في صباح اليوم الأول من زيارتي الأولى لبغداد، ساعة خرجت من القطار، عراني شيء من الريب بحسن نية الشمس المشرقة؛ فقد كانت تبسم بسمة صفراء، وتبص بصيصا من خلال الغيوم البيض، فتتوارى أشعتها النحيلة هنا وهناك، بين النخيل وعند الأسوار، كأنها حقا بصاصة تتجسس لمندوب الكون الأعلى.
وما كنت الوحيد يومئذ فيما أحسست به وتشاءمت، إلا أني رأيت ما لا يراه أبناء المدينة؛ شمسا تخادع الأفق العابس، وهم قلما يتوقعون من هذه الشمس التي تنير العالم أن تنير كذلك قلوب الناس؛ لذلك رأيتهم جميعا - العرب والإنكليز، من ساسة المقاهي إلى الملك، ومن الجنود السائقين السيارات المصفحة إلى المندوب السامي - في حال من الجزع والقنوط انخلعت لها القلوب كما نقول، أو بردت منها الأرجل، كما يقول الإنكليز.
وكان ذلك في مطلع السنة الثانية بعد التتويج؛ فقد ولت السنة الأولى بأشهرها الاثني عشر، وما تم شيء. ما بوشر شيء في الملك الجديد حتى من مقدمات الأعمال، بل كانت الأمور استطرادا للعهد السابق للتتويج، تنبئ بالتفكك، وتنذر بالفوضى. وليس في مراكز السيادة والحكم - لا في البلاط ولا في دار الانتداب ولا في السراي - من يحسن معالجتها؛ فقد كانوا جميعا يشعرون بجمود الدم في الأطراف، إن الأرجل الباردة لفي كل مكان.
بيد أن المدينة بغداد ملكت على ذلك نفسها، مثل سائر العواصم في الأزمات، وظلت لها جرأة الاستمتاع بشيء من اللهو والسرور، فما خفت في المقاهي صوت الأراكيل، ولا خف ازدحام الناس في أبواب دور السينما، وظلت ألعاب ال «بريدج» وال «بوكر» قائمة في المنتديات، وكانت أنوار المآدب تتألق زهوا وترحابا حسب العادة في الفنادق، كما في بيوت القناصل وكبار الموظفين، بل كان بعض أصحاب المناصب العالية يولمون الولائم، ويقيمون الحفلات، متعمدين فيها مكافحة روح الغم والقنوط؛ تلك الروح التي سادت خصوصا دوائر السياسة على ضفتي دجلة، وكادت تشل الأيدي العاملة فيها والعقول. •••
كان الملك فيصل أول القائمين بهذه الحملة التأديبية، حملة المآدب، على جيوش القنوط والجزع، فأقام مأدبة لعدد كبير من رجال الحكومة ودار الانتداب، وغيرهم من رجال المدينة، وشاء أن أكون من المدعوين.
وكان بين الوطنيين - وهم في الأثواب الفرنجية الرسمية - رجل واحد عصى الأمر المطبوع على رقعة الدعوة، فجاء في ثوب فرنجي عادي، وهو فوق ذلك رمادي بريء من لمس المكواة، ومع ذلك فما نظر أحد منهم إليه نظرة احتقار أو استعجاب، بل وقفوا حوله يستمعون إليه وهو يحدث عن غزوات الغرب لهذه البلاد العربية.
رحم الله مجيد الشاوي؛
1
ذلك العربي الحر الجريء الجامع بين محاسن البدو والحضر، ذلك الفيلسوف الذي نثر الحكم وما كتبها، كان له رأس كرأس سقراط شكلا ومعنى، ولسان كلسان صموئيل جونسون - سقراط الإنكليز - بفصاحته ولواذعه.
سمعت مجيدا تلك الليلة يقول: «وهذا الاستبداد الحديث العهد، استبداد «الموضة»، أتانا كذلك من الغرب، أما نحن العرب فلا نضيع وقتنا ومالنا في سبيل «الموضة»؛ فقد كان ولا يزال خلاصنا في بسيط عاداتنا، وسذاجة طباعنا. أنتم تبدءون حيث يمكنكم أن تنتهوا - أقول يمكنكم، ولا أقول يجب أو يجوز أن تنتهوا - بهذه الرسميات، هذه الترهات.»
صفحه نامشخص