحو الذي تحدث به العماد وابن سعيد في كتابه المغرب، يدلنا على مدى الضعف الذي طرأ على الدعوة الفاطمية في مصر، فإننا رأينا الفاطميين ينزهون الله - عز وجل - عن التشبيه أو التجسيم، وهذه العقيدة هي أساس عقيدة الفاطميين وفلسفتهم، ورأينا الدعاة يكفرون كل من دان بالتشبيه أو التجسيم، ولكن جاءت فرقة الكيزانية تحت سمع الفاطميين وبصرهم وقالت بالتشبيه، والتف عدد من المصريين حول شيخ هذه الدعوة دون أن يعبئوا بسلطان الفاطميين وعقائدهم التي انتشرت في مصر زهاء قرنين.
كان ابن الكيزاني شاعرا من شعراء الصوفية بمصر، ولكنه كان ضعيف الشعر، حتى قال عنه ابن سعيد: ووقفت على ديوانه، وهو مشهور عند الناس، قريب من أفهام العامة، غير مرضي عنه عند صدور الشعراء وأصحاب غوص الكلام وفرسان النظام، وقد ضجرت من اختياره ومطالعته، ولم أكتب من ديوانه شيئا تهش النفس إليه، وإنما أردت ترجمته لشهرة ذكره وديوانه، وكثيرا ما يباع في سوق الفسطاط وسوق القاهرة؛ وكان من لا يعرف معاني الشعراء المستحسنة وألفاظه المستبدعة يحضني على الوقوف عليه، فلما وقفت عليه أنشدني متمثلا: أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني.
10
ولعل ابن سعيد كان على حق في أن يصف شعر ابن الكيزاني على هذا النحو، بالرغم مما ذهب إليه العماد الأصفهاني من الإعجاب بشعر ابن الكيزاني، فإن المقطوعات التي رويت في الخريدة من شعر ابن الكيزاني تدل على أن الشاعر لم يكن من المتفوقين في الشعر، إذا قسناه بشعراء الصوفية الذين ظهروا بمصر في العصور التي تلت العصر الفاطمي، مثل ابن الفارض وغيره، أو الشعراء الآخرين الذين عاصروه، وربما كان سبب ضعف شعر ابن الكيزاني أنه كان واعظا يخاطب الشعب والدهماء ، فكان يضطر إلى اصطناع اللغة التي يفهمها الشعب، وتقرب إلى نفوسهم. فأثر ذلك في أسلوبه ولغته، فإذا بهما يقربان من الأسلوب الشعبي ولغة الشعب، وقد يكون هذا السبب هو الباعث الذي من أجله أقبل العامة في مصر على قراءة ديوان ابن الكيزاني.
وهو في بعض شعره واعظ أكثر منه متصوفا؛ انظر إليه يقول:
إذا سمعت كثير المدح عن رجل
فانظر بأي لسان ظل ممدوحا
فإن رأى ذاك أهل الفضل فارض لهم
ما قيل فيه، وخذ بالقول تصحيحا
أولا، فما مدح أهل الجهل رافعه
وربما كان ذاك المدح مجروحا
11
وهو في بعض شعره متصوف يتحدث عن العشق، ويجري في هذا الشعر مجرى شعراء الصوفية الذين نهجوا نهج رابعة العدوية في الحب الإلهي، فابن الكيزاني كان أحد هؤلاء المحبين العاشقين، وله في ذلك عدة مقطوعات، منها قوله:
سواء أن تلوما أو تريحا
رأيت القلب لا يهوى نصيحا
أما لو ذقتما صرف الليالي
إذن لعذرتما القلب القريحا
وكانت فرقة الأحباب ظنا
فأصبح بينهم خبرا صريحا
ولو لم ينزلوا سلمات نجد
لما استنشقت بالسلمات ريحا
ولا أهديت للأسماع يوما
غناء من حمائمها فصيحا
وهأنا قد سمحت بدمع عيني
وكنت بدمعها أبدا شحيحا
وأمكنت المحبة من قيادي
وصنت مع النأي ودا صحيحا
وقد سكن الجوى قلبا صحيحا
وقد ترك الهوى صدرا قبيحا
12
وقوله أيضا:
أسكان هذا الحي من آل مالك
مسالمة ما بيننا وجميل
ألم تعدونا أن تزوروا تكرما
فما بال ميعاد الوصال طويل
وحلتم عن الوعد الجميل ملالة
وأنتم على نقض العهود نزول
وإنا لنستبقي المودة والهوى
شهيد لنا إذ ليس عنه نزول
ولا تحسبوا العتبى عليكم توجعا
فيطمع واش أو يلح عذول
رضينا، رضينا أن نبيع نفوسنا
وما عاشق منا بذاك بخيل
كذاك الهوى، هذا حبيب معزز
وهذا محب في هواه ذليل
ووجد وشوق وارتياع ولوعة
وهجر وسقم دائم ونحول
دواعي الهوى محتومة فاصطبر لها
وإن جار بين أو جفاك خليل
علمنا بوشك البين أول حاله
وما حضرتنا للوداع عقول
إذا ما طمعنا أن تقر ديارهم
تداركهم بعد الرحيل رحيل
13
قلنا: إن الفرقة الكيزانية استمرت مدة طويلة بعد العصر الفاطمي، وكان لها أثر قوي في الصوفية الذين ظهروا بعد انقراض الدولة الفاطمية، وكذلك كان الناس يتداولون شعر ابن الكيزاني، فكان له تأثير قوي في شعراء الصوفية الذين كانوا في عصر الأيوبيين، ففي شعر ابن الفارض مثلا بعض المعاني التي في شعر ابن الكيزاني، ولكن شتان بين شاعرية ابن الفارض وشاعرية ابن الكيزاني؛ وسأترك المقارنة بين هذين الشاعرين الصوفيين إلى البحث الذي سيكون في كتابنا القادم «أدب مصر في عهد الأيوبيين والمماليك».
الوصف
وهناك غرض آخر من أغراض الشعر في العصر الفاطمي، هو عندي أقرب أغراض الشعر إلى التصوف، ذلك هو وصف الطبيعة، فكلا الغرضين ضرب من ضروب التأمل فيما خلقه الله، فكثيرا ما يؤدي بشعراء الوصف إلى التصوف، ولكن شعراء مصر لم يسيروا في هذا المجرى، بل اتخذوا وصف الطبيعة وسيلة إلى وصف قصفهم؛ فقد رأينا شعراء مصر الفاطمية من تلاميذ مدرسة ابن وكيع التنيسي ينشدون شعرا في الخمر والمجون والطبيعة معا، وكيف كانوا يؤثرون الشراب في الرياض والمتنزهات، ويمزجون وصف الخمر بوصف الرياض والمتنزهات، أو بوصف السماء وما فيها من نجوم وغيوم وسحب، وتحدثنا عن خروج الشعراء إلى المتنزهات المختلفة التي كثرت في هذا العصر، ينعمون بطيب هوائها، ويمتعون أبصارهم بتنسيقها وجمال أزهارها المتنوعة التي عجب الرحالة ناصري خسرو من وجود عدد كبير منها في وقت واحد، فهو يقول: «رأيت في يوم واحد هذه الفواكه والرياحين: الورد الأحمر، والنيلوفر، والنرجس، والترنج، والنارنج، والليمون، والمركب، والتفاح، والياسمين، والريحان الملكي، والسفرجل، والرمان، والكمثرى، والبطيخ، والعطر، والموز، والزيتون، والبليج (الإهليلج)، والرطب، والعنب، وقصب السكر ...» إلى أن قال: «وكل من يفكر كيف تجتمع هذه الأشياء التي بعضها خريفي، وبعضها ربيعي، وبعضها صيفي، وبعضها شتوي لا يصدق هذا.»
14
ويقول عن بساتين القاهرة: وفي المدينة بساتين وأشجار بين القصور تسقى من ماء الآبار، وفي قصر السلطان بساتين لا نظير لها، وقد نصبت السواقي لريها، وغرست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات.»
15
وطبيعة مصر اضطرت المصريين منذ أقدم العصور إلى التفكير والتأمل، والأمثال العامية التي يصطنعها الشعب المصري الآن، والتي نقلت إلينا معربة عن قدماء المصريين، تدل دلالة قاطعة على رقة شعور المصريين ودقة إحساسهم، وهم يتأملون طبيعة مصر، ويتحدثون عنها، وآثار قدماء المصريين ملئت بالحديث عن السماء والأرض واختلاف الجو وغير ذلك من آيات تفكيرهم في الطبيعة، على أن الشعراء المصريين في العصر الفاطمي لم يصفوا الطبيعة على أنها لون من ألوان الفلسفة الطبيعية، ولم يتحدثوا عنها حديثا يؤدي بهم إلى معرفة الخالق، بل تركوا ذلك كله لعلماء المذهب الفاطمي وإلى الفلاسفة، واتخذوا لأنفسهم مذهبا فنيا خالصا مصدره جمال الطبيعة، فإذا بهم يسبغون على المناظر التي وصفوها ألوان الحياة التي يألفونها من ملبس ومأكل ومسكن، ويحاولون أن ينتزعوا من الطبيعة صورا هي أقرب إلى صور الحياة التي اعتادوها، وألوان الزينة التي كان يتزين بها المصريون في العصر الفاطمي، وها هو ذا ابن حيدرة العقيلي يصور منظرا رآه في إحدى المتنزهات:
الغيم بين مزرر ومحلل
والقطر بين مسرح ومسلسل
والقضب بين مقرط ومطوق
ومدملج ومتوج ومكلل
والنبت بين مزعفر وممسك
ومخلوق ومعنبر ومصندل
ومدبج ومطرز ومصنف
ومعرض ومرصع ومثقل
فاشرب على حلل لو أمكن لبسها
كانت تكون من الطراز الأول
16
ويقول مرة أخرى:
أمهات الثمار بين الروابي
تائهات بلبس خضر الثياب
وبنات الكروم تجلى بما قد
صاغه الماء من عقود الحباب
فاله ما دام للشقيق خلوق
تنشر السحب فيه مسك ضباب
17
ويقول في وصف الرياض وقد شبهها بفرش المجالس:
عرائس القضب تجلي
على كراسي الروابي
ومجلس الروض فيه
فرش من العتابي
فابن حيدرة العقيلي، وهو من أشهر شعراء مصر الفاطمية الذين أولعوا بوصف الطبيعة، كان يتخذ صوره في الوصف مما كان يدور حوله في الحياة اليومية، وهذه الظاهرة ليست في شعر ابن حيدرة فحسب، بل نراها عند كثير من شعراء مصر الفاطمية، فالشاعر تميم بن المعز، وهو أحد شعراء الطبيعة، وصف بركة الحبش وخليج بني وائل فقال:
كأن البركة الغنا إذا ما
غدت بالماء مفعمة تموج
وقد لاح الضحى، مرآة قين
قد انصقلت، ومقبضها الخليج
ترى قمر الدجى، قمرا حذاه
طلوعا ما له فيها بروج
18
ووصف روضة على شاطيء النيل فقال:
ويوم خدعت الدهر عنه فلم أزل
أعلل نفسي فيه بالمراح مع صحبي
لدى روضة عالت رباها كرومها
وجاد عليها النيل من مائه العذب
كأن سحيق المسك خالط أرضها
فجالت به فيها الرياح مع الترب
كأن نبات النيل والريح تهمي
بهن طلى خيل مؤثلة شهب
وطورا تخال الماء في رونق الضحى
متون سيوف لجن مصقولة القضب
وتحسبه إن محصته يد الصبا
قوارير ما يفترن من قلق اللعب
19
وقال ابن عباد أحد شعراء الخريدة:
كأنما الأرض من زبرجدة
بدت إليك على غب من السحب
والأقحوانة هيفا وهي ضاحكة
عن واضح غير ذي ظلم ولا شنب
كأنما شمسه من فضة حرست
خوف الوقوع بمسمار من الذهب
وقال مجير بن محمد الصقلي في يوم مطير:
أرأيت برقا بالأبارق قد بدا
في أفقه متبسما متوقدا
كيف اكتسى ثوب السحاب ممسكا
وإخاله شنف الرداء موردا
فكأنه في الجو كأس كلما
فاتت نمير البرق صاح وعربدا
أو مرهف كشفت مداوس صيقل
عن متنه صدأ لكي يروي الصدا
فاعجب إلى ودق اللجين يسيل من
أفق أحالته البوارق عسجدا
ولؤلؤ للغيث يأخذه الثرى
فيعيده نبتا يخال زبرجدا
20
وقال ظافر الحداد في يوم برد:
ويوم برد عقوده برد
لها سلوك من هيدب المطر
ينثره الجو ثم ينظم منه الأرض
بالزهر كل منتشر
فهو يحاكي الحبيب في اللون واللطف
وعذب الرضاب والخصر
فالغيم يبكي والزهر يضحك والبروق
تبدي ابتسام ذي خفر
21
ويقول ظافر أيضا في متنزهات خليج الإسكندرية:
وعشية أهدت لعينك منظرا
جاء السرور به لقلبك وافدا
روض كمخضر العذار وجدول
نقشت عليه يد الشمال مباردا
والنخل كالغيد الحسان تزينت
ولبسن من أثمارهن قلائدا
22
وللشعراء المصريين جولات في وصف النجوم، وفي الحديث عن النهار والليل واختلاف الجو باختلاف فصول السنة، فمن ذلك منظومة ابن وكيع التنيسي التي أوردها الثعالبي في اليتيمة، والتي تحدث فيها الشاعر عن إحساسه وشعوره نحو فصول السنة، وتقلبات الجو باختلاف هذه الأوقات، ويقول في مطلعها:
يا سائلي عن أطيب الدهور
وقعت في ذاك على الخبير
سألتني أي الزمان أحلى
وأيه بالقصف عندي أولى
عندي في وصف الفصول الأربعة
مقالة تغني اللبيب مقنعة
أما المصيف فاستمع ما فيه
من فطن يفهم سامعيه
فصل من الدهر إذا قيل حضر
أذكرنا بحره نار سقر
تبصر فيه النبت مقشعرا
والأرض تشكو حره المضرا
نهاره مقسم بين قسم
جميعها يعاب عندي ويذم
أوله فيه ندى مبغض
كأنه على القلوب يقبض
يلصق منه الجسم بالثياب
وتعلق الأذيال بالتراب
ويقول في الخريف:
حتى إذا زال أتى الخريف
فصل بكل سوءة معروف
أهوية تسرع في كل الجسد
وهو كطبع الموت يبسا وبرد
يخشى على الأجسام من آفاته
فأرضه قرعاء من نباته
ومنها في الشتاء:
حتى إذا ما أقبل الشتاء
جاءتك منه غمة غماء
أقبل منه أسد مزير
له وعيد وله تحذير
لو أنه روح لكان فدما
أو أنه شخص لكان جهما
يأتيك في إبانه رياح
ليس على لاعنها جناح
أما عن الربيع فقال:
جاء إلينا زمن الربيع
فجاء فصل حسن الجميع
لبرده وحره مقدار
لم يكتنف حدهما الإكثار
عدل في أوزانه حتى اعتدل
وحمد التفصيل منه والجمل
نهاره من أحسن النهار
في غاية الإشراق والإسفار
تضحك فيه الشمس من غير عجب
كأنها في الأفق جام من ذهب
لبدره فضل على البدور
في حسن إشراق وفرط نور
كجامة البلور في صفائها
أو غرة الحسناء في نقابها
23
وهكذا يمضي ابن وكيع في وصف فصول السنة.
ومن قول شعراء مصر في النجوم ما أنشده ظافر الحداد:
كأن نجوم الليل لما تبلجت
توقد جمر في خلال رماد
حكى فوق ممتد المجرة شكلها
فواقع تطفو فوق لجة وادي
24
وقال محمد بن عاصم:
ترى صفحة الخضراء والنجم فوقها
ككف سدوسي بدا فيه درهم
ترى وعلى الآفاق أثواب ظلمة
وأزرارها منها شمال ومرزم
25
وقال المهذب بن الزبير:
وترى المجرة والنجوم كأنها
تسقي الرياض بجدول ملآن
لو لم يكن نهرا لما عامت به
أبدا نجوم الحوت والسرطان
26
وقال ابن وكيع التنيسي:
قم فاسقني صافية
تهتك جنح الغسق
أما ترى الصبح بدا
في ثوب ليل خلق
أما ترى جوزاءه
كأنها في الأفق
منطقة من ذهب
فوق قباء أزرق
27
وقال تميم بن المعز في الصباح:
وكأن الصباح في الأفق باز
والدجى بين مخلبيه غراب
28
وقال ابن وكيع التنيسي في التبشير بالصباح:
غرد الطير فنبه من نعس
وأدر كأسك فالعيش خلس
سل سيف الفجر من غمد الدجى
وتعرى الصبح من ثوب الغلس
وانجلى في حلة فضية
ما بها من ظلمة الليل دنس
29
أما نيل مصر فكان له شأن مع شعراء مصر الفاطمية، فإنهم كانوا يكثرون من ذكره في شعرهم، ويفيضون عليه صورهم كلما فاض عليهم بمائه، وها هو ذا الأمير تميم يقول:
يوم لنا بالنيل مختصر
ولكل يوم مسرة قصر
والسفن تجري كالخيول بنا
صعدا وجيش الماء منحدر
وكأنما أمواجه عكن
وكأنما داراته سرر
ويقول مرة أخرى:
أما ترى الرعد بكى واشتكى
والبرق قد أومض واستضحكا
فاشرب على غيم بصنع الدجى
يضحك وجه الأرض لما بكى
وانظر لماء النيل في مده
كأنما صندل أو مسكا
30
ويقول تميم عند زيادة النيل:
انظر إلى النيل قد عبا عساكره
من المياه فجاءت وهي تستبق
كأن خلجانه والماء يأخذها
مدائن فتحت فاختارها الغرق
كأن تياره ملك رأى ظفرا
فكر إثر الأعادي محنق نزق
كأن ماء سواقيه لناظرها
شهب الخيول إذا ما حثها العنق
فاشرب مهنى فإن اللهو منبسط
واطرب ولذ، فهذا منظر أنق
ويقول ابن قلاقس:
انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة
وانظر لما بعدها من حمرة الشفق
غابت وألقت شعاعا منه يخلفها
كأنما احترقت بالماء في الغرق
وللهلال فهل وافى لينقذها
في إثرها زورق قد صيغ من ورق
31
ولم ينس الشعراء أهرام مصر، فالشاعر عبد الوهاب بن حسن بن جعفر الحاجب المتوفي سنة 387، قال في وصف الأهرام:
انظر إلى الهرمين إذ برزا
للعين في علو وفي صعد
وكأنما الأرض العريضة قد
ظمئت لطول حرارة الكبد
حسرت عن الثديين بارزة
تدعو الإله لفرقة الولد
فأجابها بالنيل يشبعها
ريا وينقذها من الكمد
لكرامة المولى المقيم بها
خير الأنام مقوم الأود
32
ويقول ظافر الحداد:
تأمل بنية الهرمين وانظر
وبينهما أبو الهول العجيب
كعمارتين على رحيل
لمحبوبين بينهما رقيب
وماء النيل تحتهما دموع
وصوت الريح عندهما نحيب
33
وقول عمارة اليمني:
خليلي ما تحت السماء بنية
تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه، وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها
ولم يتنزه في المراد بها فكري
34
أما منشئات الفاطميين ومبانيهم، فقد ذكرها الشعراء في أشعارهم، ومنها هذه القصيدة التي أنشدها عمارة اليمني بعد أن دالت دولتهم، والتي تحدثنا عنها من قبل، وقد ضاعت أكثر هذه الأشعار، ولم يبق إلا عدة مقطوعات قليلة في وصف مباني المصريين.
قول علي بن يوسف الإيادي يذكر دارا بناها المعز العبيدي بمصر، وسماها العروسين:
بنى منظرا يسمى «العروسين» رفعة
كأن الثريا عرست في قبابه
إذا الليل أخفاه بحلكة لونه
بدا ضوءه كالبدر تحت سحابه
تمكن من سعد السعود محله
فأضحى ومفتاح الغنى فتح بابه
ولو شاده عزم المعز ورأيه
على قدره في ملكه ونصابه
لكان حصى الياقوت والتبر مفرغا
على المسك من آجره وترابه
35
وقال أمية في وصف قصر بناه الأمير علي بن الأمير تميم بن المعز:
لله مجلسك المنيف فبابه
بموطد فوق السماك مؤسس
موف على حبك المحبة تلتقي
فيه الجواري بالجوار الكنس
تتقابل الأنوار في جنباته
فالليل فيه كالنهار المشمس
عطفت حناياه دوين سمائه
عطف الأهلة والحواجب والقسي
واستشرفت عمد الرخام وظوهرت
بأجل من زهر الربيع وأنفس
فهواؤه من كل قد أهيف
وقراره من كل خد أملس
فلك تحير فيه كل منجم
وأقر بالتقصير كل مهندس
فبدا للحظ العين أحسن منظر
وغدا لطيب العيش خير معرس
فاطلع به قمرا إذا ما أطلعت
شمس الخدود عليك شمس الأكؤس
فالناس أجمع دون قدرك رتبة
والأرض أجمع دون هذا المجلس
36
ووصف الشاعر علي بن محمد النيلي باب زويلة فقال:
يا صاح لو أبصرت باب زويلة
لعلمت قدر محله بنيانا
باب تأزر بالمجرة وارتدى الش
عرى ولاث برأسه كيوانا
لو أن فرعونا رآه لم يرد
صرحا ولا أوصى به هامانا
37
على أننا نلاحظ ما بهذه المقطوعات من غلو ومبالغة في تفخيم المباني والمنشآت.
وهكذا نستطيع أن نتبع هذه العصور المختلفة التي صور بها شعراء مصر الفاطمية ما رأوه في الطبيعة وفي المتنزهات، وهي صور من الحياة المصرية التي كانت تلائم ما في العصر الفاطمي من ترف ونعيم، بل ذكر الشعراء الزينات المختلفة التي كان الفاطميون يتخذونها في دورهم ومتنزهاتهم، ويغالون في إظهارها إمعانا في الترف والبذخ، وها هو ذا ابن قلاقس يصف نخلة عليها زينة من أنوار السرج، كالذي يتخذه المترفون اليوم في أيام الحفلات الخاصة:
ما عهدنا النخل لولا هذه
باسقات بثمار اللهب
هطل الغيث لها من فضة
فهي في قنوانها من ذهب
تلعب السرج على حافاتها
وتحاكي أنمل المرتعب
ولقد أحسبها ألسنة
هزها للسكر خمر الطرب
38
ونرى المصريين يصفون في شعرهم كل ما وقع تحت أنظارهم، فوصفوا الشمعة مثلا، كما في قول المهذب بن الزبير:
ومصفرة لا عن هوى غير أنها
تحوز صفات المستهام المعذب
شجونا وسقما واصطبارا وأدمعا
وخفقا وتسهيدا وفرط تلهب
إذا جمشتها الريح كانت كمعصم
يرد سلاما بالبنان المخضب
39
ويقول آخر في الشمعة أيضا:
وصحيفة بيضاء تطلع في الدجا
صبحا وتشفي الناظرين بدائها
شابت ذؤابتها أوان شبابها
واسود مفرقها أوان فنائها
كالعين في طبقاتها ودموعها
وسوادها وبياضها وضيائها
40
ووصف الشاعر أمير الدولة أبو محمد عبد الله بن خليل - أمير شعراء المستنصر - القلم والرمح بقوله:
يراعان هذا يملأ الطرس حكمة
وذاك يذيق الحتف ليثا غضنفرا
وإن ظمئا ظنناهما يردا على
نفوس العدا من غير إذن ويصدرا
فيشرب هذا أسود الليل حالكا
ويشرب هذا قاني الدم أحمرا
41
ويصف طلائع الآمري الخيل بقوله:
جنائب إن قيدت فأسد وإن عدت
بأبطالها فهي الصبا والجنائب
أثارت بأكناف المصلى عجاجة
دجت وبدت للبيض منها الكواكب
42
ويقول ابن الضيف في عدد الفرس:
كم سابح أعددته فوجدته
عند الكريهة وهو نسر طائر
لم يرم قط بطرفه في غاية
إلا وسابقه إليها الحافر
43
ويطول بي الأمر لو ذكرت ما وصفه شعراء مصر الفاطمية، فهم لم يتركوا شيئا دون أن يتحدثوا عنه في أشعارهم، ولعل ذلك يرجع إلى ما كانوا عليه من رقة الشعور، ودقة الحس، ومقدرة على القريض.
