إيه كوك الدين، سليل عظام الكلدان، ونكتة المستشارين في هذا الزمان، فمهما يكن من شذوذك في سفر خروجك، ومن عثارك في خفاء آثارك، فقد كنت في حبك للعرب من العرب، وكنت في غيرتك على الأوقاف من الأشراف، وإنهم جميعا لمحزونون؛ لأنك لم تشعرهم بيوم أو بليل السفر، ليقوموا بواجب توديعك وتشييعك، وشكر صنيعك. وإني واثق - وهم الموصوفون بالكرم - أنهم لا يرضون بما حملت، ولكانوا أهدوك، لو أدركوك، ما هو أثمن من تحف أور، وبابل وآشور، ولكان الشعراء من المودعين، وهم يذرفون الدمع السخين، وينظمون القوافي، بمديح كوك الدين الأوقافي. •••
فكرت، بعد أن عدت إلى البيت تلك الليلة، بنظرية كوك الدين الكلدانية الاسكتلندية، وعرضت في ذهني غير واحد من الأسماء التي تغري الباحث وتتقاضى يقينه الجزية، وهاك بعضها من البلدين: الكلدان - كاليدونيا، آشور - آرشير،
6
حمورابي - هورنبي، مردوخ - ماردوك،
7
ويمكنك بعد البحث والتنقيب أن تزيد عليها. قد تقول إنها، وإن كانت تدهش، لا تفيد. وقد أقول، بل أقول إنك على خطأ مبين.
إي ورب حمورابي، إي وأجنحة رب آشور، إن للنطفة جناحا، وللرياح يدا، وللآلهة كلمة خالدة. سماع، سماع. إن المؤذن في جامع عبد القادر يدعو المؤمنين للصلاة، فلو كان بإمكانه أن ينشر السنين المطوية، ويستطلع خبرها السابق للتاريخ، ولو كانت له عين ترى الأجنحة الطائرة، والأيدي الزارعة، التي تستحيل بعد عملها ترابا، ولو كانت له أذن تسمع صدى الكلمات الخالدة، لكان يدعو للصلاة غير المؤمنين كذلك، وغير المقيمين ببغداد، في محلة الشيخ. ولو كان له مقدار ذرة من الإيمان الأعلى، لنزل من مئذنته، وأذن في سره، في مخدعه، فيسمعه الذي بيده أمر هذا المخلوق ابن آدم، ويحمل الأذان إلى أربعة أقطار العالم.
إيه، أيها المؤذن التقي، قل: حيوا على الفلاح، حيوا على الصلاة حيثما أنتم، في محلة الشيخ ببغداد، أو في محلات البؤس والنعيم في لندن وباريس؛ فإننا جميعا، يابن عمي، من نطفة واحدة، وإننا جميعا مفتقرون إلى رب يرأف بحالنا، وإلى نبي في هذه الأيام يدلنا على الطريق - يهدينا الصراط المستقيم - ويبعث فينا ما ضاع من الرجاء، وما مات من الحب والإيمان.
عفوك، أيها القارئ العزيز، إذا ما وقفت هنيهة في الفجر لأنسى الجو المكفهر في النهار وفي الليل. عفوك، إذا ما لذت بالحقائق الخالدة لأستريح، ولو هنيهة، من الحقائق الزائلة في السياسة وفي الحياة، ومن مآدب اليأس والغم. حيوا على الفلاح، حيثما أنتم، حيوا على الصلاة ... •••
وهذه دعوة أخرى لمأدبة في الفلاة، بل هي نزهة مع الملك في ضواحي بعقوبة، على شواطئ ديالى، في البساتين الجميلة لفخري آل جميل، ولكنها لا تختلف كثيرا عن سواها في العراق.
صفحه نامشخص