ولقد ميز أفلاطون في الكتاب السابع من «الجمهورية» بين «النظرة العملية» الخالصة إلى الموسيقى كما تتمثل لدى هؤلاء الأفاضل الذين يداعبون الأوتار ويعذبونها ويشدونها إلى مفاتيحها، والذين ينصب اهتمامهم على ضربات الريشة، وسورات الأوتار وهدوئها وإقدامها، وبين النظرة العلمية لدى الفيثاغوريين الذين «بحثوا في العلاقة القائمة بين هذه التوافقات المسموعة». وانتقد الأولين؛ لأنهم «أخضعوا عقولهم لآذانهم»، وبذلك جعلوا أنفسهم «مثارا للسخرية»، ولكنه انتقد الفيثاغوريين بدورهم؛ لأنهم «اكتفوا بقياس الأنغام والتوافقات التي تميزها الأذن واحدا مقابل الآخر، فأجهدوا بذلك أنفسهم دون جدوى»، وكان الأجدر بهم، في رأيه، أن «يعكفوا على بحث المشكلات، بقصد معرفة الأرقام المتوافقة والأرقام غير المتوافقة، وسبب هذا الاختلاف بينهما.»
47
كذلك انتقد أرسطوكسينوس آراء الفيثاغوريين، على أساس أن الرياضيات وحدها لا يمكنها أن تفسر الطبيعة الحقيقية للخلق أو التذوق الموسيقي. كما انتقد أبحاث العمليين أو التجريبيين الذين كانوا يهتمون بالأنغام الموسيقية المفردة أكثر مما كانوا يهتمون بالعلاقة اللحنية بين نغمة وأخرى.
48
وقد رفض أرسطوكسينوس الاعتماد على الأذن وحدها في تحديد الطابع الجمالي للعمل الموسيقي. كما رفض الرأي القائل بأن الأحكام الجمالية في الموسيقى هي أساسا عملية عقلية، فروى أن بعض السابقين عليه «أقحموا الاستدلال العقلي الذي ينتمي إلى مجال غير مجال الموسيقى، ورفضوا أن يعترفوا بالحواس؛ لأنها أدوات مصطنعة تفتقر إلى الدقة العقلية، فأكدوا أن حدة الصوت وانخفاضه يرجع إلى نسب معينة، واختلاف نسبي في مقدار التردد (الذبذبة)، وهي نظرية خارجة تماما عن الموضوع، تتعارض كل التعارض مع الظواهر، على حين أن غير هؤلاء، ممن استغنوا عن العقل والبرهان، قد اقتصروا على عبارات قطعية منعزلة، فلم ينجحوا بدورهم في تعداد الظواهر الخالصة. أما منهجنا فيرتكز آخر الأمر على ملكتي السمع والتعقل معا؛ فبالأولى نحكم على مقدار المسافات، وبالثانية نتأمل وظيفة الأنغام. وعلى ذلك فمن الواجب أن نعود أنفسنا التمييز الدقيق بين الجزئيات؛ ذلك لأن إرهاف الإدراك الحسي أساسي لدارس العلم الموسيقي، والمعرفة الموسيقية تقتضي معرفة عنصر متغير وثابت في آن واحد، وهذا ينطبق دون قيد أو شرط على كل فروع الموسيقى.»
