Jean Baptiste Lully (1632-1687م)، الذي تعاون مع موليير في مسرحياته، من أنصار المبدأ الأفلاطوني القائل بضرورة خضوع الموسيقى للشعر. وبلغ من تزمته في ألحانه الموسيقية التي وضعها لنصوص مكتوبة أنه جعل الخط اللحني معتمدا على نبرات المقاطع وقافية النص الشعري ووزنه. ومن الجائز أن هذا الالتزام الحرفي للنص قد زاد من أهمية الكلمة المنطوقة، ولكنه أدى في الوقت ذاته إلى الحد من قدرة اللحن. ولقد كان لولى صارما مع القائمين بأداء ألحانه بقدر ما كان صارما مع نفسه، فكان يفرض على المغنين والعازفين قواعد دقيقة، مثلما فرض نظاما صارما على نشاطه الخلاق وفقا لآرائه الجمالية الخاصة. ولم يكن يمسح للمغنين أو العازفين المنفردين بالتحرر في تحديد سرعة الأداء، أو بالإغراق في زخارف أو «تقاسيم» من ابتداعهم لا لشيء إلا لكي يستعرضوا براعتهم الفنية. وقد ساعد حرص لولى على التزام الموسيقى المكتوبة بدقة على إزالة التأثير الذي تركه غرور المغنين الإيطاليين، وتحررهم في المسرح الفرنسي. ومن الجائز أن شروطه الدقيقة في التزام النص الموسيقي قد حالت دون تدهور المسرح الفرنسي إلى ذلك الطابع الشبيه ب «الفودفيل» السطحي، الذي أصبحت تتسم به الأوبرا الإيطالية.
كذلك كان للنزعة العقلية الفلسفية في فرنسا تأثيرها في الموسيقى؛ فقد أدى ذلك العنصر الأفلاطوني الذي كان كامنا على الدوام في النزعة العقلية الفرنسية، إلى تطبيق الفكرة اليونانية في محاكاة الطبيعة على الفن عامة، والموسيقى خاصة. وكانت جماعة الكاميراتا قد أكدت أهمية الدور الذي ينبغي أن تلعبه الموسيقى في إبراز معاني الكلمات، وزيادة تأثير الدراما، وبالمثل أصبحت الفلسفة الجمالية للموسيقى في فرنسا عقلية إلى حد بعيد. ولم يقتصر العقليون الفرنسيون على جعل الموسيقى تابعة للنص، وإن كانوا بالفعل قد وضعوا الموسيقى المعزوفة في مرتبة أدنى من مرتبة الموسيقى الغنائية، وإنما حكموا على الموسيقى بطريقة اليونانيين، فاستنتجوا منطقيا أن الموسيقى لما كانت تثير الانفعالات، فلا بد أن تكون لها قيمة فلسفية أقل من قيمة الأفكار العقلية التي تعبر عنها الكلمات.
كذلك كان أصحاب النزعة العقلية الفلسفية يعتقدون أن موسيقى الآلات أقل قيمة من الموسيقى الغنائية؛ لأن الأولى لا تستطيع بذاتها أن تعبر عن المشاعر تعبيرا دقيقا أو كاملا، ولكن العالم والموسيقار الألماني يوهان ماتيسون
Johann Mattheson (1681-1764م) قد خالف هذا الرأي بأن أدرج استخدام الآلات الموسيقية ضمن تطبيقه الخاص ل «مذهب الشاعر»؛ ففي كتابه «الأوركسترا المستحدثة
Das neu-eroffnete Orchestre » (1713م) طرح جانبا الآراء الموسيقية العتيقة بقوله إن اللحن ينبغي أن يكون تعبيرا عن عاطفة، لا محاكاة لروح إلهية، وبجعله الإنسان نفسه حكما على ما هو خير وشر في الموسيقى. وإن لهجته لتذكرنا بلهجة أرسطوكسينوس في أيامه، حين دعا إلى الحكم على الموسيقى من خلال العقل والحس؛ أي حاسة السمع. وقد كتب يقول: «إن الأعداد ليست المتحكمة في الموسيقى، وإنما هي توجهها فحسب، وحاسة السمع هي الطريق الوحيد الذي ينقل من خلاله تأثيرها إلى النفس الباطنة للسامع المنتبه ... والهدف الوحيد للموسيقى ليس كونها تسر العين، أو ما يسمى بالعقل على الإطلاق، وإنما كونها تسر الأذن فحسب.»
12
ولم يكن ماتيسون يعتد كثيرا بآراء أولئك الفلاسفة الذين اعتقدوا في أيامه أن الطريقة الصحيحة للحكم على قيمة الموسيقى هي مقارنتها نغميا وإيقاعيا بأنواع الأمثلة الموسيقية التي عرضها أفلاطون وأرسطو فيما كتباه عن الموسيقى. كذلك لم يكن ماتيسون يحفل كثيرا بآراء أصحاب العقليات الميالة إلى الصنعة في الموسيقى، الذين يبدون بعلم الصوت اهتماما يفوق اهتمامهم بالموسيقى ذاتها، كما فعل الفيثاغوريون في أيامهم. وقد تجلت بوضوح روح النزعة الإنسانية في تفكير ماتيسون الموسيقي، وذلك في قوله إن المثقف المستمع إلى الموسيقى يستطيع أن يصدر حكما سليما على ما يسمعه، بناء على معرفة فنية بالموسيقى، مقترنة بالقدرة على التمييز بين ما هو جميل وقبيح فيها من خلال ذوقه الخاص. وهكذا تنبأ ماتيسون بعهد جديد للموسيقى يكون مبنيا على التنوير والتعليم.
ولقد أعلن فيلسوف إنجليزي معاصر لماتيسون، هو فرانسس هتشسون
Francis Hutcheson (1694-1747م) أن «للموسيقى غايتين؛ الأولى أن تطرب الحس، والثانية تحريك المشاعر أو إثارة الانفعالات. والواقع أن الأوبرا الإنجليزية كانت بالفعل تطرب الحواس، ولم تكن تثير الانفعالات إلا بطريقة غير مباشرة؛ إذ إنها كانت في المحل الأول مسرحية رومانية ذات موسيقى تصويرية.»
وبالمثل انتقد جوزيف أديسون
صفحه نامشخص