رأى المندوب السامي الجديد السر هنري دوبس شيئا من البراعة في هذه المناورة، فحاول مغالبتها بتعديل الاتفاق المالي، وهو غير متيقن ما قد يكون موقف الحكومة الجديدة فيه، وما عتم أن جاءه الخبر اليقين، فلا يزال النور في وزارة المستعمرات نور المستر تشرشل، ولا تزال السياسة في عهد العمال كما كانت في عهد السلف؛ «العربة تجر الحصان.»
أجل، يجب أن تقر المعاهدة قبل كل شيء، وبعد ذلك «تعيد الحكومة البريطانية النظر في تعهدات العراق المالية.» كان أحرار بغداد يتوقعون غير هذا من إخوانهم أحرار لندن! فازدادوا تمردا؛ إذ رأوا عكس ما أملوه، وتفانوا، لجئوا إلى الكراسي في سبيل المعارضة، فأرسلت إذ ذاك وزارة المستعمرات بلاغها المصعق: إن لم يتخذ المجلس حتى اليوم العاشر من حزيران قرارا حاسما، تحسب الحكومة البريطانية المعاهدة مرفوضة، وتسترعي نظر عصبة الأمم إلى الانتداب. وبكلمة أخرى قد أنذرت العراق بالحكم الإنكليزي التام، بالحكم المباشر.
مما شجع الحكومة البريطانية يومئذ في هذا العمل مفاوضتها والأتراك بشأن الحدود العراقية الشمالية، وقد كانت الموصل موضوع البحث والنزاع. فهل تفادون بالموصل، يا أحرار بغداد؟! نعم، الموصل، ستخسرون الموصل. وسرى التهامس في الدوائر السياسية وفي الأندية؛ سنخسر الموصل حتما إذا رفضنا المعاهدة.
بيد أن المجلس كان قد ارفض لأجل غير مسمى، فصدر الأمر باجتماعه، فأطاع الأمر ثلثان أو أقل من أعضائه. وعندما جاء اليوم العاشر من حزيران، وأدبر نهاره، وأقبل ليله، لم يكن قد توافر النصاب، فبادر بعض رجال الحكومة والبلاط لكشف المحنة، راحوا يفتشون في بغداد عن الأعضاء المتلكئين والمختبئين؛ فاهتدوا إليهم وتوسلوا - حاسنوهم بالكلام وجاملوهم ووعدوهم وأوعدوهم - وظفروا بعد ذلك بهم. فجاءوا المجلس وكمل النصاب في الساعة الأخيرة. كانت تلك الليلة من ليالي فيصل المدلهمة، ولكنه في منتصف الليل تنفس الصعداء؛ إذ جاءه الخبر أن المجلس أقر المعاهدة على أنه أضاف إلى الإقرار ملحقا يعرب فيه عن أمله بأن تعدل الحكومة البريطانية، برا بوعدها، الاتفاق المالي في القريب العاجل، وألا تتنازل لتركيا - في أي حال كان - عن ولاية الموصل. وبعد ذلك استأنف أعماله بهدوء وسكينة، فأنجز الدستور وقانون الانتخاب وأقرهما، ثم انفض عقده، وتفرق أعضاؤه.
هذه هي المرحلة الأولى التي اجتازها العراق في طريقه إلى عصبة الأمم، وقد اجتازها على ما كان من مقاومة الشيعة، ودون أن يحدث ما ينكد عيش المتشرعين والمتعاهدين. ومن الحقائق الأخرى الثابتة هو أن الحكومة البريطانية سترشح العراق لعضوية العصبة في سنة 1928؛ أي بعد أربع سنوات من تاريخ معاهدة لوزان، فماذا عسى أن يكون بعد ذلك شأن المعارضة؟ بل ماذا عسى أن تقول في الحكومة البريطانية، وقد برهنت في تلك السنة بعد شهرين من إقرار المعاهدة، عن صدق نياتها؟ فوقف اللورد بارمور في مجلس العصبة بجنيف في دورة أيلول يقدم المعاهدة العراقية وملحقاتها للموافقة، ويقول: «قد تقدم العراق في السنتين الأخيرتين تقدما سريعا؛ مما يجعل سياسة الانتداب، وفقا للمادة 22 من ميثاق العصبة، غير موافقة له بعد حين.» ثم أعرب عن يقينه أن سيصبح في سنة 1928 أهلا لعضوية العصبة، فترشحه الحكومة البريطانية لذلك. وقد نهجت هذا المنهج الحكومة البريطانية في تقريرها عن العراق لعام 1925، فتكلم مندوبها أمام لجنة الانتدابات الدائمة بلهجة أصرح من لهجة اللورد بارمور عن تقدم الحكم الوطني الدستوري. ومما لا ريب فيه أن بريطانيا كانت راغبة في إنهاء الانتداب رغبة العراق، رغبة صادقة، اللهم بعد أن تكون قد أمنت هناك بوساطة المعاهدة والمصالح البريطانية.