خاتمة القول في الشعر
رأينا صورا مختلفة من الشعر المصري في العصر الفاطمي، وعرفنا موضوعاته المتنوعة المتشعبة، فنحن نتساءل بعد أن رأينا ذلك كله: إلى أي حد وفق شعراء مصر في التعبير عن شخصية مصر في شعرهم؟ وإلى أي حد نستطيع أن نميز الشعر المصري في هذا العصر من غيره من شعر الأقطار الإسلامية الأخرى؟
قبل أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة، نرى أن نتحدث أولا عن بعض خصائص ظهرت في الشعر العربي في كل عصوره وبيئاته، منذ عرف الشعر العربي إلى الآن، بل ستظل هذه الخصائص موجودة في الشعر العربي ما وجد الشعر العربي، وهذه الخصائص هي التي تجعله - مهما اختلفت بيئاته وتطورت عصوره - وحدة يشبه بعضها بعضا، فالحياة العربية تتطور وتختلف باختلاف الأقاليم التي تنشد الشعر بالعربية، ولكن هذه الخصائص في الشعر لم تتطور بتطور الحياة، ولم تختلف باختلاف الأقاليم، وبالتالي يتطور الشعراء فلا تتطور معهم هذه الخصائص، بل ظلت مثلا عليا للشعراء جميعا دون أن يصيبها تغيير جوهري.
فمثلا نجد الشعراء جميعا منذ العصر الذي اتفق المؤرخون على تسميته بالعصر الجاهلي إلى عصرنا هذا ينشدون أشعارهم في ألفاظ عربية حاول النقاد أن يصفوها في كتبهم وأبحاثهم بالرقة والعذوبة والجزالة والسلالة ... إلى غير ذلك من هذه الصفات التي وصفت بها الألفاظ الشعرية، فلا نكاد نجد شاعرا من شعراء العربية اصطنع ألفاظا توصف بصفات تختلف عن تلك التي تحدث عنها النقاد القدماء والمحدثون. حقيقة حاول بعض الشعراء أن يتظرف في الشعر باستعمال بعض ألفاظ أعجمية، ولكننا نستطيع أن نقول: إن ذلك كان قليلا جدا بحيث لا نستطيع أن ندعي أن هذه ظاهرة يقف عندها الباحث في تاريخ الأدب العربي؛ ولذلك لم يأبه لها مؤرخو الأدب، وإذن فقد اشترك الشعراء جميعا في استعمال الألفاظ العربية في أشعارهم مهما اختلفت عصورهم، وتباينت بيئاتهم، فلا نستطيع أن نتخذ الألفاظ أساسا للتمييز بين شعر قطر من الأقطار التي أنشدت بالعربية من شعر قطر آخر، فالألفاظ مثل من المثل العليا لشعراء العربية جميعا، لم يصبها تغيير، ولن يصيبها تغيير.
كذلك نقول عن هذه الأوزان التي جرى الشعر العربي على أوتادها وأسبابها، والتي تحدث عنها علماء العروض في كتبهم، فشعراء العربية لم يعدلوا عن الأوزان التي عرفها القدماء، وأغلب الظن أن شعراء العربية لن يعدلوا عن هذه الأوزان مهما بعد بهم الزمن عن الشعر القديم، وتلونت حياتهم بألوان مختلفة. ورب معترض يقول: إن الأندلسيين أوجدوا الموشحات والأزجال، وإن المصريين اخترعوا البليق، وأدخل شعراء الفرس الدوبيت والرباعيات في الشعر العربي، وهذه كلها أوزان لم يعرفها القدماء، ولكن أتى بها المولدون، فكيف تكون الأوزان إذن مثلا من المثل العليا للشعر العربي في كل العصور وكل البيئات! فأجيب هؤلاء المعترضين بأن المولدين لم يعدلوا عن التفعيلات القديمة، ولم تخرج أوزانهم الجديدة عن الدوائر العروضية التي عرفت قبل اختراع هذه الألوان من الشعر، وإنما الذي فعله هؤلاء المولدون أنهم غيروا بعض أشكال الشعر، واحتفظوا بالوزن الأساسي وبلون من ألوان القافية، أي إنهم في تجديدهم هذا لم يستطيعوا أن يحيدوا عن المثل القديمة في الشعر العربي، ومع ذلك كله فلو ذهبنا - جدلا - إلى أن الموشحات الأندلسية والبليق المصري والدوبيت الفارسي تجديد في الوزن العربي - مع أننا لا نوافق على هذا الرأي - فإن هذه الألوان من الشعر كانت جزءا يسيرا جدا بجانب الشعر الآخر الذي خلفه الأندلسيون والمصريون والفرس، والذي حافظ فيه الشعراء على الأوزان القديمة، وإذن فالوزن مثل آخر من المثل العليا لشعراء العربية جميعا، لم يصبه تغيير إلى الآن.
كذلك نقول عن القافية وعن الأساليب الشعرية العربية، فهذه كلها مثل من مثل الشعر العربي التي اتبعها الشعراء في كل العصور والبيئات، وحافظ عليها الشعراء أشد المحافظة، حتى هؤلاء الشعراء الذي نزعم أنهم أسرفوا في التجديد، فالشاعر أبو نواس مثلا الذي هاجم الأساليب القديمة وتهكم بها، لم يستطع أن يغير هذه الأساليب ولا طرائقه في التعبير، وكذلك نقول عن المجددين اللفظيين من أصحاب البديع، الذين أسرفوا في التلاعب اللفظي، واستخدام ألوان الزينة البديعية، فهم لم يستطيعوا أن يعدلوا عن عمود الشعر القديم، فلم يبتكروا قافية غير القافية التي نهج عليها القدماء، ولا تفعيلات غير التي عرفتها دوائر العروض، ولم يستخدموا ألفاظا غير عربية.
معنى ذلك كله أن الشعر العربي في كل عصوره وبيئاته يشترك في هذه الخصائص التي أصبحت مثلا للشعراء، فلا نستطيع إذن أن نقول: إن مصر لم تظهر شخصيتها في الشعر، أو إن المصريين قلدوا العباسيين واتخذوهم مثلا لهم؛ لأن شعراء مصر اتبعوا هذه الخصائص العامة، وكذلك لا نستطيع أن نقول: إن الأندلس أظهرت شخصيتها بأن أوجدت الموشحات، فالذين زعموا أن العباسيين كانوا مثلا عليا لشعراء العرب لم يدركوا فن الشعر العربي حق إدراكه، ونظروا إلى الشعر نظرة خاطفة، فتوهموا أن العباسيين كانوا مثلا للشعر العربي. ألم يذهب القدماء إلى أن ابن هانئ الأندلسي كان يقلد المتنبي حتى لقب بمتنبي الغرب؟ ألم يقل القدماء أيضا: إن الأمير تميم بن المعز كان يقلد ابن المعتز وينهج نهجه؟ فإذا كان القدماء ذهبوا إلى أن العباسيين كانوا أساتذة لشعراء مصر والمغرب والأندلس، فلم لا يذهب هؤلاء أيضا إلى أن العباسيين كانوا مثلا عليا للشعر العربي؟ الواقع أن العباسيين أنفسهم خضعوا لتقاليد الشعر العربي وخصائصه، شأنهم في ذلك شأن جميع شعراء العربية في كل العصور وكل البيئات، فلم يكن العباسيون مثلا عليا لغيرهم من شعراء الأقاليم العربية.
وإذا كان شعراء العربية اشتركوا جميعا في هذه الخصائص، فإنهم اختلفوا في المعاني التي تحدثوا عنها باختلاف عصورهم وبيئاتهم، فنحن إذا أردنا أن نبحث عن شخصية مصر في الشعر، فنحن لا نجدها في الأوزان، ولا في القوافي، ولا في اللفظ، ولا في أساليب الشعر، بل نجدها في المعاني التي ذكرها الشعراء، وفي الأخيلة الشعرية، وهنا فقط نستطيع أن نقول: إن الشعر المصري صور البيئة المصرية والحياة المصرية أصدق تمثيل، بحيث إنك إذا قرأت هذا الشعر المصري لا تستطيع أن تنسبه إلى قطر غير مصر.
فمن ناحية الشعر السياسي يعتبر شعر مصر الفاطمية سجلا للأحداث التي جرت في هذا العصر. حقيقة ضاع جل هذا الشعر السياسي، ولكننا نستطيع أن نحكم على ذلك بما بقي لنا من آثار هذا الشعر، وقد ذكرنا شيئا عن شعراء القصر وشعراء الوزراء، وأن هؤلاء الشعراء كانوا لسان الدولة في مثل هذه الأحداث السياسية، وكذلك كان أمر غيرهم من الشعراء الذين كانوا ينشدون الخليفة أو الوزير، ومن البديه أن ما كان ينشد من الشعر السياسي هو صورة لحياة مصر السياسية دون غيرها من الأقطار الأخرى.
ورأينا جانبا من الشعر المصري في الزهد والدين بجانب الشعر المصري في المجون والإباحة، وهذان اللونان من ألوان الشعر المصري يدلان دلالة صريحة على ناحية هامة من نواحي الحياة في الشعب المصري؛ فقد ذكرنا أن الشعب المصري شعب يميل إلى التمسك بأهداب الدين، وأنه شعب يعمل لآخرته، ولكنا في الوقت نفسه نراه شعبا يميل إلى المجون في حياته، وأنه شعب يميل لدنياه فيأخذ بنصيب من متاع الدنيا، فمصر على هذا النحو متناقضة مضطربة بين متاع النفس ومتاع الجسد، وإذا الشعر المصري يضطرب أيضا فيمثل الناحيتين من حياة هذا الشعب، ولعل هذه الظاهرة لا تزال ماثلة إلى اليوم في حياة المصريين، وفي شعر المصريين، والذين درسوا الشعب المصري عجبوا للفكاهة والدعابة المصرية، وكيف يرسل المصريون الفكاهة تلو الفكاهة، والنادرة بعد النادرة، وهم يضحكون على مسمع هذه الفكاهات والنوادر بأصوات عالية، وذكر الكتاب أن الفكاهة المصرية تدل على ذوق المصريين وسرعة بديهتهم، وعلى وعي شديد في تذوقها. وزعم بعض الكتاب أن المصريين أكثر الشعوب حبا للفكاهة وكلفا بإطلاقها وسماعها، وأن الفكاهة تجري في دم كل مصري، ولكن هذه الفكاهات المصرية أكثرها في الحديث عن الناحية الجنسية، وهي تتناول بعض أعضاء الجسم، حتى إن أشد ألوان الفكاهة المصرية إضحاكا هي هذه الفكاهات التي تتحدث عن العلاقة الجنسية أو أعضاء الجسم، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن للمصريين لونين من الحياة؛ لونا يميلون فيه إلى المجون، ولونا آخر يميلون فيه إلى الدين، فإذا الشعر المصري في كل عصوره يمثل هذين اللونين، وقد رأينا صورا لهما في الشعر المصري في العصر الفاطمي.
ونضيف إلى ذلك كله أن مصر بما تمتاز به من هذا الجو البديع الذي تكاد تنفرد به، وأرض خصبة تروى في أوقات منتظمة، جعلت المصريين شعبا يميل إلى الهدوء واللين في كل شيء، وظهر أثر ذلك في التفكير عند المصريين، فنحن لا نكاد نجد عند المصريين عمقا في تفكيرهم وفي دراساتهم المختلفة، ولعل هذا هو السبب في أننا لا نجد فيلسوفا مصريا، ولا نجد فلسفة مصرية لها أثرها في تاريخ الفكر البشري. ونحن نعجب لهذا الشعب العظيم الذي استطاع أن يهضم كل المدنيات التي ظهرت، وعرف كل الدراسات المتنوعة، بل استطاع أن يمصر الشعوب التي وفدت على مصر، ومع هذه القوة الكامنة في مصر لم ينتج المصريون فلسفة خاصة بهم. ورب معترض يقول: إن مدرسة الإسكندرية أوجدت فلسفة تباين الفلسفة الهلينية بعض التباين، ولكن فاته أن فلاسفة مدرسة الإسكندرية لم يكونوا من المصريين، بل كانوا من الغرباء الذين وفدوا على مصر لطلب العلم على أساتذة مدرسة الإسكندرية.
وقد ذهب بعض مؤرخي مدرسة الإسكندرية إلى أن أفلوطين من صعيد مصر، وأنه تأثر بالبيئة المصرية والحياة المصرية، وظهر ذلك في آرائه التي حاول فيها أن يقرب بين فلسفة اليونان والمسيحية واليهودية، ولكن حياة أفلوطين لم تكن كلها في مصر، فقد وفد على الإسكندرية سنة 233، وأقام إحدى عشرة سنة في الاستماع إلى الفلسفة اليونانية، ثم رحل عن مصر إلى سوريا والعراق، وفي سنة 245م رحل إلى رومة حيث لبث بقية سني حياته إلى أن توفي سنة 270م. فآراء أفلوطين لم تكن بتأثير البيئة المصرية، ولكنها كانت بتأثير هذه الرحلات التي قام بها، فمدرسة الإسكندرية على الرغم من استمرارها في مصر عدة قرون، لم تؤثر في المصريين تأثيرا له خطره، والذي قبله المصريون من دروسها هو شيء قريب إلى عقلية الشعب المصري التي تميل إلى كل شيء بسيط لين؛ ولذلك لم تمكث مدرسة الإسكندرية الفلسفية طويلا عقب الفتح العربي؛ إذ انتقلت تعاليمها إلى الرها وحران وأنطاكية ونصيبين، إلى أن أعاد الفاطميون تعاليم المدرسة الإسكندرية مصبوغة بالصبغة الإسلامية، ثم خرجت هذه التعاليم من مصر بانقراض الدولة الفاطمية، ولم تعد إليها إلى الآن، وأغلب الظن أنها لن تعود مرة أخرى إلى مصر، وفي تاريخ الحياة الصوفية في مصر لم نجد صوفيا له فكرة متميزة به، وإذا قلنا: إن ذا النون المصري كان من أوائل الصوفية الذين لهم رأي في وحدة الوجود؛ فإن تعاليمه لم تزدهر في مصر، وإنما الذين حملوا آراءه من غير المصريين، وذلك كله لأن المصريين شعب يميل إلى الهدوء واللين في حياتهم وفي تفكيرهم، وذلك من تأثير البيئة المصرية .
وغلبت هذه الطبيعة المصرية على الشعراء؛ فنراهم هادئين في تفكيرهم، وفي ميلهم إلى اتخاذ الأوزان الخفيفة الهادئة التي تلائم طبيعتهم، وظهر في وصفهم للطبيعة تلك الصور الهادئة التي ليس بها تعقيد الفلاسفة، ولا عمق المفكرين، إنما كانت صورهم هي صور الحياة اليومية التي كان يحياها المصريون.
والمصري عرف منذ القدم بشدة تعلقه ببيئته، لا يريد الابتعاد عن حياته التي عرفها منذ أدرك الحياة، وإذا غاب عن بيئته فهو يحن إليها حنينا شديدا جدا، ولا يلبث أن يعود إليها، وفي شعر مصر الفاطمية نجد الشعراء يعنون بتصوير هذه البيئة، ولم يحاول الشاعر المصري أن يخرج فنه عن دائرة هذه الحياة التي حوله، ومن هنا كان تصوير الشعر المصري للبيئة المصرية وللحياة المصرية في صور متلاحقة تكاد تكون حسية، فإذا قرأنا هذه الأشعار في تصوير هذه البيئة، لا نستطيع أن ننسبها إلى بيئة أخرى غير بيئة مصر، ولا يصور الشاعر شعبا غير شعب مصر، فليطمئن الذين زعموا أن مصر لم تنتج أدبا، أو الذين يزعمون أن مصر لم تظهر شخصيتها في الشعر، إلى أن مصر كان لها شخصية ظاهرة واضحة في الشعر المصري في العصر الفاطمي، ثم العصور التي وليت هذا العصر، وأن الشعر المصري يصور حياة المصريين المتشعبة النواحي أصدق تمثيل.
أما أخيلة المصريين في التعبير عن تصوير بيئتهم وألوان حياتهم، فهي أخيلة مستمدة من بيئتهم ومن حياتهم أيضا، فالفاطميون في أشعارهم التي أوردنا بعض صورها استخدموا الألوان الحسية، فاستعمال الجناس والطباق إلى غير ذلك من ألوان الفن تمثل لنا أخيلة شعراء العصر الفاطمي بأنها صور منتزعة من الحياة الفاطمية، وأن توسع الشعراء الفاطميين في استعمال هذه الألوان والمغالاة في استخدامها هي ضرورة اضطرتهم إليها حياة العصر الفاطمي نفسه. حقيقة نرى عند شعراء مصر قبل العصر الفاطمي هذه الألوان الحسية في شعرهم، وقد تحدثنا عنها في كتابنا «أدب مصر الإسلامية»، وأوردنا شيئا من شعر شعراء هذا العصر، مما يدل على أن هذا اللون من الفن عرفته مصر الإسلامية، ولكن مصر الفاطمية كانت تمتاز بالغلو في كل شيء؛ فقد رأينا غلو الفاطميين في الدين، وغلوهم في اللهو، وغلوهم في التزين والتجمل، وغلوهم في الملبس والمسكن؛ غلو في أعياد فرحهم، وغلو في ذكريات مآتمهم؛ فظهر هذا الغلو في فن الشعر ظهوره في نواحي الحياة المختلفة، فأسرف الشعراء في العصر الفاطمي في استخدام ألوان الزينة البديعية حتى تلائم أشراف الفاطميين في حياتهم، فإن الحياة كانت تمد الشعراء بهذه الألوان الحسية عن الزينة. ليس معنى ذلك أن الشعراء في غير مصر الفاطمية لم يعرفوا الزينة البديعية، أو أنهم لم يسرفوا في استخدامها، بل كانت الزينة البديعية في الشعر العربي أقدم عهدا من الفاطميين، وإن هذه الزينة عرفها شعراء العراق وغير العراق قبل أن تقوم دولة الفاطميين في مصر، فقد فتنت الزينة البديعية الناس جميعا في كل البلاد العربية، وأخذ الشعراء في استخدامها في شعرهم لإرضاء ذوقهم الفني، وإرضاء الجمهور الذي فتن بها، وتبع شعراء مصر الفاطمية تيار الشعر العربي، ولم يتخلفوا عنه، وإنما أسرفوا في استخدام هذه المحسنات البديعية، فسبقوا غيرهم في مضماره، وذلك لما في المصريين من دقة الحس، ورقة الشعور، وميل إلى الفكاهة، وخفة الروح، فإذا بك لا تشعر أن بالشعر المصري هذا التكلف الذي يظهر عند غير المصريين من الشعراء، ولا تلمس جهد الشاعر في الحصول على هذه الصورة الفنية التي ابتدعها في شعره، فالصور أمامهم وبين أيديهم ينتقون منها ما يشاءون دون جهد، فأحسنوا التحدث عن هذه الصور وأحسنوا تعليلها، وهي صور مصرية وتعليلات مصرية منتزعة من الحياة المصرية الحضرية.
وإذن فنستطيع أن نطمئن أيضا إلى أن أخيلة المصريين كانت مصرية أيضا، لم يتبعوا فيها غيرهم من شعراء البلاد العربية، وهكذا ظهرت شخصية مصر في الشعر بارزة واضحة.
الباب الثاني
في النثر
الفصل الأول
ازدهار النثر
رأينا في كتابنا «أدب مصر الإسلامية» كيف أسس ديوان الإنشاء بمصر في عهد أحمد بن طولون، وأن أول من ولي هذا الديوان كان أحمد بن محمد بن مودود المعروف ب «ابن عبد كان» الكاتب، وعرفنا كيف استمر تلاميذ «ابن عبد كان» يعملون في دواوين الطولونيين والإخشيديين، فازدهرت الكتابة في مصر على أيديهم حتى بلغت درجة عالية من درجات فن الكتابة في مصر، حتى إن القلقشندي روى أن أهل بغداد كانوا يحسدون أهل مصر على طبطب المحرر، وابن عبد كان الكاتب، ويقولون: بمصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما.
1
وكثر عدد الكتاب في مصر في عهد الطولونيين والإخشيديين، أمثال: الحسن بن رافع، ويعقوب بن إسحق، وأحمد بن أيمن، والحسين بن مهاجر، وعلي بن أحمد المادرائي، وابن الداية، وإسحق بن نصير العبادي، وإبراهيم بن عبد الله النجيرمي، ومحمد بن كلاو الروزباري ... وغيرهم من الكتاب الذين اتخذوا الكتابة فنا يتكسبون به، ومؤهلا لتعيين الكتاب في خدمة الأمراء وأصحاب الشأن في البلاد، فكثر تنافس الكتاب في تجويد الكتابة وإتقان الصناعة، حتى علا منارها وعظم شأنها.
تولى الفاطميون أمر مصر، ونهضة الكتابة فيها قوية مزدهرة، فتضاعفت هذه النهضة في العصر الفاطمي بما عمل الفاطميون على النهوض أولا بالعلم وإذكاء شعلته في البلاد، حتى كان للحركة العلمية أثر قوي في تيار الفكر الإسلامي عامة، وفي مصر الفاطمية على وجه خاص، وقد تحدثنا عن ذلك من قبل.
ومن ناحية أخرى، ظفرت مصر الفاطمية بنهضة أدبية كان لها أثرها القوي في ازدهار الشعر وازدهار الكتابة معا؛ فقد عني الفاطميون بالكتاب عنايتهم بالشعراء، بل لا أغالي إذا قلت: إن عناية الفاطميين بالكتاب كانت أشد من عنايتهم بالشعراء؛ ذلك أن اتساع ملكهم وتشعب نواحي حياتهم وسلطانهم اضطرتهم إلى أن يوجهوا همتهم إلى العناية بالدواوين المختلفة عناية خاصة تتناسب مع غلوهم في إظهار مجدهم. ويحدثنا المؤرخون عن هذه الدواوين، وعن الكتاب الذين تولوها، والتشريف الذي كان يجده هؤلاء الكتاب في العصر الفاطمي، من ذلك أن صاحب ديوان المجلس كان يخلع عليه، وينشأ له السجل، وله المرتبة والمسند والدواة والحاجب ... إلى غير ذلك.
2
ويذكر المقريزي أن أبا البركات بن أبي الليث متولي ديوان المجلس سنة 517ه، كان له باسمه مياومة إدرارا من بيت المال والخزائن ودار التعبية والمطابخ وشون الحطب الشيء الكثير، فكان له من البقول والتوابل ما قيمته نصف دينار، ومن الضأن رأس واحد، ومن الحيوان ثلاثة أطيار، ومن الحطب حملة واحدة، ومن الدقيق خمسة وعشرون رطلا، ومن الخبز عشرون وظيفة، ومن الفاكهة ثمرة زهرة قصريتان وشمامة، كما كان له في كل يوم إثنين وخميس من السماط بقاعة الذهب طيفور خاص، وصحن من الأرائل، وخمسة وعشرون رغيفا من الخبز المائدي والسميذ، وفي كل يوم أحد وأربعاء من الأسمطة مثل ذلك، وفي كل يوم سبت وثلاثاء من أسمطة الركوبات خروف مشوي وجام حلوى ورباعي عنب، وكان يحضر إليه في كل يوم من الإصطبلات بغلة بمركوب محلي، وبغلة برسم الراجل، وفراشين برسم خدمته. ولم يقتصر الأمر عليه وحده، بل جعلوا لولده جاريا كل يوم مقداره ثلاثة أرطال لحم، وعشرة أرطال دقيق، وراتبا عشرة دنانير.
3
ويقول المقريزي أيضا عن ديوان التحقيق: إنه كان لا يتولاه إلا كاتب خبير، وله الخلع المرتبة والحاجب.
4
أما صاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات، فكان أول أرباب الإقطاعات وأرباب الكسوة والرسوم، وله حاجب من الأمراء الشيوخ وفراشون، وله المرتبة الهائلة والمخاد والمسند والدواة، وهي من أخص الدوي، ويحملها أستاذي الخليفة.
5
ويحدثنا ياقوت: أن رزق ابن خيران كاتب الإنشاء في عهد المستنصر، كان ثلاثة آلاف دينار في السنة، وكان له عن كل ما يكتبه من السجلات والعهودات وكتب التقليدات رسوم يستوفيها من كل شيء.
6
فهذا التشريف الذي جعله الفاطميون لكتاب دولتهم كان من أهم عوامل ازدهار الكتابة في هذا العصر، كما كان إغداق النعم على الكتاب على هذا النحو الذي رأينا صورته من أسباب كثرة الكتاب، وإقبال الناس على التعليم، وإجادة الكتابة ليصلوا إلى مرتبة الكتابة في الدواوين؛ فكثر عدد الكتاب، وأصبح على المتأدب أن يأخذ عن الكتاب طرائقهم وفنهم.