49
وقد كتب «هنري س ماكران» في مقدمته لكتاب «الهارمونيات لأرسطوكسينوس» يقول: «كانت حدود العلم الموسيقي قد أسيء فهمها تماما طوال الوقت السابق على ظهور أرسطوكسينوس في الميدان. صحيح أنه كانت توجد مدرسة مزدهرة للفن الموسيقي، وكان هناك تفضيل واع لهذا الأسلوب في التأليف على ذاك، ولهذه الطريقة في الأداء على تلك، ولهذا التركيب للآلات على ذاك، وكانت العادات التي تكونت نتيجة لهذه التفضيلات تنقل بالتعليم. وتيسيرا لهذا التعليم، ومساعدة على الحفظ، كان يلجأ إلى الرسوم والتعميمات السطحية. أما المبادئ لذاتها فلم يكن الفنان، الذي كان تجريبيا عمليا، يعبأ بها على الإطلاق. وفي مقابل هؤلاء التجريبيين كانت هناك مدرسة من الرياضيين والطبيعيين، يزعمون أنهم دارسون للموسيقى، ويعدون فيثاغورس أستاذا لهم، كانوا يشغلون أنفسهم بإرجاع الأصوات إلى ذبذبات هوائية، وبمعرفة العلاقات العددية التي تحل عند العقل الرياضي محل التمييزات الحسية بين الصوت الحاد والمنخفض. هذه المدرسة كانت علمية بالمعنى الصحيح، وقد أثبتت الكشوف الحديثة صحة فروضها ودقة حساباتها. ومع ذلك لم يكن العلم الموسيقي ظهر لديها بعد؛ ذلك لأنه إذا كان الفنانون موسيقيين بلا علم، فقد كان الطبيعيون والرياضيون علماء بلا موسيقى؛ فتحت مجهر تحليلاتهم تتساوى كل التفضيلات الموسيقية، ويضحى بكل قيمة موسيقية، وترتد الأصوات والألحان الرفيعة الجميلة، شأنها شأن القبيحة المنحطة، إلى علاقات عددية وعلاقات بين العلاقات، يكون لكل منها من القيمة الزائدة أو الناقصة ما لأية واحدة أخرى. ولقد اهتم الفيثاغوريون بإيضاح السوابق الفيزيائية والرياضة للأصوات بوجه عام، إلى حد أنهم لم يدركوا أن لب الأصوات الموسيقية إنما يكون في علاقتها الدينامية بعضها ببعض. وهكذا لم تتكون لديهم الفكرة الصورية الصحيحة عن الموسيقى، وهي الفكرة التي كانت ماثلة دائما أمام ذهن أرسطوكسينوس، وأعني بها فكرة نسق الأصوات أو الكل العضوي الذي تكونه، والذي يكون وجود كل جزء فيه مرهونا تماما بما يفعله، ولا يمكن فيه للصوت أن يكون جزءا منه لمجرد أن هناك مكانا له، وإنما لا بد أن تكون له وظيفة يستطيع القيام بها.»
50
وربما كان أرسطوكسينوس أول المفكرين الموسيقيين الإنسانيين في الحضارة الغربية؛ فقد اتخذت فلسفته الموسيقية من الإنسان حكما وحيدا لما هو خير وما هو شر في الموسيقى. وكان يقدر تماما الدور الذي قام به التجريبيون والفيثاغوريون في أبحاثهم للتركيب الفيزيائي والرياضي للأنغام، ولكنه كان يرى أن الأنغام المفردة لا تكون بذاتها موسيقى، وأن معرفة العناصر العددية لأنغام معينة لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة قيمة الموقف الجمالي الموسيقي؛ فمعرفة «الهارمونيات» شرط ضروري للفهم، ولكن أرسطوكسينوس كان يعتقد أن التقدير الصحيح للموسيقى يتجاوز نطاق فهم فيزياء الصوت ونظرياته العلمية، ولا بد أن يبلغ أوجه في الشعور العاطفي.
وبالكلام عن أرسطوكسينوس نقترب تاريخيا من نهاية الحضارة الأثينية والخلق الموسيقي اليوناني. وفي عصره ثبتت دعائم موسيقى الآلات الخالصة، وصمدت بعد استحداثها أمام صيحات الفلاسفة، كما طرأ تغيير هائل على دور المجموعة الغنائية (الكورس) في التراجيديا اليونانية؛ فقد كانت التراجيديا اليونانية عملا موسيقيا دراميا يستخدم الغناء والكلام معا. وكانت المجموعة تغني أو تنشد طوال المسرحية ، موضحة الأحداث الجارية، وكثيرا ما كانت تثير حالة انفعالية تمهد لحدوث كارثة أو بلوغ ذروة. كذلك كانت هناك أغان لأصوات منفردة مشتبكة في نسيج الرواية، وكانت هذه الأغاني تضفي تنوعا على الاطراد النغمي للدراما. وفي حوالي عصر أرسطوكسينوس، أخذ الغناء الإيقاعي السلبي للمجموعة يتضاءل؛ إذ إن أفراد المجموعة كانوا يعطون أدوارا إيجابية في التراجيديا.
صفحه نامشخص