ولقد كانت موسيقى فينسيا الدينية ثورية بقدر ما كانت الموسيقى الدنيوية في المسرح؛ إذ إن الموسيقيين كانوا يتجهون إلى الكتابة بأسلوب واحد في الموسيقى الدينية والدنيوية معا. ولم يكن من النادر أن يجد المرء نصا شعائريا يؤدى في صلاة دينية بلحن «آريا» من «آريات» الأوبرا. ولم يقبل رجال الكنيسة بارتياح إقحام الألحان الغنائية الدنيوية في الصلوات الدينية، وإدخال موسيقى معزوفة في الكنيسة. غير أن عدوى التجديد هذه قد انتقلت إلى روما بدورها.
10
فألف موسيقيوها قداسات تنعكس عليها فخامة عصر الباروك. وكان جيرولامو فرسكوبالدي
Girolamo Frescobaldi (1583-1643م) عازف الأرغن الشهير بكاتدرائية القديس بطرس في روما يستخدم الأرغن والمجموعة الغنائية بالتبادل في البداية، ثم انضمت بعد ذلك مجموعات ضخمة من المغنين يدعمهم «أوركسترا» يعزف مستقلا، أو مع الأصوات الغنائية، لزيادة تأثير شعائر الصلاة. كذلك احتل موسيقيو روما مكانة بارزة في عالم الأوبرا، غير أن روح القديس أوغسطين سرعان ما تجلت في البابا أنوتشنتي الثاني عشر (الذي تولى البابوية من 1691م إلى 1700م)، وهو مصلح صارم عارض الطابع السوقي للمسرح، وأمر بهدم دار الأوبرا في المدينة البابوية.
وقرب نهاية القرن السابع عشر ، بدأت نابولي تتجه إلى أن تصبح مركز العالم الموسيقي. ولقد أصابت الموسيقى، خلال عهد سيادة نابولي، أضرار ومنافع؛ فقد كان أهل نابولي يمجدون الصوت البشري، وأصبح هدفهم هو الوصول إلى أكبر قدر من البراعة الغنائية، وترتب على ذلك الإساءة إلى النص الشعري للأوبرا. وصارت كل اتجاهات الأوبرا في عصر الباروك المتأخر تهتم بجودة الغناء وصفاء أصوات المغنين. ولم يعد المغنون يعبئون كثيرا باللحن الموسيقي المدون، بل كانوا يستعيضون عن «الآريات» الأصلية بمؤلفات من عندهم، تظهر مقدرتهم الغنائية في أحسن أحوالها. ولقد كان هذا الاهتمام البالغ بإظهار البراعة والمقدرة الفنية في الغناء هو السبب الرئيسي في تدهور الأوبرا إلى نوع غريب من أنواع الفن؛ فالمغني الذي كان يحب «آريا» معينة كان في كثير من الأحيان يستخدم نفس لحنها لكلمات مختلفة، وأدى ذلك إلى طغيان شخصية المغني على الملحن وقائد الفرقة الموسيقية؛ بحيث أصبح المؤلف الموسيقي والمسئول عن الأداء تحت رحمة المغني، يستجيبان لنزواته، ويتقيدان بطريقته الخاصة في الأداء. وكان في وسع المغني أن يعدل الموسيقى المكتوبة كما يشاء، ويزخرفها حسب هواه. وفي هذا المجال الاستعراضي الغنائي بلغت أصوات الخصيان
castrati
11
قمة مجدها، وكانت الطبقات الغنائية التي تبلغها أصواتهم عالية إلى حد مذهل، حتى إن النساء اللاتي كن يغنين بصوت «السوبرانو» (الرفيع) عادة كن يضطررن إلى الغناء بطبقات منخفضة، حتى لا تجرح كبرياؤهن لعجزهن عن تجاوز أصوات الخصيان أو مجاراة بهلوانياتها الغنائية، ولكن دور الخصيان في الأوبرا بدأ يتضاءل منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وكانت نابولي هي موطن موسيقيين موهوبين هما «ألساندور سكارلاتي
Alessandro Scarlatti » (1659-1725م) وهو أبو دومنكو سكارلاتي
صفحه نامشخص