ويحدثنا القاضي الفاضل أنه كان من عادة أرباب الدواوين في تربية أبنائهم، أنهم كانوا يرسلون هؤلاء الأولاد إلى ديوان المكاتبات ليتعلموا فن الكتابة. قال القاضي الفاضل: كان فن الكتابة بمصر في زمن بني عبيد غضا طريا ، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكانا وبيانا، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطانا، وكان من العادة أن كلا من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئا من علم الأدب، أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع، فأرسلني والدي، وكان إذ ذاك قاضيا بثغر عسقلان، إلى الديار المصرية في أيام الحافظ، وأمرني بالمصير إلى يدوان المكاتبات، وكان الذي يرأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلال، فلما حضرت الديوان ومثلت بين يديه وعرفته من أنا وما طلبي، رحب بي وسهل، ثم قال: ما الذي أعددته لفن الكتابة من الآلات؟ فقلت: ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن العزيز وكتاب الحماسة. فقال: وفي هذا بلاغ. ثم أمرني بملازمته، فترددت عليه وتدربت بين يديه، ثم أمرني بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته.
7
فهذا النص يدلنا على مبلغ تعلق الناس بتعليم أبنائهم فن الكتابة، فقد كان حفظ القرآن الكريم وأشعار العرب من عدد الكاتب في هذا العصر، وقد رأينا كيف طلب ابن الخلال من تلميذه الذي عرف بعد ذلك بالقاضي الفاضل أن ينثر كل الأشعار التي جمعها ديوان الحماسة؛ تهيئة له في الدخول في سلك الكتاب. ولم تكن ملكة الكتابة وحدها تكفي أن تجعل الإنسان كاتبا، بل كان لا بد له من آلات - على نحو ما عبر ابن الخلال - وهذه الآلات هي علوم العربية، حتى يتسنى للكاتب أن يسير على نهج الأساليب العربية، فلا يقع في لحن نحوي أو لغوي، أو يبتعد الكاتب عن سنن كتاب العربية في أسلوبهم وتعبيراتهم. ولم يقنع الفاطميون بأن تكون كتابات الكتاب سليمة صحيحة، بل حرصوا أشد الحرص على ذلك، بأن جعلوا في ديوان الإنشاء لغويين ونحويين لمراجعة ما كان يحرره الكتاب حتى تخرج كتاباتهم سليمة من الأخطاء، فهذا الحرص على سلامة أساليب الكتابة كان من العوامل التي جعلت الكتاب أنفسهم يعملون جاهدين على أن تخرج كتاباتهم خالصة متفقة مع الأساليب العربية، فلا غرو أن يقول القاضي الفاضل: «إن فن الكتابة بمصر في زمن بني عبيد كان غضا طريا.» وأن تصبو نفس كل متعلم إلى أن يكون كاتبا من كتاب الدواوين.
وقد يكون من عوامل ازدهار الكتابة في العصر الفاطمي، أن وزراء العصر الأول من الحكم الفاطمي كانوا من الكتاب، وكانوا يعملون في الدواوين قبل اختيارهم للوزارة، فالفلاحي والجرجرائي واليازوري والبابلي وبنو المغربي وابن المدبر وابن الأنباري وكثير غيرهم كانوا من الكتاب، وقد بلغوا مرتبة الوزارة، حتى إن المؤرخين لاحظوا أن وزراء الدور الأول كانوا من أصحاب الأقلام، وأن وزراء الدور الثاني كانوا من أصحاب السيف، وليس معنى ذلك أن الكتابة ضعفت في الدور الثاني، أو أن الكتاب أصبحوا في مكانة تقل عن مكانتهم الأولى، بل ظل الكتاب يتمتعون بمثل المركز الرفيع الذي كانوا فيه في الدور الأول، ومنهم كان جلساء الإمام وحجابه وأصحاب مظلته، ومنهم كان القضاة والدعاة، وهذه كلها كانت أكبر مناصب الدولة بعد الوزارة، فالكتاب طوال العصر الفاطمي كانت لهم مكانتهم الممتازة، والنعم العميمة، والعطايا الجزيلة، فلا غرابة إذن أن يقبل الناس على الكتابة، وأن تزدهر في هذا العصر.
أضف إلى ذلك كله أن نظام الحكم الفاطمي كان من أشد العوامل على ازدهار الكتابة؛ فإن الفاطميين كانوا يسجلون كل دقيقة وعظيمة في سجل يخرج من الديوان، فتعيين الوزراء أو الكتاب أو القضاة أو الدعاة وغيرهم من أرباب وظائف الدولة كان يخرج به سجل خاص مطول، فيه الحض على تقوى الله وطاعة الإمام والتمسك بأهداب الدين الحنيف، ثم الإشارة إلى المنصب الذي سيعين فيه الموظف، وما يتطلبه ذلك المنصب من عمل، إلى غير ذلك من ترغيب في المنصب، ومشورة في تصريف العمل، وإذا خرج الخليفة لفتح الخليج أو لصلاة الجمعة أو العيد فيخرج السجل بذلك. وفي أعيادهم ومآتمهم كانت تصدر هذه السجلات أيضا، حتى أصبحت هذه السجلات تاريخا للعصر الفاطمي كله، وكان الكتاب يفتنون في إظهار مقدرتهم وكفايتهم في صياغة هذه السجلات، ويتنافسون في هذا الفن؛ فجاءت هذه السجلات الفاطمية صورا رائعة من صور الكتابة العربية التي تمثل العصر الفاطمي أصدق تمثيل.
من ذلك نستطيع أن ندرك كيف ازدهرت الكتابة في العصر الفاطمي، وكيف أقبل المتعلمون على أن يلموا بفن الكتابة، حتى يصبحوا كتابا في دواوين الفاطميين، وأن ينالوا ما ناله الكتاب من تكريم وتقريب ونعم.
النثر والأئمة
وكان الأئمة يجيدون فن النثر كما كانوا يعرفون بالشعر، فقد كان الأئمة يلقون الخطب الدينية في المسجد الجامع، ويقرءون ما يعرضه عليهم الدعاة من مجالس المحكمة، وقد يبدلون بعض أجزاء هذه المجالس. فمن خطبة المعز لدين الله في عيد الأضحى سنة 341ه:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الأعز الأقدر، الخالق المدبر، ذو الكبرياء والجبروت، والعزة والملكوت، الأحد الصمد، الفرد المتفرد، الأعلى القاهر، الباطن الظاهر، الأول الآخر، مبدع السموات والأرض بالقدرة، ومالكها بالعزة، ومدبرها بالحكمة، وخالقها بما فيها من عجائب الفطرة، وبدائع التركيب والصنعة، الذي كل شيء من موات وحي متوجه بالدعاء إليه، والدلالة عليه، والشهادة له بالتوحيد، والتعظيم والتحميد، فتكوينه الأشياء كلها من عدم شاهد بأن لا شيء قبله، وانتهاؤها إلى الغايات دليل على أن لا غاية له، وإحاطته بحدودها منبئ بأن لا حد له، فالضعف والعجز والفقر والنقص الذي لم يخل منه مخلوق، أفصح ناطق وأصدق شاهد للخالق وحده - جل ثناؤه - بالإلهية والفردانية والقدرة والربوبية والتمام والكمال والأزل والدوام.
تبارك الله رب العالمين، أحسن كل شيء خلقه، وكفل لكل حي رزقه، ثم هدى بالعقل الذي قامت حجته، ووجبت طاعته، والكتب والرسل الذين تمت بهم حكمته. فصلى الله عليهم أجمعين، وعلى محمد سيد المرسلين، الذي رفع ذكره وأعلى قدره، فأكرمه بالوسيلة، واختصه بكل فضيلة، وابتعثه هاديا للعباد ونورا في البلاد، علم به من الجهل، وهدى به من الضل، وكثر به من القل، وأعز به من الذل، فألف به بعد الشتات، ونور به دياجير الظلمات، صلوات الله عليه وآله المهديين الأخيار الطيبين.
يا أيها الناس إن الله لم يخلقكم عبثا، ولم يهملكم سدى، ولم يجعل عليكم في الدين حرجا، ولم يضرب الذكر عنكم صفحا، للعبادة خلقكم، وبطاعته وطاعة رسوله أمركم، وجعل للطاعة أعلاما منصوبة، وفروضا مكتوبة، ومن أفضل أعلامها وأكرم أيامها يوم الحج الأكبر إلى البيت العتيق، مبوأ إبراهيم خليل الله، وقبلة محمد رسول الله، فتقربوا إلى الله بما أمدكم به، ورزقكم إياه من بهيمة الأنعام، مقتدين بسنة محمد نبي الرحمة والهدى، مستشعرين لله التقوى، فإن الله - عز وجل - يقول:
لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، فبالتقوى تقبل الأعمال ويدرك الأمل، وكبروا الله على ما هداكم، واشكروه على ما أولاكم. ألا وإن خير الهدي الإبل، وخير الإبل إناثها، وكذلك من البقر ثم الفحول من الضأن، وسلامة الضحايا سلامة العين والأذن، وأن تكون من حلال الأموال، نسأل الله لنا ولكم قبول العمل بامتنانه، وبلوغ الأمل من رضوان الله ورحمته وإحسانه.
وجلس، ثم قام في الثانية ينعي المنصور، ويعلن موته، بعد أن كان موته قد ظل مستورا عدة أشهر:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر شأنا، وأعظم سلطانا، وأوضح آيات وبرهانا، عن أن تنكر العقول توحيده، أو تروم تحديده، خالق السموات والأرض ومالكهما ومدبرهما، الفرد الصمد، الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا ند، الخالق القدير، الرحمن الغفور، النافذ قضاؤه، الكائن ما يشاؤه، المتقن كل شيء صنعا، الموسع كل شيء رزقا، المحيط بكل شيء علما. أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأفوض إليه، وأتوكل في كل الأمور عليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا خيرته من عباده، ونجيه من بريته، وصفوته من المتطهرين، ورسوله إلى كافة العالمين، وبعثه بالإمامة إلى الثقلين؛ ليبلغ حجة الرب، ويوضع محجة الحق، فأدى رسالة الله، ورحم ورأف بعباد الله، وصبر على الكبار من مكر الكفار، إلى أن أدال الله للحق على الباطل، والهدي على الأضائل. محمد صلى الله عليه وآله أفضل الصلاة وأزكاها، وأكملها وأنماها، وأخلدها وأبقاها، وعلى الأئمة المهديين، من عترته الكرام الأبرين، الذين اختارهم للخلافة، وارتضاهم للإمامة ، وأكد بوصية الرسل حجتهم، وأوجب في التنزيل طاعتهم، بعد تفضيله إياهم على العالمين بأبوة محمد سيد المرسلين، وعلى أفضل الوصيين، وعلى من أمه سيدة النساء، خامسة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم، وعلى أميري المؤمنين، المهدي بالله والقائم بأمر الله سيدي الورى، وإمامي الهدى، اللذين أعلن الله بهما دعوة الحق، وأنطق بهما الإيمان والمؤمنين، وأقام بهما دعوة الدين، وأزهق بحقهما باطل المدعين وأكاذيب المتخرصين، وقطع بسيوفهما دابر الظالمين، صلوات الله ورحمته وبركاته ورضوانه وتحياته عليهما.
اللهم اخصص الإمام الفاضل، والوصي العادل، والبر الفاضل، والغيث الوابل، ذا الآيات المعجزات، والعزائم النافذات، الباذل نفسه الكريمة في حين الأزل والكربات، الصابر في البأساء والضراء حتى طهر الأرض من جبابرة الأعداء، عبدك ووليك ونجيبك وصفيك أبا الطاهر، المنصور بك والمتوكل عليك، والمفوض إليك، العامل بما يرضيك، ويقرب إليك، ويزلف لديك. الذي فجعتنا بفقده، وأوحدتنا ببعده، وأفردتنا منه وأوحشتنا، فقبلت دعاءه، وأجبت نداءه، وجمعت بينه وبين أحبته في مستقر جنتك، وسعة رحمتك. إن القلق وشدة الحرق عليك يا أبتاه يا سيداه يا إسماعيلاه يا أبا الطاهراه، يا بحر علوم الأئمة الطاهرين، الهداة المهديين، يا بقية أبناء الرسول، وأبناء الوصي والطاهرة البتول، يا إمام الأمة، ومفتاح باب الرحمة، يا سراج الهدى وشمس الورى، ومجلي الطخياء، يا مخصوصا من الله بتعجيل الكرامة، عظم والله علينا المصاب بك، وحل البلاء، وعدم العزاء لفقدك، وقصرت الألسن عن إدراك إحصاء شمائلك وتعداد مناقبك، فوحق الذي اختصك بكرامته، وحباك بجزيل عطائه، وشرفك بأبوة رسوله، لولا ما أوعزت إلي به، وأكدته علي من القيام بحق الله، والذب عن أمة جدك رسول الله، واستنقاذهم من غمرة الجهالة، وبحار الضلالة، ومهاوي الفتن ومعاطب المحن، وما تقرر عندي، ورسخ في صدري من الجزاء بمقدار الوفاء لله ولرسوله ولأئمة الهدى؛ لضربت على وجهي سائحا في البلاد، قاليا للمهاد، راضيا ببلغة من الزاد، إلى أن يلحقني الموت سريعا بك، فأفوز بقربك ورحمة ربك. لكني فكرت ونظرت وتدبرت؛ فلم أر لي وجها أستوجب به درجتك، واللحاق بشرفك، سوى الصبر والاحتساب، فتجلدت، وصبرني ربي فصبرت، وغلب على اليقين فأمسكت، فأقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الرحمن الرحيم، له الحمد على ما أبلى، والشكر على ما أولى ... إلخ.
8
وأكتفي بهذا القدر من هذه الخطبة القيمة التي وردت في كتاب «سيرة الأستاذ جوذر»، ولعلك تلاحظ أن المعز قد أتى في خطبته هذه ببعض العقائد الفاطمية، من السهل الآن على القارئ أن يدركها، والمهم الآن أن نلاحظ هذه الصنعة الفنية في أسلوب الخطبة؛ فالجمل قصيرة، وتكاد الجملة تكون على وزن وطول الجملة التي تليها، والسجع ظاهر فيها، وينتقل المعز من معنى إلى آخر انتقالا طبيعيا لا تكلف فيه.
وإذا قرأنا توقيعات المعز التي ضمنها القاضي النعمان بن محمد كتابه «المجالس والمسايرات»، وتوقيعاته التي أرسلها إلى وليه الأستاذ جوذر التي جمعها صاحب «سيرة جوذر»؛ رأينا أن هذه الصنعة الفنية في الكتابة لا تلازم الإمام المعز في توقيعاته، فقل أن نجد السجع، ولا هذا التكلف الذي رأيناه في خطبته، فتوقيعاته أقرب إلى الكلام العادي الذي يتحدث به أمام الناس في الشئون المختلفة، مع سلامة أسلوبه، وفصيح عبارته، مثل توقيعه إلى جوذر ردا على رقعة رفعها إلى الإمام يسأل فيها ضيعة يرتفق بها ابن أحد كتابه: «وقفنا على رقعتك، ومحل محمد محل مثله ممن صدقت نيته، وقدمت في الجميل صحبته، ونحن نحب أن يسبغ الله نعمنا على من لم يعرفنا، فكيف من لم يعرف إلا بنا، ونحن نسعف جعفرا لسؤالك ما سأل فيه إن شاء الله.»
9
وكذلك نقول عن الأئمة الذين جاءوا بعد المعز؛ فقد كانوا على ثقافة واسعة وعلم غزير جعلهم يهتمون بالكتابة، ويميزون بين الجيد منها والرديء، بل تنسب إلى بعضهم رسائل مثل مجموعة الرسائل التي تنسب إلى المستنصر الفاطمي، والتي عرفت «بالرسائل المستنصرية»،
10
والتي قيل إنها الرسائل التي تبودلت بين المستنصر وبين علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن، فمؤرخو الإسماعيلية يؤكدون أن هذه الرسائل من إنشاء المستنصر نفسه، ولكني - بعد أن اطلعت على هذه الرسائل - أستطيع أن أقول إن أسلوبها أقرب إلى أسلوب المؤيد في الدين داعي الدعاة.
وكذلك نقول عن «رسالة الهداية الآمرية»
11
التي ينسبها الإسماعيلية إلى الإمام الآمر بأحكام الله، فقد شك الأستاذ آصف فيظي ناشر هذه الرسالة في نسبتها إلى الإمام الآمر، ورجح أن تكون من إنشاء أحد الكتاب الذين كانوا في عصر الآمر.
ومهما يكن من شيء فإن الكتابة في العصر الفاطمي قد ازدهرت بازدهار الحياة المصرية في ذلك العصر، ولشدة إقبال الناس على التماس العلم والنهل من منابعه التي كثرت، وتعددت ألوانها وفنونها، وتطور الكتابة يتبع دائما تطور الحياة العلمية، فإذا ارتقت العلوم تبعها رقي في الكتابة، وإذا انحطت العلوم انحطت الكتابة.
الفصل الثاني
كتاب ديوان الإنشاء
قال القلقشندي: «لما ولي الفاطميون مصر صرفوا مزيد عنايتهم لديوان الإنشاء وكتابه، فارتفع بهم قدره، وشاع في الآفاق ذكره، وولي ديوان الإنشاء منهم جماعة من أفاضل الكتاب وبلغائهم ما بين مسلم وذمي.»
1
هكذا وصف القلقشندي كتاب ديوان الإنشاء في العصر الفاطمي، «وما بلغه هذا الديوان على أيدي الكتاب من رفعة القدر وشيوع الذكر، ولا غرو في ذلك؛ إذ كان منصب ديوان الإنشاء لا يتولاه في الدولة الفاطمية إلا أجل كتاب البلاغة.»
2
ولمكانته وكفايته كان يلقب بالشيخ الأجل وبصاحب الدست الشريف،
3
كما كان الخليفة يستشيره في أكثر أموره، ولا يحجب عنه متى قصد المثول بين يديه،
4
وقد تحدث ابن منجب الصيرفي - أحد كتابهم - عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها رئيس ديوان الإنشاء، نلخص أهمها فيما يأتي: (1)
أن يكون ذا دين وورع وأمانة. (2)
أن يكون دينه الإسلام. (3)
أن يكون على مذهب الملك. (4)
أن يكون من البلاغة والفصاحة إلى أعلى رتبة وأسنى منزلة، وبحيث لا يوجد أحد في عصره يفوقه في هذا الفن. (5)
أن يكون مضطلعا بفنون الكتابة، عالما بأصولها وفصولها. (6)
أن يكون حافظا لكتاب الله تعالى، وحافظا للأشعار، راويا للكثير منها. (7)
أن يكون أصيلا في قومه، رفيعا في حسبه.
5
هذه أهم الصفات التي رأى ابن منجب أن يكون عليها رئيس ديوان الإنشاء، فهل اتخذ الفاطميون هذه الصفات دستورا لهم في اختيار رؤساء هذا الديوان؟ يؤسفني أن أقول: إن الفاطميين لم يأبهوا بهذه الشروط والصفات التي اقترحها أحد كتابهم في كتاب قدمه لوزير من وزرائهم، ولكن ابن منجب كان من كتاب القرن السادس للهجرة، في وقت بدأ فيه ضعف دولتهم وقوة أعدائهم، ولا سيما قوة الصليبيين، فلا غرابة أن نرى ابن منجب يشترط أن يكو ن الإسلام دين رئيس الديوان، «وخاصة بحكم الوقت الحاضر ألا يطلع على أسراره من يخالف شريعة الإسلام؛ لقرب دار العدو خذله الله وأباده.»
6
فإن وجود الصليبيين في بلاد الشام يناوئون الفاطميين، جعل ابن منجب يضطر إلى أن يشترط أن يكون رئيس ديوان الإنشاء مسلما، أما قبل عهد الصليبيين، ومنذ قامت دولة الفواطم في مصر، فقد كان يتولى ديوان الإنشاء بعض أهل الذمة، كما كان يتولاه بعض المسلمين.
ويذكر المؤرخون أسماء بعض من تولى هذا الديوان من أهل الذمة، مثل أبي المنصور بن نسطوروس النصراني كاتب العزيز، والرئيس فهد كاتب الحاكم، وغيرهما، كما كان يكتب ابن أبي الدم اليهودي في عهد الحافظ. معنى هذا أن الفاطميين لم يأبهوا بمذهب الكاتب أو دينه، بل لا أغالي إذا ذهبت إلى أن الفاطميين كانوا كثيرا ما يستعينون بالذميين في دولتهم، وهذه ظاهرة سجلها المؤرخون في كتبهم عن الدولة الفاطمية، ولكن ليس معنى ذلك أن الفاطميين أبعدوا المسلمين عن الدواوين، فإن الكثرة الساحقة من كتاب الدواوين كانوا من المسلمين، فإذا عرضنا أسماء رؤساء ديوان الإنشاء التي وردت في صبح الأعشى رأينا أكثر الكتاب من المسلمين، فقد جاء في هذا الكتاب: «فكتب للعزيز بالله بن المعز، أبو المنصور بن نسطورس النصراني، ثم كتب بعده لابنه الحاكم ومات في أيامه، فكتب للحاكم القاضي أبو الطاهر النهركي، ثم كتب بعده لابنه الظاهر. وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران، ثم ولي الدولة موسى بن الحسن قبل انتقاله إلى الوزارة، وأبو سعيد العميدي. وكتب للآمر والحافظ الشيخ الأجل أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي، إلى أن توفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، فكتب بعده ولده الأجل أبو المكارم إلى أن توفي في أيام الحافظ، وكان يكتب بين يديهما الشيخ الأمين تاج الرياسة أبو القاسم علي بن سليمان بن منجب المعروف بابن الصيرفي، والقاضي كافي القضاة محمود بن القاضي الموفق أسعد بن قادوس، وابن أبي الدم اليهودي، ثم كتب بعد الشيخ أبي المكارم بن أبي أسامة المتقدم ذكره، القاضي الموفق بن الخلال أيام الحافظ وإلى آخر أيام العاضد، وبه تخرج القاضي الفاضل البيساني، ثم أشرك العاضد مع الموفق بن الخلال في ديوان الإنشاء، القاضي جلال الملك محمود الأنصاري، ثم كتب القاضي الفاضل بين يدي الموفق بن الخلال قرب وفاته سنة ست وستين وخمسمائة في وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكتب من إنشائه عدة سجلات ومكاتبات عن العاضد آخر خلفائهم.
7
ولكن هذه الأسماء التي جاءت في صبح الأعشى، ليست عرضا لرؤساء ديوان الإنشاء في العصر الفاطمي كله، كما أن الذي نراه في كتب التراجم وفي المراجع العامة الأخرى يختلف بعض الاختلاف عما ورد في صبح الأعشى؛ إذ تحدثنا هذه المراجع أن الحسين بن جوهر القائد كان يلي ديوان الإنشاء في عهد العزيز،
8
وأنه ظل في منصبه إلى أيام الحاكم، ثم استبدل به صالح بن علي الروزباري، ثم جاء بعده الكافي بن عبدون النصراني، ثم صرف وقرر بدله أحمد بن محمد القشوري الكاتب، ثم زرعة بن عيسى بن نسطورس الكاتب النصراني الملقب بالشافي، وبعده حسين بن طاهر الوزان.
9
ونفهم من كلام ابن زولاق مؤرخ مصر أن مالك بن سعيد الفاروقي كان له النظر أيضا في المكاتبات في عصر الحاكم،
10
وتولى ابن خيران كتابة السجلات للظاهر والمستنصر،
11
ويذكر المؤيد في الدين لهبة الله الشيرازي في سيرته أنه ولي ديوان الإنشاء بمصر سنة 443ه.
12
ويذهب المقريزي إلى أن الوزير ابن المغربي ولي ديوان الإنشاء بعد أن صرف عن الوزارة،
13
وأن سناء الملك أبا محمد الزبيدي الحسني كان على رأس ديوان الإنشاء في عهد الآمر.
14
وهكذا نستطيع أن نعرف عددا آخر من الكتاب الذين ولوا ديوان الإنشاء غير الذين ذكرهم القلقشندي، كما نستطيع أن نستخرج أسماء عدد كبير من الكتاب الذين كانوا يعملون في ديوان الإنشاء، ولكننا لا نستطيع أن نعرف مذاهبهم الفنية في الكتابة؛ لأن آثارهم فقدت ولم يبق لنا إلا عدة رسائل وسجلات لا تكفي لأن نكون رأيا صحيحا عن كل كاتب من هؤلاء الكتاب، ولكن هناك عدة خصال عامة اشترك فيها كل كتاب هذا العصر، بحيث نستطيع أن نلمسها عند كل الكتاب الذين وصل إلينا شيء من كتاباتهم، فأول خصلة من هذه الخصال، هي أن الكتاب جميعا التزموا السجع في كتاباتهم، نرى هذه الخصلة منذ ابتدأت الدولة الفاطمية إلى أن قوض صلاح الدين الأيوبي أركانها.