ها هنا حد السلامة، ها هنا تقف الحكومتان أمام العقبات التي نشأت عن مسألة الحدود التركية العراقية. ومع أن نيات الحكومة البريطانية كانت صادقة شريفة في هذا الأمر، فقد أخفقت مساعيها لحسمه مباشرة، فاضطرت إذ ذاك أن تحيله إلى عصبة الأمم، عملا بمضمون معاهدة لوزان. وقد عينت العصبة بناء على ذلك لجنة من قبلها، فزارت العراق في أوائل سنة 1925، وقضت ثلاثة أشهر تستكشف الحدود الشمالية وتحققها، وتدرس أحوال الأقليات هناك، وتسمعهم يشكون ويتدللون.
وكان الآشوريون أشد تلك الأقليات المزعجة إزعاجا، مع أنه لم يكن لهم، في ذلك الحين على الأقل، ما يبرر الشكوى، بل كانوا - عكس الأمر - مغمورين بالعطف مدللين. عطفت عليهم حكومة العسكري، ودللتهم حكومة الهاشمي، وجاءهم حتى من الملك فيصل الكلمة التي فيها كل الضمان والأمان؛ فقد تعهدت الحكومة العراقية أن تقدم الأراضي لأولئك الذين يضطرون بعامل التحديد الجديد أن يخرجوا من بلادهم، وأن تنشئ إدارات محلية تضمن لهم الحرية في مزاولة أعمالهم، وفي المحافظة على تقاليدهم وثقافتهم، وقد كان لموقف الحكومة العراقية الوقع الحسن في نفس اللجنة، فخططت مطمئنة الحدود التي ضمنت ولاية الموصل للعراق.
غضب الأتراك لذلك، وبعد أن أعلنت الحدود الجديدة التي دعيت «بخط بروسل»، اخترق جنودهم تلك الحدود، وهجموا على بعض القرى، فذبحوا أهلها الأكراد والآشوريين، وتقدموا في إغارتهم جنوبا، وهم يهددون بالاستيلاء على الموصل، فروعوا حتى عصبة الأمم التي عينت لجنة أخرى لإعادة النظر في تلك الحدود. جاءت اللجنة الثانية، وساحت، ودرست، وحققت، وقدمت تقريرها إلى العصبة في جلسة كانون الأول 1925.
بينما كانت اللجنة قائمة بعملها في الشمال، انتخب العراق مجلسه النيابي الأول، ففتحه الملك فيصل في غرة تموز، وهو مستبشر بهذه الخطوات التي تقرب منه تلك المحجة القصية بجنيف، فهاكم دستورنا، وهاكم مجلسنا النيابي، وهذه حدودنا الشمالية قد تحددت، فماذا تبتغون بعد ذلك منا؟
سافر الملك فيصل إلى أوروبا في الشهر التالي، وهو - على توعكه ووهن جسمه - فرح مبتهج؛ فقد راح في هذا الصيف مستشفيا، ومستكشفا جو السياسة، وكان أمله أن يصل بالعراق إلى العصبة قبل اليوم المنشود. وما المانع، ونحن نجتاز المرحلة بعد الأخرى بسرعة مدهشة؟ فراسل وحادث وقابل من لهم النفوذ الأكبر في السياسة الدولية وفيهم المخلصون والمحبون، وظل على اتصال بهم وهو يستشفي بأحد الينابيع المعدنية بجنوب فرنسا.
صفحه نامشخص