الملك فيصل الأول بين زعيمي المعارضة الحاج جعفر أبو التمن (إلى يساره) وياسين الهاشمي (في الطرف الأيمن).
حدثني الملك فيصل قال: «في تلك الأيام العصيبة كان يجيئني الناس متحمسين قائلين: «ارفع العلم، ونحن رجالك، نفديك بأرواحنا.» وإني أذكر واحدا من أولئك الفدائيين، وهو من كبار رجالات العراق، وأشدهم تحمسا، ولكنه غاب قبل أن نفذ السر برسي كوكس أمره بنفي الزعماء الوطنيين، ثم عاد ، فجاء يهنئني بالشفاء، فسألته قائلا: «وماذا فعلتم بالإنكليز ؟ هل عدلتم عن إخراجهم من البلاد؟» فأجاب فورا دون ارتباك: «قالوا لنا إنكم أنتم أخرجتم من البلاد، فسكتنا».»
وقد كان لهذه الإشاعات ألسنة تشيعها للغرض منها ولغرابتها، وآذان تسمعها مصدقة، وتسمعها مستحبة متفائلة، وفي الأمرين ما يريك أن الجو السياسي في تلك الأيام لم يكن مكفهرا فقط، بل كان مفعما بالسموم البريطانية والوطنية أيضا، بسموم الشهوات السياسية والشبهات، والدسائس والخدعات، والمخاوف والمناورات.
يقول العرب: الحرب خدعة. ويقول الإنكليز: كل شيء يجوز في الحرب وفي الحب. وها هنا الشيء الكثير بين العراقيين والبريطانيين من أسباب الحرب، وأسباب الحب، ملتفة بعضها على بعض، مشتبكة بعضها ببعض، فلو تمكنا من الفصل بين الاثنين ومعرفة الواحد من الآخر، لو تمكنا أن نميز بين مواقف الحرب ومواقف الحب، ونتفهم الاثنين في الفريقين، لاستقامت المنازع وهان أمرها. ولكن في ذلك أغوارا من التناقض والغموض. خذ المس بل مثلا، فإنها في مواقفها تارة عربية وطورا إنكليزية، وإنها في عواطفها مثل كرمة يتخللها العليق، فتختفي عرائش الحب بين أشواك الحرب، وتلتف فسائل الشوك حول العرائش فتكاد تخنقها. وخذ السر برسي كوكس وهو في حبه الصافي للعرب عموما، وللعراق خصوصا، لا يتجاوز الحدود التي لا ينمو ضمنها غير حب المصالح البريطانية، والغيرة على الاسم البريطاني.
وما موقف أهل العراق؟! هذه الشيعة وهي حرب على الإنكليز متقطعة، حرب تتخللها هدنات يبرءون منها إلى الله ويسكتون، وهي حرب على فيصل يتخللها فترات من الحب يبرءون منها إلى الله ويسكتون. أما العشائر فهم في فيافيهم يعمهون، ولا يعرفون موقفهم الحقيقي إلا بعد أن تصدر الفتاوى بالمقاطعة، أو بالحرب، أو بالطاعة والاستكانة. وأما السياسيون والفدائيون فقد قرأت ما قاله فيهم الملك فيصل نفسه، وقد رأيت السلطة البريطانية تعتقل الزعماء الوطنيين وتنفيهم خارج بلادهم بضعة أشهر؛ وبغداد في ذلك الأثناء ساكتة ساكنة، تتحمل الألم والصبر.
إني أكتفي بذكر سبب واحد من أسباب التخاذل في تلك الأيام، فقد كانت بغداد على شيء من الغرور، تظن نفسها سياسيا العراق كل العراق، وما كانت في الحرب ولا في الحب صاحبة العلم، بل صاحبة القول والقلم، وخصوصا في تلك الأيام؛ فقد كان سلاحها كلاما على ورق، وكلاما يحمله الأثير فيذيعه دون أن يعود بشيء من صداه.
وها نحن الآن سائرون في السبيل ذاته، سبيل الحبر والورق، إلا أننا هذه المرة كاتبون بدل المقالات والقصائد معاهدة دولية؛ أجل، إن المعاهدة الآن لمحور الأعمال كلها، وسيخلد فيها غير حب المس بل وحب السر برسي للعراق والعراقيين، سيخلد فيها كذلك حب المستر تشرشل للعرب، اللهم إذا استطاع أولو الأمر وأولو الألباب أن يستخلصوا من الكلمة الإنكليزية المأثورة «كل شيء يجوز في الحرب وفي الحب.» ما فيه خير البلدين على السواء.
وهذا ما يريده السر برسي كوكس، وهذا ما ينشده الملك فيصل، أما السر برسي الذي جنح إلى العنف ليفتح الطريق ويؤمنه للمعاهدة، فإن له في المفاوضة - كما أسلفت القول - أساليب وقواعد شتى، وهو فيها كلها السياسي المحنك كما يقال، وصار في إمكانه الآن، وقد بلغ الأرب في خطة العنف، أن يبسم على عادته، ويسير متمهلا إلى غرضه، فيقاوم ما لا يزال يعترضه من الصعوبات والعقبات ويغالبها بما يستحبه ويستلذه من ثمار الفكر والتبصر، من البراعة في عقد الخيوط الدقيقة، من الكياسة في تلوين الألفاظ، من الدهاء في رمي الحبالة وشد الربق.
أما الملك فيصل فقد أساء الناس فهم موقفه في تلك الأيام، فلم ينصفه الإنكليز ولا أنصفه العراقيون. قال الإنكليز أصدقاؤه إنه انقلب عليهم بعد التتويج، وقال المتطرفون من الوطنيين إنه يخدم مصالح الإنكليز ويعمل بأوامرهم. أما الحقيقة، وإن بدا شيء منها هنا وهناك، الحين بعد الحين، فهي أصلا وأساسا واحدة، لا إنكليزية ولا وطنية؛ بل فيصلية عراقية. وبكلمة أوضح كان فيصل واقفا في تلك الأيام موقف الدفاع، وكان همه الأول أن يحفظ العرش، فيعزز مركزه كمليك العراق ليستطيع أن يعزز جانب العراق في المعاهدة، وكان همه الثاني أن يحمل المستر تشرشل على البر بوعده دون أن يعادي الإنكليز. هذي هي الحقيقة الفيصلية العراقية، وفي حديث الملك فيصل - المدون لحسن الحظ عندي - ما يثبتها ويزيدها بيانا.
أعود إذن إلى مذكراتي في تلك الأيام.
صفحه نامشخص