نراها في رسالة المعز لدين الله إلى القرمطي،
15
وفي رسالة العزيز بالله إلى عضد الدولة البويهي، وهذه الرسالة كانت من إنشاء يعقوب بن كلس،
16
وفي السجلات الكثيرة التي كتبت في عهد الحاكم،
17
وفي رسائل المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي، وفي كتابات ابن خيران، ونستمر في إدراك هذه الخصلة عند الكتاب حتى نراها في رسائل ابن الصيرفي وابن الشخباء، ثم في رسائل القاضي الفاضل.
وخصلة أخرى نراها في فن هؤلاء الكتاب، وهي الاقتباس من القرآن الكريم، فكانوا أحيانا يضمنون رسائلهم وسجلاتهم بعض آيات من القرآن، أو يقتبسون بعض معاني القرآن، متأثرين بهذا كله تأثرا واضحا في جميع ما خلف لهم من كتابات.
وخصلة ثالثة هي المبالغة في استخدام الزينة اللفظية والمعنوية في كتاباتهم، فهم يغرقون في المبالغة حين يحاولون تشخيص المعاني، ويولعون باستخدام الجناس، ويكلفون في تركيب جملهم بمراعاة النظير؛ فإذا بك تجد كتاباتهم تتألف من جمل قصيرة في الغالب، والجملة تتبع الأخرى في وزنها وموسيقاها ومعناها، وينتقل بك الكاتب من معنى إلى آخر في رقة وعذوبة، فلا ينتقل بك انتقالا فجائيا؛ مما يدل على فطنة الكاتب ومهارته، كما يدل أيضا على أن الصنعة الفنية كانت تستهوي جميع الكتاب، على أن هذه الخصال التي عرفت في العصر الفاطمي عرفت أيضا في رسائل ابن عبد كان ، فلا غرابة إذا قلنا: إن أثر ابن عبد كان في كتاب مصر كان قويا شديدا، وإن فنه الذي عرف به في العصر الطولوني قد ظهر واضحا في العصر الفاطمي، وإن كان كتاب الفاطميين قد بالغوا في ذلك كله مبالغتهم في كل شيء في حياتهم. كما أن هذه الخصال نفسها هي التي عرفت بها كتابات القاضي الفاضل، وما القاضي الفاضل إلا أحد تلاميذ كتاب الفاطميين وبهم تخرج، والعجب حقا أن أرى بعض الزملاء يتوهم أن للقاضي الفاضل مذهبا خاصا عرف به في الكتابة، وأن له مدرسة تتميز بخصائصها وطرائقها عن مدرسة الكتاب الفاطميين، وأخشى أن أذهب إلى أن هؤلاء الزملاء لم يدرسوا تطور الكتابة في مصر دراسة كافية، فقصورهم في معرفة أسلوب كتاب مصر منذ أيام ابن عبد كان جعلهم ينسبون طريقة ابن عبد كان إلى القاضي الفاضل، ونحن نلتمس لهؤلاء الزملاء بعض العذر في حكمهم هذا؛ لأنهم كانوا تبعا في ذلك للقدماء الذين أشادوا بذكر القاضي الفاضل، وتناسوا أساتذته وخصائص مذهبهم التي أخذها عنهم، وجاء المحدثون يتبعون القدماء في أحكامهم دون درس وبحث.
وخصلة أخرى تتميز بها رسائل كتاب الفاطميين، ونجدها ظاهرة في كل سجلاتهم، تلك هي المقدمات التي كان يبدأ بها الكتاب رسائلهم وسجلاتهم، فقد دفعتهم عقيدتهم الدينية، وتمذهبهم بالمذهب الفاطمي إلى أن يبدءوا رسائلهم وسجلاتهم بالحمد لله، ثم بالصلاة على النبي وعلى الوصي والأئمة من أهل البيت، ويتعمدون دائما أن يذكروا أن محمدا جد الأئمة، فكأنهم كانوا يحاولون إثبات نسبهم في كل رسالة من رسائلهم، وكل سجل من سجلاتهم، وكأنهم أرادوا بتكرار هذه الناحية تأكيد ما حاول خصومهم نفيه، أو كأنه رد على سجلات العباسيين في دحض نسب الفاطميين، هذه الظاهرة واضحة كل الوضوح في كل رسائل الفاطميين منذ دخل جوهر مصر إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، ولعل هذه الظاهرة هي التي تميز رسائل الكتاب الفاطميين عن غيرهم من كتاب الأقطار الأخرى التي لم تخضع لحكم الفاطميين، بل أرى هذه الظاهرة في رسائل أتباع مذهب الفاطميين إلى اليوم . وكما كانوا يبدءون كتاباتهم وسجلاتهم بالحمد والصلاة على النبي والأئمة، كانوا يختمون هذه الكتابات والسجلات، لم يشذ عن ذلك كاتب من كتابهم، ولعل هذه الخصلة تظهر في سجلات الفاطميين أوضح من ظهورها في رسائلهم، والسبب في ذلك أن السجلات الفاطمية كانت أقرب إلى البلاغات الرسمية التي تصدر عن ديوان أي ملك في عصرنا الحديث، ففي هذه السجلات التي كانت تصدر عن ديوان الإنشاء تسجيل خطوات الإمام الفاطمي، فإذا خرج للصلاة صدر بذلك سجل من الديوان، وإذا خرج الإمام إلى فتح الخليج صدر السجل، وإذا انتصرت الجيوش المصرية صدر السجل بالفتح وهكذا، ففي كل هذه السجلات تظهر هذه الخصلة.
وكما تأثر الشعر بالعقائد الفاطمية تأثرت الكتابة بهذه العقائد تأثرا يظهر في السجلات التي تصدر في الأعياد والمواسم، أو في تولية إمام أو أحد رجال الدولة من وزراء وقضاة ودعاة، ففي مثل هذه السجلات كان الكتاب يلمون بالعقائد، ويئولون بعض آيات القرآن الكريم تأويلا يتفق مع مذهبهم الفاطمي، ويذكرون في كتاباتهم رأي الفاطميين في كل مناسبة وفي كل عيد، فالسجلات التي صدرت في عيد الغدير كانت تنصب على ولاية علي بن أبي طالب والأئمة المنصوص عليهم من بعده، وسجل مأتم عاشوراء كان في الحسين بن علي وما لاقاه أهل البيت من أهوال، وسجل رؤية رمضان في ذكر عقيدة الفاطميين في هلال رمضان، وهكذا كانت هذه السجلات حافلة بالمعتقدات الفاطمية التي لا يمكن أن تصدر عن دولة غير فاطمية المذهب.
ولعل أول قطعة نثرية وصلتنا عن الدولة الفاطمية، هي ما كتبه القائد جوهر الصقلي فاتح مصر، وتلك هي الأمان الذي قطعه على نفسه وعلى إمامه للمصريين، وإن كان هذا الأمان من السجلات التاريخية فهو صورة من الصور الأدبية التي دبجتها يراعة هذا القائد، فقد كان جوهر كاتبا للمعز قبل أن يوليه قيادة جيوشه بالمغرب.
18
ويحدثنا المقريزي أن القائد جوهرا كان كاتبا بليغا، ومن مستحسن توقيعاته في رقعة رفعت إليه بمصر:
سوء الاجترام أوقع بكم حلول الانتقام، وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاحتساب؛ لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعديتم، فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة إلا تقتضي الذم لكم، والإعراض عنكم، ليرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه رأيه فيكم.
19
فتوقيع جوهر القائد على هذا النحو يدل على أن جوهرا كان على مقدرة وكفاية في فن الكتابة، كما كان على مقدرة وكفاية في فنون الحرب. فهذه الجمل القصيرة المسجوعة، وهذه المعاني المتسقة والمقابلات بين معنى الجملة والأخرى، ترينا أن فن الكاتب هو نفس الفن الذي ساد العصر الفاطمي، بل كاد يسود العالم الإسلامي، فالزينة اللفظية في هذه القرون كانت حلية الكتاب جميعا.
أما الأمان الذي هو أول نص حفظ لنا عن الدولة الفاطمية فقد جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من جوهر الكاتب عبد أمير المؤمنين المعز لدين الله صلوات الله عليه، لجماعة أهل مصر الساكنين بها من أهلها ومن غيرهم: إنه قد ورد من سألتموه الترسل والاجتماع معي، وهم أبو جعفر مسلم الشريف أطال الله بقاه، وأبو إسماعيل الرسي أيده الله، وأبو الطيب الهاشمي أيده الله، وأبو جعفر أحمد بن نصر أعزه الله، والقاضي أعزه الله؛ وذكروا عنكم أنكم التمستم كتابا يشتمل على أمانكم في أنفسكم وأموالكم وبلادكم وجميع أحوالكم، فعرفتم ما تقدم به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وحسن نظره لكم، فلتحمدوا الله على ما أولاكم، وتشكروه على ما حماكم، وتدأبوا فيما يلزمكم، وتسارعوا إلى طاعته العاصمة لكم، العائدة بالسعادة عليكم، وبالسلامة لكم، وهو أنه صلوات الله عليه لم يكن إخراجه للعساكر المنصورة، والجيوش المظفرة، إلا لما فيه إعزازكم وحمايتكم والجهاد عنكم ... إلخ.
20
ويستمر جوهر في ذكر ما يجب على المصريين أن يتبعوه، وما على الحكومة الجديدة من تعهدات نحو الشعب المصري، ويخيل إلي أن كاتب هذا النص لم يكن عنده الوقت الكافي لأن يظهر صناعته الفنية في المزاوجة بين الجمل والتزام السجع في كل فقراته، وإن كان الكاتب حاول أن يرتفع بأسلوبه، وأن يجعله أسلوبا أدبيا.
وإذا تركنا كتاب الأمان الذي كتبه جوهر، رأينا رسالة أخرى للمعز أرسلها إلى الحسن بن أحمد القرمطي، ونحن لا ندري من الذي كتب هذه الرسالة عن المعز، فالرسالة التي وصلت إلينا طويلة ولكنها ناقصة، ومع ذلك فنحن نستطيع أن نتخذها صورة للكتابة في أول العصر الفاطمي، حتى نستطيع أن نميز تطور الكتابة في العصر الفاطمي كله، فقد جاء في هذه الرسالة:
من عبد الله ووليه، وخيرته وصفيه، معد أبي تميم المعز لدين الله أمير المؤمنين، وسلالة خير النبيين، ونجل علي أفضل الوصيين، إلى الحسن بن أحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم، رسوم النطقاء، ومذاهب الأئمة والأولياء، ومسالك الرسل والأوصياء السالف والآنف منا. صلوات الله علينا وعلى آبائنا، أولي الأيدي والأبصار، في متقدم الدهور والأكوار، وسالف الأزمان والأعصار، عند قيامهم بأحكام الله، وانتصابهم لأمر الله، الابتداء بالإعذار، والانتهاء بالإنذار، قبل إنفاذ الأقدار، في أهل الشقاق والآصار، لتكون الحجة على من خالف وعصى، والعقوبة على من باين وغوى، حسبما قال الله - جل وعز:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، و
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقوله سبحانه:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ، و
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق .
أما بعد، أيها الناس، فإنا نحمد الله بجميع محامده، ونمجده بأحسن مماجده، حمدا دائما أبدا، ومجدا عاليا سرمدا، على سبوغ نعمائه، وحسن بلائه، ونبتغي إليه الوسيلة بالتوفيق والمعونة على طاعته، والتسديد في نصرته، ونستكفيه ممايلة الهوى، والزيغ عن قصد الهوى، ونستزيد منه إتمام الصلوات وإفاضات البركات، وطيب التحيات، على أوليائه الماضين، وخلفائه التالين، منا ومن آبائنا الراشدين المهديين المنتخبين، الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون.
أيها الناس:
قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها
ليذكر من يذكر، وينذر من أبصر واعتبر. أيها الناس، إن الله - جل وعز - إذا أراد أمرا قضاه، وإذا قضاه أمضاه، وكان من قضائه فينا قبل التكوين أن خلقنا أشباحا، وأبرزنا أرواحا، بالقدرة مالكين، وبالقوة قادرين، حين لا سماء مبنية، ولا أرض مدحية، ولا شمس تضيء، ولا قمر يسري، ولا كوكب يجري، ولا ليل يجن، ولا أفق يكن، ولا لسان ينطق، ولا جناح يخفق، ولا ليل ولا نهار، ولا فلك دوار، ولا كوكب سيار، فنحن أول الفكرة وآخر العمل بقدر مقدور، وأمر في القدم مبرور، فعند تكامل الأمر، وصحة العزم، وإنشاء الله - جل وعز - المنشآت، وإبداء الأمهات من الهيولات، طبعنا أنوارا وظلما، وحركة وسكونا، وكان من حكمه السابق في علمه، ما ترون من فلك دوار، وكوكب سيار، وليل ونهار، وما في الآفاق من آثار معجزات، وأقدار باهرات، وما في الأقطار من الآثار، وما في النفوس من الأجناس والصور والأنواع، من كثيف ولطيف، وموجود ومعدوم، وظاهر وباطن، ومحسوس وملموس، ودان وشاسع، وهابط وطالع، كل ذلك لنا ومن أجلنا، دلالة علينا، وإشارة إلينا، يهدي به الله من كان له لب سجيح، ورأي صحيح، قد سبقت له الحسنى، فدان بالمعنى ... إلخ.
21
ولعل أول ما يلفت نظرنا في هذه الرسالة تلك الاصطلاحات الفاطمية والمعاني الباطنية، بحيث نستطيع أن نقول إنه لا يمكن أن تصدر مثل هذه الرسالة إلا من كاتب من كتاب الفاطميين، حتى لو كان الكاتب لم يبدأ رسالته بأنها من إمام من أئمة الفاطميين، فالاصطلاحات الفاطمية «الناطق» و«الوصي»، ثم حديثه عن خلق الأشباح - أي الممثولات - قبل خلق العالم، وأن الأئمة أول الفكرة، أي إنهم مثل للعقل الأول «المبدع الأول»، وأن كل المخلوقات وجدت للدلالة على الأئمة الذين هم مثل للعقل. كل هذه من المعاني الباطنية التي يدين بها الفاطميون، فالرسالة كلها مملوءة بمثل هذه العقائد، فليست الرسالة من الرسائل التاريخية السياسية التي تفيد المؤرخ السياسي في معرفة العلاقة بين الفاطميين والقرامطة فحسب، وليست رسالة أدبية تبين لنا صورة من صور الكتابة في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة، بل هي من أهم الرسائل التي تتحدث عن العقائد الفاطمية، وترينا تطور المذهب الفاطمي إذا قارناها بما جاء في كتب منصور اليمن الحسين بن حوشب، الذي وجد قبل عصر المعز؛ أو كتب القاضي النعمان، وجعفر بن منصور، والمروزي، الذين كانوا في عهد المعز، ثم كتب الدعاة الكبار الذين كانوا بعد عصر المعز. فمؤرخ العقائد الفاطمية يجد مجالا للبحث في هذه الرسالة الهامة.
وأسلوب الرسالة هو ذلك الأسلوب الذي تحدثنا عنه من قبل، وتظهر فيه كل خصائص الكتابة في العصر الفاطمي، وكل خصائص مدرسة ابن عبد كان في الكتابة. انظر إلى هذه القطعة من تلك الرسالة:
فأما أنت أيها الغادر الخائن، الناكث البائن، عن هدي آبائه وأجداده، المنسلخ عن دين أسلافه أنداده، والموقد لنار الفتنة، والخارج عن الجماعة والسنة، فلم أغفل أمرك، ولا خفي عني خبرك، ولا استتر دوني أثرك، وإنك مني لبمنظر ومسمع، كما قال الله - عز وجل:
إنني معكما أسمع وأرى ، و
ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ؛ فعرفنا على أي رأي أصلت، وأي طريق سلكت، أما كان لك بجدك أبي سعيد أسوة، وبعمل أبي طاهر قدوة، أما نظرت في كتبهم وأخبارهم، ولا قرأت وصاياهم وأشعارهم، أكنت غائبا عن ديارهم وما كان من آثارهم.
فأنت تقرأ هذه القطعة فتشعر أنك تقرأ رسالة ابن عبد كان التي كتبها إلى العباس بن أحمد بن طولون عندما ثار على أبيه، فهذه الجمل القصيرة المسجوعة، والاقتباسات من القرآن الكريم، وضم الجملة إلى ما يشاكلها؛ كل هذه من خصائص فن ابن عبد كان، ونقلها تلاميذه عنه، واستمرت طوال العصر الفاطمي.
ووصلت إلينا رسالة كتبت في عهد العزيز بالله، كتبها إلى عامله بمصر يبشره بالفتح حين خرج إلى قتال القرامطة بالشام سنة 367ه، ونحن لا نعرف أيضا كاتب هذه الرسالة، ولكن لا شك في أنها كتبت في العصر الفاطمي؛ لما فيها من الخصائص الفاطمية التي تحدثنا عنها من قبل، سواء أكان ذلك من حيث العقائد أو من حيث الأسلوب الفني، فقد جاء في هذه الرسالة:
22
من عبد الله ووليه نزار أبي المنصور العزيز بالله أمير المؤمنين، إلى حسين بن القاسم. سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمد نبيه ورسوله، صلى الله عليه وعلى الأئمة من عترته الأبرار، الطاهرين المطهرين وسلم تسليما.
أما بعد، فالحمد لله الملك العظيم، العليم الحليم، ذي الطول الكريم، والمن الجسيم، والعز المديد، والمحال الشديد، ولي الحق ونصيره، وماحق الباطل ومبيره، المتكفل بالنصر والتمكين، والتأييد والتحصين، لأوليائه المتقين، وخلفائه المصطفين، الذابين عن دينه، والقائمين بحقه، والدالين على توحيده، الحاكم بإعلاء كلمتهم، وإفلاج حججهم، وظهورهم على أعدائه المشاقين له، الضالين عن سبيله، الملحدين في آياته، الجاحدين لنعمائه، المنزل رجزه وقوارع بأسه على من عصاه فحاده، وصد عنه فناده، القاضي بالعواقب الحسنى، والفوز والنعمى، لمن أسلم وجهه له، وتوكل عليه في أمره، وفوض إليه حكمه، كل ذلك فضلا منه وعدلا، وقضاء فصلا، وهو الحكم العدل الذي
لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
فأنت ترى في هذه القطعة كيف ذكر الكاتب أن محمدا جد الإمام العزيز، وأن الأئمة هم صفوة الخلق المصطفون الذابون عن دين الله، فهذه كلها من المعاني الفاطمية التي لا يقول بها غيرهم، فإذا مضينا في قراءة الرسالة رأينا الجزء الأول منها يجري هذا المجرى الذي رأيناه في القطعة السابقة، حتى إذا وصلنا إلى الغرض من الرسالة، وهو الحرب مع القرمطي رأينا الكاتب يفصل حركات العزيز وانتقالاته إثر عدوه، حتى قال الكاتب:
فبعدما طمع، قاده الحين الغالب، والقدر الجالب، وما أراد الله - عز وجل - من استدراجه إلى موضع نكاله، ومنهل وباله، ورحل من بيسان رحيل من استعجلته البلية، واستدعته الرزية، فحل بموضع يعرف بكفر سلام، كافرا بحدود الإسلام، متجرئا على الله محاربا لنجل نبيه عليه السلام، وأقام بها متلددا في حيرته، مترددا في سكرته، ثم استجره شؤمه، وقاده حينه ولؤمه، إلى أن رحل فنزل بكفر سابا البريد، فأنبأه اسمها بما حل به من السبي المبيد، والخزي الشديد، ثم لم يلبث أن ضرب مضاربه المأكولة، ونصب أعلامه المخذولة، وأقام صفوفه المغلولة، وأظهر آلة الحرب إقداما، وأخفى عن اللقاء إحجاما ... إلخ.
وعلى هذا النحو من الأسلوب سار الكاتب في هذه الرسالة، التي لا تكاد تختلف في أسلوبها عن أسلوب الرسالة السابقة.
وفي عهد الحاكم الذي عرف بنزعاته وتقلباته في حكمه، كثرت السجلات والأمانات في عهده، وأصاب الكتاب من تقلباته أذى كثير، ونقل المقريزي عن المسبحي صديق الحاكم وجليسه: «في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة أمر «الحاكم» بعمل شونة مما يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفاء، فخامر قلوب الناس من ذلك جزع شديد، وظن كل من يتعلق بخدمة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أن هذه الشونة عملت لهم، ثم قويت الإشاعات، وتحدث العوام في الطرقات، أنها للكتاب وأصحاب الدواوين وأسبابهم، فاجتمع سائر الكتاب بأجمعهم في خامس ربيع الأول، ومعهم سائر المتصرفين في الدواوين من المسلمين والنصارى إلى الرماحين بالقاهرة، ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يدعون ويتضرعون، ويضجون ويسألون العفو عنهم.»
23
ويروي المقريزي أيضا أنه كتب فوق المائة سجل بأمان لأهل الأسواق،
24
ومما أورده المقريزي صورة سجل أمان أصدره الحاكم وهو:
هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لأهل مسجد عبد الله. إنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحق المبين، وأمان جدنا محمد خاتم النبيين، وأبينا علي خير الوصيين، وآبائنا الذرية النبوية المهديين، صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين، وأمان أمير المؤمنين على النفس والحال، والدم والمال، لا خوف عليكم ولا تمديد بسوء إليكم، إلا في حد يقام بواجبه، وحق يؤخذ بمستوجبه، فيوثق بذلك؛ ليعول عليه إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة والحمد لله، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلي خير الوصيين، وعلى الأئمة المهديين ذرية النبوة، وسلم وتسليما كثيرا.
25
كما ورد في صبح الأعشى
26
سجل بتولية الحسين بن علي بن النعمان القضاء في عهد الحاكم بأمر الله، وفي هذا السجل تظهر الصنعة الفنية التي نراها في كتاب الأمان السابق، ومما جاء في هذا السجل:
أمره أن يتقي الله - عز وجل - حق التقوى، في السر والجهر والنجوى، ويعتصم بالثبات واليقين والنهى، وينفصم من الشبهات والشكوى والهوى، فإن تقوى الله تبارك وتعالى، موئل لمن وئل إليها حصين، ومعقل لمن اقتفاها أمين، ومعول لمن عول عليها مكين، ووصية الله التي أشاد بفضلها، وزاد في سناها، بما عهد أنه من أهلها، فقال تبارك وتعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين .
ولا نستطيع أن نعرف الكاتب الذي سطر هذه السجلات، وكتب الأمان التي صدرت في عصر الحاكم؛ لأن ديوان الإنشاء في عهده تداوله عدد كبير منهم، بحيث يصعب على المؤرخ أن يعرفهم أو يعرف كم أمضى كل كاتب منهم في الديوان، واستمر الأمر في غموض، ولعل أول كاتب في هذا العصر المضطرب نستطيع الحديث عنه هو ولي الدولة ابن خيران.
ابن خيران
أما هذا الكاتب فهو أبو محمد أحمد بن علي بن خيران، ولقب بولي الدولة، ويذكر ياقوت أن ابن خيران ولي ديوان الإنشاء بعد أبيه في عهد الظاهر،
27
ونحن لا نعرف شيئا عن أبيه سوى ما يرويه ياقوت: «كان أبوه أيضا فاضلا بليغا، أعظم قدرا من ابنه وأكثر علما.»
28
كذلك لا نعرف متى ولي والده ديوان الإنشاء، ومتى ولي الابن بعده، ولكن المقريزي يحدثنا في خططه أن أبا الحسن عمار بن محمد - وكان يلي ديوان الإنشاء، واستوزره الحاكم، وهو الذي تولى البيعة للظاهر - قتل في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، فاستوزر بعده بدر الدولة أبا الفتوح موسى بن الحسين، وكان يتولى الشرطة، ثم ولي ديوان الإنشاء بعد ابن خيران.
29
ويخيل إلي أن ابن خيران المذكور في نص المقريزي هو الأب؛ لأن ولي الدولة ظل في منصبه حتى شاهد عصر المستنصر، ومع ذلك فنص المقريزي يختلف عن نص ياقوت؛ إذ يذهب ياقوت كما رأينا إلى أن الابن حل محل أبيه في ديوان الإنشاء، على حين يذهب المقريزي إلى أن أبا الفتوح موسى بن الحسين هو الذي ولي الديوان بعد ابن خيران، ولا نستطيع أن نرجح إحدى الكفتين؛ لأن المصادر التي بين أيدينا قليلة، ولا تعطينا صورة دقيقة لرجال ذلك العصر.
ومهما يكن من شيء فإن ولي الدولة ابن خيران تقلد ديوان الإنشاء للظاهر، ثم للمستنصر، ويحدثنا المقريزي: أنه في سنة أربع عشرة وأربعمائة قرر الشريف الكبير العجمي، والشيخ نجيب الدولة الجرجرائي، والشيخ العميد محسن بن بدوس، مع القائد معضاد، ألا يدخل على الظاهر أحد غيرهم، وكانوا يدخلون كل يوم خلوة ويخرجون فيتصرفون في سائر أمور الدولة، والظاهر مشغول بلذاته، وصار شمس الملوك مظفر صاحب المظلة، وابن خيران صاحب الإنشاء وداعي الدعاة ونقيب نقباء الطالبيين وقاضي القضاة، ربما دخلوا على الظاهر في كل عشرين يوما مرة، ومن عداهم لا يصل إلى الظاهر البتة.
