Zarlino » عن الفلسفة الجمالية لعصر النهضة، ولكنه ذهب إلى أن فن الشعر والموسيقى طريقتان مستقلتان من طرق التعبير. وقد وجدت آراء زارلينو في فن البوليفونية قبولا لدى جماعة الكاميراتا؛ إذ إنه كتب يقول إن الموسيقى البسيطة لصوت واحد تحرك القلب على نحو أعمق مما يحركه «الكنترابنط» المعقد. غير أن زارلينو كان يختلف عن جماعة الكاميراتا الفلورنسية في رأيه عن علاقة الموسيقى بالشعر؛ ذلك لأن موسيقار عصر النهضة كان يرى أن «التلاوة» (الريتشيتاتيفو) هي في أساسها موسيقى غنائية وضعت لنص كلامي، ولكن موسيقي عصر الباروك كان يرى أن التلاوة هي قبل كل شيء نص كلامي تحمله الموسيقى. أما زارلينو فرأى أن الموسيقى ينبغي أن تثير من المشاعر ما تثيره الكلمات، ولكنه أكد وجود فارق أساسي بين أسلوب الشاعر وأسلوب الموسيقي.
4
وهكذا كانت الأفكار الجمالية لفيتشينو وزارلينو تمثل الآراء التقليدية لعصر النهضة، وكانت آراء أعضاء جماعة الكاميراتا تمثل الفلسفات الموسيقية في أوائل أيام عصر الباروك.
على أن الدراما الموسيقية الجديدة التي استحدثتها جماعة الكاميراتا لم تكن نسخة مطابقة للتراجيديا الكلاسيكية أو بعثا لها من جديد؛ فقد كانت الأوبرا الأولى بالفعل مسرحية ريفية وضعت لها موسيقى. وكان أعضاء الكاميراتا يعتقدون بالفعل أنهم قد حرروا الموسيقى من سيطرة البوليفونية. وقد يبدو عند إمعان التفكير في الأمر أن أعضاء الكاميراتا انتقلوا من موقف متطرف إلى موقف متطرف متضاد؛ إذ إنهم خلقوا فنا تسيطر عليه الكلمات، وتقتصر فيه مهمة الموسيقى على دعم الكلمة المنطوقة، فكانت النتيجة أن أوبرات جماعة الكاميراتا كانت كلها تقريبا تلاوات
recitatives
مطولة، حاولت أن تلائم بين الكلمة المنطوقة وبين الموسيقى المصاحبة لها.
وقد ذهب أنصار الاتجاهات التقليدية إلى أن جماعة الكاميراتا الفلورنسية كانت بالفعل تؤخر تطور الموسيقى؛ لأنها تعمدت تجاهل فن بالسترينا والقواعد المعمول بها في البوليفونية. وقال أصحاب هذا الرأي إن إغفال التأثيرات الفنية التي حققها بالسترينا عن طريق البوليفونية التقليدية لا يمكن إلا أن يؤدي إلى إرجاع الفن والأسلوب الموسيقي لجماعة فلورنسا، وكذلك قدرتهم الخلاقة، إلى الوراء. وانتهى أنصار الاتجاهات التقليدية، الذين كان أرتوزي هو المتحدث باسمهم، إلى أن من الواجب أن تكتب الموسيقى، لا على أساس نظريات كتلك التي وضعتها هذه الجماعة، بل على أساس قواعد مبنية على التوافقات والإيقاعات التقليدية.
وقد حل موتيفردي الصراع بين أنصار الاتجاهات التقليدية وأنصار الاتجاهات الحديثة عن طريق اتباعه للأسلوب المحافظ في إبقائه على الموسيقى البوليفونية، وفي الوقت ذاته اتجه اتجاها ثوريا لا شك فيه، في طريقة استخدامه لها «فهو مثل جماعة الكاميراتا قد أكد مبدأ أسبقية الكلمات الهارمونيا، ولكن هذا المبدأ أدى لديه إلى نتيجة مضادة تماما؛ لأنه طبقه على البوليفونية لا ضدها كما فعلت جماعة فلورنسا.»
5
وهكذا كان كلاوديو مونتيفردي، لا جماعة الكاميراتا الفلورنسية، هو الذي أحيا، فنيا، روح التراجيديا القديمة، وخلق دراما موسيقية في الحضارة الغربية، وقد شغل مونتيفردي أولا وظيفة رئيس أو عريف الشمامسة وقائد الفرقة الموسيقية في كاتدرائية سان مارك بفينيسيا عام 1612م. ولم تكن الأوبرا قد دخلت فينسيا بعد في وقت وصوله، بل إن افتتاح أول أوبرا للجمهور في فينسيا لم يتم إلا في عام 1637م، وفي السنوات الواقعة بين وصول مونتيفردي إلى سان مارك وبين بداية عهد الأوبرا في فينسيا اضطلع بمهامه في قيادة الفرقة الموسيقية للكاتدرائية المشهورة، وتأليف موسيقى كنسية. وفي عام 1630م اجتاح جمهورية البندقية الواقعة على البحر الأدرياتي وباء شديد، لم يترك مجالا كبيرا للاستمتاع بالفن أو إبداعه. وبعد عامين، رسم مونتيفردي قسيسا بالكنيسة، غير أن اعتزاله العالم في مجموعه لم يكن إلا اعتزالا مؤقتا؛ ذلك لأن دخول الأوبرا في حياة فينسيا قد لقي من الإقبال والحماسة ما كان من المستحيل معه أن تظل القوى الخلاقة في نفس مونتيفردي خاملة.
صفحه نامشخص