أما الملك فيصل فقد سار في الوقت ذاته سيره، ودبر تدبيره. أليس السعدون وزيره الأول، وزيره لا وزير سواه؟ أوليس هو فضلا عن ذلك من أشراف العرب، ومن كبار الوطنيين في العراق، والزعيم الأول المهيمن على حزبه، الممتع بثقة أنصاره؟ كان السر هنري عالما بذلك، وعالما فوق ذلك بأمور كثيرة، ولكنما فاته الشيء الذي فيه العلم كل العلم؛ وهو أن صديقه السعدون قد غير خطته السياسية، فلا يرى الآن من حاجة إلى الضغط على المجلس، بل لا يرى أن يعرض المعاهدة عليه قبل أن يتم تعديل الاتفاقين المالي والعسكري. وهو إذا أصر على ذلك يكفي نفسه شر المعاهدة، فتظل مدفونة في مكتبه؛ ذلك لأن في الاتفاقين عقدا استعصى حلها على أسلافه وسلف السر هنري. وما كانت شروط الحكومة البريطانية هذه المرة أخف مما سبقها؛ فقد قيدت ملكية العراق لميناء البصرة ولسكة الحديد بقيود ثقيلة، وتمحلت على عادتها في مسألة التجنيد الإجباري.
تلبد جو دار الانتداب بالغيوم؛ فقد تمردت لجنة المجلس المعينة لدرس الاتفاقين، فضربت باقتراحات المندوب السامي عرض الحائط. وتمردت الوزارة، فأصرت على تعديل كلي جوهري، وتمرد المجلس الذي أصبح حزب التقدم - حزب السعدون - أشد تطرفا من المتطرفين أنفسهم.
صعقت دار الانتداب، تبلبل السر هنري دوبس، فالإذعان لإرادة العراقيين مستحيل، والرضوخ لمطالب العراقيين خيبة له، هو الطامع الآمل بإبرام المعاهدة، فعمل المكره عليه، قبل بالخيبة ثم استقال السعدون، وقد كان النصر الأكبر، في رفض المعاهدة والاتفاقين، للأمة وللبلاط، فهتف الملك بشكر الله وحمده.
ولكن الحساب لم ينته بينه وبين المندوب السامي، فلا يزال هناك دين صغير؛ تلك المذكرة في وزارة المستعمرات، المكتوبة بخط يده، لم ينسها الملك فيصل. وعندما سقطت وزارة السعدون (كانون الثاني سنة 1928) وأخفقت المساعي المكررة لتشكيل وزارة جديدة، وأقبل السر هنري إلى البلاط يطلب مقابلة الملك، حان وقت الحساب.
السر هنري : «البلاد بلا وزارة، يا صاحب الجلالة، وهي تنتظر أن تعينوا من يؤلفها.»
الملك فيصل : «ولكني ملك دستوري، وعلى الملك الدستوري أن يلزم الحياد.»
وعندما جاء المرة الثانية بالمهمة نفسها أبرز تلك المذكرة، وقال: «هذا ما تريده أنت يا حضرة المندوب، يجب على الملك الدستوري ألا يتدخل بشئون الدولة، أليس كذلك؟ إن شئونها الآن بيدك، ولك أن تعين من تشاء.»
مرت ثلاثة أشهر، والبلاد بلا وزارة، والملك فيصل في موقفه لا يتحول عنه، فانكسفت دار الانتداب بعد انهزامها مرتين متواليتين، واسترجعت المعاهدة التي كانت أصل الأزمة، وحانت أن تنتهي مدة السر هنري دوبس كمندوب سام في العراق، فانتهت قبل أوانها، وكان من الممكن أن تنتهي بأوانها وبسلام.
فوز الملك فيصل
يوم ألقى المؤلف محاضرة عن البلاد العربية في الجمعية الآسيوية في لندن، كان السر غلبرت كلايتون رئيس الحفلة، فتكلم في الختام، وقال: «لست من الذين يعتقدون أن في العقل الشرقي شيئا غير عادي؛ فالشرقي هو مثل غيره من الناس يجب أن يعامل بلطف وإكرام، وهو يرتاح للصدق والإخلاص.» إني أنقل هذه الكلمات لما فيها من المغزى الخاص بموضوعنا، وقد ألقيت المحاضرة في شهر تشرين الثاني سنة 1928، وكان قد تعين السر غلبرت كلايتون في الشهر السابق مندوبا ساميا في العراق ليخلف السر هنري دوبس. إني لذلك أنقل كلماته الأخرى وإن كانت شخصية؛ لأن فيها رسالة لأبناء بلاده؛ فقد قال تلك الليلة: «إن في محاضرة السيد الريحاني غذاء للفكر والتبصر في موضوع قريب من قلبه، وهو وإن لم يكن قريبا كثيرا من قلوبنا جدير بأن يدخل العقول.»
صفحه نامشخص