30
وإذن فقد كان ولي الدولة ابن خيران صاحب ديوان الإنشاء في سنة 414ه. ويقول ابن خلكان عن الشاعر أبي الحسن علي بن أحمد بن نوبخت أنه توفي بمصر في شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة، وهو على حالة من الضرورة وشدة الفاقة، وكفله ولي الدولة أبو محمد أحمد بن علي المعروف بابن خيران الكاتب الشاعر، وهذا ابن خيران كان متولي كتب السجلات عن الظاهر بن الحاكم.
31
فهذا النص يدلنا على أن ابن خيران كان في ديوان الإنشاء سنة 416ه.
ويروي المقريزي أن ابن خيران وقع عن الخليفة المستنصر: «الفقر مر المذاق، والحاجة تذل الأعناق، وحراسة النعم بإدرار الأرزاق، فليجروا على رسومهم في الإطلاق، ما عندكم ينفد وما عند الله باق.»
32
فابن خيران إذن كان صاحب ديوان الرسائل في أواخر عهد الظاهر وفي عهد المستنصر أيضا. ويروي ياقوت: أن رزقه كان في كل سنة ثلاثة آلاف دينار، وله عن كل ما يكتبه من السجلات والعهودات وكتب التقليدات، رسوم يستوفيها من كل شيء بحسبه، وكان شابا حسن الوجه، جميل المروءة، واسع النعمة، طويل اللسان، جيد العارضة، وسلم إلى أبي منصور بن الشيرازي رسول أبي كاليجار إلى مصر من بغداد جزأين من شعره ورسائله، واستصحبهما إلى بغداد ليعرضهما على الشريف المرتضي أبي القاسم وغيره ممن يأنس به من رؤساء البلد، ويستشير في تخليدهما دار العلم؛ لينفذ بقية الديوان والرسائل إن علم أن ما أنفذه منها ارتضي واستجيد.
33
وعلى الرغم من أن شعره فقد ولم يبق منه إلا عدة مقطوعات قصيرة، فإننا نستطيع أن نقول: إن ابن خيران كان معجبا بنفسه، يكثر الإشادة بشعره وبنثره. انظر إليه وهو يقول:
ولقد سموت على الأنام بخاطر
الله أجرى منه بحرا زاخرا
فإذا نظمت نظمت روضا حاليا
وإذا نثرت نثرت درا فاخرا
34
ويقول مرة أخرى:
خلقت يدي للمكرمات، ومنطقي
للمعجزات، ومفرقي للتاج
وسموت للعلياء أطلب غاية
يشقى بها الغاوي ويحظى الراجي
35
وهو القائل أيضا:
قد علم السيف وحد القنا
أن لساني منهما أقطع
والعلم الأشرف لي شاهد
بأنني فارسه المصقع
36
من هذه المقطوعات نستدل على أن ابن خيران قد فتن بشعره وبنثره إلى درجة أن وصف نفسه بأن منطقه يأتي بالمعجزات، ويخيل إلي أن إعجابه بنفسه لم يكن في الشعر أو في النثر، بل إن حياته كان يسيطر عليها هذا التيه والإعجاب بنفسه ، حتى لو كان في ذلك ما يجازف فيه بحياته، ولعل القصة التي أوردها ياقوت عنه تدل على ذلك كله، قال ياقوت: كان ابن خيران قد خرج إلى الجيزة متنزها، ومعه من أصحابه المتقدمين في الأدب والشعر والكتابة، وقد احتفوا به يمينا وشمالا، فأدى بهم السير إلى مخاضة مخوفة، فلما رأى إحجام الجماعة من الفرسان عنها، وظهور جزعهم منها، قنع بغلته، فولجها حتى قطعها، وانثنى قائلا مرتجلا:
ومخاضة يلقى الردى من خاضها
كنت الغداة إلى العدا خواضها
وبذلت نفسي في مهاول خوضها
حتى تنال من العدا أغراضها
37
وعلى الرغم من أن ابن خيران ظل مدة طويلة في ديوان الإنشاء، وأن له رسائل كثيرة جمعها في حياته، فإنه لم يصل إلينا من نثره سوى هذه القطعة التي كتبها توقيعا عن المستنصر، ويروي ياقوت عن الرئيس هلال بن المحسن: «أن الرسائل صالحة سليمة، قد انتزعت من المنظوم على خلوة إلا من الوزن والقافية.»
وتوفي ابن خيران في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة من الهجرة.
وبعد ابن خيران تولى محمد بن أحمد بن محمد العميدي ديوان الإنشاء للمستنصر في صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة من الهجرة، وكان نحويا لغويا، وصنف عدة كتب منها: كتاب تنقيح البلاغة في عشر مجلدات، وكتاب الإرشاد إلى حل المنظوم، وكتاب الهداية إلى نظم المنثور، وكتاب انتزاعات القرآن، وكتاب العروض، وكتاب القوافي.
38
فهذه المصنفات تدلنا على أن العميدي كان متأثرا بهذه الثقافة اللغوية النحوية، وأرجح أن كتابته في رسائله كانت متأثرة أيضا بهذه الألوان من العلوم التي حذقها فصنف فيها هذه الكتب، مضافا إليها خصائص الكتابة في مصر التي تحدثنا عنها. وقد أورد ياقوت له بيتين من الشعر هما:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي
مقر عبادة إلا القرافة
لئن لم يرحم المولى اجتهادي
وقلة ناصري لم ألق رافة
ولعلك تلاحظ هذه الجناس بين «القرافة» و«ألق رافة»، ولا ندري مقدار استخدامه لهذه المحسنات البديعية في كتابته؛ لأننا لم نعثر على شيء منها، ولم يعمر العميدي طويلا في الديوان، إذ توفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ه.
ثم توالى الكتاب بعده على ديوان الإنشاء، نذكر منها أبا الفرج الذهلي، وأبا الطاهر النهركي، وولي الدولة موسى بن الحسن وغيرهم، إلى أن ولي المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي ديوان الإنشاء سنة 443ه، وقد تحدثنا طويلا عن المؤيد في الدين، ونكتفي الآن بأن نعرض صورة من رسائله التي حفظها في كتابه «السيرة المؤيدية»، من ذلك رسالته إلى الوزير اليازوري إبان خروج المؤيد لمؤازرة البساسيري في حركته المعروفة:
رسالة من كتاب المؤيد
ووصل كتاب الحضرة العالية فاستفدت السرور بمطلعه، والسكون إلى علم مودعه، من ذكر شمول السلامة والسعادة، جعلهما الله متصلتي الأسباب، منهلتي السحاب، وفهمته. فأما ما ذكر جوابا عن قولي حين نهيت أن أرعى تاج الأمراء سمعي، لقيني بوجه التفتير في العزم، أنني ما شاهدت تاج الأمراء ولا علم لي ما يكون منه في ذلك، فإن خاطبني على شيء منه خاطبني بلسان، كل الناس به ناطقون، وعليه متفقون، لو كان كلامهم في ناجعا، ومني موقع القبول واقعا ، إن الحضرة العالية - حرس الله عزها - عارفة بمن يلقي ذلك إلي على جهة الإشفاق وهو غل، والنصيحة وهو غش، وإنها لو شاءت أن تسميهم لي أو تصدر كتبهم إلي لفعلت وذكرت ورود مكاتباتهم يبذلون الخدمة في هذا الوجه، ولكنها - حرس الله عزها - تتجنب ما يوزع سري، فمن أجل ذلك تكف، فقد عرفته، ومسلم للحضرة العالية - حرس الله عزها - ثقوب الرأي والبصيرة والألمعية والمحاسن التي توحدها الله به. فأما علم الغيب فقد انتفى منه النبي
صلى الله عليه وسلم
بدليل الكتاب:
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ، ولعله نما إليها - حرس الله عزها - ذكر رجل أو رجلين تكلما بذلك، هما قليل من كثير، ناظروني على ذلك، وقبحوا علي فعلي كيف استجبت له وأنا بالقاهرة المحروسة يومئذ، ثم في عامة الطريق ... إلخ.
39
ولعلك تلاحظ من هذه القطعة من رسالة المؤيد في الدين أنها لم تظهر فيها خصائص الكتابة في مصر، والسبب في ذلك هو أن المؤيد في الدين لم يكن مصريا، إنما وفد على مصر بعد أن استكمل خصائصه الفنية في الشعر والنثر، فلم يتأثر بمدرسة الكتاب المصريين، بالرغم من أن المؤيد كان يرى نفسه أقدر في فن الكتابة من الذين ولوا ديوان الإنشاء قبله، فهو يذكر أنه قال مرة للوزير اليازوري، وقد جرى ذكر كتاب الإنشاء: «معلوم ما كان لمتولي هذا الديوان من الجاه الوسيع والرزق السني الكثير، ولئن كانت أشخاصهم مفقودة، فإن آثارهم في صناعتهم حاضرة موجودة، وأنت كاتب تفرق بين الجيد والرديء، والضعيف في الصناعة والقوي، وأريد أن تعتبر من انتصب هذا المنصب من خمسين سنة إلى اليوم مقايسة إلي، فإن كنت ممن يجري في حلبتهم فرسه، ويطول نحو أمرهم باعه، فأنزلني منزلتهم من الجاه والمال، وإلا فقل لي ما أنت مثلهم، ولا في آفاقهم، فقد رضيتك حكما، وجئت لحكمك مستسلما.»
40
ولكن لا ننسى أن الذي يقول ذلك هو المؤيد في الدين، الذي عرف بغروره وطموحه.
41
وكان الذي ينوب عن المؤيد في ديوان الإنشاء أثناء غيابه عن مصر وسفره إلى العراق في حركة البساسيري، هو القاضي القضاعي الذي تحدثنا عنه في فصل المؤرخين، ولكن لم تصل إلينا كتاباته،
42
وناب عنه أيضا أبو الحسن علي بن الأنباري الذي ولي الوزارة بعد ذلك سنة 457.
43
ثم اختلف على ديوان الإنشاء عدد من الكتاب لم تصل إلينا أسماؤهم ولم تحفظ آثارهم، إلى أن نلتقي باسم اثنين من أكبر كتاب ذلك العصر، أما الأول فهو أبو الفرج الموفقي الذي وصفه العماد بقوله: «أحد كتاب مصر من الطبقة الأولى.»
44
ولكن العماد لم يحدثنا بشيء عنه سوى هذه الجملة، وأورد له ثلاثة أبيات من الشعر في وصف ناعورة. أما الكاتب الثاني فكان معاصرا للموفقي والمؤيد، وكان بينه وبين الموفقي بعض الرسائل، وهو ابن الشخباء.
ابن الشخباء
أبو علي الحسن بن عبد الصمد بن الشخباء، ولقب بالمجيد ذي الفضيلتين، وصفه العماد بقوله: «مجيد كنعته، قادر على ابتداع الكلام ونحته، له الخطب البديعة، والملح الصنيعة.»
45
وقال ياقوت عنه : «أحد البلغاء الفصحاء الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة.»
46
ووصفه ابن خلكان بقوله: «صاحب الخطب المشهورة، والرسائل المحبرة، كان من فرسان النثر، وله فيه اليد الطولى.»
47
ويقول ابن بسام في ذخيرته: «كان من البلغاء الأفراد؛ وأبهر نجوم تلك البلاد، طلوعا من ثنايا الأدب، واجتناء لخبايا لسان العرب، فقد كاشف حقائقها، واستخرج دقائقها، وأحرز مسبوقها وسابقها.»
48
إذن تكاد تجمع هذه المصادر على علو كعبه في صناعة الكتابة، وكفايته فيها، حتى قيل: إن القاضي الفاضل كان جل اعتماده على حفظ كلامه، وأنه كان يستحضر أكثره،
49
وربما كان هذا هو السبب الذي من أجله قال بعض الذين كتبوا عن القاضي الفاضل: إنه تلميذ ابن الشخباء؛ لأنه كان يحذو حذوه في الصناعة. لم يكن ابن الشخباء مصريا بل كان من عسقلان، وبالرغم من أن الحدود الجغرافية تجعل عسقلان بلدا في فلسطين، ولكن يجب ألا ننسى أن فلسطين كانت ولاية من ولايات مصر منذ العصر الطولوني، واستمرت تابعة لمصر، خاضعة لتأثيرها السياسي والفكري إلى عهد قريب، فوحدة فلسطين مع مصر أشد وأقوى من وحدتها مع البلاد الأخرى؛ فلا غرو أن رأينا ابن الشخباء العسقلاني النشأة، يتأثر بما تأثر به الكتاب الذين نشئوا وترعرعوا في مصر، بهذه الخصائص التي كانت تسود الكتابة المصرية. إلا أن ابن الشخباء استطاع بشخصيته أن يبرز ويتفوق في هذا الفن، وأن يبالغ في استخدام المحسنات اللفظية والمعنوية حتى بهر معاصريه بفنه، وجعل المؤرخين يشيدون بفضله، ويخيل إلي أن ابن الشخباء كان على علم تام بحل ما كان يحيط بالعرب في الجاهلية والإسلام، حافظا لأشعارهم وحكمهم، متمكنا من لغتهم، ويظهر ذلك في رسالته التي أرسلها إلى أبي الفرج الموفقي، ففيها يقول:
وصلت رقعة مولاي والصبح قد سل على الأفق مقضبه، وأزال بأنوار الغزالة غيهبه، فكانت بشهادة الله صبح الآداب ونهارها، وثمار البلاغة وأزهارها، قد توشحت بضروب من الفضل تقصر قاصية المدى، ويجري به في مضمار الأدب مفرده.
فكأن روض الحسن تنثره الصبا
فأطلت من قرطاسها أتصفح
فأما ما تضمنته من وصفي، فقد صارت حضرته السامية تتسمح في الشهادة بذلك مع مناقشتها في هذه الطريقة، وأنها لا توقع ألفاظها إلا مواقع الحقيقة، فإن كنت قد بهرجت عليها فلتراجع نقدها تجدني لا أستحق من ذلك الإسهاب فصلا، ولا أعد لكلمة واحدة منه أهلا، وبالجملة فالله ينهضني بشكر هذا الإنعام الذي يقف عنده الثناء ويضلع، ويحصر دونه الخطيب المصقع.
هيهات تعي الشمس كل مرامق
ويعوق دون منالها العيوق
وأما الفضل الذي أودعه الرقعة الكريمة من قوله: «فأما فلان فيحل في قومه ويفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد. قدوره عمارية، وعطسات جواريه أسدية، ويهوين لو خلق الرجال خلق الضباب، يتضوعن النشر العبقسي، ويرضعن مراضع ثعالة المجاشعي.» وما أمرت حضرته السامية من ذكر ما عندي فيه، فقد تأملته طويلا، وعثر الخادم فيه بما أنا ذاكره، راغبا في الرضا بما بلغت إليه المقدرة، وتجليل ذلك بسجوف الصفح. أما قوله: «يفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد» فيقع لي أنه أراد خالد بن الوليد المخزومي، وذلك أن مسيلمة الحنفي كان قد تنبأ بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وحديثه مشهور - منبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه، خالد بن الوليد المقدم ذكره في جيش كثيف من المسلمين؛ ففتح اليمامة، وقتل مسيلمة، وأباد جماعة كثيرة من بني حنيفة. وأما قوله: قدوره عمارية، فإن هذا الفصل لما كان مبنيا على الذم، وجب أن يتطلب لهذا السبب معنى يجب حمله عليه، ولم نجد ما ينسب إليه إلا قول الفرزدق:
لو أن قدرا بكت من طول ما حبست
عن الحقوق بكت قدر ابن عمار
ما مسها رسم مذ فض معدنها
ولا رأت بعد نار القين من نار
وأما قوله: «عطسات جواريه أسدية» فيقوى في وهمي أنه أراد قول الأول في هجائه:
إذا أسدية عطست فنكها
فإن عطاسها طرق الوداق
وأما قوله «يهوين لو خلق الرجل خلق الضباب» فإن الجاحظ ذكر في كتاب الحيوان أن للضب أيرين، وللضبة حرين. وحكى أن أير الضب أصله واحد، وإنما يتفرق فيصير أعلاه اثنين، واستشهد على ذلك بقول الفرزدق :
رعين الدبا والبقل حتى كأنما
كساهن سلطان ثياب مراجل
سيحل له نزكان كانا فضيلة
على كل حاف في البلاد وناعل
والنزك: اسم أير الضب. وأنشد الأصمعي لابن دزماء فيما رواه أبو خالد النمري:
تفرقتم لا زلتم قرن واحد
تفرق أير الضب والأصل واحد
ومن ها هنا قالت حبي المدنية لما عذلها أبوها في تزوجها ابن أم كلاب:
وددت بأنه ضب وأني
ضبيبة كدية وجدت خلاء
وأما قوله «يتضو عن النشر العبقسي» فمن أمثال العرب: هو آخر صفقة من شيخ مهو، وهو بطن من عبد القيس بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن نزار بن معد بن عدنان، وكان من خبره أن إيادا كانت أنس العرب، فوفد وافدهم إلى الموسم بسوق عكاظ، ومعه حلة نفيسة، فقال: يا معشر العرب، من يشتري مني مثلبة قوم لا تضره بحلتي هذه؟ فقال الشيخ المهوي: أنا أشتريها. فقال الإيادي: أشهدكم يا معشر العرب أني قد بعت فساء إياد لوافد عبد القيس بحلتي هذه، وتصافحا وافترقا متراضيين، وقد شهد عليهما أهل الموسم فصارت ...
فصارت عبد القيس أفسى العرب، وقيل لابن مناذر: كيف الطريق إلى عبد القيس؟ فقال: شم ومر.
فإن عبد القيس من لؤمها
تفسو فساء ريحة تعبق
من كان لا يدري لها منزلا
فقل له يمشي ويستنشق
وأما قوله: «أعطش من ثعالة المجاشعي»، فمن أمثال العرب فيما ذكره الكلبي قال: هما رجلان من بني مجاشع عطشا، فالتقم كل واحد منهما أير صاحبه يشرب بوله، فلم يغن عنهما شيئا، وماتا عطشا ووجدا على تلك الحال، قال جرير يهجو بني دارم:
رضعتم ثم بال على لحاكم
ثعالة حين لم يجدا الشرابا
هذا ما وقع لي في هذا الفصل، وأرجو أن أكون قد ذهبت إلى ما قصده قائله.
50
ففي هذه الرسالة نرى كيف حاول ابن الشخباء أن يشرح بعض النصوص التي غمضت على أبي الفرج الموفقي، فكان يستعين على هذا الشرح بما ورد في كتب القدماء، من التاريخ حينا ومن الشعر حينا آخر، وبالأمثال مرة، وبما رواه الجاحظ عن الحيوان مرة أخرى، فهذا كله يدل على أن ابن الشخباء كان ملما بهذه الألوان من الثقافة والعلوم، وأنه كان يستخدمها في كتاباته، بل في شعره أيضا.
نرى ظاهرة أخرى في هذه الرسالة، وذلك أن ابن الشخباء كان يحلي كتاباته بأبيات من الشعر تناسب ما جاء في نثره، وهذه الظاهرة ليست جديدة على الكتابة المصرية، ولكن ابن الشخباء أكثر منها بحيث لا نكاد نرى رسالة من رسائله التي حفظت تخلو من هذه الظاهرة، ولا سيما رسائله إلى إخوانه وأصدقائه، فمن ذلك ما كتبه إلى صديق له:
لما حديت ركاب مولاي أخذ صبري معه، وصحبه قلبي وتبعه.
فعجبت من جسم مقيم سائر
كمسير بيت الشعر وهو مقيد
وبقيت بعده أقاسي أمورا تخف الحليم، وترعى الهشيم، إن رجوت منها غفلة اقتحمت، وإن رمت منها فرجة تضايقت والتحمت. وأما الوحشة، فقد اصطحبت منها كأسا مترعة، وتجرعت من صابها أمر جرعة، ورأيت فؤادي إذا مر ذكر مولاي يكاد يخرج من خدره، ويرغب في مفارقة صدره، حنينا يجدده السماع ، وصدودا تنتفض منه الأضلاع، وزفرة يدمى في غرارها، ويطلع في الترائب شرارها.
أداري شجاها كي تخلي مكانها
وهيهات ألقيت رحلها واطمأنت
وأما ما أعاني بعد مسيره فأشياء، منها عبث الألم مرة، وزوال الاستمتاع بما يعرفه من تلك المسرة، ومنها اضطراري إلى كثرة مكابرة من أعلم دخل سرائره، واختلاف باطنه وظاهره، وتكلف اللقاء له بصفحة مستبشرة، وأخلاق غير متوعرة ... إلخ.
51
ولعلك تلاحظ مما أوردناه من فن ابن الشخباء في الكتابة أنه استخدم جميع الخصائص المصرية في الكتابة؛ فنجد الكتابة المسجوعة، واستخدام التشخيص والتصوير ومراعاة النظير، إلى غير ذلك من هذه المحسنات التي أكثر منها المصريون، وقد أصيب هذا الكاتب البارع بنكبة لا ندري سببها؛ إذ حبس في خزانة البنود، ثم قتل سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
52
ويذهب ابن ميسر أنه قتل سنة ست وثمانين وأربعمائة، وأنه أنشد وهو في سجنه:
أصبحت تخرجني بغير جريمة
من دار إكرام لدار هوان
كدم الفصاد يراق أرذل موضع
أبدا ويخرج من أعز مكان
ثقلت موازين العباد بفضلهم
وفضيلتي قد خففت ميزاني
53
وفي عهد المستنصر أيضا ولي أبو الفرج محمد بن جعفر المغربي ديوان الإنشاء، بعد أن صرف عن الوزارة سنة 452ه، ولا أدري كيف يقول المقريزي عنه: وكان الوزراء إذا صرفوا لم يتصرفوا، فاقترح أبو الفرج بن المغربي لما صرف أن يتولى بعض الدواوين، فولي ديوان الإنشاء الذي يعرف اليوم بوظيفة كتابة السر، وهو الذي استنبط هذه الوظيفة بديار مصر.
54
وواضح هذا التخبط الذي وقع فيه المقريزي؛ فإن ديوان الإنشاء في الديار المصرية أقدم عهدا من أبي الفرج بن المغربي، بل أقدم عهدا من الدولة الفاطمية، وقد ذكرنا أن ديوان الإنشاء وجد بمصر منذ عهد أحمد بن طولون. ومهما يكن من شيء فإن أبا الفرج أحد أفراد بني المغربي الذين كان لهم شأن كبير في الدولة الفاطمية منذ عهد العزيز، ولكن نشاطهم كان سياسيا أكثر منه أدبيا، حقا تحدث عنهم ابن القارح في رسالته، وتبودلت رسائل إخوانية بين أبي القاسم بن المغربي وبين أبي العلاء المعري، ولكن هذه الرسائل كانت إبان فرار بني المغربي من مصر واستقرارهم في العراق حينا، وفي ديار بكر حينا آخر، ولذلك آثرنا ألا نتحدث عنهم طويلا في هذا البحث، وكذلك لم تصل إلينا رسائل أبي الفرج بن المغربي الذي ولي ديوان الإنشاء سنة 452ه.
وتمر السنون على ديوان الإنشاء، ويتعاقب عليه الكتاب، حتى نلتقي بكاتب من أكبر كتاب الدولة الفاطمية، ومن أحسنهم حظا، فقد انتهت إلينا بقية صالحة من رسائله وسجلاته، بل بقي لنا كتابان من كتبه الكثيرة التي صنفها، ذلك الكاتب هو ابن الصيرفي المولود في شعبان سنة ثلاث وستين وأربعمائة ه.
ابن الصيرفي
قال ياقوت: الشيخ الفاضل علي بن منجب بن سليمان الصيرفي، أحد فضلاء المصريين وبلغائهم، مسلم ذلك له غير منازع فيه، وكان أبوه صيرفيا، واشتهى هو الكتابة فمهر فيها.
55
ويحدثنا ابن ميسر أن ابن منجب الصيرفي أخذ صناعة الترسل على ثقة الملك أبي العلاء صاعد بن مفرج صاحب ديوان الجيش، ثم انتقل منه إلى ديوان الإنشاء، وبه سناء الملك أبو محمد الحسيني الزيدي.
56
ويذكر ياقوت أن الأفضل بن بدر الجمالي هو الذي استخدم ابن منجب في ديوان المكاتبات ورفع من قدره وشهره، ثم إنه أراد أن يعزل الشيخ ابن أبي أسامة عن ديوان الإنشاء، ويفرد ابن الصيرفي به، واستشار في ذلك بعض خواصه ومن يأنس به، فقال له: إن قدرت أن تفدي ابن أبي أسامة من الموت يوما واحدا بنصف مملكتك، فافعل ذلك ولا تخلي الدولة منه فإنه جمالها.
57
وقد وصف المقريزي ابن أبي أسامة بقوله: الشيخ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن أبي أسامة، صاحب ديوان الإنشاء في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله، وكانت له رتبة خطيرة ومنزلة رفيعة، وينعت بالشيخ الأجل كاتب الدست الشريف، ولم يكن أحد يشاركه في هذا النعت بديار مصر في زمانه.
58
فنحن إذن أمام كاتب أخذ الصنعة عن عدد من شيوخ الكتابة في مصر في العصر الفاطمي، فقد كان بين يدي الشريف سناء الملك الذي كان كاتبا في أواخر أيام المستنصر، وهو الذي كتب سجل تولية المستعلي،
59
وأصبح له ديوان الإنشاء في عهد الآمر، ثم ولي الديوان بعده الشيخ ابن أبي أسامة حتى سنة 522ه، فأصبح الديوان لابنه أبي المكارم إلى أن توفي أيام الحافظ، فولي ابن منجب الصيرفي الديوان بعده، فهذه المدة الطويلة التي قضاها ابن منجب الصيرفي في الديوان من أسباب شهرته في الكتابة، وذيوع عدد من رسائله وحفظها، وبالرغم من أنه أصبح رئيسا لديوان الإنشاء في عهد الحافظ، فإنه هو الذي كتب سجل انتقال المستعلي وولاية الآمر سنة 495ه،
60
ثم نراه يكتب سجلات كثيرة، وهو لم يزل كاتبا في الديوان، منها ذلك السجل الذي كتبه في شهر المحرم 501ه الخاص بالخراج، وتحويل السنة الخراجية، وقد جاء في هذا السجل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ارتضى أمير المؤمنين أمينه في أرضه وخليفته، وألهمه أن يعم بحسن التدبير عبيده وخليفته، وأورثه مقام آبائه الراشدين الذين اختصهم بشرف المفخر، وجعل اعتقاد موالاتهم سبب النجاة في المحشر، وعناهم بقوله:
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر
وأعلى منار سلطانه بمدبر أفلاك دولته، ومبيد أعداء مملكته، وأشرف من نصب للجند علما وراية، ووقف على مصلحة البرية نظره ورأيه، السيد الأجل الأفضل، الذي نبه في السياسة على ما أهمله من سبقه، وأغفله من تقدمه، وتتبع أحوال المملكة فلم يدع مشكلا إلا أوضحه وبين الواجب فيه، ولا خللا إلا أصلحه وبادر بتلافيه، إيثارا لعمارة الأعمال، وقصدا لما يقضي بتوفير الأموال، واعتناء برجال الدولة العلوية وأجنادها، واهتماما بمصالحهم التي ضعفت قواهم عن ارتيادها، ورعاية لمن ضمته أقطار المملكة من الرعايا، وحملا لهم على أعدل السنن وأفضل القضايا. يحمده أمير المؤمنين على ما أعانه عليه من حسن النظر للأمة، وادخره لأيامه من الفضائل التي ضفت بها ملابس النعمة، ويرغب إليه بالصلاة على محمد الذي ميزه بالحكمة وفصل الخطاب، وبين به ما استبهم من سبل الصواب، وأنزل عليه في محكم الكتاب:
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كافيه فيما أعضل لما عدم المساعد، وواقيه بنفسه لما تخاذل الكف والساعد، وعلى الأئمة من ذريتهما العاملين برضا الله تعالى فيما يقولون ويفعلون، والذي يهدون بالحق وبه يعدلون ... إلخ.
61
فهذا السجل صورة من صور الكتابة التي تظهر فيها خصائص الكتابة في مصر الفاطمية، تلك الخصائص التي تحدثنا عنها من قبل، وهي التي تجدها عند كل الكتاب تقريبا، وهذه الخصائص تظهر في كل الرسائل والسجلات التي انتهت إلينا عن ابن الصيرفي، من ذلك ما كتبه في عيد النصر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ه، وعيد النصر هذا من الأعياد التي ابتدعت في القرن السادس للهجرة تذكارا لخلاص الخليفة الحافظ من سجنه، فقد استبد وزيره أبو علي بن الأفضل الملقب بكتفيات، بالأمر وسجن الخليفة سنة 524ه، فلما قتل الوزير في سادس عشر المحرم سنة 526ه أخرج الخليفة من معتقله، واتخذ هذا اليوم عيدا أسماه عيد النصر، ففي ذكرى هذا العيد كتب ابن منجب إلى بعض الخطباء للاستعداد لهذا العيد:
عيد النصر وهو أفضل الأعياد وأسناها وأعلاها، وأدلها على تقصير الواصف إذا بلغ وتناهى، ونحن نأمرك أن تبرز في يوم الأحد السادس عشر من المحرم سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة على الهيئة التي جرت العادة بمثلها في الأعياد، وتقرأ على الناس الخطبة التي سيرناها إليك قرين هذا الأمر بشرح هذا اليوم وتفصيله، وذكر ما خصه الله به من تشريفه وتفضيله، وتعتمد في ذلك ما جرى الرسم فيه في كل عيد، وتنتهي فيه إلى الغاية التي ليس عليها مزيد. فاعلم هذا، واعمل به إن شاء الله تعالى.
ولم يكن ابن الصيرفي كاتبا من كتاب الرسائل فحسب، بل كان مؤرخا ومصنفا، ومن تصانيفه: كتاب عمدة المحادثة، وكتاب عقائل الفضائل، وكتاب استنزال الرحمة، وكتاب منائح القرائح، وكتاب رد المظالم، وكتاب في السكر، وله اختيارات كثيرة لدواوين الشعراء كديوان ابن السراج وأبي العلاء المعري وغيرهما، وهذه الكتب كلها مفقودة الآن، وإنما وصل إلينا من كتبه كتابان: الأول قانون ديوان الرسائل، والثاني كتاب الإشارة إلى من نال الوزارة.
أما الكتاب الأول «قانون ديوان الرسائل»، فقد صنفه ابن منجب لكي يكون قانونا يعرف به من يجب أن يولى رياسة ديوان الرسائل، ومن يجب أن يكون تلوه في المنزلة من المستخدمين فيه من الكتاب واحدا واحدا من الخدام الذين لا غنى عنهم، والصفات التي ينبغي أن يكون عليها كل واحد منهم، التي إذا سلكت في هذا الديوان أدت إلى ضبط أموره، وأمن معها من اختلال شيء منها وفساد يدخل عليها، وسهل وجود ما يلتمس من علم أمور تقادم عهدها وبعدت أزمنتها،
62
فكأنه أراد أن يجعل من كتابه هذا دستورا لاختيار كتاب الرسائل، وهو يصرح في مقدمته أن السبب الذي من أجله صنف هذا الكتاب أنه «لما رأيت أولي الفطر الصحيحة والعقول الرجيحة، قد سبقوا إلى النظر في سائر العلوم، ووضعوا فيها المصنفات، ونظموا ذكرها في الكتب والمؤلفات، ثم انتقلوا عن ذلك إلى قوانين الأشياء، فقرروا في كل منها ما كان أصلا يعتمد عليه، ونهوا عما كان فسادا لنظامها أو أدى إليه، وخالفوا بين أحكام تلك التصنيفات، لاختلاف الأزمنة وتباين البلاد والأوقات، فوجدتهم قد صنفوا في كتابة الخراج كتبا كثيرة، وعنوا بكتابة الجيش عناية كبيرة، فألف كل من العراقيين والمصريين في ذلك ما وصلت إليه طاقته، واقتضاه ما أوجبه وقته، والبلد الذي يحتله. فأما صناعة الشعر وذكر بديعه وسائر أنواعه وتقاسيمه، فقد أكثر كل منهم فيه المقال، وتوسع في تصنيفه وأطال، ورأيتهم أهملوا الكلام في الكتابة الجليلة قدرا، النبيهة ذكرا، الرفيعة شأنا، العلية مكانا، التي هي كتابة حضرة الملك المشتملة على الإنشاء إلى ملوك الدول، والمكاتبة عنه إلى من قل من الأمم وجل، وكيف يجب أن يكون متوليها وما يخصه من الأخلاق والأدوات، وما يجب أن يكون فيه من الفضائل، وأن يجتنبه من القبائح والرذائل ... إلخ.
63
هذا السبب الذي من أجله ألف كتابه هذا، ولكن هل حقيقة قصر المؤلفون في الحديث عن الكتابة بحيث لم توضع كتب مثل قانون ديوان الرسائل؟ من الحق علينا أن نقول: إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ليست سهلة هينة، فإن أكثر كتب القدماء فقدت وإن بقي أسماء بعضها، وقد عرضت بعض المراجع العامة العربية التي تهتم بسرد كتب المؤلفين، مثل: الفهرست، ومعجم الأدباء، وكشف الظنون وغيرها، فوجدت بعض المؤلفين وضعوا كتبا في الكتابة والكتاب، نذكر منهم عبد الحميد الكاتب الذي وضع رسالة إلى الكتاب، يتحدث فيها عن فضيلة الصناعة، وما يجب عليهم أن يتبعوه حتى يجودوا صناعتهم،
64
ووضع الصولي أدب الكتاب، وألف ابن قتيبة أدب الكاتب.
ونذكر أحمد بن سهل البلخي صاحب كتاب فضل صناعة الكتابة،
65
وأحمد بن محمد بن يوسف الأصفهاني صاحب كتاب طبقات البلغاء، وكتاب أدب الكتاب،
66
وأحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي مؤلف كتاب مناقب الكتاب،
67
وأحمد بن محمد النحاس المصري المتوفى سنة 337ه، صاحب أدب الكتاب وصناعة الكتاب،
68
وغيرهم. وأكثر هذه الكتب لم تصل إلينا، فلم نعرف ما اشتملت عليه، ولكن من أسمائها نستطيع أن نرجح أنها تختلف بعض الاختلاف عما أراده ابن منجب من كتابه «قانون ديوان الرسائل»، فإن كتابه في الحديث عن الأحوال التي يجب أن يكون عليها رئيس ديوان الإنشاء، وعن العلوم والمعارف التي يجب أن يكون حاصلا عليها، وعن اختصاصه في عمله، ثم تحدث بعد ذلك عن معاونيه من الكتاب في الديوان، فجعل لكل عمل كاتبا خاصا له مميزات خاصة، فمن يستخدم لتخريج الكتب الواردة له صفات خاصة، ومن يستخدم برسم الإنشاء له خصائص، ومن يكون ناسخا في الديوان له مميزات، وهكذا. فكتاب ابن منجب في أغلب الظن يختلف عن الكتب التي وضعت في الكتاب والكتابة؛ لأنه يتحدث قبل كل شيء عن نظام ديوان الرسائل، ثم عن موظفيه، فهو صورة مختصرة جدا للكتاب الذي ألف بعد ذلك، وهو كتاب صبح الأعشى للقلقشندي.
أما الكتاب الثاني الذي بقي لنا من كتب ابن منجب، فهو كتاب «الإشارة إلى من نال الوزارة» ... فهو كتاب تاريخ من ولي الوزارة في عهد الدولة الفاطمية، سجل فيه ابن منجب اسم كل وزير وتاريخ توليته وما لقب به، وما تم على يديه من أعمال، فهو من أهم الكتب التي تتحدث عن تاريخ الفاطميين.
ولابن منجب عدة مقطوعات من الشعر، ولكنه لم يعرف بالشعر كما عرف بالكتابة، وروى له ياقوت قوله:
لما غدوت مليك الأرض أفضل من
جلت مفاخره عن كل إطراء
تغايرت أدوات النطق فيك على
ما يصنع الناس من نظم وإنشاء
وقوله:
لا يبلغ الغاية القصوى بهمته
إلا أخو الحرب والجرد السلاهيب
يطوى حشاه إذا ما الليل عانقه
على وشيج من الخطى مخضوب
ولكن ابن منجب لم يعد بين الشعراء، بالرغم من أن شعراء المائة الخامسة كان أكثرهم من كتاب الإنشاء، ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان مقلا في الشعر مكثرا في الرسائل، حتى قيل: إن ديوان رسائله يزيد على أربعة مجلدات.
وتوفي ابن منجب في يوم الأحد لعشر بقين من صفر سنة 542ه،
69
ولكن ياقوت يذهب إلى أنه توفي في أيام الملك الصالح بن رزيك بعد سنة خمسين وخمسمائة،
70
وليس بين أيدينا شيء من النصوص التي تجعلنا نرجح إحدى الروايتين.
أبو الفتح بن قادوس
كان مع ابن الصيرفي في ديوان الإنشاء كاتبان شاعران من أقدر كتاب مصر الفاطمية وشعرائها، أما الأول فهو الفاضل المفضل كافي الكفاء أبو الفتح محمود بن القاضي الموفق إسماعيل بن حميد الدمياطي المعروف بابن قادوس، شاهد عصر الأفضل بن بدر الجمالي، وامتدت به الحياة إلى أن توفي في عهد الملك الصالح طلائع بن رزيك، أي إنه عاصر شعراء مصر وكتابها في النصف الأول من القرن السادس، وعرف اتجاهاتهم الفنية في الشعر والكتابة، فلا غرو أن نرى أمية ابن أبي الصلت يتحدث عنه في رسالته المصرية، ونرى العماد يقول عنه: «أشعاره محكمة النسيج، كالدر في الدرج.»
71
ووصفه ابن ميسر بقوله: «كان من أماثل المصريين وكتابهم، مقدما عند ملوكهم.»
72
لم يصلنا شيء عن حياة هذا الكاتب الشاعر، فقد فقدت ترجمة حياته، كما فقدت تراجم رجال مصر الفاطمية، ومع ذلك فقد حفظت في بعض المراجع قصته مع زميله وصنوه أبي علي حسن بن زبيد الأنصاري، وكيف كان ابن قادوس سببا في أن يلقى زميله حتفه على نحو ما ذكرنا من قبل، فإن هذه القصة تدل على أن ابن قادوس بالرغم مما قاله القدماء عن فضله وكفايته في صناعتي الشعر والنثر، فإنه كان ضعيف الخلق، يحسد زملاءه ويوقع بهم في المهالك. وهناك قصة أخرى يرويها القدماء عنه، وهي انتصاره للجليس بن الحباب، فقد ذكرنا أن ابن الصياد الشاعر كان مولعا بهجاء الجليس، كثير الدعاية بأنفه، حتى قيل: إن مقطعات ابن الصياد في ذلك بلغت ألف مقطوعة، فانبرى له ابن قادوس ينتصر للجليس قائلا:
يا من يعيب أنوفنا الشم
التي ليست تعاب
الأنف خلقة ربنا
وقرونك الشم اكتساب
73
فما الذي جعل ابن قادوس ينتصر للجليس؟ لا شك في أن ضعف خلق ابن قادوس جعله يتوهم أن الجليس ربما ساعده في الوصول إلى مآربه الشخصية في الديوان، أو في غير الديوان من مناصب الدولة، بحكم تلك الصلة القوية التي كانت بين الجليس والخليفة الفاطمي من ناحية، وبين الجليس والملك الصالح طلائع بن رزيك من ناحية أخرى، فلذلك انتصر للجليس، ولولا أطماعه ما كان ينشد هذين البيتين.
مهما يكن من شيء، فإن ابن قادوس كان من أماثل الكتاب في القرن السادس الهجري، فالرسائل التي بقيت لنا من إنشائه تدل على مقدرته وعلو كعبه في الإنشاء، فمن إنشائه ما كتبه بمناسبة ركوب الخليفة في عيد النحر، ومنها:
أما بعد، فالحمد لله ماحي دنس الآثام بالحج إلى بيته الحرام، وموجب الفوز في المعاد لمن عمل بمراشد أئمة الهدى الكرام، ومضاعف الثواب لمن اجتهد فيما أمر الله به من التلبية والإحرام، ومخول الغفران لمن كان بفرائض الحج ونوافله شديد الولوع والغرام، وصلى الله على جدنا محمد الذي لبى وأحرم، وبين ما أحل الله وحرم، وعلى أخيه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي ضرب وكبر، وحقر من طغى وتجبر، وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام الدين، وحتوف المعتدين، وسلم وكرم، وشرف وعظم، وإن من الأيام التي كملت محاسنها وتمت، وكثرت فضائلها وجمت، ووجب تخليد عز صفاتها ، وتعين تسيطر تأثيراتها، يوم عيد النحر من سنة (كذا): وكان من قصصه أن الفجر لما سل حسامه، وأبدى الصباح ابتسامه، نهض عبيد الدولة في جموع الأولياء والأنصار، وأولي العزيمة والاستبصار، ميممين القصور الزاهرة متبركين بأفنيتها، ومستملين بسعادتها، وتألفوا صفوفا تبهر النواظر، ويخجل تألفها تألف زهر الروض الناضر، مستصحبين فنونا من الأزياء تروق، ومستتبعين أصنافا من الأسلحة يغض لمعها من لمع اللهب والبروق، والأعلام خافقة، والرياح بألسنة النصر على الإخلاص لإمام العصر متوافقة، فأقاموا على تشوف لظهوره، والتطلع للتبرك بلامع نوره، ولما بزغت شمس سعادته، وجرت الأمور على إيثاره وإرادته، وبدت أنوار الإمامة الجليلة، وظهرت طلعتها المعظمة البهية، خر الأنام سجودا بالدعاء والتمجيد، والاعتراف بأنهم العبيد بنو العبيد، واستقل ركابه أمير المؤمنين، ووزيره السيد الأجل الذي قام بنصر الله في إنجاد أوليائه، وتكفل للإسلام برفع مناره ونشر لوائه، وناضل عن حوزة الدين وجاهد، وناصل أحزاب الكفار وناهد، يقوم بأحكام الوزارة، وتدبير الدولة تدبير أولي الإخلاص والطهارة، ويتبع آراء أمير المؤمنين فيما تنفذ به أوامره، ويعمل بأحكام الصواب فيما تقتضيه موارده ومصادره، ويحسن السياسة والتدبير، ويتوخى الإصابة في كل صغير أمور الدولة العلوية وكبير، ويخلص لله - جل وعز - ولإمامه، ويكفكف من الأعداء ببذل الجهد في إعمال لهذمه وحسامه.
وسار أمير المؤمنين والعساكر متتابعة في إثره، متوافقة على امتثال أمره، قد رفعت السنابك من العجاج سحابا، وخيلت جنن الجند للناظرين في البر عبابا، والجياد المسمومة تموج في أعنتها، وتختال في مراكبها وأجلتها، وتسرع فتكسب الرياح نشاطا، وتفيد المتعرض لوصفها إفراطا، وتهدي لمن يحاول مماثلتها غلوا واشتطاطا، وأصوات مرتفعة بالتهليل، وأصوات الحديد تسمع بشائر النصر بترجمة الصليل، ويكاد يرعب الأرض تزلزل الصهيل، وترض سنابكها الهضاب، وتغدو صلابها كالكثيب المهيل ...
74
وكتب ابن قادوس بالبشارة بوفاء النيل:
النعم، وإن كانت شاملة للأمم، فإنها متفاضلة الأقدار والقيم، فأولاها بشكر تنشر الآفاق أعلامه، واعتداد تحكم بإدراك الغايات أحكامه، نعمة يشترك في النفع بها العباد، وتبدو بركتها على الناطق والصامت الجماد، وتلك النعمة النيل المصري الذي تبرز به الأرض الجرز في أحسن الملابس، وتظهر حلل الرياض على القيعان والبسابس، وترى الكنوز ظاهرة للعيان، متبرجة بالجواهر واللجين والعقيان، فسبحان من جعله سببا لإنشار الموات، وتعالى من ضاعف به ضروب البركات، ووفر به مواد الأرزاق والأقوات ... إلخ.
75
هذان مثلان مما كتبه ابن قادوس من سجلات هي من خصائص مصر، فلا ينازع مصر بلد آخر في هذا اللون من السجلات، ولا سيما في البشارة بوفاء النيل، ولكن اللون الآخر، وهو ركوب الإمام الفاطمي لصلاة عيد النحر، فهو من ترتيب الدولة الفاطمية، وقد رأينا تأثير العقائد الفاطمية في السجل الفاطمي، مما لا يدع شكا في أن العقائد أثرت في الكتابة كما أثرت في الشعر، أضف إلى ذلك كله هذه الصنعة الفنية في الكتابة التي رأيناها عند جل كتاب الفاطميين، وقد حفظ العماد قطعة من رسالة لابن قادوس كتبها إلى ابن معروف، وتظهر في هذه الرسالة صنعته الفنية التي ظهرت في السجلين السابقين:
أطال الله بقاء الحضرة لغرائب مجد يبتدعها، وفرائض جود يشرعها، وقوادم يذلل صعابها، ومسايف سعود يطرق جنابها، وأدام أيامها التي هي للدهر تمائم، وفي المحل غمائم:
غرر من الأيام توضح فخرها
والدهر من ظلم النوائب عاتم
ملك تملكه الندى وتجمعت
في راحتيه غمائم وسمائم
فالروض يجدب وهو روض ممرع
والغيث يقلع وهو غيث دائم
وشتان ما بينهما، تلك سحاب قد رعدت بوارقها، وعدت صواعقها، وروض يجف نباته، وتضوع زهراته، ومكارم الحضرة تزيد جدة على التكرار، وتماثل فعل الفلك المدار، فهي تباري الشمس نهارا، وتزور مزار الطيف سرارا:
منن بغير أهلة مستورة
فطلعن في فلك العلا أقمارا
ومواهب ومناقب ومناسب
رفعت له فوق السماك منارا
76
وتوفي ابن قادوس سنة 551 في سابع المحرم، وقيل: إن الملك الصالح حضر من القاهرة إلى مصر للصلاة عليه، ومشى في جنازته إلى تربته عند مسجد الأقدام.
77
ووافق العماد على تاريخ وفاة ابن قادوس على هذا النحو، غير أن المقريزي روى قصة طويلة زعم فيها أن أبا الفتح يانس الأزمني وزير الحافظ لما عظم شأنه سنة 526ه، وثقل على الخليفة أخذ كل منهما في التدبير على الآخر، فأعجل يانس وقبض على حاشية الخليفة، ومنهم قاضي القضاة وداعي الدعاة أبو الفخر وأبو الفتح ابن قادوس وقتلهما، فاشتد ذلك على الحافظ وعمل على سم وزيره.
78
أي إنه ذهب إلى أن ابن قادوس قتل سنة 526ه، وقد وهم المقريزي في هذه الرواية؛ فإن الأدلة تكاد تجمع على أن ابن قادوس شاهد عصر الملك الصالح طلائع بن رزيك، من ذلك أن قصة ابن قادوس مع أبي علي حسن بن زبيد الأنصاري كانت في الخلاف بين حسن بن الحافظ وأبيه، وهذا الخلاف نشأ بعد سنة 526ه، ونحن نعلم أن ابني الزبير لم يتقدما في الديوان إلا بعد قتل الظافر سنة 549ه، بل لم يكن لهما ذكر في الدولة قبل هذا التاريخ، وقد روينا هجاء ابن قادوس لابن الزبير، فمعنى هذا أن هذا الهجاء كان بعد مقتل الظافر، أي بعد سنة 526ه أيضا، ومن ذلك أن العماد يحدثنا أن الملك الصالح طلائع بن رزيك كان يغري ابن الصياد بأنف الجليس بن الحباب، فأنشد ابن الصياد هذه المقطعات التي أشرنا إليها مرارا، ولم يسكته إلا ابن قادوس، فنفهم من ذلك أن ابن قادوس حضر عهد الملك الصالح، أضف إلى ذلك ما رواه ابن خلكان: أن الخليفة العاضد الفاطمي أشرك ابن قادوس مع الموفق بن الخلال في ديوان الإنشاء، وإذن فنحن نؤيد رواية العماد وابن ميسر، أنه توفي سنة 551ه.
أما الشاعر الكاتب الثاني، فهو أبو علي حسن بن زبيد الأنصاري الذي كان ابن قادوس سبب قتله، وقد تحدثنا عنه شاعرا، أما صفته الكتابية، فقد وصفه العماد بأنه كان من المقدمين في ديوان المكاتبات،
79
وقال مرة أخرى: «ومن نثره ما يدل حسنه على رونق فرنده.»
80
وحقا، كان أبو علي الأنصاري من الكتاب الذين ملكوا ناصية اللغة والمقدرة على التصرف بالألفاظ، فكان يضع اللفظ فيما خصص له، ويختار من الألفاظ ما يناسب المعنى الذي قصده مع التزامه الخصائص الأخرى التي رأيناها عند غيره من الكتاب، ومن هنا ظهرت مواهب أبي علي الأنصاري في النثر كما ظهرت من قبل في الشعر. اقرأ هذه الرسالة التي كتبها إلى صديق له يهنئه بالشفاء من مرض:
إذا قدم الوداد، وصح الاعتقاد، ووصفت الضمائر، وخلصت السرائر، حل الإخاء المكتسب، محل أخوة النسب، وصار المتعاقدان على الإيثار، والمتحابان على بعد الدار، متساهمين فيما ساء وسر، ومتشاركين فيما نفع وضر، وتلك حالي وحال حضرة مولاي، فإني وإياها كنفس قسمت على جسمين، وروح فرقت بين شخصين، فما آلمها فقد مضى وأزعجني، وأما برؤها فقد سرني وأبهجني، وعرفت خبر إبلالها من ألم كان بها، فشكرت الله على خلتين معا، ونفعين اجتمعا: أحدهما أنني أعلم تألمها، فكنت ألاقي ما يكدر الشراب، ويمنع تلاقي الأهداب، وأجد على حال الصحة ما يجد المريض، وأرى الدنيا على إيثارها بعين البغيض. والآخر علمي ببرئها عند حلوله، ومعرفتي به عند تخييمه بساحتها ونزوله.
81
واقرأ له يهنئ صديقه بمولود:
وردت البشارة السارة بالقادم الأمجد، المستقبل بالطالع الأسعد، وأخذ المملوك من المسرة بأوفر حظ الأولياء المخلصين في الولاء، المغمورين بجزيل الآلاء، وسأل الله سبحانه تخليد الأيام المالكية مديدة الأمد، وافرة العدد، نامية الأهل والولد، حتى يرى هذا المبشر بقدومه ممتطيا صهوات الجياد، مخوف الشذا يوم الجلاد، يخفق وراءه اللواء، وتخاف سطوته الأعداء، وتخص البلاد بقواضبه، وتشنف الأسماع بذكر مناقبه، وترى من أولاده أمجادا عن الإسلام ذادة، وأملاكا لامتلاك البلاد سادة، لا زالت تبلغ أقصى الأماني، وتسمع نغم التهاني، وتمد ظلها على القاصي والداني.
82
ثم اقرأ له هذه القطعة من رسالة في العزاء بغريق:
لعمري لقد نزهه الله عن سهك الجرباء، وملاقاة الحصباء، والمقام تحت أديم الأرض، وانطباق بعضها على البعض، ورفعه عن أن يذل في الحدث جبينه، ويعفر في العثير عرنينه، فجعل ضريحه في شبهه جوادا وكرما، وضريبه محاسن وشيما، فتضمنه الماء، وتغطمط فوقه الدأماء، فإذا استسقى السحاب، واستسمح التراب، فهو في البحر الوافر، واللج الزاخر، بحيث تتفرع المناهل، ويرد كل ناهل.
83
فهل رأيت كيف كان أبو علي الأنصاري فنانا يجيد صناعته، فينتقي من اللفظ أجوده، ومن المعاني أسماها وأجملها ؟ فلا عجب أن رأينا ابن قادوس يحسده على مهارته، ويخشى منافسته، فدبر المكيدة التي أدت به إلى حتفه.
الموفق بن الخلال
ولعل آخر من ولي ديوان الإنشاء في مصر الفاطمية هو يوسف بن محمد المعروف بابن الخلال، الملقب بالموفق، وقد وصفه العماد بقوله: «هو ناظر مصر وإنسان ناظرها، وجامع مفاخرها، وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب كما يشاء.»
84
ويذهب ابن خلكان إلى أن الموفق كان صاحب ديوان الإنشاء بمصر في أيام الحافظ، وأنه استمر في مرتبته إلى آخر عهد الدولة الفاطمية.
85
ويعد الموفق بن الخلال الأستاذ المباشر للقاضي الفاضل، وقد روينا كيف وفد القاضي الفاضل إلى ديوان الإنشاء، ومثل بين يدي الموفق ولازمه، وتدرب بين يديه، وكيف طلب منه الموفق أن ينثر ديوان الحماسة مرة بعد أخرى، إلى أن أجاد القاضي الفاضل فن الترسل، وبلغ هذه الدرجة الرفيعة في هذا الفن؛ لذلك يقول ابن خلكان: «ولم يزل ابن الخلال بديوان الإنشاء إلى أن طعن في السن، وعجز عن الحركة، فانقطع في بيته. ويقال إن القاضي الفاضل كان يرعى له حق الصحبة والتعليم، فكان يجري عليه كل ما يحتاج إليه.»
86
وابن الخلال أحد الذين ذكرهم عمارة اليمني فقال: «ووجدت بحضرته (أي بحضرة الصالح بن رزيك) من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعالي بن الحباب، والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، وأبا الفتح محمود بن قادوس، والمهذب أبا محمد الحسن بن الزبير، وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية والرياسة الإنسانية بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب.»
87
إذن تكاد تجمع المصادر التي بين أيدينا، والتي حدثتنا عن الموفق بن الخلال أنه كان على جانب من علو الهمة والفضل، وعلى براعته في فن الترسل، وقد حفظ من إنشائه سجل كتبه بولاية شاور الوزارة لثاني مرة؛ أي بعد انتصاره على ضرغام، جاء فيه:
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين، وسلم تسليما. (أما بعد)، فالحمد لله مانح الرغائب ومنيلها، وكاشف المصاعب ومزيلها، ومذل كل عصبة كلفت بالغدر والشقاق ومذيلها. ناصر من بغى عليه، وعاكس كيد الكائد إذا فوق سهمه إليه، وراد الحقوق إلى أربابها، ومرتجع المراتب إلى من هو أجدر برقيها وأوابها، ومسني الخير بتيسير أسبابه، ومسهل الرتب بتمهيد طرقه وفتح أبوابه، ومدني نائي الحظ بعد نفوره واغترابه، ومطلع الشمس بعد المغيب، ومتدارك الخطب إذا أعضل بالفرج القريب. مبدع ما كان ويكون، ومسبب الحركة والسكون، محسن التدبير، مسهل التعسير.
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير . والحمد لله الذي اختص أولياء أمير المؤمنين بالاستعلاء والظهور، وذلل لهم جوامح الخطوب ومصاعب الأمور، وآتاهم من التأييد كل بديع مستغرب، وأنالهم من كل غريب إذا أورد قصصه أطرب، ومكنهم من نواصي الأعداء، وشملهم بعناياته في الإعادة والإبداء، وضمن لهم أحمد العواقب، وأرشدهم إلى الأفعال التي ثبتت لهم في صحائف الأيام أفضل المناقب، وهداهم بأمير المؤمنين إلى ما راق زلاله وتم غاية التمام، كما أنه كان لرضا الله سبحانه، وحسن ثوابه ومآله، ويمدهم في المجاهدة عن دولته بالتأييد والتمكين، ويحظيهم من أنوار اليقين، بما يجلو عن أفئدتهم دجى الشك البهيم، ويظهر لأفهامهم خصائص الإمامة في حلل التفخيم والتعظيم، ويريهم أن خلوص الطاعة منجاة في المعاد بتقدير العزيز العليم.
والحمد لله الذي استثمر من دوحة النبوة الأئمة الهادين، وأقامهم أعلاما مرشدة في محجة الدين، وبين بتبصيرهم الحقائق، وورث أمير المؤمنين شرف مقاماتهم، وجعله محرز غاياتهم، وجامع معجزاتهم وآياتهم؛ وقضى لمن التحف بظل فنائه، واشتمل بسابغ نعمه وآلائه، وتمسك بطاعته، واعتصم بولائه؛ بالخلود في النعيم المقيم، والحلول في مقام رضوان كريم،
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
ثم يقول:
وراقب الله فيما ألقاه إليك، فقد فوض إليك مقاليد البسط والقبض، والرفع والخفض، والولاية والعزل، والقطع والوصل، والتولية والتصريف والصرف، والإمضاء والوقف، والغض والتنبيه، والإخمال والتنويه، والإعزاز والإذلال، والإساءة والإجمال، والإبداء والإعادة، والنقص والزيادة، والإنعام والإرغام، وكل ما تحدثه تصاريف الأيام، وتقتضيه مطالب الأنام، فهو إليك مردود، وفيما علق بنظرك معدود. وأما العدل ومد رواقه، وإقامة مواسمه وأسواقه، والإنصاف واتباع محجته، والاعتماد على أحكامه وأقضيته، وكف عوادي الجور والمظالم، وحمل الأمر على قصد التصاحب والتسالم، وإظهار شعار الدين، في إنصاف المتداعين إلى الشرع المتحاكمين، والدعوة الهادية وفتح أبوابها للمستجيبين، وإعزاز من يتمسك بها من كافة المؤمنين، والأموال والنظر فيها، والأعمال أقاصيها وأدانيها، فكل ذلك محرر في تقليد وزارتك الأول، وأنت أولى من حافظ على العمل به وأكمل ... إلخ.
88
فمن هذه القطعة نستطيع أن نتبين كيف تبع الموفق بن الخلال ما تبعه غيره من كتاب مصر الفاطمية من الخصال الفنية التي ذكرناها من قبل، ثم نتبين كيف استطاع الموفق أن يستغل مصطلحات بعض العلوم، وينظمها في سلك كتابته؛ ليضيف إليها قوة في الصناعة.
لم يكن الموفق كاتبا فحسب، بل كان شاعرا أيضا، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من الكتاب الفاطميين، ويظهر في شعره هذه الصنعة البديعة التي تظهر في نثره أيضا، فهو يقول من قصيدة:
عذبت ليال بالعذيب خوالي
وحلت مواقف بالوصال حوالي
ومضت لذاذات تقضي ذكرها
تصبي الحليم وتستهيم السالي
وجلت موردة الخدود فأوثقت
في الصبوة الخالي بحسن الخال
قالوا سراة بني هلال أصلها
صدقوا كذاك البدر فرع هلال
89
كما روي أن بيتا أنشده كان سبب قطع صلة شاعر من شعراء القصر؛ ذلك أن الشاعر أبا القاسم بن هانئ - وكان من سلالة الشاعر ابن هانئ الأندلسي المعروف - كان يهجو ابن الخلال، فأضمر هذا له حقدا، فاتفق في بعض المواسم أن تقدم الشعراء للنشيد بين يدي الخليفة، وانتهت النوبة إلى ابن هانئ، فأنشد وأجاد، فسأل الخليفة الموفق بن الخلال رأيه في قصيدة ابن هانئ، فلم يسعه إلا أن يثني عليه، ويبالغ في وصفه، ثم قال: ولو لم يكن له ما يمت به إلا انتسابه إلى ابن هانئ الأندلسي شاعر هذه الدولة، ومظهر مفاخرها، وناظم مآثرها، لولا بيت أظهر منه الضجر عند دخول جوهر هذه البلاد. فقال له الخليفة: ما هو؟ فتحرج الموفق من إنشاده، وأبى الخليفة إلا أن ينشده، وفي أثناء ذلك صنع ابن الخلال بيتا هجا فيه الأئمة الفاطميين.
فعظم ذلك على الخليفة، وقطع صلة الشاعر، وكاد يفرط في عقوبته.
90
وتوفي ابن الخلال في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، سنة ست وستين وخمسمائة من الهجرة.
91
عمارة اليمني الناثر
وعلى الرغم من أن عمارة اليمني لم يكن من عمال ديوان الرسائل، ولم يعرف عنه أنه كان كاتبا لأحد الأمراء، فإننا نستطيع أن نلمس في رسائله الإخوانية التي حفظت لنا، خصائص الكتابة التي عرفت عند كتاب الدواوين، وكما تأثر عمارة في شعره بمصر وبشعرائها، فقد ظهر أثر مصر وأثر كتابها في نثره. ونختم هذا الفصل من الكتاب برسالة طريفة أرسلها عمارة إلى صديق له ولي على أسوان، وقد رأينا أن ننقلها بأكملها؛ لما فيها من صنعة فنية، وطرائف لا نجدها في السجلات الرسمية التي أوردنا صورا منها من قبل. كتب عمارة:
إن جرى بيننا وبينك عتب
أو تناءت منا ومنك الديار
فالوداد الذي عهدت مقيم
والدموع التي شهدت غزار
كان عزمي، أطال الله بقاء حضرة مولاي، أن أستفتح هذا الكتاب، بأليم العتاب، وأشحنه من الخطاب بما لا يستطاب، وأقيم أعنة القوارص، وأسدد أسنة الخوارص، وأجلب بخيل التوبيخ ورجاله، وأجمع بين رويته وارتجاله، وأجهز تعنيفا يضيق له البحر بمراكبه، والبر بمواكبه، ثم قلت السلام قبل الكلام، والملاطفة أولى من الملام، ثم عطفني حفظي لعهدك، وحفاظي على ودك، وشافع أولي، ووفاء سموءلي، فلاطفاني حتى لزما كفي، وخزما أنفي، فعدت من شب نار الوجد عليك، إلى التشبيب بذكر الشوق إليك، وكتابي هذا صادر عن صدر مملوء بودك، وقلب مصدوع ببعدك، وأسف لفقدك، لا يظعن قاطنه، ولا يخفى باطنه، وغرام لو تصور لك لبانت على وجهه جناية الفراق، ومراسم الاحتراق، ولعلمت أن صورتك في القلب مغروسة، ومكاتبتك منه محروسة، وأنك شغل خاطري ومسرحه، ومرمى ناظري ومطرحه:
يا حبذا سفوان لي من مرقع
ولربما جمع الهوى سفوان
بل حبذا ليالي محاضرتك ومذاكرتك، ومراوحتك ومباكرتك:
وأياما لنا ولكم نعمنا
زمانا في حواشيها الرقاق
ليالي نحن في غفلات عيش
كأن الدهر عنا في وثاق
هذا يا مولاي فصل مقصور على صحيح التشوق، لا سقيم التسوق، وخاطرك، والكاف ألذ من الضمير في مخاطبتك، وأعذب من الماء النمير في مكاتبتك، تعلم صدق دخيلتي وودق مخيلتي. وأعود إلى ما في نفسي من عتابك، بل سبابك، والتظلم من جفائك، والتألم من عدم وفائك. يا أعصى من العود، وأقسى من الجلمود، بل يا قصير العزيمة وطويل الهزيمة، مضت لك شهور هي عندي دهور، لم تهزك فيها ريح الأريحية، ولا شيمة النفس المضرحية، ولا استفزك المنصب الأبي ولا الحسب الغري، قطعت من مكاتبتك رسمي، فلا تلفظ في كتبك إلى الناس باسمي، فقد كنت أرضى منك أن أكون تحت الحسبلة لا فوق البسملة، ولقد رأيت لك كتبا سلطانية، وأخرى إخوانية، فقبلت اسمك من عنوانها، قبل الوقوف على بيانها. هذا وأنا كنانة سرك، وخزانة حلوك ومرك، والمتهم فيك بما سمع من فيك، وأظن اسمي لو مر بسمعك، لحذفت خمسيه ليكون عمى الأبصار، ولست أعلم لك عذرا أحمل فعلك عليه وأنسب تحاملك إليه، إلا أن تكون طينة البلد والمنشا، غشي فؤادك منها ما غشي، فإنها الطينة التي تنبت العقارب، وتعادي بين الأقارب، وأنت تعلم أن آل الزبير والكنز إليهم منتهى رياسة أعلامها وسياسة أقلامها، ونحلتي سيفها وضيفها، ورحلتي شتاؤها وصيفها، من منهم إلا من عداوته أسباطية لأخيه، أنباطية في توخيه، يبدون المودة ويخفون العداوة، أهل حاضرة وفيهم جفاء البداوة، وهذا ما ليس لهم في دفعه حيلة، ولا في منعه وسيلة؛ لأنه طبع جرى في مائهم، ونسيم سمائهم، وامتزج بأهوائهم من أهوائهم، وإلا فخذ إليك، واحسب على يديك، كم هنا لك من راسخ أنساب، وشامخ أحساب، وصحة أديم، ومجد قديم، وفخر عميم، وكرم صميم. أو ليس أسوان بهم مأوى الطريد، ومقر الشريد، وأمان الخائف، والذمة من الدهر الحائف، ثم هم سداد الثغر إذا انفتح، وسداد الأمر إذا فدح، وشعلة الزناد إذا قدح، وعنوان الصدق لمن مدح، العاملون إلا على الوفر، والفاصلون بين الإسلام والكفر.
وأرجع يا مولاي إلى مخاصمتك ومواصمتك، ومشاتمتك وملاكمتك، والعرض من عندك، والكف من عبدك، هذه مكاتبة غير مواتية، ومخاطبة الحمالين والنواتية، ومقاشرة، وسوء معاشرة، وكأني بمولاي إذا انتهى إلى هذا الحد، تمثل وأنشد:
لئن ساءني أن نلتني بإساءة
لقد سرني أني خطرت ببالك
أأمنت أن أغضب فأقول: لا سقاني الله بنوئك، ولا هداني بضوئك، ولا بلاني بسوئك، فإنك من أسوان والهمزة إذا حذفت عنها، فهمت تثنية السوء منها، وأنت الذي جلبت إليها التعنيف، وفتحت عليها الكنيف، فإن كان هوى البلد أعداك، فقد هوى بك وأرداك، وإن كانت الرياسة المحدثة - ولا أكسر دالها - ألهتك عن أصفيائك، وحسن وفائك، فما إخالك، وفلان خالك، تجفو من ينصفك، وتنكر من يعرفك. أجدني يا مولاي قد اشتفى منك قرمي، وانطفأ عنك ضرمي، وأخمدت الفتنة نارها، ووضعت الحرب أوزارها، وسفرت المسألة عن جبينها، وأخذت صفقة ثمينها.
وهذا أوان تسرعي إلى حسن ذكرك، وتبرعي إلى حمدك وشكرك، وإتمام ما أعرضت عنه من ذكر الشوق إلى لقائك، والدعاء بطول بقائك، وأما هذا الكلام فهو هذر ساقط، وهدر ما له لاقط، وجلالة قدرك، وطهارة صدرك، وجميل اعتقادك، وخالص ودادك وسؤددك، وشرف قومك ونفسك، وحسن يومك وأمسك، يحملني على علمك بأن مكاتبتك من قلبي ثابتة المكان، قوية الأركان، ولولا ذلك لقلت للنفس سقيت مهلا، وسلبت علما، ولبست جهلا، ووجدت حزنا، وعدمت سهلا، ما هذه الجرأة على الأعراض المحرمة، والبيوتات المكرمة! أتعرفين بخلت يداك بمن تسمحين؟ وعميت عيناك إلى من تطمحين؟ إن لم يقك الوجل، فلينهك الخجل، وإن لم يرعك الريث فلا يستفزك العجل، أما تعلمين أن هذه رتبة الأحكام الشرعية، ورتبة أهلها واجبة مرعية، بل رتبة النظر والإشراف، ونفاذ الكلمة في الأوساط والأطراف.
واتصل بي أن مولاي قبض يده عن أحكام القضاء، وبسطها في الأموال والإمضاء، وإن كان الكسل حد من نشاط نفسك ، وطوى بعض بساط أنسك، وأنا أعيذك أن تغلط في وهمك، أو يعترض الشك على فهمك، لا تقل ذهبت أجمل الخدمتين، وأكمل النعمتين؛ فإن من زاد في الكراء ملك الدار، وهذه الشقراء والمضمار، وأما الخدمتان: فها أنا أجلوهما على مرآة عقلك وهي صافية، وأعرضهما على بصيرة فضلك وهي شافية؛ أما الشريعة فهي ملسوعة عدمت الراقي، ومريضة روحها في التراقي، حدودها متروكة، وحرماتها مهتوكة، ومعالمها مطموسة، وأعلامها منكوسة، وقد نفل أديمها، ونسي قديمها، وعفي وردها، وبلي بردها، حتى وقعت الزهادة، في لفظ الشهادة، وثقل الأذان على الآذان، وكان القضاء لا يتولاه إلا من قرأ ودرى، وشبع من المعارف وتضلع، وتشوق إلى الكمال وتطلع، وبسط يده بالعطايا، وقبض رجله عن الخطايا، وقد صار القضاء في وقتنا لما قضى الله به من مقتنا، مبذولا لمن بذل قرضا، معروضا على من لا يصون عرضا ، شعارهم طول السبال والقامة، وعرض اللحية والعمامة، يعرفون أن اشتقاق الرشا من الرشوة، وينكرون الفرق بين النشا والنشوة. هذه حال الشرع في الأمصار الواسعة، والأقطار الشاسعة. فأما أسوان فهي كما قال أبو الفتح البستي:
أكتاب بست كم يحاسدكم على
كتابة بست وهي سخنة عين
وخفي حنين فوق ما تطلبونه
فكم بينكم يا قوم حرب حنين
وهل في أحكام أسوان غريبة لا تعرف، ونازلة تستطرف؟ ما من أحد إلا وهو يعرف السلف على الزبيب والتمر، والوالي يصفع المعربدين على المزر والخمر، حاكمها مستريح من إقامة الناموس، وإحضار المصحف لليمين الغموس؛ لأن يمين التجار «وإلا يغرق في شبر من الماء»، ويمين الحمال «وإلا عذبت في صحراء عيذاب بالظما»، والعشار يقول: «وإلا فالكلب على عياله، والحمار على أخت خاله.» والسفساف يقول: «وإلا لصفع الوالي قفاه، ورض فاه.»
هذه الخدمة يا مولاي قد شرحت لك حالها، وعرضت عليك جمالها، وهي زبدة كلها زبد، ومورد صفوه زبد، وعيبة محشوة بالعيوب، وذنوب مملوءة بالذنوب. وأما التصرف في الأموال، والبسطة في الأعمال، فأنت تعلم أن المال بلغك من المجلس العالي إلى أن أخلاك في ركابه، واختصك بخطابه، وكنت متكسلا فتنشطت، ومنقبضا فتبسطت، ونظر إليك وخلع عليك، ووعدك من الصيت والتنويه، فوق ما تأمله وتنويه، ثم افرض أنك وحاكم ثغرك وقاضي مصرك قدمتما على الوالي فأدلى القاضي بالدنية، وأدليت أنت بالهدية، ومت على الوالي بوقاره، ومتت بما قدمت إلى داره. هنالك والله تعرف أن الجمال بخدمة المال، وإلى اليمين فضل الشمال، وأن صاحب الإحسان أمكن من صاحب الطيلسان. ثم لو جمعكما مسجد الجامع، وبرزتما للناظر والسامع، لامتلأ مجلسك بالعمال والخزان، والمؤدين إلى الوزان، وأطافت بك الأعوان السلطانية والنواب الديوانية، وحفت بك أرباب الرواتب والجوازي، ولم تجد من قولك من يراجع أو يجازي، وقلت قدموا هذا وارفعوه، وأخروا ذلك واصفعوه. وأما القاضي فلم يكن مجلسه يغتص، ومقصورته تختص، إلا باليتامى والأرامل، والمرضعات والحوامل، ويتيم ظلمه عمه، وأعرج رجله مخلوجة، ويده مفلوجة، ومشايخ عظامهم نخرة، وكوادمهم بخرة؛ ثم القاضي - أيده الله - نائب حكم الصعيد، وأنت نائب صاحب العصر والقصر المشيد.
وما ضر أرباب الدواوين أنهم
نصارى وإن لم يؤمنوا بمحمد
وها نحن إن رمنا سلاما عليهم
دفعنا عن الأكمام فضلا عن اليد
وهذه صورة الحال، من غير انتحال، وكأني بك إذا فهمت أطربت، وشددت يدك على ما فيها وربطت، وعلمت مقدار حظك فاغتبطت. وأريد يا مولاي أن أصطادك بهذا الجنب، أربط مرزأتي في هذا الذنب، وأشوي في نارك سمكتي، وأجلب إلى شوقك رمكتي. فلأمر ما نصبت هذه الراية، وأجريت إلى هذه الغاية، وجازفت وحققت، وعن صبوح رققت، علمك محيط بكثرة ما أتلف، وقلة ما أخلف، وغنى نفسي عن سؤال الغمام، فضلا عن الأنام، وليس للتوسع لأني مبذر، بل سائل من أهل اليمن والحجاز لا يعذر، قد ركب اللجة الخضراء، والقفرة الغبراء، وقصد بابي، ونزل جنابي، أفأصون صون قرضي، وأبذل عرضي:
وإن أحق الناس باللؤم شاعر
يلوم على البخل الرجال ويبخل
وأما حاشيتي الضافية، وعدتي الوافية، فأنت في كثرتها أصدق مخبر، وأفصح معبر، ولما طالت محنة الغز وعرضت، ورجوناها أن تصح فمرضت، رجعت إلى كنانة ذكري، وخزانة فكري، فكنت أكرم خاطر في خاطري، وأحسن وجه يمثل لناظري، وسيرت إليك بعض خروجاتي للجاري الذي جمدت أنهاره، وخمدت ناره، ومبلغه يسير في جنب كرمك، حقير إذا قرن بهممك.
فكم في الأرض من حسن ولكن
عليك من الورى وقع اختياري
ولا تقل كم بين الفسطاط وآخر الصعيد، إن هذا لهو المرمى البعيد، فلو كنت أعلم أني عندك ممن ينده سربه، ويكدر بالأعداء شربه، لقصرت ما أطلته، وبخلت بما بذلته، ولكني قلت هذا أمر قد سهلت مسالكه؛ إذ أنت مالكه، وغيري يقبل من جودك بعض مجهودك، وقد أقسمت عليك وإبرار القسم إليك، للنفس الأمارة: سامحيني في عمارة، واتركي عنك قصور باعك، وجفاء طباعك، فإن هذا سواد الناظر، بل ضمير الخاطر، وسقف السماء، وعذب الماء، وكأني بالوصول وقد آل إلى الحصول، وبالسؤال في يد الرسول:
ألا إن نفسا بين جنبي محمد
إذا هم بالمعروف قالت تقدم
ويا طالما قالت له عند فرصة
من الجود خذها لا تفتك فتندم
يا مولاي قد أجلت الرسول شهرا، وأنا أعده دهرا، وأقف حيث انتهيت وأسأل الجواب عما أنهيت، فإن الحاجة سائق حثيث، والوقت غريم خبيث، ولرأيك الفضل المعروف بالتفضل، والطول المشفوع بالتطول، ولولا أن هذه الرسالة صادرة عن قائل لا يتقول، واردة على قابل لا يتأول، لسألت كرمك عن بسط العذر عما فيها من التقصير، وحسبنا الله ونعم النصير.
92
فهذه الرسالة على الرغم من إسرافها في الطول، تجمع بين عدة فنون وأغراض كانت من أغراض الشعر، ولكن تقدم النثر منذ القرن الثالث للهجرة في كل الأقطار الإسلامية، وجعل النثر يعرض للأغراض التي كانت للشعر من قبل، ففيها ذكر الفراق والعتاب، والتهكم الذي هو أقرب إلى الهجاء ... إلى غير ذلك من الموضوعات.
ثم نرى هذه الرسالة تجمع هذه الخصائص الفنية التي ظهرت عند كل كتاب مصر الفاطمية، فالرسالة تقوم على السجع، ثم على هذه الألوان المختلفة من البديع، من تورية واقتباس، وتضمين واستشهاد، ومراعاة النظير، وتشخيص، وغير ذلك من هذه الألوان التي نفق سوقها عند كتاب مصر الفاطمية، ولم يشذ عن اتباعها كاتب واحد من كتابهم، فإذا جاء القاضي الفاضل في أواخر العصر الذي نؤرخه، والعصر الذي يليه وأسرف في استخدام هذه الألوان البديعية، فهو لم يأت بشيء جديد، إنما أخذ عن أساتذته من كتاب مصر الفاطمية طرائفهم في الكتابة، وسار على منهجهم وسننهم، ولكن اشتهر أمر القاضي الفاضل في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأدبي أكثر من شهرة أساتذته كتاب مصر الفاطمية؛ لأن القاضي الفاضل قرن اسمه باسم صلاح الدين الأيوبي؛ فكان وزير صلاح الدين ومستشاره، والمؤرخون أشادوا بصلاح الدين، فمن الطبيعي أن يرفعوا شأن القاضي الفاضل، ويثنوا عليه الثناء كله، حتى بالغ بعض الكتاب فقال: إن القاضي الفاضل ابتدع طريقة جديدة في الكتابة عرفت بالطريقة الفاضلية، وكم كنت أود ألا يتسرع بعض المحدثين في أحكامهم وكتاباتهم التي ساروا فيها على نمط من سبقهم، فنسبوا إلى القاضي الفاضل هذا المذهب الجديد - في نظرهم - عن الكتابة في مصر، فالقاضي الفاضل لم يكن إلا من تلاميذ كتاب مصر الفاطمية.
وهذه الطريقة التي نسبت إليه، عرفها كتاب مصر الفاطمية، بل عرفها كتاب مصر منذ عهد الطولونيين.
خاتمة
لعلك أدركت الآن شيئا عن الحياة في مصر الفاطمية، وكيف تطورت هذا التطور الخطير بعد عصر الإخشيديين، فقد كانت عقائد الفاطميين سببا قويا في تطور الحياة، ذلك أن التشيع لم يكن له أثر يذكر في مصر منذ الفتح الإسلامي حتى دخلها دوهر الصقلي، فإذا بمصر تصبح بعد ذلك دولة شيعية، ويتخذها أئمة فرقة من فرق الشيعة مقرا لحكمهم، واجتهد الفاطميون في أن تكون مصر متميزة عن غيرها من الأقطار التي كانت تخضع للعباسيين أو لأمويي الأندلس، وأن يبسطوا سلطان مصر على ما جاورها من البلدان، فاتسعت رقعة أملاك مصر الفاطمية، كما عمل الدعاة على بث تعاليم الفاطميين في كل البلاد الإسلامية، فاتجهت القلوب والأنظار ممن شملتهم هذه الدعوة إلى صاحب مصر، وأصبحت القاهرة كعبتهم التي إليها يحجون، وأصبح لمصر مكانة خاصة تختلف تمام الاختلاف عن مكانتها في عصر الولاة الذي سبق العصر الفاطمي.
ورأينا شيئا عن الحياة الاجتماعية، وكيف كانت مصر على جانب عظيم من الثراء، فالأموال والهدايا كانت تترى على الأئمة بمصر، وهؤلاء بدورهم أسرفوا الإسراف كله، وأغدقوا نعمهم على المقربين إليهم وعلى الشعب في كل مناسبة من مناسباتها، وما كان أكثر هذه المناسبات في عصر الفاطميين، فهناك أعياد ابتدعها الفاطميون لم يعرفها المصريون من قبل، وأعياد أدخلها المسلمون في مصر منذ الفتح العربي، ولكنها ازدادت بهجة في العصر الفاطمي، وهناك أعياد أخرى ليست إسلامية، وإنما هي أعياد مصرية خالصة كان المصريون منذ أقدم عصورهم يحتفلون بها، فورثها الأحفاد عن الأجداد. أضف إلى ذلك أعياد المسيحيين التي اشترك فيها المسلمون في عصر الفاطميين، فكل هذه الأعياد والمواسم طبعت العصر الفاطمي بطابع الترف والبهجة والتأنق في كل شيء.
والعقائد الفاطمية تقوم على العلم والعمل معا؛ لذلك اهتم الفاطميون اهتماما خاصا بألوان العلوم المختلفة، ولا سيما ما كان منها يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى عقائدهم مثل علوم الفلسفة، فازدهرت هذه الدراسات في مصر الفاطمية ازدهارا لم يسمع عنه من قبل، فقد احتضن الفاطميون هذه الدراسات، وشجعوا العلماء على المضي في أبحاثهم، فكانت نتيجة ذلك هذه المجلدات الكثيرة التي تضمها خزانة الدعوة باسم كتب الحقيقة، ولما دالت دولة الفواطم ضعفت هذه الدراسات، وقل أن نجد لها أثرا في مصر، وإني زعيم أنه لو لم تكن هناك صلة خاصة بين بعض علوم الفلسفة وبين العقائد الفاطمية، ما كانت هذه العلوم تزدهر وتقوى، فهي أثر من آثار العقائد الفاطمية، حقيقة اهتم الفاطميون بألوان العلوم المختلفة، وأسسوا دار العلم، وجمعوا فيها الكتب الوافرة في جميع ألوان العلوم والمعرفة، ولكنه هذه العلوم الأخرى كانت تسير في مصر سيرها الطبيعي، وتتطور تطورها الطبيعي، حتى إنها لم تتوقف بعد عصر الفاطميين، كما توقفت الدراسات الفلسفية، وكل ما في الأمر أن الفاطميين اهتموا بها اهتمامهم بكل عمل علمي، فشجع الفاطميون علماء النحو واللغة والقراءات والتاريخ، بجانب تشجيعهم لغيرهم من علماء الفلك والطب وعلوم الفلسفة الأخرى، ومن هنا ازدهرت الحركة الفكرية في مصر الفاطمية ازدهارا عظيما.
وكذلك نقول عن الحياة الأدبية؛ فقد كان الشعراء المقربون إلى الأئمة، وهم شعراء القصر أو شعراء الحضرة، يجهدون أنفسهم في أن يلموا بالعقائد الفاطمية في مدائحهم، بحيث أصبحنا لا نستطيع أن نفهم مدائح الشعراء أو سجلات الكتاب، إلا إذا طبقنا النظرية التي أطلقت عليها «نظرية المثل والممثول»، وهي تقوم على فهم دقيق للعقائد الفاطمية، حتى ندرك ما أراده الشاعر من مدحه، وإلا كان فهمنا لهذا الشعر قاصرا غير صحيح، فالعقائد أثرت تأثيرا قويا في الحياة الأدبية تأثيرها في جميع نواحي الحياة.
وهنا نقف لنتساءل: هل محيت الدعوة الفاطمية من مصر بعد زوال دولة الفاطميين؟ والجواب عن ذلك يعيدنا إلى الحديث عن مدى قبول المصريين لدعوة الفاطميين؛ ذلك أن أكثر المؤرخين يذهبون إلى القول بأن مصر رفضت مذهب التشيع، إلى أن هددهم المعز بسيفه وأغراهم بذهبه، فاعتنقوا عندئذ التشيع، وعلى الرغم مما في هذا القول من مبالغة، فإننا لا ننكر أن من المصريين من اعتنق الدعوة الفاطمية رغبة أو رهبة، وأن البعض الآخر استمر على مذهبه السني. وذكرنا أن من أسباب انقراض الدولة الفاطمية تهاون القائمين بالأمر فيها بالإمامة التي هي عماد الدعوة، فانهارت الدعوة بسبب ذلك، وسهل على صلاح الدين أن يديل الدولة، وعلى الرغم من ذلك فقد حدثنا بعض المؤرخين عن شخصيات كانت تدين بالدعوة الشيعية في عهد الأيوبيين والمماليك، ونظرة إلى كتاب الطالع السعيد للأدفوي، أو كتاب الضوء اللامع للسخاوي، ترينا عددا من أماثل المصريين كانوا يتشيعون، من ذلك ما ذكره الأدفوي عن إبراهيم بن محمد بن علي بن مطهر بن نوفل الإدفوي: «ثم عكف على حفظ كتاب الله العزيز، فاستحق به التمييز، واستمر إلى آخر عمره على إقراء القرآن ملازما للصلاة والتلاوة والعبادة، وهو كل يوم من الخير في زيادة، مع صدق لهجة وصيانة، إلا أنه كان من أتباع الشيعة، أصحاب تلك البدع الشنيعة، شاهدته لما حضر داود الذي يدعي أنه ابن سليمان بن العاضد إلى إدفو في سنة سبع وتسعين وستمائة، وهو بين يديه، وقد أخذ العهد عليه ، وهو ينشده قصيدة نظمها، منها:
ظهر النور عند رفع الحجاب
فاستنار الوجود من كل باب
وأتانا البشير يخبر عنهم
ناطقا عنهم بفصل الخطاب
1
ويروي الإدفوي أيضا قصة قطنبة الأسفوني الشاعر، عندما شكاه بعض أهله إلى الوالي بقوص، فجاء الوالي ومعه الناظر الشمسي الآمري وكان شيعيا، فلما رآه قطنبة قال: يا آل أبي بكر! فاغتاظ الناظر، فأنشد قطنبة:
حديث جرى يا مالك الرق واشتهر
بأسفون مأوى كل من ضل أو كفر
لهم منهم داع كتيس معمم
وحسبك من تيس تولى على بقر
ومن نحسهم لا أكثر الله منهم
يسبوا أبا بكر ولم يشتهوا عمر
فخذ مالهم لا تختشي من مآلهم
فإن مآل الكافرين إلى سقر
2
ونذكر أنه عندما تحركت الشيعة حول داود بن شعبان الذي تحدثنا عنه من قبل في سنة 697ه، ادعى هذا الدعي لمن استجاب له أنه يتحمل عنهم الصلاة، فقبل كلامه، وفي هذا يقول علاء الدين علي بن أحمد الأسفوني لبعض أهل بلدته من قصيدة أنشدها:
ارجع ستلقى بعدها الأهوالا
لا عشت تبلغ عندنا آمالا
يا من تجمع فيه كل نقيصة
فلأضربن بسيرك الأمثالا
وزعمت أنك للتكلف حامل
وكذا الحمار يحمل الأثقالا
3
ويقول الإدفوي أيضا عن الشيخ بهاء الدين القفطي، المتوفى سنة 697ه: «وفتح إسنا فإنه كان بها التشيع فاشيا، فما زال يجتهد في إخماده، وإقامة الدلائل على بطلانه، وصنف في ذلك كتابا سماه «النصائح المفترضة في فضائح الرفضة»، وهموا بقتله فحماه الله منهم.»
4
ويذكر عن عبد القادر بن مهذب الإدفوي المتوفى سنة 725ه أنه كان إسماعيلي المذهب، مشتغلا بكتاب دعائم الإسلام.
5
معنى ذلك أن التشيع لم يقتلع من مصر بزوال دولة الفاطميين، ووجود حكومات سنية متعصبة لمذهبها، بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن المصريين الآن لا يزالون متأثرين ببعض العقائد الفاطمية التي كانت في مصر منذ ألف عام تقريبا، فأهل السفه من المصريين إذا أرادوا سب شخص قالوا: يا عمر! وهذا بقية من بقايا سب السلف الصالح في العصر الفاطمي، وأهل مصر إلى الآن إذا زاروا ضريح «السيدة زينب»، وضعوا نماذج لسفن على الضريح، وهذا أثر آخر من تأثير العقائد الفاطمية الآن في المصريين، فهم يتبعون الحديث المنسوب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم : «أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تركها غرق.» ولا يزال المصريون إلى اليوم يلتمسون البركة والشفاعة من أهل البيت، ويطوفون بأضرحتهم لقضاء الحاجات! على نحو ما كان يفعل في أيام الفاطميين، والمصريون إلى اليوم يذكرون عليا والحسن والحسين وفاطمة أكثر مما يذكرون أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة الأبرار. ومن ناحية أخرى نرى المصريين اليوم يحتفلون برؤية الهلال على نحو ما كان يفعله الفاطميون، وإن كنا نخالفهم في أننا الآن نأخذ برؤية البصر، وكان الفاطميون يأخذون برؤية الاستبصار. ولا نزال إلى اليوم نحتفل بمواسم الفاطميين، مثل أيام عاشوراء التي اتخذناها فرحا، وكانت في أيام الفاطميين أيام حزن، ونحتفل بليلة نصف شعبان، وليلة السابع والعشرين من رجب، وهي أعياد فاطمية لم يعرفها المصريون قبل العصر الفاطمي، ونرى الخطب المنبرية الآن في بعضها طابع التشيع الذي كان في العصر الفاطمي.
وإذن فمصر لم تستطع إلى الآن أن تتخلص كل التخلص من آثار التشيع الذي نشره الفاطميون.
وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدمه الآن صورة من صور الحياة الأدبية والعلمية في مصر الفاطمية، ولا أدعي أنها صورة كاملة صحيحة؛ لأن آثار الفاطميين الأدبية والعلمية فقدت، ولم يبق منها إلا النزر اليسير، وهو الذي اعتمدت عليه في هذا البحث، ولعلي وفقت.
المصادر والمراجع
اتعاظ الحنفا بأخبار اللأئمة الخلفا للمقريزي: طبع دار الفكر العربي.
أخبار الدول المنقطعة للخزرجي: نسخة فوتغرافية بدار الكتب.
إخبار العلماء بأخبار الحكماء لابن القفطي: طبع القاهرة 1316.
أسرار النطقاء لجعفر بن منصور: مخطوط بمكتبتي.
الإشارة إلى من نال الوزارة لابن منجب الصيرفي: طبع القاهرة سنة 1924م.
إغاثة الأمة بكشف الغمة للمقريزي: طبع القاهرة سنة 1940م.
افتتاح الدعوة للقاضي النعمان بن محمد المغربي: نسخة خطية بمكتبتي.
أنباء الزمن في أخبار اليمن ليحيى بن الحسين: طبع برلين سنة 1936م.
الانتصار لابن الخياط: طبع القاهرة.
الانتصار لواسطة عقد الأمصار لابن دقماق: طبع بولاق سنة 1309ه.
بحار الأنوار للمجلسي: طبع حجر بتبريز.
بدائع الزهور لابن إياس: طبع بولاق سنة 1311ه.
بغية الوعاة للسيوطي: طبع القاهرة.
تاج العروس.
تاريخ ابن الأثير.
تاريخ ابن خلدون.
تاريخ مصر لابن ميسر.
تاريخ ابن صالح الأرمني: طبع أكسفورد سنة 1894م.
تاريخ الإسلام للذهبي: نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 42 تاريخ.
تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام لبندلي جوزي.
تجارب الأمم لمسكويه.
تأويل دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد: نسخة خطية بمكتبتي.
التمهيد في الرد على الملاحدة والشيعة للباقلاني: طبع دار الفكر العربي.
تفسير الآلوسي.
تفسير الخازن.
تفسير الطبري.
تفسير القرطبي.
التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لأبي الحسن الملطي: طبع بإستامبول سنة 1936.
الجمع بين آراء الحكيمين للفارابي.
حسن المحاضرة للسيوطي.
الحضارة الإسلامية ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريده .
خريدة القصر للعماد الأصبهاني: نسخة فوتوغرافية بمكتبة جامعة القاهرة.
خزانة الأدب لابن حجه الحموي.
دستور المنجمين لمؤلف مجهول: نسخة خطية بالمكتبة الأهلية بباريس رقم 5968.
دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد المغربي: نسخة خطية بمكتبتي.
دمية القصر للباخرزي: طبع حلب سنة 1930.
الدول المنقطعة لابن ظافر: صورة فتوغرافية بدار الكتب رقم 890.
ديوان الرسائل لابن منجب الصيرفي: طبع القاهرة.
ديوان الأمير تميم: نسخة خطية بمكتبتي.
ديوان ابن قلاقس، تحقيق خليل مطران: طبع بجريدة الأهرام.
ديوان ابن هانئ الأندلسي، تحقيق زاهد علي: طبع القاهرة.
ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة، تحقيق محمد كامل حسين: من سلسلة مخطوطات الفاطميين.
ذخيرة الأعلام بتواريخ خلفاء مصر: نسخة خطية بالمكتبة الأهلية بباريس رقم 1850.
راحة العقل لأحمد حميد الدين الكرماني، تحقيق محمد كامل حسين ومحمد مصطفى حلمي: من مطبوعات الجمعية الإسماعيلية.
الرد على الباطنية للغزالي: طبع ليدن سنة 1926.
رسائل إخوان الصفا: طبع القاهرة.
الرسالة المصرية لأمية بن أبي الصلت: نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
رسالة الرشد والهداية لمنصور اليمن، تحقيق محمد كامل حسين: من سلسلة مخطوطات الفاطميين.
رسائل الكرماني (ثلاث عشرة رسالة): نسخة فتوغرافية بمكتبتي.
الرسائل المستنصرية: نسخة خطية بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن.
رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر: نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 105.
روضة الأدب في طبقات شعراء العرب للشهاب الحجازي: طبع حجر ببومباي.
الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة المقدسي: طبع القاهرة سنة 1287ه.
سرائر النطقاء لجعفر بن منصور: مخطوط بمكتبتي.
سفر نامه لناصري خسرو ترجمة الدكتور يحيى الخشاب: طبع القاهرة.
سيرة الأستاذ جوذر: نسخة خطية بمكتبتي.
سيرة المؤيد في الدين داعي الدعاة، تحقيق محمد كامل حسين: من سلسلة مخطوطات الفاطميين.
صبح الأعشى للقلقشندي.
الطالع السعيد للأدفوي: طبع القاهرة سنة 1914.
عقد الجمان للعيني: نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 1584.
عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة: طبع القاهرة سنة 1299ه.
عيون المعارف ورياض كل متبصر عارف: طبع بومباي سنة 1297ه.
عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف للقضاعي: نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 1779.
الغيث المنسجم للصفدي: طبع القاهرة.
الفاطميون في مصر للأستاذ الدكتور حسن إبراهيم حسن.
الفترات والقرانات لجعفر بن منصور اليمن: نسخة خطية بمكتبتي.
فتوح البلدان للبلاذري: طبع القاهرة.
الفخري في الآداب السلطانية لابن طباطبا: طبع القاهرة.
فرق الشيعة للنوبختي: طبع إستامبول سنة 1931.
الفرق بين الفرق للبغدادي: طبع القاهرة.
الفصل لابن حزم: طبع القاهرة.
فضائل مصر لابن زولاق: نسخة خطية بمكتبة الأزهر.
فضائل مصر للكندي: نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 753.
الفهرست لابن النديم: طبع القاهرة.
فهرست كتب الشيعة للطوسي: طبع كلكتا سنة 1855.
فوات الوفيات لابن شاكر: طبع القاهرة.
القاموس المحيط.
الكشاف للزمخشري.
كشف أسرار الباطنية لابن مالك الحماوي: طبع القاهرة سنة 1939.
الكشف لجعفر بن منصور بتحقيق ستروتمان: طبع القاهرة.
كنوز الفاطميين للأستاذ الدكتور زكي محمد حسن.
لسان العرب.
المجالس المؤيدية للمؤيد في الدين داعي الدعاة (ثمانمائة مجلس): نسخة خطية بمكتبتي.
المجالس والمسايرات للقاضي النعمان بن محمد المغربي: نسخة خطية بمكتبتي.
المجالس المستنصرية تحقيق محمد كامل حسين: من سلسلة مخطوطات الفاطميين، طبع دار الفكر العربي.
مجموع أشعار الإسماعيلية: نسخة خطية بمكتبتي.
مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي: نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 551 تاريخ.
المخصص لابن سيده.
مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري: نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
المسالك والممالك لابن حوقل.
معرفة أخبار الرجال للكشي: طبع بمباي سنة 1317.
المغرب في حلى المغرب لابن سعيد: طبع ليدن سنة 1899.
مقالات الإسلاميين للأشعري.
المقفى الكبير للمقريزي: نسخة خطية بالمكتبة الأهلية بباريس رقم 2144.
الملل والنحل للشهرستاني: طبع القاهرة.
معجم الأدباء لياقوت: طبع فريد رفاعي.
معجم البلدان لياقوت.
مقولات الهند للبيروني.
المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار للمقريزي: طبع القاهرة.
النجوم الزاهرة لابن تغري بردي: طبع دار الكتب المصرية.
نظرية المثل والممثول للدكتور محمد كامل حسين: طبع القاهرة سنة 1948.
نقد العلم والعلماء لابن الجوزي: طبع القاهرة.
النكت العصرية لعمارة اليمني: طبع سالون سنة 18.
نهاية الأرب للنويري: نسخة خطية بالمكتبة الأهلية بباريس.
الهداية الآمرية تحقيق الأستاذ آصف فيظي: نشر جمعية الدراسات الإسلامية بالهند.
الهمة في آداب اتباع الأئمة، تحقيق محمد كامل حسين : من سلسلة مخطوطات الفاطميين، طبع دار الفكر العربي.
وفيات الأعيان لابن خلكان: طبع القاهرة.
الولاة والقضاة للكندي: طبع بيروت سنة 1908.
يتيمة الدهر للثعالبي: طبع بيروت.
المصادر والمراجع الإفرنجية
Asaf A. A. Fyzee
A Chronological List of the Imams and Da’is. (J. B. B. R. A. S. 1934).
Isma’ilia Law and Its Founder.
Materials For an Ismaili. bibliography. (J. B. B. R. A. S. Vol. 11, 1935).
Qadi un. Nu'mans. (J. R. A. S. 1934).
Guyard (M. S.)
Fragments relatifs à la doctrine des Isamilis, (paris).
De Goeje
Mémoires sur les Carmathes du Bahrain et les Fatimide. (1886).
Hamadany (H. F.)
The History of the Isma’ili da’wat and its literature during the last phase of the Fatimid. (J. R. A. S. 1932).
Ivanow, (W.)
A. Guide to Ismaili Literature. (London 1933).
The Organisation of the Fatimid Propaganda. (J. B. B. R. A. 3.1939).
The Greed of the Fatimids (Bombay 1936).
Ismailis and Qarmatians (J. B. B. R. A. S. 1940).
The Rise of the Fatimids (Bombay 1942).
Lewis, (R.)
The Origins of Isma’ilism (1940).
Massignon (L.)
Salmam Pak (S. E. I.) Paris 1934.
Esquisse d’une bibligraphic Qarmate, 1922.
O’Leary
A short History of the Fatimids Khalifafe 1923.
Quatremere, (N.)
Mémoire Historiques sur la Dynastic des khalifs Fatimid (J. A. 1836).
صفحه نامشخص